«المستودع الأخلاقي».. ممتحن في ذاته
تاريخ النشر: 12th, November 2023 GMT
يُنظر إلى المسألة الأخلاقية؛ في بعض المناقشات؛ على أنها مناقشات سفسطائية، أو على أنها شيء من الصور النمطية المتكررة التي لا تحتاج كثيرا من النقاشات، فهي معايشة بحكم الواقع، وهي ممارسة بحكم الحاجة، إلا أن هذا التقييم يحتاج إلى مراجعة مستمرة؛ ذلك أن عمود الحياة اليومية قائمة على الذات الخلقية، وأن مراجعتها، وإعطاءها أهمية خاصة في كثير من المناقشات لحاجة الحياة اليومية لهذه المسألة؛ فالعلاقات القائمة بين الأفراد تتغيّر بتغيّر الظروف، وهذا التغيّر يفرض أجندات حديثة؛ قد تكون مستعارة من أقوام وشعوب أخرى لها نمطها الخاص في المعيشة، وفي حقيقة العلاقات بين أفرادها، ومعنى هذا أن أي شيء قابل للتغير والتبدل، ويحظى بكثير من الاهتمام؛ فالحياة قائمة أساسا على هذا التغير والتبدل، ولكن عندما نأتي إلى المسألة الأخلاقية فهنا يجب معاملة هذه المسألة بكثير من الحذر والتريث؛ لأنها رصيد أمة، ومستقبلها في التعاطي مع الآخر، ولا يمكن تحقيق أي نجاح في مشاريع الحياة المختلفة؛ إنْ تخلت هذه الأمة عن هذا المقود المهم.
يأتي لفظ الـ «مستودع الأخلاقي» على اعتبار أن كل إنسان حاضنة كبيرة من الأخلاق، والمقصود بالأخلاق هنا؛ هي مجموعة السلوكيات التي يوظفها الإنسان في حياته اليومية، سواء أكانت سلوكيات سليمة، ومقبولة، أو سلوكيات مرفوضة، ولا تتقبلها الأنفس نظير مصادمتها لما هو مقبول بالضرورة، إذن؛ فالأخلاق هي السلوكيات المقبولة والأخرى المناقضة لها، ألم نقُل في مخاطباتنا اليومية إن فلانا من الناس ذو خلق حسن، وإن فلانا من الناس ذو خلق سيئ؟ مع الإيمان أن كل إنسان منا يحمل بين جوانبه نقائض هذه الأخلاق، وأنه لا يوجد أي إنسان لا يحمل هذه المتناقضات من الأخلاق، ومن أمثلة ذلك (الصدق/ الكذب، الأمانة/ الخيانة، الكرم/ البخل، التسامح/ التشدد، الرضا/ الحقد) وتبقى الميزة عند كل شخص في قدرته على توظيف الأخلاق الحسنة، وتجاوز الأخرى «السيئة» وهذه القدرة لا تنطلق من فراغ، بل من قناعة أكيدة، وهي أن لكل هذه المفردات الخلقية؛ في حال توظيفها ثمنا مستحقا، وليختَر كل منا الثمن الذي يريد، كما لا يجب أن ننسى أن توظيفها في حالتيها المتناقضة بناء على اعتبارات فطرية كذلك، وإن تتداخل معها في كثير من الأحيان عوامل مؤثرة من البيئة المحيطة، فقد يكون الفرد صادقا وأمينا، وكريما ومتسامحا، ولكن في ظرف ما يأتي بنقائض هذه الصفات الأخلاقية، وقد يحدث العكس أيضا، ومعنى هذا يصعب الجزم المطلق بامتثال الفرد لخلق معين على حالة واحدة فقط، وهذا لا ينفي إطلاقا؛ على أن هناك حالة واحدة من توظيف سلوك ما؛ في أحد طرفي المعادلة، لكنها تظل حالات نادرة إلى حد بعيد؛ لأن الإنسان من الأغيار؛ أي متغير، ولا يثبُت على حالة إنسانية واحدة طوال عمره، لذلك يحتاج الـ «مستودع الأخلاقي» إلى مراجعة دائمة من قبل صاحبه، فيعدل ويبدل، ويلغي ويضيف، ولا يسلم نفسه لحالة واحدة فقط؛ فالفضيلة التي تقع بين طرفي معادلة كلا الطرفين رذيلة، فالكرم فضيلة، ولكنه إن أسرف صاحبه فيه فيتحول إلى رذيلة، ويمكن قياس الكثير من المفردات الخلقية على حملها النقيضين، ومسوغ التوظيف في كلا الحالتين؛ يجب أن يبنى على ما هو الثمن المرتجى؛ فيما بعد التطبيق؟ والعاقل؛ يقينا؛ لن ينتصر لثمن بخس تكون تكلفته باهظة كحال توظيف الأخلاق السيئة في تعاملاته اليومية، وإلا عُدّ إنسانا معتوها.
تظل تربية النفس من أعقد المهام الموكول على الإنسان توظيفها على الواقع، وبقدر فطريتها في كثير من المشاريع الإنسانية، إلا أنها؛ في المقابل؛ تستنزف الكثير من الجهد، والعناء، وتخلق، في عدم تحققها، إشكاليات موضوعية، وفنية -على مستوى الفرد- واجتماعية وجوانب أخرى في السياق ذاته -على مستوى المجتمع- وهي؛ أي الجوانب الأخلاقية؛ وإن عُدّت أو صُنّفت على أنها بنية تكوينية تدخل فيها الفطرة، إلا أنها لا يمكن ألا تتداخل فيها العوامل الميكانيكية «الآلية» في سبيل توظيفها خير توظيف في واقع الناس، فالفرد منا يظن في نفسه الصدق، والأمانة، والمحافظة على حقوق الناس، والتعاون، وعدم النفاق، وتجنّب الفساد بكل أنواعه، هذا الشعور لا يكفي أن يتمحور داخل النفس، فلا بد أن يكون مشروعا ملموسا من قبل الآخرين من حولنا، ولا يكون تمثيلا يراد به إلهاء هؤلاء الآخرين من حولنا عن حقيقة أنفسنا، بل؛ لا بد أن يوظف توظيفا عمليا، وبلا تكلف، وإنما يظهر للآخرين على أنه سلوك لا تشوبه شائبة، وليست الغاية هنا إرضاء الآخرين فقط، وإنما تسمو النظرة إلى الأبعد من ذلك بكثير، وهي تحقق رضا الله سبحانه وتعالى، وهذه أسمى الغايات لدى كل إنسان مسلم أمين مع نفسه، ولذلك يذهب تأصيل البنية الأخلاقية على أساس تحقق ذلك الالتزام المحكم لتنفيذ المفردة الأخلاقية لذات السلوك الإيجابي؛ حيث تحرص محاضن التربية الاجتماعية على تأصيل السلوكيات الإيجابية في نفوس الناشئة، ومتابعة توظيفها بين أحضان المجتمع الواحد، ومكافأة العاملين بها، وتوضيح السلبيات للسلوكيات الخاطئة؛ في حالة عدم التقيد بالسلوكيات السوية، فهذا التأصيل يوثق في حالة الضرورة بالكثير من المواثيق والعهود، والالتزامات المكتوبة، وكل ذلك لحماية المجتمع وأبنائه من الترهل، وضياع الحقوق، والظلم، وعدم التعدي على الآخر.
امتحان الذات لهذا الـ «مستودع الأخلاقي» حالة مستمرة، وديمومة لم تشهد في عصر ما توقفا تاما لهذا الامتحان، وربما؛ قد يكون ذلك لأن هذا المستودع حالة نسبية، تخضع لكثير من الظروف المرحلية؛ سواء كان ذلك لمرحلة زمنية وهي عمر التتابع الزمني لحياة الفرد؛ منذ الصغر، وإلى أن يبلغ من العمر عتيا؛ ففي كل هذه المراحل العمرية للإنسان هناك حالات من التبدل والتغير في شأن توظيف السلوك الخير أو السلوك السيئ، انعكاسا لتجربة الخطأ والصواب التي يمر عليها كل إنسان؛ حيث يخطئ في سلوك ما، فيدرك خطأه فيعدله في سلوك آت بعده، وقد يحدث العكس، وهكذا تتوالى الأيام والسنين، وتتضخم التجربة ليصل إلى مستويات عالية من الإدراك؛ ليعدل من سلوكياته الخاطئة، وإلا حكم على تجربته الحياتية بالفشل الذريع، أو لمرحلة جغرافية تسيّرها ظروف معيّنة، قد لا يكون للإنسان فيها دور مباشر، أو ذنب اقترفه، وإنما فرضت عليه ظروف قاهرة، ليس باستطاعته مواجهتها بنفسه، فيتبنّى سلوكيات صعبة، ليحافظ على حياته، وحياة من حوله، ممن هو مسؤول عنهم، وهذه من الظروف الاستثنائية هل يمكن وضع مقاربة معينة بين هذا المستودع الأخلاقي، وبين سيناريوهات التوظيف السياسي متعدد الجوانب؛ على الرغم من أن السياسي هو فرد منبثق من بين حاضنة هذا المستودع؟ في هذا الجانب بالذات تسقط مجموعة القيم الأخلاقية الذاهبة إلى السمو، حتى السياسيون أنفسهم يصرحون بأنه «لا أخلاق في السياسة» فالسياسة وفق هذا التقييم الذي يصرحون به قائمة على المصالح، وفق معادلة مفادها أن (1+1 ليس شرطا أن تساوي 2) وإنما تُكيف النتيجة حسب المصلحة المتحققة من العلاقات القائمة بين الطرفين، ومعنى هذا أنه بقدر ما تحقق المصلحة توظف القيمة الأخلاقية في الشيء ذاته، وإن تعذر تحقق المصلحة في أمر ما، فإن القيم الأخلاقية ليس لها مكان هنا، وهذه الصورة لا يعدها السياسيون على أنها مشكلة موضوعية، بل هي حقيقة قائمة، وتمارس على العلن، وبالتالي يخطئ كثير ممن يعتقد أن إقامة علاقة أخلاقية مع السياسي سوف تثمر عن نتائج فوق المتوقع، هذا نوع من التضليل في العلاقات السياسية، لذلك عندما يكون هناك مشروع تفاوضي في أمر ما من جوانب العلاقات القائمة بين الدول، يتم اختيار المفاوضين بعناية كبيرة، ولا يرسل إلى التفاوض من كان في قلبه رحمة من ضمير، أو رصيد من الحمولة الاجتماعية الذاهبة إلى الود، والتعاون، والتكافل، وإلا تداعت عليه الذئاب، كما تتداعى على قصعتها، والعودة «بخفي حنين».
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على أنها کل إنسان کثیر من على أن
إقرأ أيضاً:
هل يمكن للجزر أن يكون الحل لمواجهة السكري؟
الدنمارك – يبحث العلماء باستمرار عن طرق جديدة وفعالة لتحسين إدارة مرض السكري، خاصة في ظل تزايد عدد اﻹصابات على مستوى العالم.
وفي هذا السياق، أظهرت دراسة جديدة من جامعة جنوب الدنمارك أن الجزر، وهو عنصر غذائي شائع وبسيط، قد يكون له دور كبير في مساعدة الجسم على تنظيم مستوى السكر في الدم وتعزيز صحة الأمعاء.
وهذه الدراسة، التي أجريت على الفئران المصابة بالسكري، تقدم أملا جديدا في استكشاف العلاجات الطبيعية التي يمكن أن تساهم في تحسين حياة المرضى.
ويشهد مرض السكري من النوع الثاني ارتفاعا ملحوظا في عدد المصابين حول العالم. وعادة ما يشمل العلاج تغييرات في النظام الغذائي وتناول الأدوية، رغم أن العديد من المرضى يعانون من آثار جانبية نتيجة الأدوية الشائعة.
ووفقا للباحثين من جامعة جنوب الدنمارك، ومستشفى جامعة أودنسه، وجامعة كوبنهاغن، يمكن أن يقدم الجزر طريقة طبيعية وآمنة خالية من الآثار الجانبية لدعم العلاجات الحالية.
تأثير الجزر على مستوى السكر في الدم وبكتيريا الأمعاء
درس الباحثون تأثيرات الجزر على مدار 16 أسبوعا باستخدام فئران مصابة بمرض السكري من النوع الثاني. وتم وضع نظام غذائي غني بالدهون لمحاكاة نمط حياة الإنسان غير الصحي.
كما تم تقسيم الفئران إلى مجموعتين: إحدى المجموعتين تلقت نظاما غذائيا مكملا بمسحوق الجزر المجفف بالتجميد بنسبة 10%، بينما تلقت المجموعة الأخرى نظاما غذائيا خاليا من الجزر.
وكانت كلا الحميتين متساويتين في السعرات الحرارية، ما يضمن أن المتغير الوحيد هو المركبات البيولوجية النشطة في الجزر. وأظهرت النتائج أن المجموعة التي تناولت مسحوق الجزر أظهرت تحسنا في تنظيم مستوى السكر في الدم، كما تم قياسه من خلال اختبارات تحمل الجلوكوز.
ويتم قياس اختبار تحمل الجلوكوز لمعرفة مدى قدرة الجسم على تنظيم السكر في الدم بعد تناول كمية محددة من السكر. في هذه الدراسة، تم إعطاء الفئران محلول سكر، وقياس مستويات السكر في دمائها على مدار الوقت.
ويوضح مورتن كوباك لارسن، أستاذ مشارك في قسم البحث السريري بجامعة جنوب الدنمارك: “أظهرت دراستنا أن الجزر غيّر تركيبة ميكروبيوم الأمعاء (الميكروبات التي تلعب دورا حيويا في عملية الهضم والصحة العامة). والفئران التي تناولت الجزر أظهرت توازنا صحيا لبكتيريا الأمعاء”. وبالإضافة إلى ذلك، كان لدى هذه الفئران عدد أكبر من البكتيريا المنتجة للأحماض الدهنية قصيرة السلسلة (SCFAs)، وهي جزيئات صغيرة تتشكل عندما تقوم البكتيريا بتفكيك الألياف الغذائية، وتساعد في تنظيم التمثيل الغذائي للطاقة والسكر في الدم، كما تدعم صحة الأمعاء.
وأضاف لارسن: “كل شيء نأكله يؤثر على تركيب بكتيريا الأمعاء. تناول الجزر يغير بكتيريا الأمعاء نحو توازن صحي، ما يعود بالفائدة على الفئران المصابة بمرض السكري من النوع الثاني”.
كيف يعمل الجزر؟
يقول لارس بورسكير كريستنسن، أستاذ الكيمياء التحليلية وكيمياء المنتجات الطبيعية في قسم الفيزياء والكيمياء والصيدلة بجامعة جنوب الدنمارك: “يحتوي الجزر على مركبات بيولوجية نشطة تعزز قدرة الخلايا على امتصاص السكر، وبالتالي تساعد على تنظيم مستوى السكر في الدم. وهذه المواد البيولوجية النشطة، المشتقة من الأحماض الدهنية غير المشبعة، موجودة أيضا في الخضروات الأخرى من عائلة الجزر، مثل البقدونس والكرفس والجزر الأبيض. ونرى أن الجزر قد يكون مكونا محتملا في استراتيجيات النظام الغذائي المستقبلية لمرض السكري من النوع الثاني. قد تحتوي الخضروات الأخرى من عائلة الجزر على خصائص مشابهة”.
ويشار إلى أن الدراسة أجريت على نموذج حيواني وتتمثل الخطوة التالية في إجراء تجارب سريرية. وتشير النتائج الأولية من دراسة مشابهة على تأثيرات الجزر على سرطان القولون إلى أن تناول 30-40غ من الجزر النيء أو المطبوخ يوميا قد يكون له تأثيرات مفيدة.
المصدر: ميديكال إكسبريس