عربي21:
2024-07-03@20:07:11 GMT

كراهية الأنظمة العربية لحركة حماس

تاريخ النشر: 12th, November 2023 GMT

تقوم علاقة الأنظمة العربية بحركة المقاومة الإسلامية "حماس" على كراهية تتفاوت في حدتها إلى درجة العداء باعتبارها امتدادا لجماعة الإخوان المسلمين وحركات الإسلام السياسي، لكن خصوصية القضية الفلسطينية خلقت حالة من الحيرة والارتباك للاستبدادية العربية بالتعامل مع حركة حماس. فمنذ الإعلان عن تأسيسها إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، لم تُخف حماس علاقتها بالإخوان، لكنها أكدت على أنها حركة مقاومة وطنية بمرجعية إسلامية؛ تقتصر أنشطتها على تحرير الأراضي الفلسطينية ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

وشددت حماس على عدم التدخل في شؤون البلدان العربية والإسلامية وبقية دول العالم، وأكدت حرصها على بناء علاقات ودية مع عمقها العربي والإسلامي وأحرار العالم.

ولم تكن مواقف حماس تجاه الأنظمة العربية مجرد أيديولوجية خطابية دعائية، بل ممارسات وسلوكيات عملية، فلم تقم حماس بأي أعمال عدائية ولم تنفذ أي هجمات ضد أي دولة عربية أو عالمية.

لم تكن علاقة الأنظمة العربية بحركة حماس ودية يوما، وكانت متوترة دوما، لكن مستوى الكراهية حد القطيعة والعداء بلغ مداه عقب الانقلاب على انتفاضات الربيع العربي، فقد ظهرت تصورات جديدة حول مهددات استقرار الأنظمة العربية في ظل الهيمنة الأمريكية، حيث اختفت النظرة إلى الكيان الإسرائيلي كعدو مهدد للاستقرار وبات الكيان الاستعماري بمنزلة الصديق. لكن تحول نظرة الأنظمة العربية إلى المستعمرة الاستيطانية اليهودية جاء بعد سلسلة من التحولات ترتبط بعلاقة الاستبدادية العربية بالإمبريالية الأمريكية، حيث أصبحت الصهيونية الإسرائيلية صلة الوصل بين الأنظمة الاستبدادية والإمبريالية الأمريكية. فالنظام المصري أصبح يعتبر إسرائيل حليفته الأهم في المنطقة بعد الولايات المتحدة، ولم تُعدّ إسرائيل عدوّا لمصر منذ منتصف السبعينيات عقب توقيع نظام السادات معاهدة "كامب ديفيد" مع إسرائيل، وهو المسار الذي سوف تتبعه دول عربية أخرى بالاستسلام للرؤية الأمريكية والإسرائيلية من خلال معاهدات "سلام" واتفاقات تطبيع.
لم تكن علاقة الأنظمة العربية بحركة حماس ودية يوما، وكانت متوترة دوما، لكن مستوى الكراهية حد القطيعة والعداء بلغ مداه عقب الانقلاب على انتفاضات الربيع العربي، فقد ظهرت تصورات جديدة حول مهددات استقرار الأنظمة العربية في ظل الهيمنة الأمريكية، حيث اختفت النظرة إلى الكيان الإسرائيلي كعدو مهدد للاستقرار وبات الكيان الاستعماري بمنزلة الصديق
يشير مسار تبدل علاقة الأنظمة العربية بإسرائيل إلى مفارقة التحولات الإقليمية، فخلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي كانت إيران الشاه، وتركيا، أوثق حلفاء إسرائيل والولايات المتحدة، وكان إجماع الأنظمة العربية آنذاك قائما على أن تحالف إيران وتركيا وإسرائيل هو تحالف مع الإمبريالية الأمريكية ضد العرب، وهو ما سينقلب رأسا على عقب بعد وصول قوى إسلامية إلى السلطة في إيران وتركيا من خلال نجاح الثورة الإسلامية في إيران 1979، وفوز العدالة والتنمية في انتخابات ديمقراطية في تركيا 2002، حيث أصبحت إيران وتركيا هما القوتان الوحيدتان في المنطقة اللتان تصرّان على سيادة محلية وإقليمية ضد الاجتياحات الإمبريالية والاحتلالات الكولونيالية، بينما تحوّلت الأنظمة العربية إلى الدفع باتجاه سيادة إمبريالية أمريكية وكولونيالية صهيونية خشية من تكرار سيناريو الثورة في إيران أو سيناريو الديمقراطية في تركيا عن طريق حركات الإسلام السياسي بنسختيه السنية والشيعية، وهي حركات أصبحت مسندة من إيران وتركيا.

منذ اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل وصولا إلى اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، شرعت إسرائيل بالاستثمار في وضعية الاختلال، وربطت وجودها ونفوذها السياسي بالأنظمة العربية الاستبدادية، فأصبحت تل أبيب وكيلا للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وتشجعت باستكمال مشروعها الاستعماري لفلسطين عبر غطاء دولي وعربي في آنٍ واحد. إلا أن اشتعال الثورات العربية نهاية 2010 مَثَّل تهديدا خطيرا للمكتسبات الإسرائيلية، وشكلت الثورات العربية قلقا بالغا في الأوساط السياسية والأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية، بعد أن حاصر آلاف من المتظاهرين المصريين السفارة الإسرائيلية في القاهرة ليلة التاسع من أيلول/ سبتمبر 2011، ثم اقتحمها عدد منهم بعد انهيار الجدار الأمني الخرساني المحيط بالمبنى، وهي اللحظة التي بدأت "الثورة المضادة" تأخذ منحى التعاون الصريح بين الأنظمة الاستبدادية العربية والاستعمارية الإسرائيلية برعاية الإمبريالية الأمريكية.

حددت قوى الثورة المضادة الإسلام السياسي كعدو، وتحولت الخطابات الاستبدادية العربية من تعريفها كجماعات وحركات وقوى معتدلة، إلى حركات ميسّرة للتطرف والعنف في أحسن الأحوال، أو اعتبارها جماعات متطرفة عنيفة إرهابية، حيث صُنّفت جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية في عدة دول عربية، وفي مقدمتها مصر والسعودية والإمارات، واختُزلت مهددات الاستقرار في المنطقة بحركات الإسلام السياسي على اختلاف أوجهها وتوجهاتها السياسية الديمقراطية السلمية والجهادية الثورية، وتبلورت عن رؤية تقوم على تصفية القضية الفلسطينية وإدماج المستوطنة الاستعمارية الإسرائيلية في نسيج المنطقة، من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والأوروبية والأنظمة الاستبدادية العربية والاستعمارية الإسرائيلية تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالحركات الإسلامية؛ التي تقوم أيديولوجيتها على مناهضة الإمبريالية والاستبدادية والاستعمارية، وأصبحت الأنظمة الاستبدادية العربية شريكة للإمبريالية الأمريكية والمستعمرة الصهيونية في التصورات الأساسية للمنطقة، وهي تتبنى السردية الأمريكية الإسرائيلية حول القضية الفلسطينية ومستقبل الشرق الأوسط.
رغم كراهية الأنظمة الاستبدادية العربية لحركة حماس، لكنها بقيت قبل ثورات الربيع العربي تعرفها كحركة مقاومة، وطالما اعترضت على جهود الغرب لفرض عزلة على حركة حماس، وهو ما سوف يتبدل مع نجاح الثورة المضادة التي تولدت قيادتها الإمارات والسعودية، وسرعان ما شرعتا بحملة تضييق واعتقالات لأعضاء وأنصار حماس، في الطريق إلى "صفقة القرن"
رغم كراهية الأنظمة الاستبدادية العربية لحركة حماس، لكنها بقيت قبل ثورات الربيع العربي تعرفها كحركة مقاومة، وطالما اعترضت على جهود الغرب لفرض عزلة على حركة حماس، وهو ما سوف يتبدل مع نجاح الثورة المضادة التي تولدت قيادتها الإمارات والسعودية، وسرعان ما شرعتا بحملة تضييق واعتقالات لأعضاء وأنصار حماس، في الطريق إلى "صفقة القرن" التي تنامت وتيرتها منذ أن اعتلى الملك سلمان عرش السعودية في عام 2015، ولا سيما منذ أن أصبح نجله محمد بن سلمان وليا للعهد في عام 2017، حيث أخذت الرؤية السعودية بالتماهي مع الرؤية الأمريكية والإسرائيلية تجاه حماس. فعندما عقدت القمة العربية الإسلامية الأمريكية في الرياض في أيار/ مايو 2017، وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حركة حماس بـ"الإرهابية"، دون أي اعتراض.

وإذا كانت الإمارات ومعها البحرين قد سارعت إلى الدخول في "الاتفاقات الإبراهيمية" التطبيعية، وأعلنت عداءها الصريح لحماس، فقد تمهلت السعودية لإنجاز صفقة أفضل مع الولايات المتحدة، لكن خطابها وممارساتها تجاه حركة حماس أصبحت أكثر عدائية، حيث وصف وزير الخارجية السعودي عادل الجبير حماس بالإرهابية، أمام لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي في بروكسل في 22 شباط/ فبراير 2018.

يبدو أن الأنظمة الاستبدادية العربية المطبعة كانت في الطريق لوضع حركة حماس على قوائمها الإرهابية بعد أن صنفت جماعة الإخوان المسلمين منظمة "إرهابية"، لكن تعقيدات المشهد الفلسطيني حالت دون ذلك، فعقب إصدار محكمة القاهرة للأمور المستعجلة في 28 شباط/ فبراير 2015 حكما بإدراج حركة حماس ضمن "المنظمات الإرهابية"، ألغت محكمة الأمور المستعجلة في مصر الحكم المذكورفي 6 حزيران/ يونيو 2015، وقضت بعدم الاختصاص في نظر الدعوى. وقد خلت القائمة "الإرهابوية" التي أصدرتها السعودية ومصر والإمارات والبحرين في 8 حزيران/ يونيو 2017 والتي تضمنت تصنيف 59 فردا و12 كيانا، قالت إنها "مرتبطة بقطر"، من وجود حركة "حماس".

خلال السنوات الأخيرة، تعرضت "حماس" لحملة تشويه من قبل الأنظمة الاستبدادية العربية باعتبارها جماعة إرهابية تعمل ضد المصالح الفلسطينية، وعقب الهجوم المباغت الناجح الذي شنته حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي ضد الاحتلال الإسرائيلي، دخلت الأنظمة الاستبدادية العربية في حالة من الارتباك نظرا للتأييد الشعبي الواسع لحركة حماس باعتبارها حركة مقاومة وتحرر فلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأصبحت الأنظمة العربية مرتبكة وخائفة وحذرة بين الضغوطات الأمريكية والضغوطات الشعبية، حيث تجنبت الدول العربية ذكر "حماس" في تعليقاتها الأولى على الهجوم، حتى تلك الدول التي أدانت استهداف المدنيين، وفي وقت لاحق قامت البحرين والإمارات بمراجعة بياناتهما الأصلية لإدانة "حماس" بالاسم.

لخص الدبلوماسي الأمريكي السابق دينيس روس في مقال له بصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية موقف المستبدين العرب من حماس بالقول: "إسرائيل ليست الوحيدة التي تعتقد أن عليها هزيمة حماس"، مضيفا: "خلال الأسبوعين الماضيين، عندما تحدثت مع مسؤولين عرب في أنحاء مختلفة من المنطقة أعرفهم منذ فترة طويلة، قال لي كل واحد منهم إنه لا بد من تدمير حماس في غزة"، ونقل عنهم أنه "إذا اعتبرت حماس منتصرة، فإن ذلك سيضفي الشرعية على أيديولوجية الرفض التي تتبناها الجماعة، ويعطي نفوذا وزخما لإيران والمتعاونين معها، ويضع حكوماتهم في موقف دفاعي". وشرح بأن أولئك الزعماء العرب الذين تحدثوا إليه صرحوا له بموقفهم "على انفراد" بينما مواقفهم العلنية على خلاف ذلك، لأنهم يدركون أنه مع استمرار انتقام إسرائيل وتزايد الخسائر والمعاناة الفلسطينية، فإن مواطنيهم سوف يغضبون.

خلاصة القول أن الأنظمة الاستبدادية العربية تضمر كراهية لحركة حماس وتتعامل معها كتهديد وخطر، وتتمنى زوالها وهزيمتها، لكنها تخشى غضب وانتفاضة الشعوب التي تنظر إلى حماس كحركة مقاومة وتحرر وطني. فمحركات النظام الاستبدادي العربي واضحة، فهو لا يتحرك تجاه أي قضية إلا إذا شعر بخطر على بقاء سلطته وتهديد وجوده، ذلك أنه يعتمد في وجوده وديمومته على الإرادة الخاصة للإمبريالية العالمية كاستمرارية للآثار الاستعمارية التي شكلت أيديولوجيته وأجهزته القمعية والأيديولوجية، ولا يستند في حكمه إلى شرعية الإرادة العامة الشعبية، بل يركن إلى أجهزته ومؤسساته القهرية العسكرية والأمنية والقانونية، ويتدرج النظام الاستبدادي في خطاباته ومواقفه استجابة لنبض الشارع ومدى قدرته على الحشد وتعبئة الموارد.

عندما يقوم الاستبدادي برفع سقف خطاباته فهو يستهدف أهواء الحشد وعواطفه، ولا تعدو الخطابات عن كونها حيلة ولعبة شراء وقت للنجاة ثم يعود النظام الاستبدادي إلى نهجه القمعي المعهود. فما يهم هو المواقف والقرارات العملية السياسية والاقتصادية التي تخاطب الكتلة التاريخية والحركة الاجتماعية رغم موجة المظاهرات الحاشدة الواسعة التي عمت العالم العربي المساندة والداعمة لحركة حماس والمقاومة الفلسطينية ضد الاستعمار الصهيوني والتدخل الإمبريالي الأمريكي وضد الأنظمة الاستبدادية المتواطئة، فإن النظام الاستبدادي العربي تزعجه الحشود، لكنه لا يخشاها فهي بطبيعتها فردية غرائزية عاطفية وآنية وغير عقلانية ويسهل التلاعب بها، لكن ما يخشاه النظام الاستبدادي العربي هو هيكلة وتنظيم الحشد وانحيازه إلى كتلة تاريخية عقلانية تتحقق في جماعة وحركة اجتماعية مهيكلة ومستدامة.

فعندما يقوم الاستبدادي برفع سقف خطاباته فهو يستهدف أهواء الحشد وعواطفه، ولا تعدو الخطابات عن كونها حيلة ولعبة شراء وقت للنجاة ثم يعود النظام الاستبدادي إلى نهجه القمعي المعهود. فما يهم هو المواقف والقرارات العملية السياسية والاقتصادية التي تخاطب الكتلة التاريخية والحركة الاجتماعية، إذ يقوم النظام الاستبدادي بلعن الظلام وسط الأزمات لكنه لا يشعل شمعة، يشتم ويندد بالإمبريالية والاستعمار والاحتلال لكنه يتحالف معها، إذ لا يوجد أي مؤشر عملي للنظام الاستبدادي العربي بتغيير نهجه؛ لا على صعيد تدبير الشأن الداخلي بالإيمان بالديمقراطية والعدالة والحرية، ولا على صعيد التحالفات الدولية، فلا تتغير الأنظمة الاستبدادية إلا من خلال كتلة تاريخية وحركة اجتماعية تحشد الطاقات وتعبئ الموارد لإجبار النظام الاستبدادي على تغيير سلوكه، فلا تعطى الحقوق والحريات ولا تُمنح العدالة ولا يوهب التحرر والاستقلال، بل تؤخذ وتُنتزع عبر الحركة والنضال.

twitter.com/hasanabuhanya

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه حماس الفلسطينية الاستبدادية الإرهابية العالم العربي فلسطين حماس الإرهاب العالم العربي الاستبداد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإمبریالیة الأمریکیة الإسلام السیاسی الربیع العربی إیران وترکیا حرکة مقاومة لحرکة حماس فی المنطقة حرکة حماس من خلال

إقرأ أيضاً:

منهجيّة الاستبداد السياسي وأجهزته المخابراتيّة في تدمير الثّقة المجتمعيّة

لم تكن مهمّة أجهزة الأمن في الأنظمة الاستبداديّة قاصرة يوما على إفقاد الأمن وإرعاب النّاس وقمعهم واعتقالهم وتعذيبهم وتغييبهم في أقبية الزّنازين، بل كانت لديها مهمّة أخطر بكثير، تمارسُها بمنهجيّةٍ عاليةٍ وحرفيّةٍ فائقةٍ. تقوم هذه المهمّة على بناء نوعٍ جديدٍ من الوعي المشوّه، قائمٍ على التّشكيك بكلّ أحد، واتّهام كلّ النّاس، والاعتقاد بأنّ كلّ واحدٍ من أفراد هذا الشّعب المسحوق هو مخبرٌ سريّ لجهازٍ من أجهزةِ المخابرات.

وإذا أردنا أن نعدّد إنجازات أيّ نظامٍ مستبدّ؛ فإنَّ من أهمّ إنجازاته أنّه يجعل كلّ مواطن في الدولة ينظر إلى جميع النّاس البعيدين والمقرّبين منه على أنّهم مخبرون وعملاء للأمن.

استطاعت الأنظمة الاستبداديّة عبر أجهزتها الأمنيّة أن تقنع الجميع بأنّهم مستهدفون من الجميع، فلا ثقةَ بأحدٍ ولا طمأنينة لكلمةٍ تقال أمام مخلوق؛ وبالتّالي لا يمكن أن تجتمعَ ثلّةٌ على عمل أو مشروع لا يكون على عين النّظام وتحت رعايته.

استطاعت الأنظمة الاستبداديّة عبر أجهزتها الأمنيّة أن تقنع الجميع بأنّهم مستهدفون من الجميع، فلا ثقةَ بأحدٍ ولا طمأنينة لكلمةٍ تقال أمام مخلوق؛ وبالتّالي لا يمكن أن تجتمعَ ثلّةٌ على عمل أو مشروع لا يكون على عين النّظام وتحت رعايته
أنتم المشكلة لا أنا

ومن الأمثلة على هذه المنهجيّة والتي تطّرد في الشرائح المختلفة غير أنّها تكون في الشريحة الدينيّة أكثر وأظهر؛ ما اعتادته أجهزة الأمن من اللّعب على وتر الخلافات الدينيّة، لا سيما الاختلاف بين المدارس والتيّارات الشرعيّة والجماعات المشيخيّة. وهنا تنعدم ثقة هذا الشّيخ بالشريحة كلّها، ولا يفتأ يخوّنها في نفسه ويتوجّس خيفة من أيّ لقاء معها.

ومن ذلك أن يعمدَ النّظام الأمني إلى محاصرة أحد الخطباء أو الدعاة من تيار معين أو إيقافه عن الخطابة والعمل الدّعويّ، فيعمد العلماء المناصرون له للتحرك للتوسط والشفاعة عند هذه الأجهزة الأمنيّة لإعادته إلى العمل الدّعوي والعلمي، وكلّما دخلوا على ضابط المخابرات قال لهم: "يا مشايخنا: المشكلة عندكم وليست عندنا؛ ثمّ يخرج ملفا كبير الحجم بين دفّتيه عشرات الأوراق ويضعه على الطّاولة أمامه ويقول مشيرا إليه: هذه كلّها تقارير من المشايخ ضدّ الشّيخ الذي تتوسطون له؛ فنحن لا مشكلة لنا مع الشّيخ وإنّما أوقفناه بسبب ضغط المشايخ وتقاريرهم"، ملمحا بما يشبه التصريح بذلك إلى استهداف المشايخ من التيارات المخالفة له.

فتخرجُ الوفودُ من عند الضّابط الأمنيّ مقتنعة بكلامه كونها تعرفُ خلفيّات الخلافات الفكريّة بين الشّيخ الموقوف وغيره من مشايخ المدارس الأخرى، ويبدؤون بالحديث عن هذا الموقف مؤكّدين أن المشكلة ليست عند النظام ولا عند أجهزته الأمنية وإنّما عند "المشايخ المخبرين". وكونهم لا يعرفون ولم يقرأ أحد منهم ورقة من ذلك الملفّ، فيغدو كلّ واحدٍ من المشايخ المخالفين مشروع اتّهام بالعمالة للنّظام الاستبداديّ وأجهزته المخابراتيّة، عند عموم النّاس كما عند المشايخ أنفسِهم.

هذه المنهجيّة في التّعامل كانت وما تزال منهجيّة عامّة لأجهزة المخابرات مع المؤسسات الدعويّة المختلفة في اللعب على تناقضاتها واستغلال اختلافاتها، ويساندُ ذلك وجود عددٍ من الحالات تمارس العمالة الحقيقيّة والفعليّة؛ ليتمّ تعميم الفكرة وليتطوّر الأمر مع الزّمن فتغدو شريحة المشايخ والعلماء والدّعاة والخطباء في الوعي الجمعي لعموم النّاس "مخترقة حتّى النّخاع"، وكذلك يصبحُ هذا تقييمها عند نفسِها أيضا.

فكيفَ يمكن أن يكون لهذه الشريحة أن تكون ذات تأثير في الواقع تغييرا أو تصويبا؟ وكيف يمكن لها أن تكون ذات فاعليّة في مسار الأحداث على مستوى الوطن؟!

وهذه المنهجيّة التي يمارسُها النّظام الاستبداديّ مع شريحة المشايخ والدّعاة والخطباء تُمارسُ بالطّريقة ذاتها مع الشّرائح كلّها، من أطبّاء ومهندسين ومعلّمين وكتّاب وصحفيين ووجهاء، لتغدو الشّرائح كلّها في حالة اتّهام ضمنيّ متبادَلٍ بين أفرادها لتبقى الشرائح المجتمعيّة رخوة والكيانات هشّة أوهن من بيت العنكبوت.

لا تثق بأقرب النّاس إليك
هذه المنهجيّة التي يمارسُها النّظام الاستبداديّ مع شريحة المشايخ والدّعاة والخطباء تُمارسُ بالطّريقة ذاتها مع الشّرائح كلّها، من أطبّاء ومهندسين ومعلّمين وكتّاب وصحفيين ووجهاء، لتغدو الشّرائح كلّها في حالة اتّهام ضمنيّ متبادَلٍ بين أفرادها لتبقى الشرائح المجتمعيّة رخوة والكيانات هشّة
عملت الأنظمة الاستبداديّة بطريقة منهجيّة لزرع الشّك بين عامّة النّاس ببعضهم البعض، فلا يثقون ببعضهم مهما كانوا قريبين من بعضهم البعض ولو ضمّتهم مجالس السّهر والسّمر؛ فجميعهم يستشعرون بأنّ كلّ مجالسِهم ستنقل لأجهزة الأمن، فيتجنّبونها أو يلزمون الحذرَ عند شهودِها.

فمن أمثلة ذلك أنَّ أجهزة الأمن كانت تقومُ بين الفينة والأخرى باستدعاء مجموعة من الناس ضمّهم مجلس تسامر اعتياديّ، ويتمّ استدعاؤهم إلى فرع الأمن فرادى، ويقول المحقّق لكلّ واحد منهم: لقد كنتم عشرة أشخاص، وقد وجدت على طاولتي عند وصولي صباحا عشرة تقارير عنكم!! وهكذا يظنّ كلّ واحدٍ من هؤلاءِ المجتمعين بأنَّه كان يجالِسُ مجموعة كلّها من المخبرين وعملاء الأمن، فيعتزلهم ويفقد الثّقة بهم وبغيرهم من أبناء هذا المجتمع.

ويساعدُ في نشر هذه القناعة ما كان يتمّ بثّه من داخل الفروع الأمنيّة من طرائفَ ونكات تتحدّث عن هكذا مواقف، تبني قناعة بأنَّ المخابرات على معرفة بأدقّ أدقّ تفاصيل الحياة اليوميّة للإنسان، ويتمّ نشرها في المجتمع ويتداولها النّاس لتشكّل وعيهم الجمعيّ بطريقة ناعمة.

هكذا تربّي الأجهزة المخابراتيّة المجتمع كلّه على أنّ كلّ أفراده عيونٌ على بعضهم بعضا، وأنّهم عملاء للأجهزة الأمنيّة التي تعرف عن المرء أكثر ممّا يعرف عنه أبوه وأمّه؛ فتنعدم الثّقة وينتشر التخوين الخفيّ الذي سرعان ما يغدو علنيّا مع تنفّسُ نسائم الحريّة.

لا شكّ أنّ أيّ جهازِ مخابراتٍ في العالم يقوم بعمليّات تجنيد من أبناء الشّعب ليكونوا مخبرين سريّين، غير أنّ ضربة المعلم عند الأنظمة الاستبداديّة أنّ تقنع عامّة النّاس بأنّهم يعيشون وسط مجتمع غالبيّته من المخبرين وعملاء أجهزة الأمن.

إنَّ هذا المطر المسموم من فقدان الثقة والتشكيك من كلّ أحد بكلّ أحد هو بعضُ يسيرٌ من ذلك الغيم الأسود الذي لبّدته سياسات الاستبداد، وهي أجراسُ خطرٍ تُقرَع ملء السمع والبصر؛ فمتى تتنبّه القيادات المجتمعيّة والمؤسّسات التربويّة والأقلام الفكريّة والجهود الدعويّة إلى ضرورة التّدارك ومحاولة العلاج وبناء سفينة النّجاة الجامعة، قبل أن يشتدّ مطر التمزّق فيغرق الجميع غرقا لا نجاة معه؛ ولات ساعة مندمِ.

x.com/muhammadkhm

مقالات مشابهة

  • منهجيّة الاستبداد السياسي وأجهزته المخابراتيّة في تدمير الثّقة المجتمعيّة
  • الحربُ وقواعدُها.. والجريمةُ وبواعثُها
  • السفيرة أبو غزالة: الظروف التي تمر بها الأسرة العربية  تتطلب حلولاً ابتكاريه
  • أقارب قتلى في السابع من أكتوبر يرفعون قضية على إيران وسوريا كوريا الشمالية
  • هكذا المقاطعة العربية ضربت الشركات الأمريكية
  • حماس فكرة أم حقيقة صلبة على الأرض؟
  • حزب الله يستهدف مباني تستخدمها قوات الاحتلال في مستوطنة كفر جلعادي
  • الخارجية الأمريكية: تعزيز التعاون مع مصر وقطر لتحقيق الهدوء على الحدود الإسرائيلية اللبنانية
  • نتنياهو: نقترب من تصفية البنية العسكرية لحركة "حماس" في قطاع غزة
  • بن غفير: إطلاق سراح مدير مجمع الشفاء الطبي بغزة إهمال أمني