كوفيّة أبطال الديجتال بين وعي ودهشة
تاريخ النشر: 12th, November 2023 GMT
لعلّ من المستغرب المسكوت عنه عالميا اليوم كل ما له علاقة بالحرب الروسية الأوكرانية، وكأنها لم تكن ولم تتصاعد أحداثها إلى حرب وشيكة قبل أسابيع قليلة، ولعلّ انشغال العالم بسياسيه وأحزابه وإعلامه التقليدي وغير التقليدي بالحرب الإسرائيلية على غزة اليوم أنست الجميع مبررات صمت روسيا عن انشغال الحلفاء بحرب أخرى غير حربها، واستنزاف هذه الحرب كل تركيز الدول الكبرى الداعمة لأوكرانيا، ولعل من بديهيات التفكير المنطقي حينها التساؤل عن سبب عدم استغلال هذه الفرصة الوشيكة لتحقيق ما قد تعتبره روسيا أوانا مواتيا لنصر أكيد، ولا بد لهذا التساؤل أن يجر معه تساؤلات أخرى عن حقيقة الحرب المزعومة بينهم، أو شرائك السياسات الدولية في افتعال ضجة وصخب حرب مصنوعة لتشتيت التركيز عن قضية معينة، أو لتصعيد الرأي انتصارا أو تسويقا لفكرة ما أو قضية أخرى يراد لها الترويج وتبتغى منها الفائدة.
ولمّا كانت كل حرب ذميمة بكل تفاصيلها، ومهما كانت مبرراتها وبواعثها، وأيا كان موقعها أو أطرافها، فليس هذا موضوع هذه المقالة اليوم (أعني حرب روسيا - أوكرانيا) إلا أن بعض التساؤلات تفضي إلى كثير من المنطق حين نأتي لهذه الحرب الدولية الممنهجة ضد غزة وحدها، ولا نقول حرب إسرائيل فحسب رغم أن الواجهة لها وحدها دولةَ احتلالٍ وانتزاعٍ لمُلكيةِ الأرض الأصلية من أصحابها، لكن كل مشرّع لهذه الحرب الوحشية هو شريك، وكل مموِّل لها هو شريك، وكل صامت عنها هو شريك، وبالتالي فليست إسرائيل وحدها طرف هجمة الاحتلال الوحشية على غزة وأهلها اليوم، حين نفكر بعقلية المنطق الغربي الذي استغرق ما يزيد على عام لعدم رد مجموعة الدول حلفاء أوكرانيا ضد روسيا اليوم رغم كل هجمات روسيا على أوكرانيا، ثم تأجيل روسيا الحرب الفعلية ضد أوكرانيا وتنجيم وتقطير خطواتها إليها رغم قوة روسيا عسكريا وأمنيا وبشريا مقابل أوكرانيا، في مقابل تسارع الرد وإعداد العدة دوليا لحرب غزة فيما لا يتجاوز أياما من الفعل الذي أرادت له هذه الدول أن يكون مبررا لحرب وحشية مستمرة في قتل سكان غزة، وانتهاك كل مواثيق حقوق الإنسان، ونقض كل المعاهدات الدولية ببنودها المختلفة التي تنص على حماية المدنيين والنساء والأطفال، وتجنب المستشفيات وحماية الصحفيين، وحماية البيئة والتراث والثقافة وكل ذي قيمة في عالم مادي لا يعترف بالقيم ولا يقدّر الإنسان.
بعيدا عن كل سيناريوهات ما بعد الحرب على غزة التي تُعنى بها اليوم دول كبرى حريصة على تقاسم المنفعة بعد الدمار، وعند تصفية المكان من البشر تتلمس هذه المقالة دهشة العالم ودهشتنا من أجيال كانت مادة للسخرية فيما أسماه البعض «أبطال الديجتال» في محاولة للنيل من قدرة هذه الأجيال على إدراك الوعي، أو تفهم القضايا الواقعية بسبب انشغالهم بالعالم الرقمي والتطبيقات التواصلية الحديثة، إلا أنهم وبكل صدق أسلمونا وأجيالا قبلنا للدهشة وأرغمونا على الاعتراف لهم بالفضل في تمكنهم من الوعي بطرق أسرع بكثير مما تعودناه من تأسيس الوعي المرحلي عبر عقود من التكرار، نعترف لهم بالفضل وهم يفعلون كل ما تعلموه من وسائل التواصل والاتصال الرقمية لنشر رسالة توعوية للعالم أجمع مفادها أن فلسطين قضية عادلة، ومعتنقيها أصحاب حق لا يمكن مصادرته أو تجاوزه، ورسائل أخرى أرغمت الكثير من المنظمات المدنية والنقابات المهنية والإعلام الموجه على الالتفات إليهم عبر كل ما قدموه من مواد سمعية-بصرية بلغات مختلفة أوصلت للعالم عامة وللشعوب الغربية خصوصا أسى الفلسطيني الأعزل الذي يخزِّن حزنه وغضبه عقودا من المعاناة ليصل إلى معاناة أخرى تتمثل في إبادة جماعية تطيح بكل صبره ومقاومته لعقود من انتظار الفرج والحلم بالسلام، وعود أسلمته وشعب كامل لنكبة جديدة يراد بها تهجير الشعب وتقليص مساحة الدولة الفلسطينية لمحو آثارها وتثبيت خطى المحتل.
استغل أبطال الديجتال كل الممكنات، حتى تلك الألعاب الرقمية لتمرير قضية فلسطين عبر أعلامها وشعاراتها وكوفيتها التي تصدّرت المشهد الشعبي العالمي لأسابيع، استغلوا الممكنات الرقمية التي سرّعت من وتيرة وصول المواد التي تعكس واقع المدنيين في غزة يوميا ومعاناتهم مباشرة، ممكنات رائعة آتت أكلها تضامنا شعبيا عالميا منقطع النظير، بلغ أثره حدّ إزالة التعمية والغبش عن بصيرة الوعي الشعبي الغربي، بل وصل لأبعد من ذلك مع ما شهدته هذه المرحلة من تضامن شعبي عظيم وصل إلى درجة المسيرات والمظاهرات التضامنية المليونية في كثير من العواصم الإسلامية والأوروبية لأول مرة ورغم كل جهود ودعم الدول المشاركة والداعمة للحرب ضد فلسطين وأهلها.
أدهشنا هؤلاء الصغار الكبار في إدراك الفجوة العالمية بين الشباب وصنّاع القرار من الساسة، وهذا ما تلمسه الجميع من ترقب وانتظار العالم خطاب الرجل الواحد بعيدا عن تجمعات الطاولات الدولية مكرورة الخطاب، منزوعة العاطفة والتعاطف، أسلمتنا كل هذه الملاحظات إلى ضرورة التسليم بأننا أخطأنا في تقدير ما نعاصر من شباب مليء بالكثير من الطاقات، متسلحا بالكثير من المهارات والمعارف التي ستدهشنا يقينا إنْ عززنا إمكاناتها وأفسحنا لإبداعها المجال ليتشكل وعي مجتمعي وتواصل بين أجيال حسبنا أنه مقطوع إلى غير عودة، تماما كما أسلمتنا لإدراك خطورة تجاهل كل ذلك.
ومع كل ذلك لا ننسى حرب وكالات الإعلام الرقمي بين ملاك شبكات التواصل الاجتماعي، نخص بالذكر أشهرهم على الإطلاق مارك زوكربيرغ وإيلون ماسك، وفيما فشل الأول في اختبار المصداقية وموضوعية الطرح والانتصار للإنسانية، نجح الثاني نجاحا مؤزرا حين أعلن دعمه للحقيقة بعيدا عن عقود المصلحة حين فتح بوابته الرقمية لكل الآراء باختلافها دون انحياز لطرف دون آخر حتى وصل هو نفسه لقناعة بصحة اعتقاده وحسن تدبيره حتى مع ما قد يعد خسارة في لغة الأرقام وحسابات المصالح، الفتى الاستهلاكي الساخر الذي اعتقدنا جميعا بأنه أقل من أن ينتصر للحق فعلها وأشرع نوافذه المتاحة لحرية التعبير حين استجاب لرغبة الشعوب من مستخدميها في دعم غزة حين قطعوا عنها كل سبل التواصل، وكان مُمكِنَّا لبوابة المعرفة، منتصرا للحقيقة والعدل والسلام أوان سقوط غيره من مدّعي المصداقية والشفافية وحرية الرأي والديمقراطية والسلام.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً: