ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المشرِّع أعطى بعض الجهات والأفراد الحقَّ في توجيه مخالفات إداريَّة أو مروريَّة أو بلديَّة أو غيرها من المخالفات للأشخاص الاعتباريَّة أو الحقيقيَّة؛ جرَّاء وقوع سلوك أو تصرُّف ينطبق عَلَيْه النَّص التجريمي في قانون عامٍّ أو خاصٍّ.
عرَّف قانون الجزاء العُماني رقم 7 لسنة 2018 في الباب الثالث، الفصل الأوَّل، المادَّة (26) المخالَفة بأنَّها «الجرائم المعاقب عَلَيْها بالسّجن مدَّة لا تزيد على (10) عشرة أيَّام، وبالغرامة الَّتي لا تقلُّ عن (10) عشرة ريالات عُمانيَّة ولا تزيد على (100) مئة ريال عُماني، أو بإحدى هاتين العقوبتين»، راجع كذلك المادَّة (6) من المرسوم السُّلطاني رقم (115/2010) بتعديل بعض أحكام قانون بلديَّة مسقط، كما أنَّ هناك مخالفات مروريَّة استنادًا إلى قانون المرور ومخالفات عمَّاليَّة، والعديد من أشكال المخالفات الَّتي تهدف إلى تنظيم وتقويم السلوك الفردي أو الجماعي.


ما يهمُّ في هذا الصَّدد ليس المخالَفة في حدِّ ذاتها، فهي كما يُفترض واضحة ومحدَّدة من النَّاحية القانونيَّة كنصٍّ، ولكنَّ المُشْكِلة تكمن في التطبيق وفي السُّلطة التقديريَّة الممنوحة للأفراد الَّذين خوَّلهم القانون حقَّ إيقاع المخالَفة وتحريرها، بالإضافة إلى الرقابة على الحقِّ القانوني المخوّل لتلك الفئة وفي احتماليَّة التعسُّف في استخدام تلك السُّلطة التقديريَّة، بل الأسوأ من ذلك هو استغلال هذه السُّلطة للانتقام أو الابتزاز أو الإضرار بالآخرين أو الانتفاع والتربح. إنَّ أحَد أبرز أشكال الحقوق القانونيَّة الممنوحة للإدارة العامَّة والَّتي يُمكِن أن تنعكسَ سلبًا على ثقة المُجتمع في مؤسَّسات الدَّولة، أو تمتدَّ لِتصلَ إلى شكلٍ من أشكال الفساد الإداري هو الحقُّ في السُّلطة التقديريَّة حين تتحوَّل إلى سُلطة تعسفيَّة أو من خلال تطبيق ذلك الحقِّ بأسلوب غير إنساني أو أخلاقي أو مهني. فكما هو معروف أنَّ هذه السُّلطة ليست مُطْلَقة من كُلِّ الوجوه وإنَّما يحدُّها قيود وضوابط، كما أنَّ عنصر المشروعيَّة يترتب عَلَيْه ضرورة المواءمة بَيْنَ الوقائع والوسائل القانونيَّة المُتَّخذة من جهة الإدارة عِند قيامها بواجب حماية النِّظام العامِّ. لسْتُ هنا في صدد الإسهاب في شرح الجوانب القانونيَّة المتعلقة بالسُّلطة التقديريَّة بقدر ما أحاول إيصال رسالة لكُلِّ الجهات الرقابيَّة، بالإضافة إلى الجهات ذات الاختصاص بتطبيق المخالفة في وطني العزيز، وإنِّي على يقينٍ تامٍّ من بذلهم الجهود الطيِّبة لتحقيق الإنصاف والعدالة وأمانة الوظيفة فيما يتعلق بالسُّلطة الرقابيَّة على السُّلطة التقديريَّة لِمَن خوَّلهم القانون الحقَّ في مخالَفة الأفراد والمؤسَّسات استنادًا إلى قانون أو حقٍّ مُعيَّن.
أقول: إنَّ المخالفة إن وقعت وتحقَّقت أركانها وكان من الواجب فرضها على المخالِف لحماية النِّظام العامِّ أو لتقويم سلوك مُعيَّن فلْيَكُن إيقاعها بأسلوب إنساني أخلاقي محترم، لا عَبْرَ أساليب وطُرق غير راقية أو غير مهنيَّة في توجيه المخالَفة أو أسلوب التعاطي مع المخالِف عَبْرَ الاستفزاز أو إشعار المخالِف أنَّ الدَّولة تبحث عن المخالفات والجبايات الماليَّة؛ إن كان ولا بُدَّ من إيقاعها فلْيَكُن ذلك عَبْرَ سلوك مهني وأخلاقيَّات الوظيفة العامَّة، وقَبل ذلك تحكيم الضمير وأمانة اليمين الَّذي أقْسَمه الموظف والخوف من الله قَبل الخوف من البَشَر، والحذر كُلَّ الحذر من دعوة المظلوم.
أقول للجهات ذات الاختصاص يجِبُ الرقابة على المخالَفات المحصَّلة من قِبَل موظَّفيكم، الرقابة على أسباب إيقاع المخالَفة، متابعة أساليب الموظَّفين الَّذين أعطاهم القانون الحقَّ في إيقاع المخالفات عَبْرَ السُّلطة التقديريَّة، طُرق تعاملهم مع المخالِفين، اختيارهم للمفردات والعبارات. فترك الحبل على الغارب تحت حقِّ السُّلطة التقديريَّة مدعاة للفساد وضياع للحقوق، وهذا أمْرٌ غير مقبول في دَولة القانون والمؤسَّسات، والدَّولة بريئة من أخذ أموال النَّاس من غير وجْه حقٍّ، وإن كان ذلك قَدْ وقع من بعض الأفراد فهي سلوكيَّات فرديَّة لا تُحسب على المؤسَّسات الوطنيَّة ولا على المسؤولين فيها، وهو ما يجِبُ أن يتمَّ التصدِّي له ومواجهته من قِبل الجهات الرقابيَّة في ذات المؤسَّسة أو من الجهات الرقابيَّة العامَّة.
مؤسَّسات الدَّولة يجِبُ أن تعكسَ في تصرفات موظِّفيها القدوة والاحترام قَبل النِّظام وهي كذلك، فالسلوك الوظيفي الأخلاقي والإنساني جزء مُهمٌّ للغاية في سمعة المؤسَّسة وجودة عملها ورضا الرأي العامِّ حَوْلَها، عَلَيْه لا بُدَّ أن يكُونَ هناك تدريب وتأهيل علمي ومهني وسلوكي لتعامل مَنْ خوَّله القانون حقَّ المخالَفة أو الضبط القضائي، يجِبُ أن يكُونَ هناك دليل أخلاقي لسِياسات وإجراءات إدارة المخالفات والتظلُّم عَلَيْها، وحَوْلَ التظلُّم يجِبُ أن تسهَّلَ إجراءات التظلُّم والاعتراض، فكم كان من الصَّعب على البعض الاعتراض أو التظلُّم بسبب مشقَّة وبُعد مسافة الوصول إلى الجهة المعنيَّة، أو حتَّى المسؤول الأعلى للموظف المخوَّل له حقُّ المخالَفة والسُّلطة التقديريَّة.
نَعَم، من الظُّلم أن يتخلَّى البعض عن حقِّه في التظلُّم على المخالَفة أو الإبلاغ عن السلوك غير الأخلاقي أو القانوني لِمَنْ قام بتوجيه المخالَفة؛ لأنَّه يعْلَمُ أنَّ ما سيتكبَّده من مشقَّة ومالٍ قَدْ يتجاوز قِيمة المخالَفة نَفْسِها، أو ربَّما سمع ما يُتداول أو يُشاع من أنَّ بعض المسؤولين قَدْ لا يعمل على رفع الظُّلم عَنْه أو إلغاء المخالَفة تقديرًا لزميله في العمل أو لكونه هو نَفْسه أشْبَه في تعامله وسلوكه بالموظف الَّذي قام بالمخالَفة.
من المُخيف والمعيب أن يرسخَ في ذهن مَنْ تمَّ مخالَفته وفق سُلطة تقديريَّة، سواء كان شخصًّا اعتباريًّا أو طبيعيَّ التصرُّف السلوكي غير الطيِّب ممَّن حرَّر المخالَفة، لِيرسخَ في الذَّاكرة الفرديَّة أو الجمعيَّة أنَّ السلوك المعيب للموظف عِند إيقاع المخالَفة كان أكثر ألمًا من المخالَفة نَفْسِها. جهاتنا القضائيَّة والرقابيَّة، مَنْ يحمل أمانة هذا الوطن العزيز، مَنْ يتحمل أمانة المحافظة على المال العامِّ وحقوق الأفراد في المُجتمع، من المُهمِّ للغاية متابعة سلوكيَّات الأفراد في التعاطي مع المخالَفات وتوجيهها، من المُهمِّ للغاية الرقابة على مشروعيَّة تلك المخالَفات. فكما للمال العامِّ حرمته فللمال الخاصِّ حرمة أشدُّ، فالمخالَف وفق سُلطة تقديريَّة هو الطرف الأضعف في المعادلة، والحكومة ـ ممثَّلةً بمَنْ أوقع المخالَفة ـ هي مَنْ تملك القوَّة والسُّلطة، لا يجِبُ أن يستشعرَ الإنسان الخوف على ماله ونَفْسِه ظلمًا في وطنه، لا يجِبُ أن تتركَ تلك السُّلطة التقديريَّة لتتحوَّلَ إلى استغلال للسُّلطة أو فساد إداري. إنَّ ثقة المواطن في مؤسَّسات الدَّولة وشعوره بحرمة نَفْسِه وماله إلَّا في حدٍّ من حدود الله وحقٍّ عامٍّ بموجب قانون واضح ووفق ضوابط أخلاقيَّة تستدعي إيقاع المخالَفة مدعاة لتعزيز مكانة هذا الوطن العزيز، وتحقيق للعدالة وكرامة الإنسان وحقوقه في وطنه، وتمكينًا للحكومة واحترامًا للقوانين والنُّظم، وأخيرًا محاربة للفساد وتأكيد لدَولة القانون والمؤسَّسات.
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
azzammohd@hotmail.com
MSHD999 @

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: الرقابة على من الم

إقرأ أيضاً:

سباق داخلي في ملاقاة المتغيِّرات الخارجية

كتب معروف الداعوق في " اللواء": لن يكون موضوع سلاح حزب الله في الداخل معزولا عن باقي تحركات الدولة لتنفيذ القرار ١٧٠١، مهما حاول الحزب فبركة التفسيرات والاجتهادات المنقوضة، لإبقاء سلاحه خارج سلطة الدولة وقرارها، لاسيما وأن المجتمع الدولي، يراقب كيفية تعاطي لبنان مع تنفيذ القرار المذكور، وأي تلكؤ في خرقه او تغاضي الدولة اللبنانية عن القيام بمهامها ومسؤولياتها، لقمع المخالفات المتعلقة به،يعرض لبنان، للمساءلة واتخاذ التدابير التي تعيق خطط الدولة، لانقاذ لبنان من ازماته ومشاكله المالية والاقتصادية، وتوقف المساعدات المطلوبة لاطلاق ورشة إعادة اعمار ما هدمته الحرب الإسرائيلية على لبنان. 
هناك تحديات اخرى امام الدولة اللبنانية ايضا، تكمن في المتغيرات المتسارعة بعد سقوط نظام بشار الاسد، والإجراءات الاستثنائية المطلوب اتخاذها، لمنع اي مخاطر ناجمة عن عمليات تهريب الاسلحة او احتمال تسرُّب عناصر ارهابية إلى الداخل اللبناني، وغير ذلك من التجاوزات اللاقانونية على جانبي الحدود اللبنانية السورية، واعادة النظر بجملة من الاتفاقيات المعقودة بين البلدين في المرحلة المقبلة. 
بوجود سلطة متكاملة للدولة اللبنانية، يمكن تفادي اي تداعيات محتملة، لتوتر العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموما مع ايران، وإمكانية حصول صدام عسكري محتمل بينهما، مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس الاميركي دونالد ترامب، او التقليل من مفاعيلها السلبية على لبنان. 

مقالات مشابهة

  • سلطة العدس والخضروات الصحية
  • سلطة الأفوكادو والحمص| وجبة خفيفة وصحية
  • تطور خطير.. حماس تدعو للنفير العام بعد يومين من تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار
  • «حماية المستهلك» تُغلق أكاديمية تمريض غير مرخصة في بني سويف
  • النقد تصدر تعليمات جديدة للمصارف بشأن أقساط المقترضين المتراكمة بالضفة وغزة
  • سباق داخلي في ملاقاة المتغيِّرات الخارجية
  • الرقابة المالية: 21 مليار جنيه تمويلات عقارية خلال 10 أشهر
  • الرقابة المالية: 11.4 تريليونات جنيه تداولات البورصة المصرية خلال 10 أشهر
  • ماكرون يؤكد للرئيس الفلسطيني على أهمية عودة إدارة فلسطينية لحكم غزة
  • حزب الله يضبط المتحمسين!