السياسة الأميركيَّة في الشرق الأوسط بعد 7 أكتوبر: ملامح التخبّط والانهيار
تاريخ النشر: 12th, November 2023 GMT
منذ أن ظهرت الولايات المتحدة الأميركية على المسرح الدوليّ- في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية كأقوى دولة في العالم- كانت الاستراتيجيّة العظمى لها هي تحقيق واستمرار هيمنتها العالميّة، والإبقاء على ميزان القوى بينها وبين أيّ منافس عالمي أو إقليميّ لصالحها بشكل كبير.
مع صعود الاتحاد السوفيتي في نهاية الأربعينيات- وللعقود الأربعة التي تلت ذلك كمنافس شرس وعنيد لأميركا في أوروبا وحول العالم- كانت الاستراتيجية الأميركية هي إنشاء تحالفات عسكريّة وسياسية ومؤسّسات اقتصادية وثقافيّة ومجتمعيّة لاحتوائه ومحاربة الأيديولوجية التي يمثّلها وينشرها حول العالم، في ظلّ التنافس الاستراتيجيّ والأيديولوجيّ بينه وبين المعسكر الغربيّ بقيادتها، بما اصطَلح عليه المتخصّصون بالحرب الباردة.
لقد حقّقت الولايات المتحدة الأميركية هيمنتها في نصف الكرة الغربيّ مع أواخر القرن التّاسع عشر، فيما عرف بمبدأ مونرو (Monroe Doctrine) نسبة إلى الرئيس الأميركي الخامس عام 1823، والذي نصّ على عدم السماح لأيّ وجود عسكري لأيّ قوى عالميّة في نصف الكرة الغربيّ، حتى تستفرد أميركا بهيمنتها فيما اعتبرته منطقتها الخلفيّة.
ومع بدايات القرن العشرين، استطاعت أميركا أن تصفّي كلّ القواعد العسكرية في نصف الكرة الغربيّ، كما أنهت الوجود المسلّح للقوى الأوروبية المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، فلقد فرضت أميركا حظرًا على دول المنطقة بعدم المشاركة في أيّ تحالفات عسكرية مع أي قوى عالميّة. وهنا يمكن فهم تصرُّف أميركا بعد اكتشافها الصواريخ السوفيتية النووية على الأراضي الكوبية في أكتوبر 1962، حيث هدّدت وقتها بحرب شاملة غير محدودة، لولا الاتّفاق على سحب هذه الصواريخ نظيرَ سحب الصواريخ الأميركية النووية من تركيا.
أمّا على المستوى الاستراتيجي فمنذ أواسط القرن العشرين، تعتبر الولايات المتحدة أنّ هناك ثلاثَ مناطق حيوية حول العالم تقتضي مصالحها الكبرى أن تكون متواجدة فيها بقوّة، وأن تحوز اهتمامَها السياسيَّ ووجودها العسكريَّ لتبقي على مكانتها ليس فقط كدولة عظمى، ولكن أيضًا كأهمّ قوة عالميّة تتحكم بمفاصل ومؤسسات النظام الدولي الذي تشرف عليه وتقوده.
هذه المناطق الثلاثة هي:
أوروبا، ومنطقة الخليج العربي بصورة خاصة والشرق الأوسط بشكل عام ومنطقة شرق وجنوب شرق آسيا.الاهتمام بمنطقتَي أوروبا وشرق آسيا متعلّق بوجود قوى عظمى أخرى تنافس الولايات المتحدة، حيث لا تريد أميركا لهذه القوى: (روسيا في أوروبا، والصين في شرق آسيا)، أن تكون مهيمنة في إقليمها حتى لا تنافسها في أماكن أخرى حول العالم.
أمّا منطقة الخليج فإنها تعدّ منطقة استراتيجية وحيوية جدًا؛ نظرًا لأنّها منطقة تكدّس الثروة النفطية في العالم، والتي تعدّ السلعة الأهمّ في الاقتصاد العالمي، حيث إنّ الذي يسيطر عليها يستطيع أن يتحكّم في أهم مفاصل هذا الاقتصاد.
كانت استراتيجية أميركا بعد الغزو الروسي هي استنزاف القوة الروسية المتنامية، وعزلها من خلال الدعم الهائل الذي قدمته لأوكرانيا؛ على أمل أن تضعف هذه الحرب روسيا، أو حتى أن يتم تغيير نظامها السياسي ليلتحق بالنظام الإقليمي الأوروبي المهيمن عليه أميركيًا
علاوةً على ذلك، فلقد أصرّت أميركا أن تكون العملة التي تباع بها هذه السلعة الاستراتيجية العالمية- منذ اتفاق كيسنجر-الملك فيصل عام 1974 نتيجة الحماية- هي الدولار، أو فيما يعرف بالبترودولار (petrodollar). هذا الأمر يضمن استقرار العملة الأميركية وهيمنتها العالمية كعملة احتياطية للاقتصاد العالميّ، حيث إنها تمثل حاليًا حوالي 60٪ من حجم التجارة العالمية بين الدول، وأكثر من 80٪ من سوق التبادل المالي، بالرغم من عدم وجود غطاء حقيقي لهذه العملة بعد أن فكّت أميركا الدولار عن الذهب عام 1971. هذا الربط بين الدولار والبترول يعدّ أحد الركائز السياسية الأميركية العالمية والتي يعتمد عليها استقرار الاقتصاد الأميركي بشكل كبير، والذي يعزّز الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الخليج.
منذ حوالي ثلاثة عقود، كان حجم الاقتصاد الصينيّ بالنسبة للاقتصاد الأميركي لا يتجاوز 7٪، في حين أنّه يعادل الآن حوالي 70٪ من حجم الناتج الأميركي السنوي. هذا النموّ الكبير والقوة الاقتصادية الهائلة للصين يجعلانها منافسًا قويًا وندًا شرسًا للولايات المتحدة ليس فقط على المستوى الاقتصاديّ، وإنما أيضًا على المستويَين: الاستراتيجيّ والعسكري، ما يجعل- من وجهة النظر الأميركية- أن تصبح الصين مهيمنة في إقليمها، ما يمكنها من أن تهدّد ليس فقط مصالح أميركا في هذه المنطقة الحيوية، وإنما إمكانية أن تنافس وتزاحم أميركا في مناطق أخرى حول العالم.
ما بين فترة سقوط وتفكّك الاتحاد السوفيتي عام 1991 ولمدّة حوالي ربع قرن، كان العالم أحادي القطبيَّة، حيث تفرّدت الولايات المتحدة بقيادة العالم، ففرضت هيمنتها من حيث أصبحت تحدّد اتجاهاته وتقرّر قواعده وتقود سياساته وتصنع مؤسّساته.
بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 – وفي غياب أيّ منافس دولي أو إقليمي- قرّرت الولايات المتحدة غزوَ الخليج والشرق الأوسط والعالم الإسلاميّ؛ حتى تعيد ترتيب نظامه من خلال الغزو العسكريّ والهندسة الاجتماعية في أفغانستان، والعراق على أمل أن تكرّر هذه التجارب في بقية دول المنطقة، إلّا أن فشلها الذريع في أن تحقّق أيَّ إنجاز في هذَين البلدين، بل وانسحابها المهين من كلَيهما جعلها تعيد حساباتها، خصوصًا في ظلّ صعود الصين السريع، بينما هي أضاعت وقتًا ثمينًا على مراهنات خاسرة. لذا قرّرت الولايات المتحدة إعادة تموضعها حتى تتفرّغ لتحدي صعود الصين السريع لتطويقها واحتوائها من خلال إقامة تحالفات إقليمية عسكرية واقتصادية؛ كي تعيق أو تبطّئ من نموها الاقتصادي وتقدّمها العسكري.
أمّا في أوروبا، فلقد استطاعت الولايات المتحدة- في ظلّ الضعف الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي- توسعةَ حلف الناتو عبر ثلاثة عقود، حيث ارتفع عدد الدول المنتمية لهذا الحلف العسكريّ من 16 عضوًا إلى 30. أدّى الإصرار الأميركي على توسعة هذا الحلف- ليشمل أوكرانيا حتى يتم تطويق روسيا والحدّ من قوتها وتأثيرها الإقليمي- إلى دفع روسيا لغزو أوكرانيا لتتصدّى لهذا التهديد الذي قد يعصف بدور روسيا الإقليمي، أو حتى بنظامها السياسي في ظلّ هيمنة غربية وتمدد أميركي في أوروبا الشرقية.
لذا كانت استراتيجية أميركا بعد الغزو الروسي هي استنزاف القوة الروسية المتنامية، وعزلها من خلال الدعم الهائل الذي قدمته لأوكرانيا؛ على أمل أن تضعف هذه الحرب روسيا، أو حتى أن يتم تغيير نظامها السياسي ليلتحق بالنظام الإقليمي الأوروبي المهيمن عليه أميركيًا. وعلى الرغم من تعثّر هذه الاستراتيجية الأميركية، فما زالت الإدارة الحالية تصرّ عليها، على الرغم من فشل القوات الأوكرانية في إحداث أي انتصارات أو اختراقات عسكريّة.
أمّا بالنسبة للوضع الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط والخليج، فإنّ أميركا تعتبر أنّ أهمّ التهديدات لمصالحها وللنظام الإقليمي الذي تهيمن وتسيطر عليه إلى حدّ كبير، هو في سياسات إيران وحلفائها في المنطقة، ليس فقط في تنامي قدراتها العسكرية والتكنولوجية المتعاظمة والتي اكتسبتها منذ نهاية الحرب العراقية- الإيرانية منذ أكثر من ثلاثة عقود، ولكن أيضًا لقدرة السياسة الإيرانية على عمل اختراقات في أكثر من إقليم، خصوصًا على مستوى الصراع مع الكيان الصهيوني في فلسطين ولبنان، بالإضافة إلى نفوذها المتزايد في العراق وسوريا واليمن وسياساتها المتصالحة مع دول الخليج.
في ظلّ هذه التحديات ومع قرار الولايات المتحدة تخفيف وجودها العسكري المباشر في المنطقة حتّى تتفرغ للتحدي الصيني في شرق وجنوب شرق آسيا، أرادت أميركا أن تعيد تنظيم المنطقة لتوكِل لقوى إقليمية التصدّي للنفوذ الإيراني وسياساته المناوئة والحفاظ على الاستقرار الإقليميّ لضمان المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الأميركية.
النظام الإقليميّ الذي أرادت أميركا أن تقيمه في الشرق الأوسط، كان يعتمد في جوهره على التحالف بين الكيان الإسرائيلي- الحليف الاستراتيجي والشريك الأكبر للحفاظ على المصالح الاستراتيجية الأميركية- والأنظمة العربية المتحالفة مع أميركا لا سيما مصرُ والأردن والإمارات والسعودية ودولٌ أخرى.
تحاول أميركا من خلال سياسة متهورة استعادة الصورة المنهارة للكيان الإسرائيلي المتأزم، الذي كانت ستعتمد عليه في الحفاظ على أمن المنطقة، ومصالحها الاستراتيجية بعد تخفيف وجودها العسكري المباشر
كانت النخبة السياسيّة والعسكرية الأميركية الحاكمة تدرك صعوبة إقامة تحالف بين الكيان الصهيوني والأنظمة العربية المتحالفة معها بدون إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية من خلال ما يسمّى بحلّ الدولتين، إلا أن التعنت والصلف والغطرسة الإسرائيلية وهيمنة اليمين المتطرف- ليس فقط على السياسة الإسرائيلية وإنما أيضًا على النخب الأميركية الحاكمة- أطاح بكلّ المحاولات الأميركية لإيجاد تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، ما أدّى إلى قبول تجاوزها والتماهي مع السياسة الإسرائيلية التي كانت تدعو إلى إدارة الأزمة بدلًا من حلّها.
منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي استطاعت أميركا أن تخترق النظام العربيَّ الإقليمي من خلال ترتيب معاهدات "سلام" مع أنظمة عربية مختلفة تضمن بقاء هيمنة الدولة العِبرية، والإطاحة بالأمن القومي العربي، ابتداءً من معاهدة السلام مع مصر (1979)، ومرورًا باتفاقية وادي عربة مع الأردن (1994)، ووصولًا إلى اتفاقات أبراهام مع الإمارات والبحرين والمغرب في (2019) و (2020).
لقد أرادت الإدارة الأميركية الحالية تتويج اتفاقات التطبيع بين الكيان الصهيونيّ والأنظمة العربية المتحالفة مع أميركا من خلال اتفاق تطبيع بين السعودية والكيان الصهيونيّ العام القادم؛ حتى تضمن مصالحها الاستراتيجية، وتحافظ على مصالحها الاقتصادية من خلال محاصرة واحتواء القوى المعادية لها وللكيان الصهيوني. هذه الاستراتيجية كانت ستوكل للكيان الإسرائيلي والأنظمة العربية المطبّعة معه الحفاظ على الأمن الإقليمي لتتفرغ أميركا للتحدّي الصيني في شرق آسيا وحول العالم.
جاء هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الثاني لينسف هذه الاستراتيجية بعد أن عصفت نتائجه المبهرة من حيث التخطيط والتنفيذ بهيبة وصورة الجيش الإسرائيلي الذي كان يدّعي بأنّه لا يقهر، والذي أذلّ أجهزة مخابراته التي كانت تتظاهر بأنّها تهيمن على النظام الأمني الإقليمي.
لذلك جاء الدعم الأميركي السريع واللامحدود للكيان الصهيوني، والذي سيشكك حتمًا ليس فقط بمصداقيته أمام الجماهير العربية والإسلامية، بل كذلك باهتزاز صورته حول العالم. تحاول أميركا من خلال سياسة متهورة استعادة الصورة المنهارة للكيان الإسرائيلي المتأزم، الذي كانت ستعتمد عليه في الحفاظ على أمن المنطقة، ومصالحها الاستراتيجية بعد تخفيف وجودها العسكري المباشر.
لذلك تَعتبر الولايات المتحدة أنّ هزيمة وسحق المقاومة في غزة هي المقدّمة اللازمة لاستعادة هذا التحالف الذي أرادت إنشاءَه في المنطقة. وكنتيجة لدعمها الكامل للقصف الإسرائيليّ الوحشي والإبادة الجماعية والتدمير الذي تمارسه ضدّ أهل ومدينة غزة، فلقد تخلّت أميركا عن كل الشعارات التي رفعتها والمبادئ التي كانت تنادي بها حول العالم، وبذلك تكون قد غامرت بسمعتها ومركزها بأن كشفت عن وجهها الحقيقي أمام شعبها وشعوب العالم، وأظهرت دورها كشريك في كل جرائم الحرب الإسرائيلية.
إنّ هذه السياسة المنحازة والمتهورة- التي اتخذتها الولايات المتحدة في سعيها للحفاظ على مصالحها، ولاستعادة قوة الردع العسكري للجيش الإسرائيلي الذي أُهين علنًا أمام شعبه والدول الإقليمية، ومن أجل تأكيدها على هيمنة الكيان الصهيوني على دول المنطقة- ستكون لها نتائج كارثيّة، ليس فقط على هيبتها وصورتها المنهارة أمام شعوب المنطقة، وإنما أيضًا على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية. بل ستكون لها نتائج وخيمة على مستقبل الكيان الصهيونيّ نفسه الذي تحاول إنقاذه وحمايته. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذه السياسة ستعيق قدرتها على التوجّه نحو شرق آسيا لمواجهة التحدي الصيني. ختامًا؛ سيكون لهذه السياسة المتخبطة تأثيرٌ مباشرٌ على النظام الأمني الإقليمي، ومستقبل الأنظمة العربية المتحالفة مع أميركا بعد أن انكشفت هذه الأنظمة أمام شعوبها وثَبَت ضعفُها وعجزها بل تواطُؤ بعضها في أكبر جرائم حرب عرفها التّاريخ.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الکیان الصهیونی ت أمیرکا أن حول العالم أمیرکا بعد فی أوروبا شرق آسیا ی أوروبا من خلال عالمی ة لیس فقط
إقرأ أيضاً:
الهادي إدريس لـ«الشرق الأوسط»: حكومتنا لإبعاد «شبح الانقسام» في السودان
لندن: (الشرق الأوسط) في ظل الأوضاع المتأزمة التي يعيشها السودان منذ اندلاع الحرب في أبريل (نيسان) 2023، برزت خطوة إنشاء حكومة «موازية» في مناطق سيطرة «قوات الدعم السريع»، لتثير مزيداً من القلق والمخاوف، والرفض داخلياً وإقليمياً ودولياً، والخوف على مستقبل السودان وتمزقه، ومواجهة خطر تقسيم ثانٍ، لكن داعمي هذه الخطوة الذين وقعوا دستوراً جديداً ووثيقة ترسم خريطة طريق للحكم، أخيراً، يرون أنها فرصة كبرى نحو سودان جديد يتمتع بالحرية والديمقراطية والعدالة، وينقذ البلاد من شبح التشرذم والفوضى.
تهدف الحكومة الجديدة، التي تُعرف بـ«حكومة السلام والوحدة»، حسب القائمين عليها، إلى إعادة بناء الدولة على أسس العدل والمساواة، وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين في جميع أنحاء السودان، وليس في مناطق «الدعم السريع» فحسب. وأرسلوا رسائل طمأنة للسودانيين ودول الجوار، بأن الهدف هو الحفاظ على وحدة السودان.
هذه المبادرة، التي تأتي في وقت حرج، تطرح نفسها كحكومة موازية للحكومة التي يساندها الجيش، وتتخذ من مدينة بورتسودان، عاصمة مؤقتة لها، تأمل في كسب ثقة السودانيين ودعم المجتمع الدولي من خلال إثبات جديتها في إنهاء الحرب وإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية وعلمانية لا مركزية.
فهل ستنجح هذه الحكومة في تحقيق السلام المنشود، أم أن التحديات ستكون أكبر من قدرتها على التغيير؟ هذا ما سنحاول استكشافه في لقاء مع الدكتور الهادي إدريس، القيادي البارز في تحالف «تأسيس»، الذي يقف وراء إنشاء «حكومة موازية».
يقول إدريس، وهو عضو سابق في مجلس «السيادة» السوداني، إبان حكومة الثورة الثانية، التي كان يرأسها الدكتور عبد الله حمدوك، إن «الحكومة التي نريد تكوينها هي حكومة سلام ووحدة... نحن، كقوة سياسية وعسكرية، كنا حريصين منذ البداية على حل الأزمة السودانية التي اندلعت في 15 أبريل 2023 بشكل سلمي، وبذلنا جهوداً كبيرة لدفع القوى المساندة لاستمرار الحرب، نحو الحوار والتعاطي مع المبادرات السلمية المختلفة بشكل إيجابي، (جدة والمنامة وجنيف)، لكن للأسف، فإن الجيش وسلطة الأمر الواقع في بورتسودان، رفضا التفاوض. فكان لزاماً علينا، التفكير في وسائل أكثر فاعلية لدفع الأطراف نحو الحوار وإيقاف الحرب، فكان إنشاء حكومة موازية تسعى للقيام بواجباتها نحو قطاع كبير من الناس لا يجدون العناية الكافية».
أسباب رفض الجيش للحوار
ويرأس إدريس أيضاً تحالف «الجبهة الثورية» الذي يضم حركات مسلحة من دارفور وتنظيمات سياسية خارج دارفور، مثل مؤتمر البجا المعارض بقيادة أسامة سعيد، وحركة «كوش» السودانية من أقصى الشمال، يقول: «نحن نعرف جيداً لماذا يرفض الجيش الذهاب إلى طاولة المفاوضات، السبب الرئيسي هو وقوعه تحت تأثير الحركة الإسلامية وأنصار وفلول النظام البائد، الذين يرون أن أي عملية سياسية ستخرجهم من المشهد وتقلص نفوذهم. لذلك، هم حريصون على استمرار الحرب رغم ما تسببه من كوارث وآلام وتشريد للمواطنين، كما أن هناك حركات مسلحة متحالفة مع الجيش ترى في استمرار الحرب مصلحة شخصية لها، حيث تعتمد هذه الحركات على استمرار الصراع لضمان بقائها، وبقاء مصالحها. وبعضها يقوم بعمليات سلب ونهب لممتلكات المواطنين، في وسط الفوضى الضاربة بأطنابها في السودان حالياً».
سياسات التقسيم
ويتهم إدريس قادة الجيش السوداني باتخاذ إجراءات تعرض البلاد للتقسيم من خلال إصدار عملة جديدة في مناطق سيطرتهم، وحرمان مناطق أخرى، وإعلانهم عن بدء الدراسة في مناطق دون أخرى، وفتح المجال لإصدار وثائق السفر والهوية لبعض الأشخاص وحرمان الآخرين. إضافة إلى إصدار قانون غريب يعرف باسم (الوجوه الغريبة). وأشار إلى أن «هذه الإجراءات قد تؤدي إلى تقسيم البلاد، وهو ما نرفضه تماماً».
وتابع إدريس «الحركة الإسلامية لديها مشروع لتقسيم البلاد، وقد قسمت الجنوب من قبل. نحن الآن نقوم بإجراءات لتأمين وحدة السودان. نحن نؤمن بوحدة الوطن، ويجب أن يبقى دولة موحدة، وأن أي حل يجب أن يأخذ في الاعتبار مصالح جميع السودانيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الجهوية أو العرقية أو الثقافية... وحتى نوقف عملية التقسيم الجارية، طرحنا إنشاء حكومة السلام والوحدة الوطنية».
حكومتنا لكل السودانيين
يقول القيادي في «تأسيس»: «حكومتنا ليست لدارفور وحدها أو (الدعم السريع) أو إقليم بعينه، بل هي لكل السودان، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب. أعددنا دستوراً يضمن حقوق الجميع، ووقع عليه أشخاص وكيانات مختلفة من جميع مناطق السودان». وأوضح أن الحكومة المقبلة ستكون مسؤولة عن إعادة بناء الدولة وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، بما في ذلك التعليم والصحة والأمن».
مخاوف محلية وإقليمية
وعلى الرغم من أن دولاً في الجوار السوداني ومنظمات دولية وإقليمية رفضت وبشكل قاطع أي حكومة موازية في السودان، بما فيها الأمم المتحدة ومنظمة «إيغاد» في القرن الأفريقي، فإن إدريس الذي يرأس أيضاً حركة تحرير السودان/المجلس الانتقالي، يقول إن مخاوف الناس في غير محلها، مع حقهم في أن يشعروا بالقلق، «ولكن عندما ترى حكومتنا النور، سيرون أننا مع الوحدة والسلام والاستقرار، وليس العكس».
ويضيف: «نحن نعمل على طمأنة دول الجوار بالتأكيد على أننا دعاة وحدة ولسنا مع تقسيم السودان. ونعتقد أن تقديم الخدمات للناس المحرومين منها، حتى الذين في مناطق الجيش، والعمل على حماية حقوقهم، سيكسبنا ثقة المجتمع الدولي، ودول الجوار القلقة. وإذا قمنا بفتح الحدود للمساعدات وحمينا الناس من الانتهاكات التي تحدث على الأرض، فإن نظرة العالم لنا ستتغير، وسيتعامل معنا بشكل إيجابي».
قضية الاعتراف
ويرى إدريس أن قضية الاعتراف بالحكومة الجديدة «لا تشغل لنا بالاً»، ويشير إلى زيارات قاموا بها في السابق إلى أوغندا وكينيا، وإثيوبيا وتشاد، حيث لمس تعاطفاً مع قضيتهم. وقال: «هذه الدول لديها مصلحة في استقرار السودان»، بدليل أنهم استُقبلوا في أوغندا من قبل الرئيس يوري موسيفيني نفسه، وفي كينيا فتحت لهم أبواب الاستضافة، ورحب بهم الرئيس ويليام روتو.
«في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، قابلنا رئيس الوزراء آبي أحمد. وذهبنا إلى تشاد واستقبلنا رئيسها محمد إدريس ديبي، بالإضافة إلى عدد آخر من الدول». وقال: «لا يعني ذلك أنهم يريدون الاعتراف بنا، ولكن يعكس اهتمامهم بالأوضاع في البلاد؛ لأن استمرار الصراع في السودان قد يؤدي إلى أزمات كبرى في بلادهم والمنطقة بأكملها». وأضاف: «لذلك، هم حريصون على استقرار السودان. ومن المؤكد عندما ننشئ حكومتنا، سنزور هذه البلدان، مرة أخرى وسيستقبلونا هذه المرة بوصفنا سودانيين ندير شأن السودان».
فشل الدولة القديمة
يقول إدريس إن «العالم يتغير من حولنا... ظهر عهد جديد في لبنان، ونظام جديد في سوريا، في أعقاب النظام القمعي القديم. ومن وجهة نظري، أن الأنظمة القديمة لم يعد لها مستقبل. ومنذ الاستقلال عام 1956، لم تنجح أيٌّ من هذه الأنظمة في تأسيس دولة وطنية تحفظ البلاد وتعلي شأنها. فتاريخ السودان منذ الاستقلال هو تاريخ صراعات واضطرابات. الناس تسأل: لماذا يهرب المواطن من بلده منذ عام 1956؟ لأنه لا يوجد استقرار. يوضح هذا أن هناك خللاً في تركيبة الدولة الوطنية. أنا أرى موجة جديدة من التغيير في الطريق... هناك دول ستنهض على أنقاض الدولة القديمة... لذلك، نحن في اجتماعاتنا في نيروبي تحدثنا عن ضرورة قيام دولة ديمقراطية علمانية لا مركزية، تحفظ حقوق جميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الإقليمية أو العرقية».
دور متوقع للإدارة الأميركية
يقول إدريس: «كان للولايات المتحدة دور مهم منذ اندلاع الحرب في السودان عام 2023، وبذلت إدارة الرئيس جو بايدن السابقة الكثير لمساعدة السودان، لكنها لم توفق في إيقاف الحرب. ونحن نأمل أن تلعب الإدارة الأميركية الجديدة والرئيس دونالد ترمب دوراً أكثر فاعلية، باستخدام سياسة الجزرة مع كل الأطراف حتى يتحقق السلام. نحن منفتحون، وحكومتنا حكومة سلام. وجاهزون للتعامل مع أي طرف يمكن أن يقود إلى حل الأزمة. نتطلع إلى أن تأتي الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة بسياسات جديدة وواضحة وقوية تستطيع أن تضغط على الأطراف كلها لوقف هذه الحرب اللعينة».
حماية المدنيين من القصف الجوي
يقول القيادي في «حركة تحرير السودان»: «من مسؤولية أي حكومة أن تحمي مواطنيها... وإلا فستكون بلا قيمة. سيكون لدينا وزير دفاع مهمته البحث عن آليات دفاعية تهدف في الأساس إلى حماية المواطنين المدنيين. بكل السبل وبكل الوسائل الممكنة. كما نعمل على إنشاء نواة للجيش الجديد من القوات الموجودة المؤيدة لحكومتنا؛ من الحركات المسلحة و(الدعم السريع)، والحركة الشعبية/شمال، ومن حركة تحرير السودان المجلس الانتقالي، وكل الفصائل المسلحة. سنؤسس لهيئة أركان مشتركة. وبعد إيقاف الحرب، سيكون هذا الجيش نواة للجيش الجديد. هذا الجيش سيكون مسؤولاً عن حماية الحدود والحفاظ على الأمن الداخلي، ولا دخل له بالسياسة».
ويضيف: «لن يكون هناك جيشان منفصلان بعد الآن، بل جيش واحد موحد. نحن ضد تعدد الجيوش كما تفعل حكومة بورتسودان الحالية، حيث يوجد العديد من الميليشيات والجيوش المتعددة. نحن نرى أن أحد أسباب اندلاع الحرب كان تعدد الجيوش، لذلك لن نكرر هذه التجربة. ومن اليوم الأول لتشكيل الحكومة، سنعمل على جمع كل هذه القوات في جيش واحد، بما في ذلك (قوات الدعم السريع)».
العملة ووثائق السفر
يؤكد إدريس أن «الحكومة الجديدة ستكون لديها عملة ووثائق سفر وجوازات، مشيراً إلى أن قضية العملة كانت أحد أهم الأسباب وراء التفكير في قيام حكومة جديدة. وأضاف في العديد من مناطق السودان، يعتمد الناس على نظام المقايضة، لأن حكومة بورتسودان جففت العملة من المناطق التي لا توجد فيها، حيث يتم تقايض السلع مثل الملح والسكر والقمح بسبب عدم وجود عملة متداولة. في بعض المناطق، لا توجد أموال متوفرة، مما يجعل الحياة صعبة للغاية... لذلك، ستكون إحدى المهام الأساسية للحكومة هو إصدار عملة جديدة. سيتم تحديد اسمها لاحقاً، وستعكس المبادئ والقيم التي نؤسس عليها الدولة الجديدة والميثاق الذي وقعناه». وقال إنه سيتم إصدار الجوازات والوثائق الثبوتية، وستكون متاحة لجميع المواطنين.
موعد إعلان الحكومة
وبشأن موعد إطلاق الحكومة الجديدة، يقول القيادي البارز في «تأسيس»، إن «مشاورات مكثفة جارية حالياً لتحديد موعد الإطلاق. ونتوقع أن يتم في غضون شهر، وسيتم الإعلان من داخل السودان». وقال إن لديهم العديد من الخيارات بشأن المواقع والمدن التي يمكن أن يتم فيها الإعلان، سيتم الكشف عنها خلال الأيام المقبلة.
الاتصالات مع قيادة «الدعم السريع»
يقول الهادي إدريس: «نحن على اتصال مستمر مع قيادة (الدعم السريع)، وعلى وجه الخصوص مع القائد محمد حمدان دقلو (حميدتي)». أضاف: «أنا شخصياً أتحدث معه بشكل يومي تقريباً، وكان آخر اتصال لي معه قبل يومين، وقد نتواصل معه مرة أخرى هذه الليلة (ساعة إجراء الحوار)». نتعاون معه في العديد من القضايا، ونناقش معه الاتفاقيات والوثائق المطلوبة. نعمل معه بشكل جيد، ولا توجد مشاكل في التواصل. وهو بخير وصحة جيدة، بعكس ما يروجون».
وبشأن الانتهاكات التي تُتهم «قوات الدعم السريع» بارتكابها، وما إذا كانت ستنعكس على الاعتراف بالحكومة الجديدة، يقول إدريس: «الانتهاكات مرفوضة تماماً، نحن ندين أي انتهاكات تحدث. لا أحد فوق القانون، وأي شخص يرتكب جرائم يجب أن يحاسب. هذا ينطبق على جميع الأطراف، بما في ذلك (الدعم السريع). العقوبات الأميركية وجهات دولية أخرى اتهمت كلا الطرفين المتحاربين بارتكاب انتهاكات ولم تستثنِ أحداً».
ويضيف: «نحن همنا الآن إيقاف الحرب. وبعد الحرب، سنعمل بوصفنا سودانيين على إنشاء آلية وطنية تكشف الحقائق للناس: من الذي ارتكب الجرائم؟ ومن الذي بدأ الحرب؟ ومن الذي تسبب في موت الناس وهجرتهم؟ وإلا فإن هذا البلد لن ينعم بالاستقرار».
العلاقات مع «صمود»
وعن العلاقات مع نظرائهم المدنيين في تنظيم «صمود» التي يرأسها الدكتور عبد الله حمدوك، يشير القيادي السوداني البارز إلى أنهم متفقون في الأهداف الكبرى والتوجهات السياسية، وفي قضية إيقاف الحرب، ومواجهة الحركة الإسلامية التي أشعلت الحرب، ومختلفون فقط في الوسائل: هم يرون أن إيقاف الحرب يجب أن يتم بالوسائل السلمية والمناشدات. نحن نرى أننا ناشدنا بما فيه الكفاية، والبلد يسير في طريق الانهيار بسبب تعنت الطرف الآخر، وبالتالي رأينا مواجهة الطرف المتنطع بإنشاء حكومة تنتزع منهم الشرعية».
وتابع: «نحن على تواصل دائم معهم... والاختلاف في الوسائل لا يفسد للود قضية. وسيكون بيننا تعاون في المستقبل كبير، خاصة في سبيل حل الأزمة».
لا خوف من الفشل
يرى إدريس أن القادة الحزبيين وزعماء القوى المسلحة يمتلكون الخبرة والدراية الكافية، ويتمتعون بخبرة واسعة في إدارة الدولة، وشارك معظمهم في وظائف في الدولة. وقال: «أنا كنت عضواً في مجلس السيادة، وآخرون كانوا وزراء. لو كنا نشك في إمكانية الفشل، ما كنا أقدمنا على هذه الخطوة. كثيرون عبروا عن مخاوفهم... بينهم الأمم المتحدة وغيرها... نحن نتفهم المخاوف الدولية... والتجربة ستثبت العكس، والانتقادات ستتحول إلى إشادات، وسيتعاملون معنا».
المشاركة في المفاوضات
وبشأن المشاركة في أي مفاوضات جديدة في المستقبل، يقول إدريس: «نحن منفتحون لأي مبادرة جادة ومسؤولة لحل الأزمة، سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية... لكننا لن نتعاطى معها إلا بصفتنا الجديدة بصفتنا حكومة سلام وحكومة شرعية».