رأي اليوم:
2024-12-27@10:38:42 GMT

موسى حوامدة: العمل عند اليهود

تاريخ النشر: 7th, July 2023 GMT

موسى حوامدة: العمل عند اليهود

موسى حوامدة كنت أريد الهروب من البلدة، بأي طريقة، ولا أدري، هل كان السبب معاملة أبي القاسية لي، أم أنَّ طبيعتي لم تكن تحب الركود والاستقرار، فقد نسيت تجربتي الشاقة الأولى في العمل، في “ريشون ليتسيون” قرب مدينة الرملة، وما أن أنهيت الصف الأول الإعدادي، حتى ذهبت رغم ممانعة أبي، مع بداية العطلة المدرسية مع عدد من الأولاد للعمل، داخل (اسرائيل)، فقد صار كثيرٌ من الأولاد والطلاب يذهبون للعمل هناك، ولم يكن الدخول إلى فلسطين المحتلة عام 1948م ممنوعاً، بل كان سهلاً، وبدون تصاريح ولا حواجز كما هو الحال اليوم، فسيارات الضفة الغربية، كانت تجوب مناطق ال48 بكل حرية، وكنت أعرف سيارات كل مدينة من لون نمرتها، ومن الحرف العبري المكتوب على يمين رقمها، فالسيارات الإسرائيلية الخاصة كلها ذوات نمر صفراء، وبأرقام ودون أحرف، أما سيارات الضفة وغزة فلكل مدينة لون، ويكتب على النمرة الحرف الأول من اسم كل مدينة، كما يلفظونه هم باللغة العبرية، فسيارات أريحا ألف “א” من كلمة أريحو، والخليل تحمل حرف الحاء بالعبرية “ח”، وهي من كلمة “حبرون” كما يسمونها، ونابلس حرف الشين “ש” من كلمة”شكيم”، ورام الله من حرف الراء “ר” ، فليس لها اسم بديل في العبرية، وكذلك جنين “ג'”وطولكرم “ט” وبيت لحم “ב”، أما غزة فيضعون حرف العين العبري الذي يشبه كلمة لا بالعربية “ע”، وهكذا.

وعرفت مثلًا يرددونه كثيرًا عن غزة، وهو “ليخ لعزة”، وله معنى آخر وهو (اذهب إلى الجحيم). لم يكن الفرق فقط في نمر السيارات، بل كان الفرق واضحاً، في كل شيء بين مناطقنا التي احتلت عام 1967م، وتلك التي كانت محتلة منذ عام 1948، فحين كنا نذهب للعمل، ونتجاوز بلدة “ترقوميا” غرب الخليل، نبدأ بملاحظة الفرق في التنظيم والشوارع والأرصفة والأبنية التي يعلوها القرميد، وحتى الأشجار المزروعة بطريقة حديثة ومنظمة، وصار من السهل أن نميز المناطق (اليهودية) من العربية، ففي الضفة الغربية ما زالت الحياة بدائية، أما في فلسطين المحتلة (اسرائيل) فالحياة متطورة في كل شيء، من الشوارع وتعبيدها، ومن موقف الباص وحتى الزراعة والعمران وأشكال السيارات والحافلات، وهذا عائد إلى حجم الأموال الباهظة التي تضخ في الكيان المصطنع، من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الأوروبية الغربية، وخاصة ألمانيا التي تدفع حتى اليوم تعويضات باهظة عما يسمى بـ الهولوكوست. كل ذلك التحديث والتطوير، لم يغيِّر من قناعتي المطلقة؛ أن هذه البلاد هي بلادنا، وأن كل ما فعلته اسرائيل، لا يغير من الحقيقة شيئاً، بل كنتُ أتخيلُ الأمر؛ أشبه بمن يخطف طفلاً من أسرة فقيرة، ويسكنه في قصر فخم، يلبسه أفخم الملابس، ويطعمه أفضل أنواع الطعام، ويعلمه في أحسن المدارس، ولكن مهما فعل فلن يكون هو الأب الحقيقي للطفل، بل يظلُّ خاطفاً مجرماً، ويظل الولد هو الابن الحقيقي للأسرة الفقيرة. هذا إيماني المطلق، على عكس النتجية التي توصل إليها غسان كنفاني في روايته “عائد إلى حيفا” والتي تهوَّد فيها الطفل الفلسطيني، الذي نسيه أهله في البيت، حينما هربوا عام 1948م، كانت الرواية التي قرأتها في المرحلة الثانوية، تريد أن تعاقب من ينسى ابنه، أو بلده، والتي قرأها لوالدتي، وصارت تبكي حسرة وألمًا، وتجد العذر للأم المسكينة، فهل نجد العذر، لهذه الهفوات والهزائم، دون أن نفقد حقنا في تلك الأرض، التي لم ننسها، ولم ينسها أصحابها، ولا يحاولون النسيان، رغم تصريحات غولدا مائير أن (الكبار يموتون والصغار ينسون)، فقد تبين أن الوطن يسكن في الجينات وكريات الدم، ولا علاقة للأمر بالتربية والتعليم، أو الزمان او المكان، بل على العكس من ذلك، فإن الأجيال التي تولد مجددًا، وحتى خارج فلسطين، تتشبث بالهوية الفلسطينية أكثر، لأسباب كثيرة وهي أن اتفاقية سايكس بيكو على مساوئها، جعلت المجتمعات العربية تعلي من شأن هواياتها القطرية، ولذلك لم يذب الفلسطيني حتى في الدول العربية، ولم ينس هويته، وصار التحدي صهيونيًا، عربيًا تواجهه استجابة فلسطينية لم تكن مدروسة حتى في الكثير من جوانبها، علمًا أن النزعة القومية ظلت وما تزل مسيطرة على الشعب الفلسطيني أكثر من غيرها، فلم تظهر أصوات فلسطينية تطالب بالعودة إلى اللغة الكنعانية أو الفينيقية أو الفرعونية أو السومرية، بل يجمع الفلسطينيون على عروبتهم، وعلى عروبة قضيتهم حتى اليوم. نعود بعيدًا، إلى المرحلة الإعدادية، حيث كنت أذهب للعمل خلال العطل الصيفية، في تلك الأرض التي هجِّر وطرد منها أهلها، وسكانها الأصليون، وصاروا لاجئين خارج وطنهم التاريخي، كنا نذهب للعمل هناك، نعمل أسبوعاً أو أكثر، ثم نعود في إجازة، وخلال ذهابنا وأيابنا، كان السائق “أبو حابس” حسن عيسى يذكِّرُنا بأن هذه التجمعات “المستعمرات” الإسرائيلية الحديثة، ما هي إلا قرى عربية، تمت إزالتها عن الوجود، وهجِّر سكانها، وأجحيانًا يفطن ويشير قائلًا: هذا قصر العزة، فنرى قصرًا كبيرًا على شمال الطريق كما هو، ويذكر لنا أسماء القرى العربية الأصلية، مثل عراق المنشية، والمسمية، برقوسيا، بيت جبرين، بيت نتيف، تل الصافي، خربة أم برج، الدوايمة، دير الدبان، دير نخاس، رعنا، زكريا، ذكرين، زيتا، عجور، القبيبة، كدنة، مغلس، وكان يقول: في كل مكان ترون فيه شجر الصبر، يكون اليهود قد أزالوا قرية عربية عن الوجود، وفي إحدى المرات، أوقف السيارة لقضاء حاجات بعض العمال، وذهبت إلى جانب الصبر، أبحث عن حياة متخيلة هناك، وبالفعل وجدت بعض الآثار المدفونة تحت سطح الأرض، والتي تدلُّ على بقايا أبنية مهدمة، بل وجدت بعض الملابس المهترئة، والأواني التي صدأت، والآثار البسيطة التي تدلُّ على وجود تجمعات بشرية في المكان. ويقول أبو حابس: (شايفين الصبر هذا، هذا وطني أكثر منا، حاول اليهود خلعه، وحرقه وطمسه، وأزالته، ولم يتركوا وسيلة إلا استخدموها، لكنه يعاود النمو، ويخرج عليهم منتصرًا، يؤكد على وجود العرب في هذه الأرض)، وهذا الصبر سوف أتي على ذكره في المستقبل، وكيف ظلت هذه القصص مخزنة في ذاكرتي، واستفدت منها في كتابة أول نص، كي تنشره جريدة الدستور الأردنية. ولذلك حكاية سوف ترد في وقتها. كان أول “موشاف” قرية زراعية، عملت فيه، اسمه “زقولا”، وهو اسم عبري يعني البركة، وقد بني فوق قرية عراق المنشية العربية، كان أغلب عمال “مشاف” من أولاد بلدتنا، وجاء تقسيمي مع يهودي إيراني اسمه موسى يتكلم العربية، وكان رجلًا طيبًا، ومكان العمل خلف البيت الذي يسكن فيه مباشرة، العمل متنوع، من تحميل بالات القش، أو تلقيط الخضار من خيار وبندورة وكوسا، وقطف الفواكه مثل الخوخ والدراق، والشمام والبطيخ. وكان يطلب منا وضع بعضها في ثلاجة كبيرة جداً، عبارة عن غرفة كبيرة، أو تحميلها آخر النهار، في عربة يجرها تراكتور، ويتم نقلها إلى مقر الجمعية الزراعية. ويسمح لنا بالإستراحة والذهاب لشراء ما يلزمنا، من “السرخانية”، وهي عبارة عن بقالة كبيرة، منظمة ومرتبة ومليئة بكل المواد التموينية وغير التموينية، فكنا نذهب ونشتري منها ما نريد، وكان أغلب من نشتريه هو “الشمينت” اللبن الرائب، و”النكنيك” المرتديلا، والزيتون المحضر بطريقة شهية، مع الثوم، والشخور أي الخبز، والحمص الناشف الذي يخلط مع الماء فيصبح جاهزًا للأكل، و”الدقير” السردين المعد بطريقة لذيذة. وعرفت أن الجمعية الزراعية، التي نقوم بتوريد صناديق الخضار لها، هي التي تزود سكان القرية بالمواد اللازمة من بذور وسماد، وحتى آلات وأدوات زراعية حسب ترتيب منظم، والجمعية هي التي تقوم بنصيحة المزارعين، بما يجب أن يزرعوا، من فواكه وخضار، وتلتزم بشراء المحصول السنوي، إن حصل جفاف أو ضرر، ونقصت الكميات فتقوم بتعويض المزارعين. وهي فكرة قريبة من فكرة الكيبوتسات الإسرائيلية التي بينت لتكون مثالاً للكولوخوزات السوفيتية، وللحياة الاشتراكية، وربما لهذا السبب اعتقد ستالين أن (اسرائيل) ستكون دولة سوفيتية أو شيوعية، أو حتى اشتراكية في أسوأ الحالات، ولهذا وافق على قرار التقسيم عام 1947 وعلى قيام إسرائيل، ويبدو أنه لم يقرأ كتاب لينين المسألة اليهودية، ثم يتراجع الاتحاد السوفييتي بعد هذا الاعتراف، ويقطع علاقته بإسرائيل بعد حرب ال67 ولكن بعد فوات الأوان، ودخول السبت في مؤخرة العالم كله. انتقلنا للعمل عند يهودي آخر اسمه “ايلان”، وكان العمل داخل بيوت مرتفعة وشبه بلاستيكية، يزرع فيها الخيار، ولديه مزراع فيها شمام وبطيخ. كنا نعمل بأجر يومي، ونعود إلى البلد كل أسبوع أو أسبوعين، ونحن محملون بالخضار والفواكه. في سنوات لاحقة، صرنا نبتعد أكثر عن مركز المشاف ونذهب للعمل في مساحات واسعة مليئة بالدراق والخوخ والأجاص، وكنا نعمل في قطف الفواكه، وقطف الخضار، ومرات نقوم بأعمال آخرى مثل تنظيف الأراضي، ونقل مواسير المياه. وتحميل باقات القش الضخمة. في عطلات نصف السنة، وخلال الشتاء كنت أذهب مع العمال لقطف البرتقال، وكان منظر البيارات جميلاً جدًا، ورائحة البرتقال الشذية تفوح بشكل مميز، أنظر للبيارات هذه ومساحاتها الواسعة، وأفكر في أهلها الذين أجبروا على مغادرة بلادهم وبياراتهم. وكنت حين أسأل المسؤول اليهودي، كيف حصلتم على هذه البيارة يرفض الإجابة، ويقول بغطرسة: يا حبيبي أنت جاي تشتغل، فلا تسألني، هذه البيارات والأرض كلها (إرس يسرائيل) أرض إسرائيل. في بعض الليالي؛ صرت اترك العمال نيامًا، وأقوم أتمشى بين أشجار البيارة المزروعة على خطوط مستقيمة، وأحاول ما استطعت تكسير الأغصان، ورمي البرتقال على الأرض، وأتخيل اليوم الذي يمكننا فيه طرد هؤلاء المحتلين، ومغتصبي البيارات الفلسطينية، لكي أقول لهذا المتغطرس هذه البيارات لأصحابها، وليست لكم أيها اللصوص. وصرت أسمع عن وجود يهود من عدة دول، فهنا تجد اليهودي الغربي والشرقي، فهناك يهود من اليمن يجتمعون في موشافات مستقلة، وينظرون لهم بقية اليهود نظرة دونية، لأنهم ينجبون كثيرًا مثل العرب، وهناك يهود من تونس وليبيا ومصر والعراق والمغرب، وروسيا وبولندا والدول الأوروبية الشرقية والغربية، ومرة سمعت يهوديين يتقاتلان في مشاف زقولا، وبدآ يسبان ويشتمان بعضهما البعض، فقال له الأول بالعربية: يا (م….) لا تنسى أنا عربي من تونس، ويمكن أن أضربك وأكسرك، فرد عليه الثاني غاضبًا، وهو إيلان الذي عملنا عنده فترات سابقة: وأنا فلسطيني يا حمار، واشتبكا بالأيدي وكانت الغلبة للفلسطيني. بدأت ألاحظ بعض عادات اليهود، فكثير منهم لا يعملون يوم السبت، بل لا يشعلون النار نهائياً، ويمنعون وربما يعتدون على من يشعلها، ولكن ذلك ليس في كل التجمعات، وكان هناك حاخام مختص بالذبح، يحضرون له ما يريدون ذبحه، من حيوانات وطيور، يتفحصها قبل ذبحها، ويعيد بعض الحيوانات أو الطيور التي يعتبرها غير صحية ولا تصلح للذبح، لمجرد خدش بسيط، أو وجع، أو سن مخلوع، أو لأي سبب يراه جديرًا بأنها لا تصلح للذبح.  وسمعت أن الحاخام، الذي يعمل لديه شاب من بلدتنا أيضاً، لديه ثلاث بنات، لهن علاقة مع الشاب، وكنت ألاحظ الحرية التي تتمتع بها الفتيات اليهوديات، وربما يتوقف الشاب والفتاة، على مرآى من الناس، يمارسان ما يشاءان من عناق وتقبيل، وأكثر من ذلك، ثم ينصرفان لإكمال شؤونهما. لاحظتُ أيضاً، أن هناك فروقات بين اليهود أنفسهم، وهناك اختلاف حتى في العادات واللغة والمعاملة، وقد كان بعض اليهود الشرقيين، وخاصة العراقيين أكثر سلاسة في التعامل معنا، دعاني مرة يهودي عراقي إلى بيته، وأدخلني إلى المطبخ وهو يقول: نحن لا نشعل نارًا يوم السبت، لكن نطبخ الطبيخ قبل بيوم، ونترك بلاطة ساخنة نضع عليها الطنجرة، وسكب لي طعامًا، يشبه المجدرة، لم يعجبني كثيرًا، وصار يحدثني بحنين عن حبه للعراق وبغداد، وعن محبته للغناء والأكل البغدادي. وقد عملت مع عدد من الأولاد، عند يهودي عراقي آخر اسمه “متقي”، لم أكن أعرف أن أصل الإسم عربي، في ذلك الوقت، وكنت أعتقد أنه اسم عبري لأن اسم متقي غير متداول لدينا، حتى صرت أفكر بعد أن كبرت، أنه اسم عربي مشتق من كلمة عربية، وفعلها اتقى. كانت معاملة “متقي” جيدة معنا، وكان عدد من الأولاد الكبار يذهبون في باصات “إيجد” بعد عملهم إلى أماكن أخرى، بكل حرية وسهولة. في مساء أحد الأيام، كان اليهودي العراقي برفقة زوجته وابنه، يتمشون واقتربوا منا ونحن نعمل، وقال لي أن ابنه يسألني إن كنت أذهب للمدرسة فقلت: نعم، فقال: يسألك (عن ابنه) وماذا تفكر أن تدرس في الجامعة، فسألته وماذا يفكر هو، فترجم لي أن ابنه سيصبح طياراً حربياً، حينها قلت: سأتعلم كيف أسقط طائرته، فتوقف أبوه مستغرباً، ولما اندهش ابنه كثيرًا من جوابي، قال له أبوه: نسيت نسيت أن أقول لك هذا فلسطيني، فانتفض الولد وأمه وكأن مساً كهربائياً ضربهما. فهم يتعاملون معنا باعتبارنا عربًا، ولا يذكرون كلمة فلسطين أبدًا، ولذلك أطلقوا على فلسطينيي ال48 اسم عرب اسرائيل. صار ابن اليهودي ينظر لي نظرات كراهية، ويهرب من وجهي كلما رآني، وبدأ أبوه يغير معاملته معي. ويطلب مني أعمالاً إضافية، بل صار يؤخر بعض أجوري، بعد أن يوزع على الأولاد أجورهم. كنا ننام في نفس الموشاف، وعلى سطح أحد الأبنية، وكان اليهود يتقبلون ذلك، ولا يعترضون على وجودنا، وكنت أحب صوت إيقاع السيارات والباصات، القادم ليلاً من الشارع الرئيس البعيد عنا، والذي لا نسمع له صوتًا خلال النهار، كان وقع عجلات الباصات بالذات على الإسفلت يبعث إيقاعا غريباً يذكرني بالرحيل، أو السفر، وكنت أحسد الركاب، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي أركب في تلك الباصات بحريتي. وصرت كلما جمعت مبلغاً من المال، لا أعود للبلدة مع الأولاد، بل أذهب وأركب في الباصات، لمجرد الفضول، وكانت التذكرة مفتوحة تخولك الركوب فيها عدة محطات، وركبت مرة إلى بئر السبع وتجولت في السوق، وشاهدت كيف يختلط اليهود والعرب هناك، ودخلت إلى سوق الخضرة، واشتريت مجلة إباحية، واشتريت ساندويشاً وعصيراً، وعدت مساء، وصرت في كل يوم عطلة، أركب باصات “ايجد”، وكان الباص يسير على خط معين ويتوقف في عدة مواقف، ويمكن أن تظل جالساً في الباص، وعلى نفس التذكرة، وكان أحياناً يمتلئ بالركاب، ويتوقف الكثيرون، وكان يمكن النزول في أي موقع، دون أن يسألك أحد. وفي باصات “ايجد” كنت أجد متعة في السفر فيها، وكانت حين تكتظ بالركاب، تتطابق أجساد البنات مع الركاب، ومرة كنت أجلس في كرسي على الطرف الذي في منتصف طريق الركاب، فطلبت إحدى الفتيات الجلوس على ركبتي لأنها متعبة، وجلست واسترخت بكل عفوية. وقد وفرت لي هذه الخاصية متعة التطواف في كل المدن والتجمعات داخل (اسرائيل)، وكنت أصل إلى تل أبيب، والقدس، واللد والرملة والخضيرة وغيرها، ثم أعود لاحقاً لمكان السكن والعمل، وقد صرت ألاحظ كيف يتصرفون ولا يتدخلون في شؤون بعضهم البعض، وفي بعض الحالات كانت أصواتهم تعلو فأتذكر ركاب باص بلدتنا، ولكن ما كنت استغربه أن بعض المتدينين منهم كانوا يرفضون جلوس النساء بجانبهم، ومنهم من كان يجلس بجانب أي راكب ذكر، كي لا تأتي فتاة وتجلس بجانبه، لكن غالبيتهم، لم يكن لديهم فضول النظر فيما يفعل الآخرون، وحتى لو كانا رجلًا وامرأة. على الصعيد الإنساني، تعاملت مع يهود عاديين، لم أشعر منهم بكره تجاه العرب، وهناك كارهون حاقدون، يبرز الحقد من وجوههم، لكنني كنت أنفر من منظر الجيش، ومن كثير من اليهود الذين كنا نعرفهم، حين يحين موعد خدمتهم، ويلبسون الملابس العسكرية، فيتغير حتى في مشيته وتعامله معنا. ومثلهم اليهودي العراقي “متقي” الذي نعمل لديه، والذي صار بخيلاً معنا، وحتى لئيماً معي، ويبقي لي دائماً أجراً لديه، بل أكل علي أجرة عدة أيام لم يدفعها. وفكرت أن أردَّ له الأذى، فتسللت إلى داخل الثلاجة العملاقة، ورأيت أن سلك الكهرباء المغذي في أعلى الثلاجة، فتشتُ خارج الثلاجة الباردة جدًا، ووجدت كماشة، وقلت سأقطع السلك من الداخل، وضعت بعض الصناديق حتى بالكاد صارت يداي تصلان إلى السلك، وضغطت علي الكماشية وظني أنها محمية بالبلاستيك الذي يجلل مقبضها، وما أن ضغت على السلك، حتى رمتني الكهرباء على الأرض، كانت الدفعة قوية، ولكني سقطت على أرض الثلاجة، ولم أسقط على بعض الصناديق الخشبية المليئة بالخضار والورود. ولا أدري ماذا جرى بعد، هل انقطعت الكهرباء عن الثلاجة، وقام بتصليحها، أم لم تنقطع ولم ينتبه لها في ذلك الوقت. كان لدى “متقي” قن واسع مليء بالحبش والبط، وكانت من مهامي أن أقدم له العلف والماء، واتفقت مع عدد من الأولاد على سرقة واحدة من البطات، لنذبحها ونتعشى عليها، وذهبت بعد المساء، وبرفقتي ولدان إلى القن الذي يشبه الغرفة الكبيرة، المحمية بالشبك الحديدي، وما أن فتحنا الباب، ودخلت، حتى بدأ الحبش والبط، بالهيجان وارتفع صوته عاليًا فهرب الولدان، وانطبق الباب المحكم علي من الداخل، وبقيت مدة داخل القفص الضخم، وأنا أهدئ من روع البط والحبش، ونمت داخل القفص، حتى شاهدت أحد الأولاد من بعيد، وناديت عليه حتى فتح لي باب القفص، أما النذلان اللذان هربا، فلم يجرؤا على القدوم لفتح الباب علي، وحمدت الله أن اليهودي وعائلته لم يخرجوا ليلاً بسبب صوت البط.، أو بما سمعوا ولكنهم خافوا من الخروج. تركت العمل عند “متقي” آخر العطلة، وظل لي عنده حساب عدة أيام صار يماطل، ولم يدفعها لي، وبعد سنوات وجدت متقي وقد صار يزور دار خالتي، حيث كان يريد من زوجها الشيخ أن يعمل له حجابًا، أو عملًا ما، وقد انتظرته حتى خرج يومًا من عندهم، وأوقفته وطالبته بحقي القديم، ووعدني أن يعطيه لخالتي، فرفضت وقلت لن أسمح لك بالذهاب قبل دفع ديني القديم، واضطر ودفعه لي كارهًا. صار “متقي” يكثر من زياراته إلى دار خالتي، وهو يتقن العربية جيدًا، حتى صار صديقًا للعائلة، وكان محبوبًا، وصار يزور البلدة باستمرار، (صرت أشك أنه عربي وليس يهوديًا)، والغريب أن خالتي وأمي كانتا تتعاطفان معه، باعتقاد خالتي أنه سوف يأتي لها بأخبار عن ابنها يوسف الذي استشهد في حرب حزيران، ويوم سجن “متقي” بسبب شيكات بدون رصيد، صارت خالتي تدعو له بالفرج، ولما ضحك بعضنا عليها، قالت (هذا متقي زي ابني)، الله يفك أسره. musa.hawamdeh@gmail.com *فصل من سيرتي.

المصدر: رأي اليوم

كلمات دلالية: حتى فی

إقرأ أيضاً:

اليهود الإسبان في إحتفالات حانوكا : الملك محمد السادس جعل من المغرب نموذجاً للتعايش والتسامح في العالم

زنقة 20. الرباط

احتضنت مدينة ملقة، التي تعد رمزاً للتنوع الثقافي وملتقى الحضارات، يوم الأحد الماضي النسخة الأولى من جوائز “حانوكا” أو “عيد الأنوار”.

هذا الحدث البارز، الذي نظمته فيدرالية الجاليات اليهودية في إسبانيا، التي يرأسها السيد “دافيد أوباديا شوكرون” المغربي الأصل، جمع نخبة من الشخصيات الدينية عن الديانات الثلاث وسياسيين يتقدمهم عمدة مدينة مالقة و مندوبة الحكومة الإسبانية وعندج طوريمولينوس ونائبة عمدة بين المدنية وممثل عن القنصلية المغربية بالجزيرة الخضراء وجمعويين وممثلين عن جماعات دينية مختلفة من ملقة ومنطقة كوستا ديل سول.

رئيس ذات الفيدرالية شدد في تصريح لمنبر Rue20 Español، التي غطت الحدث، على الدور المحوري والهام الذي يقوم به جلالة الملك محمد السادس، في التعايش والتسامح فيما بين الديانات السماوية.

و أضاف “دافيد أوباديا” على متن تصريحه، بأن جلالة الملك جعل من المملكة المغربية نموذجاً للتعايش والتسامح تفتخر به الجاليات اليهودية خاصة وبقية الجاليات عبر العالم.

وتستمر الاحتفالات من 25 ديسمبر حتى 2 يناير، بالتزامن مع عيد “حانوكا”، الذي يعبر عن انتصار النور على الظلام. يحمل هذا العيد رسالة أمل عميقة تعكس تطلعات الإنسان في مواجهة التحديات المعاصرة.

أقيمت الفعالية في قاعة إدغار نيفيل، بحضور رئيس اتحاد الجاليات اليهودية في إسبانيا، السيد ديفيد عبادي، الذي شدد في كلمته على أهمية التعاون الثقافي كركيزة أساسية لتعزيز التعايش والتنوع بين الثقافات.

تميز الحدث بتكريم ثلاث شخصيات مؤثرة تسعى لنشر رسالة السلام والوئام في العالم. كما شهد الحفل إضاءة شمعدان الحانوكيا ذو التسعة أذرع، حيث أوقدت ثماني مصابيح زيتية، في طقس رمزي يبرز معاني النور والصفاء، بمشاركة نخبة من الحضور المميزين.

شكلت هذه المبادرة فرصة فريدة للتأمل في المعاني الرمزية للنور، باعتباره تجسيدا للسعي نحو المعرفة، والحكمة، والفهم المتبادل بين البشر.

شارك في الحفل ممثلون عن هيئات وجماعات متعددة، مما يعكس التزاما مشتركا بتعزيز الحوار بين الأديان وبناء جسور التفاهم بين الثقافات والمعتقدات المختلفة. وأكد هذا الحدث على عمق روابط الاحترام والتآلف بين المجتمعات الدينية في ملقة، داعما قيم التعايش المتناغم والتسامح.

ختاما، جاءت هذه الاحتفالية لتكون شاهدا حيا على قيم النور والسلام والوحدة في التنوع، وهي القيم التي تميز مدينة ملقة وتجعلها مثالا يحتذى به في الانفتاح الثقافي والإنساني.

مقالات مشابهة

  • قصة التحالف بين الكوشيون (النوبيون) و العبرانين (اليهود) عام 701 قبل الميلاد
  • وكان قرارًا جانبه الصواب!
  • كيف تعادي إسرائيل السامية ولماذا تهاجم اليهود؟
  • رصد لأهم أسباب انحياز اليهود الأمريكيين للرواية الفلسطينية ومعاداة الاحتلال
  • عاجل | حاخام اليهود الشرقيين دافيد يوسف: يجوز ويجب إطلاق أسرى فلسطينيين ملطخة أيديهم بالدماء مقابل تحرير المختطفين
  • اليهود الحريديم يتظاهرون ويرددون: نموت ولا نتجند
  • وسيم السيسي: الشعب الأمريكي خرج في مظاهرات لرفض كونهم أداة في يد اليهود
  • اليهود الإسبان في إحتفالات حانوكا : الملك محمد السادس جعل من المغرب نموذجاً للتعايش والتسامح في العالم
  • وزير العدل يستعرض أهم مستجدات مدونة الأسرة بعد جلسة العمل التي ترأسها جلالة الملك
  • تقرير يكشف واقع اليهود المتبقين في سوريا.. كم عددهم؟