لجريدة عمان:
2024-09-18@23:14:01 GMT

«المستودع الأخلاقي».. ممتحن في ذاته

تاريخ النشر: 12th, November 2023 GMT

يُنظر إلى المسألة الأخلاقية؛ في بعض المناقشات؛ على أنها مناقشات سفسطائية، أو على أنها شيء من الصور النمطية المتكررة التي لا تحتاج كثيرا من النقاشات، فهي معايشة بحكم الواقع، وهي ممارسة بحكم الحاجة، إلا أن هذا التقييم يحتاج إلى مراجعة مستمرة؛ ذلك أن عمود الحياة اليومية قائمة على الذات الخلقية، وأن مراجعتها، وإعطاءها أهمية خاصة في كثير من المناقشات لحاجة الحياة اليومية لهذه المسألة؛ فالعلاقات القائمة بين الأفراد تتغيّر بتغيّر الظروف، وهذا التغيّر يفرض أجندات حديثة؛ قد تكون مستعارة من أقوام وشعوب أخرى لها نمطها الخاص في المعيشة، وفي حقيقة العلاقات بين أفرادها، ومعنى هذا أن أي شيء قابل للتغير والتبدل، ويحظى بكثير من الاهتمام؛ فالحياة قائمة أساسا على هذا التغير والتبدل، ولكن عندما نأتي إلى المسألة الأخلاقية فهنا يجب معاملة هذه المسألة بكثير من الحذر والتريث؛ لأنها رصيد أمة، ومستقبلها في التعاطي مع الآخر، ولا يمكن تحقيق أي نجاح في مشاريع الحياة المختلفة؛ إنْ تخلت هذه الأمة عن هذا المقود المهم.

يأتي لفظ الـ «مستودع الأخلاقي» على اعتبار أن كل إنسان حاضنة كبيرة من الأخلاق، والمقصود بالأخلاق هنا؛ هي مجموعة السلوكيات التي يوظفها الإنسان في حياته اليومية، سواء أكانت سلوكيات سليمة، ومقبولة، أو سلوكيات مرفوضة، ولا تتقبلها الأنفس نظير مصادمتها لما هو مقبول بالضرورة، إذن؛ فالأخلاق هي السلوكيات المقبولة والأخرى المناقضة لها، ألم نقُل في مخاطباتنا اليومية إن فلانا من الناس ذو خلق حسن، وإن فلانا من الناس ذو خلق سيئ؟ مع الإيمان أن كل إنسان منا يحمل بين جوانبه نقائض هذه الأخلاق، وأنه لا يوجد أي إنسان لا يحمل هذه المتناقضات من الأخلاق، ومن أمثلة ذلك (الصدق/ الكذب، الأمانة/ الخيانة، الكرم/ البخل، التسامح/ التشدد، الرضا/ الحقد) وتبقى الميزة عند كل شخص في قدرته على توظيف الأخلاق الحسنة، وتجاوز الأخرى «السيئة» وهذه القدرة لا تنطلق من فراغ، بل من قناعة أكيدة، وهي أن لكل هذه المفردات الخلقية؛ في حال توظيفها ثمنا مستحقا، وليختَر كل منا الثمن الذي يريد، كما لا يجب أن ننسى أن توظيفها في حالتيها المتناقضة بناء على اعتبارات فطرية كذلك، وإن تتداخل معها في كثير من الأحيان عوامل مؤثرة من البيئة المحيطة، فقد يكون الفرد صادقا وأمينا، وكريما ومتسامحا، ولكن في ظرف ما يأتي بنقائض هذه الصفات الأخلاقية، وقد يحدث العكس أيضا، ومعنى هذا يصعب الجزم المطلق بامتثال الفرد لخلق معين على حالة واحدة فقط، وهذا لا ينفي إطلاقا؛ على أن هناك حالة واحدة من توظيف سلوك ما؛ في أحد طرفي المعادلة، لكنها تظل حالات نادرة إلى حد بعيد؛ لأن الإنسان من الأغيار؛ أي متغير، ولا يثبُت على حالة إنسانية واحدة طوال عمره، لذلك يحتاج الـ «مستودع الأخلاقي» إلى مراجعة دائمة من قبل صاحبه، فيعدل ويبدل، ويلغي ويضيف، ولا يسلم نفسه لحالة واحدة فقط؛ فالفضيلة التي تقع بين طرفي معادلة كلا الطرفين رذيلة، فالكرم فضيلة، ولكنه إن أسرف صاحبه فيه فيتحول إلى رذيلة، ويمكن قياس الكثير من المفردات الخلقية على حملها النقيضين، ومسوغ التوظيف في كلا الحالتين؛ يجب أن يبنى على ما هو الثمن المرتجى؛ فيما بعد التطبيق؟ والعاقل؛ يقينا؛ لن ينتصر لثمن بخس تكون تكلفته باهظة كحال توظيف الأخلاق السيئة في تعاملاته اليومية، وإلا عُدّ إنسانا معتوها.

تظل تربية النفس من أعقد المهام الموكول على الإنسان توظيفها على الواقع، وبقدر فطريتها في كثير من المشاريع الإنسانية، إلا أنها؛ في المقابل؛ تستنزف الكثير من الجهد، والعناء، وتخلق، في عدم تحققها، إشكاليات موضوعية، وفنية -على مستوى الفرد- واجتماعية وجوانب أخرى في السياق ذاته -على مستوى المجتمع- وهي؛ أي الجوانب الأخلاقية؛ وإن عُدّت أو صُنّفت على أنها بنية تكوينية تدخل فيها الفطرة، إلا أنها لا يمكن ألا تتداخل فيها العوامل الميكانيكية «الآلية» في سبيل توظيفها خير توظيف في واقع الناس، فالفرد منا يظن في نفسه الصدق، والأمانة، والمحافظة على حقوق الناس، والتعاون، وعدم النفاق، وتجنّب الفساد بكل أنواعه، هذا الشعور لا يكفي أن يتمحور داخل النفس، فلا بد أن يكون مشروعا ملموسا من قبل الآخرين من حولنا، ولا يكون تمثيلا يراد به إلهاء هؤلاء الآخرين من حولنا عن حقيقة أنفسنا، بل؛ لا بد أن يوظف توظيفا عمليا، وبلا تكلف، وإنما يظهر للآخرين على أنه سلوك لا تشوبه شائبة، وليست الغاية هنا إرضاء الآخرين فقط، وإنما تسمو النظرة إلى الأبعد من ذلك بكثير، وهي تحقق رضا الله سبحانه وتعالى، وهذه أسمى الغايات لدى كل إنسان مسلم أمين مع نفسه، ولذلك يذهب تأصيل البنية الأخلاقية على أساس تحقق ذلك الالتزام المحكم لتنفيذ المفردة الأخلاقية لذات السلوك الإيجابي؛ حيث تحرص محاضن التربية الاجتماعية على تأصيل السلوكيات الإيجابية في نفوس الناشئة، ومتابعة توظيفها بين أحضان المجتمع الواحد، ومكافأة العاملين بها، وتوضيح السلبيات للسلوكيات الخاطئة؛ في حالة عدم التقيد بالسلوكيات السوية، فهذا التأصيل يوثق في حالة الضرورة بالكثير من المواثيق والعهود، والالتزامات المكتوبة، وكل ذلك لحماية المجتمع وأبنائه من الترهل، وضياع الحقوق، والظلم، وعدم التعدي على الآخر.

امتحان الذات لهذا الـ «مستودع الأخلاقي» حالة مستمرة، وديمومة لم تشهد في عصر ما توقفا تاما لهذا الامتحان، وربما؛ قد يكون ذلك لأن هذا المستودع حالة نسبية، تخضع لكثير من الظروف المرحلية؛ سواء كان ذلك لمرحلة زمنية وهي عمر التتابع الزمني لحياة الفرد؛ منذ الصغر، وإلى أن يبلغ من العمر عتيا؛ ففي كل هذه المراحل العمرية للإنسان هناك حالات من التبدل والتغير في شأن توظيف السلوك الخير أو السلوك السيئ، انعكاسا لتجربة الخطأ والصواب التي يمر عليها كل إنسان؛ حيث يخطئ في سلوك ما، فيدرك خطأه فيعدله في سلوك آت بعده، وقد يحدث العكس، وهكذا تتوالى الأيام والسنين، وتتضخم التجربة ليصل إلى مستويات عالية من الإدراك؛ ليعدل من سلوكياته الخاطئة، وإلا حكم على تجربته الحياتية بالفشل الذريع، أو لمرحلة جغرافية تسيّرها ظروف معيّنة، قد لا يكون للإنسان فيها دور مباشر، أو ذنب اقترفه، وإنما فرضت عليه ظروف قاهرة، ليس باستطاعته مواجهتها بنفسه، فيتبنّى سلوكيات صعبة، ليحافظ على حياته، وحياة من حوله، ممن هو مسؤول عنهم، وهذه من الظروف الاستثنائية هل يمكن وضع مقاربة معينة بين هذا المستودع الأخلاقي، وبين سيناريوهات التوظيف السياسي متعدد الجوانب؛ على الرغم من أن السياسي هو فرد منبثق من بين حاضنة هذا المستودع؟ في هذا الجانب بالذات تسقط مجموعة القيم الأخلاقية الذاهبة إلى السمو، حتى السياسيون أنفسهم يصرحون بأنه «لا أخلاق في السياسة» فالسياسة وفق هذا التقييم الذي يصرحون به قائمة على المصالح، وفق معادلة مفادها أن (1+1 ليس شرطا أن تساوي 2) وإنما تُكيف النتيجة حسب المصلحة المتحققة من العلاقات القائمة بين الطرفين، ومعنى هذا أنه بقدر ما تحقق المصلحة توظف القيمة الأخلاقية في الشيء ذاته، وإن تعذر تحقق المصلحة في أمر ما، فإن القيم الأخلاقية ليس لها مكان هنا، وهذه الصورة لا يعدها السياسيون على أنها مشكلة موضوعية، بل هي حقيقة قائمة، وتمارس على العلن، وبالتالي يخطئ كثير ممن يعتقد أن إقامة علاقة أخلاقية مع السياسي سوف تثمر عن نتائج فوق المتوقع، هذا نوع من التضليل في العلاقات السياسية، لذلك عندما يكون هناك مشروع تفاوضي في أمر ما من جوانب العلاقات القائمة بين الدول، يتم اختيار المفاوضين بعناية كبيرة، ولا يرسل إلى التفاوض من كان في قلبه رحمة من ضمير، أو رصيد من الحمولة الاجتماعية الذاهبة إلى الود، والتعاون، والتكافل، وإلا تداعت عليه الذئاب، كما تتداعى على قصعتها، والعودة «بخفي حنين».

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على أنها کل إنسان کثیر من على أن

إقرأ أيضاً:

لوبوان: هل يكون فرانسيس البابا الأخير؟

لن يتمكن أي بابا صاحب سيادة بعد الآن من ممارسة سلطته كما فعل فرانسيس، هذه هي أطروحة مؤرخ الكنيسة والبابوية جيوفاني ماريا فيان في كتاب جديد يصدر له بعد أيام عن الكرسي الرسولي، كما جاء في مجلة لوبوان التي قابلت الكاتب والمدير السابق للجريدة اليومية الرسمية للفاتيكان.

وأشارت المجلة -في المقابلة التي أعدها جيروم كوردلييه- إلى أن هذا الكاتب الإيطالي الذي يعد أحد أفضل خبراء الفاتيكان والذي كان يفحصه دائما بنظرة موضوعية ولمسة من السخرية، وقد غاص بكتابه هذا في قلب بابويتي بنديكتوس السادس عشر والبابا فرانسيس، من منظور تاريخ المسيحية الطويل.

اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4آخر الباباوات المحافظين.. رحلة البابا بنديكتوس من الإصلاح إلى اليمينlist 2 of 4بابا الفاتيكان لا يؤيد ترامب ولا هاريس فلماذا؟list 3 of 4زارها بابا الفاتيكان.. تعرف على خريطة انتشار المسيحية بإندونيسياlist 4 of 4اجتماع المسلمين والمسيحيين واليهود في الدعاء لرفع الوباءend of list

وانطلقت لوبوان من سؤال الكاتب عما إذا كان وصفه فرانسيس بأنه "البابا الأخير" استفزازا؟، فرد جيوفاني ماريا فيان بالنفي، وقال إنها ملاحظة نهاية حقبة، حيث قال بنديكتوس السادس عشر عام 2016 "لم أعد أنتمي إلى العالم القديم، لكن العالم الجديد لم يبدأ بعد".

البابا فرانسيس أكد على سيادة البابا(غيتي إيميجز) خليفة بطرس

وشدد فيان على أن فرانسيس هو "بلا شك آخر الباباوات السياديين كما عرفناهم على مدى القرنين الماضيين"، ومعه بلغت البابوية -كما يقول الكاتب- ذروة ممارسة سلطتها منذ تأكيد العصمة البابوية عام 1870، ومثلما لم يفعل أي من أسلافه، أعلن فرانسيس أولويته من خلال إعادة التأكيد على سيادة البابا من أجل التغلب على المعارضة الداخلية في الكنيسة.

وأكثر من ذلك، يؤكد فرانسيس، في القانون الأساسي الأخير للفاتيكان الذي يعود تاريخه إلى عام 2023، أن سلطته الزمنية تأتي من حقيقة أنه خليفة الرسول بطرس، ولم يسبق لأي بابا أن استمد سلطته كرئيس للدولة من منصبه كأسقف لروما، وبذلك تؤكد الفاتيكان أنها دولة دينية.

فيان: فرانسيس يتحدث كثيرا عن الشيطان، لكنه عندما يتحدث عنه لا تنشر وسائل الإعلام كلامه لأنه لا يتناسب مع الصورة النمطية السائدة عن البابا المعاصر

وأشار فيان إلى أن البابا فرانسيس يقدم نفسه في صورة البابا المتواضع، ولكنه في الواقع يمارس سلطته بالكثير من السلطة، وحتى الاستبدادية، وهو يبحث عن أساليب التشاور، لكنه في النهاية هو الذي يقرر، وقد كان بنديكتوس السادس عشر أكثر حساسية منه تجاه الجماعية، وحاول استشارة هيئات الكوريا الرومانية.

ورغم أن البابا فرانسيس منفتح للغاية ويعرف أن الدول لن تجعل قوانينها تتماشى مع الأخلاق الكاثوليكية، فإنه ضد الإجهاض وضد القتل الرحيم وضد الأيديولوجية الجنسانية، وهو بالتالي بابا تقليدي إلى حد ما.

وهناك مثال على وجهة نظره التقليدية تجاه الكاثوليكية، فهو يتحدث كثيرا عن الشيطان، وقال إنه عندما قام بتدريس التعليم المسيحي في بوينس آيرس، أحرق دميته للتأثير في الأطفال، لكنه عندما يتحدث عن الشيطان لا تنشر وسائل الإعلام كلامه لأنه لا يتناسب مع الصورة النمطية السائدة عن البابا المعاصر.

لا يحقق شيئا

وترافق صورة "البابا اليساري" فرانسيس، لدرجة أنه أطلق عليه لقب الشعبوي عندما كان في الأرجنتين، وهو في الواقع ينظر إلى العالم وكأنه ينظر إلى أميركا اللاتينية، وبالتالي لا يتعاطف مع الولايات المتحدة، التي يُنظر إليها هناك على أنها قوة استعمارية.

وفيما يتعلق بالحروب في أوكرانيا وأرمينيا، كان فرانسيس هدفا لانتقادات واردة -حسب الكاتب- فهو يزعم أن أوكرانيا تتعرض لمحنة عظيمة، لكنه لا يذكر اسم المعتدي الروسي قط، حتى إنه يبدو في نظر البعض مؤيدا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفيما يتعلق بأرمينيا، فعل فرانسيس الكثير وتحدث عن الإبادة الجماعية التي تستفز الأتراك، لكنه اختار الصمت في الحرب مع أذربيجان.

ويرى الكاتب أن فرانسيس يحاول الابتكار، لكن في الوقت الحالي لا يحقق شيئا، وبالتالي لا يمكننا سوى إجراء تقييم مؤقت للبابوية، فنيات البابا في كثير من المواضيع جيدة، لكنها تبقى مجرد نيات، وما يدعو إليه يجب أن ينتشر في الكنيسة وفي الجماعات ويطبقه خلفاؤه.

في الوقت الحالي، تستمر الأزمة في الكنيسة بتناقضات عميقة، وهناك صرامة في فضائح الاعتداء الجنسي، لكن اليسوعي السابق ماركو إيفان روبنيك المتهم بالاعتداء على العديد من النساء، لم تتم إقالته بعد، وإن كان تم حرمانه كنسيا، ثم تم رفع هذه العقوبة بعد شهر، وفقا للكاتب.

وفي نهاية المطاف، يرى فيان أن البابا فرانسيس سيتمكن من دفع الكنيسة الكاثوليكية إلى الأمام ولكن يجب التأكيد على أن الكنيسة تسير إلى الأمام من تلقاء نفسها، ومن الواضح أن الكلمات المنطوقة في روما أصبحت تصل إلى آذان الكاثوليك بشكل أقل.

مقالات مشابهة

  • ناصر الجديع: يجب أن يكون هناك تحرك للحد من السوق السوداء
  • شعبة المخابز: زيادات مرتقبة في أسعار العيش السياحي بعد تحريك أسطوانات الغاز
  • شركة البريقة تستأنف العمل داخل مستودع سبها النفطي
  • ترامب: لا يجب أن يكون لدينا عداوة مع الدول التي تمتلك أسلحة نووية
  • شركة البريقة تبدأ شفط المياه لإعادة تشغيل مستودع سبها النفطي
  • سجل إجرامي حافل.. من يكون المشتبه به في محاولة اغتيال ترامب الجديدة؟
  • تطور خلف الكواليس - يديعوت: مقترح وساطة أمريكي هذا الأسبوع لحماس وإسرائيل
  • حماس: تجنيد الأفارقة كمرتزقة في جيش الاحتلال يعبر عن عمق الأزمة الأخلاقية
  • لوبوان: هل يكون فرانسيس البابا الأخير؟
  • لاعب الأهلي السابق : بيرسي تاو في تحدٍ مع ذاته لإثبات قدراته مع الأحمر