كراهية الأنظمة العربية لحركة حماس
تاريخ النشر: 12th, November 2023 GMT
تقوم علاقة الأنظمة العربية بحركة المقاومة الإسلامية "حماس" على كراهية تتفاوت في حدتها إلى درجة العداء باعتبارها امتدادا لجماعة الإخوان المسلمين وحركات الإسلام السياسي، لكن خصوصية القضية الفلسطينية خلقت حالة من الحيرة والارتباك للاستبدادية العربية بالتعامل مع حركة حماس. فمنذ الإعلان عن تأسيسها إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، لم تُخف حماس علاقتها بالإخوان، لكنها أكدت على أنها حركة مقاومة وطنية بمرجعية إسلامية؛ تقتصر أنشطتها على تحرير الأراضي الفلسطينية ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
ولم تكن مواقف حماس تجاه الأنظمة العربية مجرد أيديولوجية خطابية دعائية، بل ممارسات وسلوكيات عملية، فلم تقم حماس بأي أعمال عدائية ولم تنفذ أي هجمات ضد أي دولة عربية أو عالمية.
لم تكن علاقة الأنظمة العربية بحركة حماس ودية يوما، وكانت متوترة دوما، لكن مستوى الكراهية حد القطيعة والعداء بلغ مداه عقب الانقلاب على انتفاضات الربيع العربي، فقد ظهرت تصورات جديدة حول مهددات استقرار الأنظمة العربية في ظل الهيمنة الأمريكية، حيث اختفت النظرة إلى الكيان الإسرائيلي كعدو مهدد للاستقرار وبات الكيان الاستعماري بمنزلة الصديق. لكن تحول نظرة الأنظمة العربية إلى المستعمرة الاستيطانية اليهودية جاء بعد سلسلة من التحولات ترتبط بعلاقة الاستبدادية العربية بالإمبريالية الأمريكية، حيث أصبحت الصهيونية الإسرائيلية صلة الوصل بين الأنظمة الاستبدادية والإمبريالية الأمريكية. فالنظام المصري أصبح يعتبر إسرائيل حليفته الأهم في المنطقة بعد الولايات المتحدة، ولم تُعدّ إسرائيل عدوّا لمصر منذ منتصف السبعينيات عقب توقيع نظام السادات معاهدة "كامب ديفيد" مع إسرائيل، وهو المسار الذي سوف تتبعه دول عربية أخرى بالاستسلام للرؤية الأمريكية والإسرائيلية من خلال معاهدات "سلام" واتفاقات تطبيع.
لم تكن علاقة الأنظمة العربية بحركة حماس ودية يوما، وكانت متوترة دوما، لكن مستوى الكراهية حد القطيعة والعداء بلغ مداه عقب الانقلاب على انتفاضات الربيع العربي، فقد ظهرت تصورات جديدة حول مهددات استقرار الأنظمة العربية في ظل الهيمنة الأمريكية، حيث اختفت النظرة إلى الكيان الإسرائيلي كعدو مهدد للاستقرار وبات الكيان الاستعماري بمنزلة الصديق
يشير مسار تبدل علاقة الأنظمة العربية بإسرائيل إلى مفارقة التحولات الإقليمية، فخلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي كانت إيران الشاه، وتركيا، أوثق حلفاء إسرائيل والولايات المتحدة، وكان إجماع الأنظمة العربية آنذاك قائما على أن تحالف إيران وتركيا وإسرائيل هو تحالف مع الإمبريالية الأمريكية ضد العرب، وهو ما سينقلب رأسا على عقب بعد وصول قوى إسلامية إلى السلطة في إيران وتركيا من خلال نجاح الثورة الإسلامية في إيران 1979، وفوز العدالة والتنمية في انتخابات ديمقراطية في تركيا 2002، حيث أصبحت إيران وتركيا هما القوتان الوحيدتان في المنطقة اللتان تصرّان على سيادة محلية وإقليمية ضد الاجتياحات الإمبريالية والاحتلالات الكولونيالية، بينما تحوّلت الأنظمة العربية إلى الدفع باتجاه سيادة إمبريالية أمريكية وكولونيالية صهيونية خشية من تكرار سيناريو الثورة في إيران أو سيناريو الديمقراطية في تركيا عن طريق حركات الإسلام السياسي بنسختيه السنية والشيعية، وهي حركات أصبحت مسندة من إيران وتركيا.
منذ اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل وصولا إلى اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، شرعت إسرائيل بالاستثمار في وضعية الاختلال، وربطت وجودها ونفوذها السياسي بالأنظمة العربية الاستبدادية، فأصبحت تل أبيب وكيلا للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وتشجعت باستكمال مشروعها الاستعماري لفلسطين عبر غطاء دولي وعربي في آنٍ واحد. إلا أن اشتعال الثورات العربية نهاية 2010 مَثَّل تهديدا خطيرا للمكتسبات الإسرائيلية، وشكلت الثورات العربية قلقا بالغا في الأوساط السياسية والأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية، بعد أن حاصر آلاف من المتظاهرين المصريين السفارة الإسرائيلية في القاهرة ليلة التاسع من أيلول/ سبتمبر 2011، ثم اقتحمها عدد منهم بعد انهيار الجدار الأمني الخرساني المحيط بالمبنى، وهي اللحظة التي بدأت "الثورة المضادة" تأخذ منحى التعاون الصريح بين الأنظمة الاستبدادية العربية والاستعمارية الإسرائيلية برعاية الإمبريالية الأمريكية.
حددت قوى الثورة المضادة الإسلام السياسي كعدو، وتحولت الخطابات الاستبدادية العربية من تعريفها كجماعات وحركات وقوى معتدلة، إلى حركات ميسّرة للتطرف والعنف في أحسن الأحوال، أو اعتبارها جماعات متطرفة عنيفة إرهابية، حيث صُنّفت جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية في عدة دول عربية، وفي مقدمتها مصر والسعودية والإمارات، واختُزلت مهددات الاستقرار في المنطقة بحركات الإسلام السياسي على اختلاف أوجهها وتوجهاتها السياسية الديمقراطية السلمية والجهادية الثورية، وتبلورت عن رؤية تقوم على تصفية القضية الفلسطينية وإدماج المستوطنة الاستعمارية الإسرائيلية في نسيج المنطقة، من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والأوروبية والأنظمة الاستبدادية العربية والاستعمارية الإسرائيلية تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالحركات الإسلامية؛ التي تقوم أيديولوجيتها على مناهضة الإمبريالية والاستبدادية والاستعمارية، وأصبحت الأنظمة الاستبدادية العربية شريكة للإمبريالية الأمريكية والمستعمرة الصهيونية في التصورات الأساسية للمنطقة، وهي تتبنى السردية الأمريكية الإسرائيلية حول القضية الفلسطينية ومستقبل الشرق الأوسط.
رغم كراهية الأنظمة الاستبدادية العربية لحركة حماس، لكنها بقيت قبل ثورات الربيع العربي تعرفها كحركة مقاومة، وطالما اعترضت على جهود الغرب لفرض عزلة على حركة حماس، وهو ما سوف يتبدل مع نجاح الثورة المضادة التي تولدت قيادتها الإمارات والسعودية، وسرعان ما شرعتا بحملة تضييق واعتقالات لأعضاء وأنصار حماس، في الطريق إلى "صفقة القرن"
رغم كراهية الأنظمة الاستبدادية العربية لحركة حماس، لكنها بقيت قبل ثورات الربيع العربي تعرفها كحركة مقاومة، وطالما اعترضت على جهود الغرب لفرض عزلة على حركة حماس، وهو ما سوف يتبدل مع نجاح الثورة المضادة التي تولدت قيادتها الإمارات والسعودية، وسرعان ما شرعتا بحملة تضييق واعتقالات لأعضاء وأنصار حماس، في الطريق إلى "صفقة القرن" التي تنامت وتيرتها منذ أن اعتلى الملك سلمان عرش السعودية في عام 2015، ولا سيما منذ أن أصبح نجله محمد بن سلمان وليا للعهد في عام 2017، حيث أخذت الرؤية السعودية بالتماهي مع الرؤية الأمريكية والإسرائيلية تجاه حماس. فعندما عقدت القمة العربية الإسلامية الأمريكية في الرياض في أيار/ مايو 2017، وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حركة حماس بـ"الإرهابية"، دون أي اعتراض.
وإذا كانت الإمارات ومعها البحرين قد سارعت إلى الدخول في "الاتفاقات الإبراهيمية" التطبيعية، وأعلنت عداءها الصريح لحماس، فقد تمهلت السعودية لإنجاز صفقة أفضل مع الولايات المتحدة، لكن خطابها وممارساتها تجاه حركة حماس أصبحت أكثر عدائية، حيث وصف وزير الخارجية السعودي عادل الجبير حماس بالإرهابية، أمام لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي في بروكسل في 22 شباط/ فبراير 2018.
يبدو أن الأنظمة الاستبدادية العربية المطبعة كانت في الطريق لوضع حركة حماس على قوائمها الإرهابية بعد أن صنفت جماعة الإخوان المسلمين منظمة "إرهابية"، لكن تعقيدات المشهد الفلسطيني حالت دون ذلك، فعقب إصدار محكمة القاهرة للأمور المستعجلة في 28 شباط/ فبراير 2015 حكما بإدراج حركة حماس ضمن "المنظمات الإرهابية"، ألغت محكمة الأمور المستعجلة في مصر الحكم المذكورفي 6 حزيران/ يونيو 2015، وقضت بعدم الاختصاص في نظر الدعوى. وقد خلت القائمة "الإرهابوية" التي أصدرتها السعودية ومصر والإمارات والبحرين في 8 حزيران/ يونيو 2017 والتي تضمنت تصنيف 59 فردا و12 كيانا، قالت إنها "مرتبطة بقطر"، من وجود حركة "حماس".
خلال السنوات الأخيرة، تعرضت "حماس" لحملة تشويه من قبل الأنظمة الاستبدادية العربية باعتبارها جماعة إرهابية تعمل ضد المصالح الفلسطينية، وعقب الهجوم المباغت الناجح الذي شنته حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي ضد الاحتلال الإسرائيلي، دخلت الأنظمة الاستبدادية العربية في حالة من الارتباك نظرا للتأييد الشعبي الواسع لحركة حماس باعتبارها حركة مقاومة وتحرر فلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأصبحت الأنظمة العربية مرتبكة وخائفة وحذرة بين الضغوطات الأمريكية والضغوطات الشعبية، حيث تجنبت الدول العربية ذكر "حماس" في تعليقاتها الأولى على الهجوم، حتى تلك الدول التي أدانت استهداف المدنيين، وفي وقت لاحق قامت البحرين والإمارات بمراجعة بياناتهما الأصلية لإدانة "حماس" بالاسم.
لخص الدبلوماسي الأمريكي السابق دينيس روس في مقال له بصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية موقف المستبدين العرب من حماس بالقول: "إسرائيل ليست الوحيدة التي تعتقد أن عليها هزيمة حماس"، مضيفا: "خلال الأسبوعين الماضيين، عندما تحدثت مع مسؤولين عرب في أنحاء مختلفة من المنطقة أعرفهم منذ فترة طويلة، قال لي كل واحد منهم إنه لا بد من تدمير حماس في غزة"، ونقل عنهم أنه "إذا اعتبرت حماس منتصرة، فإن ذلك سيضفي الشرعية على أيديولوجية الرفض التي تتبناها الجماعة، ويعطي نفوذا وزخما لإيران والمتعاونين معها، ويضع حكوماتهم في موقف دفاعي". وشرح بأن أولئك الزعماء العرب الذين تحدثوا إليه صرحوا له بموقفهم "على انفراد" بينما مواقفهم العلنية على خلاف ذلك، لأنهم يدركون أنه مع استمرار انتقام إسرائيل وتزايد الخسائر والمعاناة الفلسطينية، فإن مواطنيهم سوف يغضبون.
خلاصة القول أن الأنظمة الاستبدادية العربية تضمر كراهية لحركة حماس وتتعامل معها كتهديد وخطر، وتتمنى زوالها وهزيمتها، لكنها تخشى غضب وانتفاضة الشعوب التي تنظر إلى حماس كحركة مقاومة وتحرر وطني. فمحركات النظام الاستبدادي العربي واضحة، فهو لا يتحرك تجاه أي قضية إلا إذا شعر بخطر على بقاء سلطته وتهديد وجوده، ذلك أنه يعتمد في وجوده وديمومته على الإرادة الخاصة للإمبريالية العالمية كاستمرارية للآثار الاستعمارية التي شكلت أيديولوجيته وأجهزته القمعية والأيديولوجية، ولا يستند في حكمه إلى شرعية الإرادة العامة الشعبية، بل يركن إلى أجهزته ومؤسساته القهرية العسكرية والأمنية والقانونية، ويتدرج النظام الاستبدادي في خطاباته ومواقفه استجابة لنبض الشارع ومدى قدرته على الحشد وتعبئة الموارد.
عندما يقوم الاستبدادي برفع سقف خطاباته فهو يستهدف أهواء الحشد وعواطفه، ولا تعدو الخطابات عن كونها حيلة ولعبة شراء وقت للنجاة ثم يعود النظام الاستبدادي إلى نهجه القمعي المعهود. فما يهم هو المواقف والقرارات العملية السياسية والاقتصادية التي تخاطب الكتلة التاريخية والحركة الاجتماعية رغم موجة المظاهرات الحاشدة الواسعة التي عمت العالم العربي المساندة والداعمة لحركة حماس والمقاومة الفلسطينية ضد الاستعمار الصهيوني والتدخل الإمبريالي الأمريكي وضد الأنظمة الاستبدادية المتواطئة، فإن النظام الاستبدادي العربي تزعجه الحشود، لكنه لا يخشاها فهي بطبيعتها فردية غرائزية عاطفية وآنية وغير عقلانية ويسهل التلاعب بها، لكن ما يخشاه النظام الاستبدادي العربي هو هيكلة وتنظيم الحشد وانحيازه إلى كتلة تاريخية عقلانية تتحقق في جماعة وحركة اجتماعية مهيكلة ومستدامة.
فعندما يقوم الاستبدادي برفع سقف خطاباته فهو يستهدف أهواء الحشد وعواطفه، ولا تعدو الخطابات عن كونها حيلة ولعبة شراء وقت للنجاة ثم يعود النظام الاستبدادي إلى نهجه القمعي المعهود. فما يهم هو المواقف والقرارات العملية السياسية والاقتصادية التي تخاطب الكتلة التاريخية والحركة الاجتماعية، إذ يقوم النظام الاستبدادي بلعن الظلام وسط الأزمات لكنه لا يشعل شمعة، يشتم ويندد بالإمبريالية والاستعمار والاحتلال لكنه يتحالف معها، إذ لا يوجد أي مؤشر عملي للنظام الاستبدادي العربي بتغيير نهجه؛ لا على صعيد تدبير الشأن الداخلي بالإيمان بالديمقراطية والعدالة والحرية، ولا على صعيد التحالفات الدولية، فلا تتغير الأنظمة الاستبدادية إلا من خلال كتلة تاريخية وحركة اجتماعية تحشد الطاقات وتعبئ الموارد لإجبار النظام الاستبدادي على تغيير سلوكه، فلا تعطى الحقوق والحريات ولا تُمنح العدالة ولا يوهب التحرر والاستقلال، بل تؤخذ وتُنتزع عبر الحركة والنضال.
twitter.com/hasanabuhanya
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه حماس الفلسطينية الاستبدادية الإرهابية العالم العربي فلسطين حماس الإرهاب العالم العربي الاستبداد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإمبریالیة الأمریکیة الإسلام السیاسی الربیع العربی إیران وترکیا حرکة مقاومة لحرکة حماس فی المنطقة حرکة حماس من خلال
إقرأ أيضاً:
الأمة وأهداف قوى الهيمنة والاستعمار
في وطننا العربي الكبير كان هناك نوعان من الأنظمة، (أنظمة جمهورية) تحررت شعوبها من براثن الاستعمار والقهر الاجتماعي وسيطرة الأنظمة الرجعية والإقطاع، وهناك نوع آخر من الأنظمة هي (الأنظمة الملكية) التي قامت برعايتها قوى الاستعمار، وقد مُنحت هذه الأنظمة لنفسها حق الوصايا المطلقة على شعوبها، ومنحت نفسها حق تطويع شعوبها وتحويلهم إلى أتباع لدرجة ان هناك أنظمة ملكية صادرت هوية مواطنيها وحقهم في الانتماء الوطني وأطلقت على وطن بكل ما فيه من قدرات بشرية وإمكانيات مادية ومعنوية مسمى يكرس هيمنة الأسرة الحاكمة نموذج (السعودية) التي اسمها يخلد (أسرة آل سعود) وكأن البلاد ملكية خاصة لهذه الأسرة وأن لا وجود للشعب ولا هوية له..
في ذات السياق نرى أنظمة ملكية أخرى يقف فيها الجنرالات وقادة الجيش والأمن والوزراء محني الهامات أمام أطفال ونساء الأسرة المالكة التي تفرض قدسيتها على الشعب مع أن هناك علماء وقادة عظاماً ومفكرين وفلاسفة ينتمون للشعب يجدون أنفسهم مجبرين على (الركوع والانحناء) أمام الملك وأفراد الأسرة المالكة مع ان السجود لله وحده ولم يحدث أن ركع أو انحنى مسلم أمام خير خلق الله ورسوله الخاتم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وعلى آله..
يمكن القول أن وطننا العربي الكبير انقسم إلى قسمين قسم (جمهوري) تطلعت شعوبه للحرية والانعتاق من براثن العبودية للحاكم الفرد، وحلمت بالحرية والتقدم الاجتماعي، وأسقطت صفة (الألوهية) عن حكامها، بغض النظر عن محاولة البعض من الحكام تخليد أنفسهم من خلال السيطرة على السلطة، ولكن هذه السيطرة رغم كل عيوبها إلا أنها منحت شعوبها قدرا من الاستقرار والتقدم والتطور، بغض النظر عما آلت إليه الأوضاع في هذه الأنظمة التي واجهت المخططات الاستعمارية واستهدفت من قبل محاور التأثير الإقليمية والدولية، التي راحت تضع هذه الأنظمة تحت مجهر الاستهداف رغبة في تطويعها وفرض الوصاية عليها ، فيما القسم الآخر يتصل بأنظمة الحكم (الملكية) التي فرضت سيطرتها وسطوتها على شعوبها وصادرت حق شعوبها في التعبير عن قناعتهم وحقهم في ممارسة الحرية في كل ما يتصل بشؤون أوطانهم وقضاياهم الاجتماعية والحياتية، ومارست وتمارس بحق شعوبها كل صنوف القهر والقمع والاستبداد وأن جعلت من أوطانها (بازارات) تعرض فيها كل منتجات العالم وأحدثها متخذة من حياة الرفاهية والانفتاح أداة لتطويع وإخضاع شعوبها في ذات الوقت الذي منحت فيه قرارها السيادي للآخر الحضاري الذي منحها حمايته وجعلها تحت وصايته من خلال قواعده العسكرية وتحالفاته المقدسة معها..
على خلفية هذا الواقع العربي كان من الطبيعي أن تصطدم الأنظمة الجمهورية بالقوى الاستعمارية وقوى الهيمنة الباحثة عن مصالحها والحريصة على تطويع هذه الأنظمة وتطويع شعوبها أو تدجين تطلعاتهم في التقدم والتطور وصناعة مستقبل أوطانها وشعوبها، في ذات الوقت الذي فرضت فيه قوى الهيمنة والاستعمار وجودها وسيطرتها على الأنظمة الملكية العربية والتحكم بقدراتها وثرواتها ومصيرها ومستقبلها وجعلها في خدمة أهدافها الاستعمارية.
بيد أن أزمة أمتنا كامنة فيما لدى هذه الأمة من قدرات وإمكانيات بدءا من موقعها الجغرافي وسيطرتها على طرق الملاحة الدولية، إلى ما لديها من ثروات طبيعية منها ما اكتشف ومنها ما لايزل كامن في جوف الأرض، وبين الأنظمة الجمهورية والملكية يقف (الكيان الصهيوني) المزروع في قلب الجغرافية العربية والذي تستدعي حمايته حضور متواصل ويقظ للقوي الاستعمارية التي أوجدت هذا الكيان ليس لأنه ملكية قديمة لما يسمى (شعب الله المختار، وليس لأن فلسطين هي (أرض الميعاد) وفق الأساطير الصهيونية التي اتخذت من البعد التاريخي والديني مجرد شعارات الهدف منها السيطرة والتحكم بقدرات وإمكانيات الأمة التي خرجت منها رسالات السماء حاملة تعاليم الله وقوانينه وتشريعاته ومنها اختار الله رسله وأنبيائه وحملها رسائل التوحيد ونشرها على العالمين.
ويمكن القول أن المكانة التي منحها الله سبحانه وتعالى للأمة العربية وكرمها بأن اختار منها خاتم الأنبياء والمرسلين وأنزل القرآن الكريم بلغتها وجعلها (أمة وسطاء لتكون شاهدة على الناس ويكون الرسول عليها شهيدا).. هذا التكريم الرباني هو دافع قوى الشر والهيمنة لاستهداف الأمة وتمزيق قدراتها المادية والمعنوية والجغرافية، فما لدى الأمة من مقومات روحية ومادية جعلها هدفا لقوى الهيمنة والاستعمار التي تفتقد القدرات والمقومات المادية والروحية والمعنوية التي تمتلكها الأمة العربية والتي تخشاها قوى الهيمنة التي ترى في نهوض الأمة وتوحيد قدراتها خطرا يهددها ويهدد نفوذها ومكانتها الوجودية وعلى مختلف الصعد.
نعلم جيدا أن أمتنا وبعد انتشار راية التوحيد لتعم كل اصقاع الأرض، برزت (الحملات الصليبية التسع) التي قادتها الامبراطوريات الاستعمارية الغربية تحت راية (السيد المسيح عليه السلام) والهدف ليس الدفاع عن (المسيح) وقيمه وتعاليمه، بل كان الهدف هو ضرب العلاقة بين العرب مسلمين -ومسيحيين، ومحاولة استعمارية هدفها المتاجرة بمسيحيي الشرق من العرب وتوظيفهم ضد إخوانهم من المسلمين العرب بما يحقق أهدافها الاستعمارية، وحين فشلت هذه المحاولة وانتصرت إرادة الأمة وترسخت وحدة أبنائها في مقاومة الأطماع الاستعمارية، وكانت الحرب العالمية الثانية فاتحة الانطلاق نحو أمة عربية حرة مستقلة بعد تضحيات جسام قدمها أبناء الأمة، كان من الطبيعي أن تعيد قوى الهيمنة ترتيب أوراقها والبدء في مرحلة استعمارية أكثر تحضرا وأشد خطورة من سابقتها ومع بداية أحداث مرحلة منتصف القرن الماضي وانقسام الأمة بين أنظمة جمهورية وأخرى ملكية، قامت الأولى بإرادة ومباركة الشعوب، وقامت الثانية برعاية استعمارية وحماية دولية، عملت قوى الاستعمار والهيمنة على (شيطنة الأنظمة الجمهورية) والسعي لإفشال مشاريعها الوطنية والقومية وضرب كل محاولتها التقدم والارتقاء بشعوبها مستغلة الكثير من التناقضات الاجتماعية والسياسية داخل الأنظمة الجمهورية، في ذات الوقت راحت فيها قوى الهيمنة ترسخ وجود الأنظمة الملكية الدائرة في فلكها والمحمية من قبلها والتي وجدت لخدمتها وخدمة كيانها اللقيط في فلسطين..