أنساغ.. «أنت رجل شائق»: الجندر والإمبراطورية والرغبة في فيلم «لورنس العرب» «11»
تاريخ النشر: 12th, November 2023 GMT
في الصحراء العربيَّة مترامية الأطراف يجيب لورَنس عن أسئلة دليله البدوي طَفس العفويَّة والفضوليَّة بالقول: إن «بريطانيا بلاد بدينة، شعبٌ بدينٌ»، فيرد طَفَس، وقد فاته التَّهكُّم الذي ذهب إليه لورَنس راميا إلى التعبير عن نقيض التَّقَشُّف البدوي وبساطة الصَّحراء، حائرا -أي طفس- بسذاجة: «أنت لست بدينا»، فيعقِّب لورنَس قائلا بصورة تأمُّليَّة يسبر فيها غور نفسه بنفسه: «لا، أنا مختلف».
كان لورَنس لا يزال مرتديا زيَّه العسكريَّ في الصَّباح الذي أعقب الحديث عن «اختلافه»، وإذا به يلقي مسدَّسه على حقيبته الجلديَّة بتكابرٍ أمام طَفَس الذي يرنو إلى المسدّس بعينٍ توَّاقة. ينجم عن ذلك تبادل قصير للنَّظرات بين لورَنس وطَفَس، وهي نظرات مركَّزة على المسدَّس الذي، من ثَمَّ، يعرضه الأوَّل على الثَّاني. إن الفيلم يدأب على تصوير لورَنس بوصفه شخصا على معرفة بالجوانب المتعدِّدة في الثقافة والحياة البدويَّتين لدرجة أنَّه يتبجَّح بأنه على دراية بهويَّة طَفَس القبليَّة التي هي «حازمي من بني سالم». ولهذا فإني أريد المحاججة هنا بأن لورَنس، بمعرفته الدَّقيقة بتفاصيل حياة البدو، يدرك لا محالة أن السِّلاح لديهم قليل التَّوافر ولذلك فإنه نفيس ومُقَدَّر كثيرا. ومن هنا فإن دليله البدوي لا بدَّ أن يكون راغبا في الحصول على المسدَّس، ويريد أن يستثير نظرة راغبة تلتقطها الكاميرا، وإنَّ التَّخلي عن الرَّمز القضيبيِّ الكلاسيكيِّ، المسدَّس، إنما يدلي بمبادرة تشير إلى اتِّخاذه هويَّة جديدة، أو الرَّغبة في ذلك الاتِّخاذ. لكن المفارقة هي أنَّه بمجرد توثُّق آصرتهما فإن طَفَس يموت قتيلا ببندقيَّة الشَّريف علي الذي يحلُّ محلَّه.
عندما يصل لورَنس وطَفَس إلى بئر الماء فإن الشَّريف علي يظهَر كأنه نقطة سوداء بعيدة في شساعة الصَّحراء عبر واحدة من أكثر اللَّقطات إثارة للإعجاب في الفيلم (وهي حقَّا أولُّ لقطة في تاريخ السِّينما تتمكَّن فيها الكاميرا من تصوير سراب الصَّحراء). وإذ يقترب الشَّريف من البئر ممتطياً ناقته الخَبَّابة فإن لورَنس يسأل طَفَس: «من هو»؟، فيهرع طَفَس، وقد اعتراه الخوف، إلى خرج بعيره ويستلُّ المسدَّس (الذي كان لورَنس قد أهداه إيَّاه)، ويصوِّب لإطلاق النار على الشبح الذي اقترب من البئر فيعالجه الشَّريف علي برصاصة ترديه قتيلا على الفور، فيسقط المسدَّس من يده على الأرض أمام صاحبه الأصليِّ، لورَنس. ومن المثير للاهتمام هنا أن لورَنس، في محادثته اللاحقة مع الشَّريف علي عند البئر، لا يستردُّ المسدَّس على الرغم من أن الحاجة لسلاح قد أصبحت من النَّاحية الموضوعيَّة ضروريَّة أكثر عند هذا المنعطَف من الرحلة، فقد حدثت أمام عينيه للتوِّ جريمة قتل. وعلى عكس ذلك، ففي إجابته عن سؤال الشَّريف عمَّن يكون مالك المسدَّس، يقول لورَنس إن قطعة السِّلاح تلك تعود لِطَفَس الميِّت، وبذلك فإنه يمنح عليَّاً الفرصة لالتقاط المسدَّس ودسِّه في حزامه دونما اعتراض من لورَنس. هكذا يغدو الرَّمز القضيبيُّ موضوعاً للتبادل بمحض الإرادة بين رجال، وذلك التَّبادل إنَّما يدل على اتِّخاذ هويَّة مؤقتَّة ومتنقِّلة دوما، وهي في ذلك تؤكِّد على آصرة مثليَّة الأيروسيَّة.
أما اللقاء الثاني للورنس والشَّريف علي فهو مهمٌّ كالأوَّل، وهو يحدث في الليل (اللقاء الأول حدث في النَّهار)، إذ نرى لورَنس جالسا في خيمة الأمير فيصل وهو يلتفت متأمِّلاً الشَّريف علي، الواقف خلفه مرتديا زيَّا عربيَّا قاتما، بنظرة يمتزج فيها الانجذاب بالامتعاض، إضافة إلى نظرة مُلْتَمِسة موجَّهة إلى المسدَّس المغروس في حزام الشّريف بطريقة تبرزها الكاميرا.
----------------------------
تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:
(53): كُتبَ الكثير عن إتقان الكولونيل تي إي لورَنس العربيَّة حديثا، وقراءة، وكتابة. لكن الحقيقة أن هذا زعم مبالغ فيه؛ فإحدى الوثائق التي كتبها بالعربيَّة والتي تبقَّت منه -وهي رسالة كان قد بعثها إلى الشَّريف الحسين بن علي مؤرَّخة في 25 يونيو 1918- تكشف عن أن عربيَّته لم تكن بذلك الإتقان، فهي خليط من الفصحى والعاميَّة كما في اللَّهجات الحجازيَّة والبدويَّة الأخرى (فهو، مثلا، يكتب في رسالته تلك «الِّلي» بدلا من «الَّذي» في نسيج جملة معظمها مكتوب بالفصحى). كما أنَّ عربيَّته ليست خالية من الأخطاء الإملائيَّة والنَّحويَّة. كان لورَنس قد طلب من الشَّريف أن يحرق الرسالة بعد الفراغ من قراءتها غير أن هذا لم يفعل. انظر صورة من تلك الرسالة في: سليمان موسى، «لورَنس العرب: وجهة نظر عربيَّة» (عمَّان: منشورات وزارة الثَّقافة، ط 9، 1992)، ملحق 1، 357--60.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
من هو النبي الذي قتل جالوت؟.. تعرف على القصة كاملة
تأتي العبر والدروس من عجائب القصص، ومن بينها قصة قتل جالوت، التي تكثُر حولها الأسئلة عن النبي الذي قتله، ومن هو؟، فهناك العديد من النقاط التي نجيب عنها في هذا التقرير، استنادا إلى كتب العلماء وفي المقدمة تفسير الإمام محمد متولي الشعراوي (رحمه الله).
من هو جالوت؟من الأسئلة الشائعة في قصة جالوت، «من هو جالوت؟ وما هي علاقته بـ«طالوت» ملك بني إسرائيل، وبالفعل جاء اسم جالوت مرتبطا باسم الملك طالوت ملك بني إسرائيل، ولكن لم يكن هذا الارتباط نتيجة لمحبة أو علاقة طيبة، بل كانت بسبب عداوة شديدة بينهما وحروب دامت لفترات طويلة.
سبب صراع جالوت وطالوتتناول كتاب «الهداية إلى بلوغ النهاية»، لـ«مكي بن أبي طالب القيسي أبو محمد»، صراع جالوت وطالوت، حيث ارجع الصراع لكونهما من الملوك الذين ارتبط اسمهما ببني إسرائيل؛ فطالوت هو من سِبط ابن يامين بن نبي الله يعقوب -عليه السلام-. وقد بعثه الله -تعالى- ملكًا في بني إسرائيل، وكانوا قد استنكروا ذلك ورأوا أنّهم أحق منه في المُلك؛ لكونه من سِبط ابن يامين، وهم من سِبط يهوذا.
ذكر الله، في كتابه العزيز- عن قصة طالوت: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
وهي الآيات التي تشير إلى خروج طالوت وجنوده للقاء جالوت، فابتلاهم الله -تعالى- بنهر ليُميّز الكاذب من الصادق، بعدما أصابهم التعب والعطش، وقد سُمح لهم أن يشربوا غرفة واحدة من النهر، فمن شرب الغرفة الواحدة عبره بسلام.
أما من شرب أكثر فأصابه التعب ولن يقوى على عبور النهر. ولمّا عبروا النهر قالوا لطالوت إنهم لا يقدرون على قتال جالوت، إلّا فئةً قليلة ثبتت مع طالوت قالوا بأنّ الله -تعالى- قادر على نصرهم بإذنه.
ثمّ قال الله -تعالى-: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
وعندما التقى جيش طالوت بـ«جيش جالوت» دعوا الله أن يرزقهم الصّبر والنصر، ويُثبتهم في أرض القتال، فاستجاب سبحانه وتعالى لدُعائِهم ونَصرهم بإذنه.
من النبي الذي قتل جالوت؟ويأتي سؤال من النبي الذي قتل جالوت؟، من الأسئلة المهمة في تلك القصة، وبالذهاب إلى تفسير الشيخ الشعراوي، للآية الكريمة (251) من سورة البقرة: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
واوضح الشعراوي، في تفسيره، أنّ المعركة دارت بين جيشي جالوت وطالوت فخرج جالوت من بين صفوف جيشه طالباً المبارزة فلم يخرج أحدٌ من صفوف جيش طالوت لعلمهم بقوة جالوت وطغيانه، فنادى مرةً أخرى فلم يخرج أحدٌ لمبارزته،و هنا تدخل الملك الصالح طالوت فقال لجيشه من يبارز جالوت ويقتله، زوجته ابنتي، وجعلته قائداً للجيش، فخرج من بين الصفوف شاب صغير السن وكان هذا الشاب هو " داوود عليه السلام" فاستغرب جنود طالوت كيف يستطيع هذا الشاب مبارزة جالوت، إلا أنّ داوود كان معتمداً على قوة إيمانه فقتله، لتنتهي المعركة بسقوط جالوت وهزيمة جيشه، ليصبح داوود عليه السلام، ملكاً على بني إسرائيل.