جورج كرزم تمتد التلال الخصبة جنوب الخليل، وتحديدًا في أقصى جنوب الضفة الغربية، ليس بعيدًا عن بلدة يطا؛ حيث تقع في تلك المنطقة أيضًا مسافر يطا التي يعتاش غالبية سكانها على رعي الماشية، والزراعة التقليدية الطبيعية والبلدية، دون رش كيميائي، وبخاصة في الوديان، إذ يمارسون الحراثة السطحية الضحلة التي لا تدمر التربة وكائناتها البيولوجية الدقيقة.
كما تمتاز تلك المنطقة بالأنواع الحيوانية والنباتية البرية النادرة، التجمعات الفلسطينية هناك، تقع في ما يسمى منطقة C (حسب التقسيمات الاستعمارية الإسرائيلية)، وهي مستهدفة إسرائيليًا بالمصادرة والنهب واقتلاع أهاليها. يواظب فلسطينيو تلك المناطق على جمع مياه الأمطار في الآبار، إلا أن
الاحتلال أصدر أوامر عسكرية بهدم معظم هذه الآبار، علمًا أن عديدًا منها قائم منذ فترة الاحتلال البريطاني. التصحر وشحّ مياه الأمطار وغياب البنى التحتية المائية في تلال جنوب الخليل، جعل معدل الاستهلاك المائي اليومي للفرد 28 لترًا (معايير منظمة الصحة العالمية: 100 لتر للفرد يوميًا الحد الأدنى). التجمعات والبؤر الاستيطانية الإسرائيلية انتشرت في السنوات الأخيرة في تلال ووديان جنوب الخليل، على أراضي الفلاحين الفلسطينيين الذين يعانون يوميًا اعتداء المستوطنين الغزاة. والمفارقة، أن ما يسمى “سلطة الطبيعة والمتنزهات” الإسرائيلية توظف ذات المستوطنين الدمويين المقيمين عنوة في تلك الأراضي الفلسطينية- توظفهم السلطة المذكورة “مفتشين” لديها، رغم أنهم يقيمون في بؤر استيطانية تعدها “الإدارة المدنية” التابعة للاحتلال غير قانونية، علمًا أن بعض تلك البؤر قائمة على أراضٍ يعتبرها الاحتلال “محميات طبيعية”. ومن نافل القول، أن المصطلح الاحتلالي “محميات” غالبًا ما يكون مجرد غطاء لتبرير نهب الأراضي الفلسطينية ومواردها وينابيعها، لأغراض التوسع الاستيطاني. يمارس المستوطنون “المفتشون” عربدتهم العدوانية الحاقدة على الفلاحين الفلسطينيين البسطاء. وآخر تجليات هذه العدوانية، اعتراضهم بعض الفلاحين (في تلال جنوب الخليل)، في شهر نيسان الماضي، كانوا يحملون أكياسًا تحوي نبات العكوب ومصادرتها، وفرض غرامات مالية (أكثر من ألفي شيقل للفرد)، إضافة لأوامر استدعاء قضائي. كل ذلك، بذريعة أن العكوب من النباتات “المحمية”. ومن نافلة القول، إن البلطجة الاستيطانية تتمتع بحماية جيش الاحتلال الذي أثبت قدراته العملياتية والاستخبارية المنهجية في ملاحقة المزارعين الفلسطينيين وعكوبهم المتوارث منذ قرون طويلة، وفي الوقت نفسه، تشكيله درعًا واقيًا للمستوطنين المعتدين على “المحميات الطبيعية”، ومخربي أشجار الزيتون وناهبي الينابيع الفلسطينية. المفارقة أن الاحتلال يتجاهل كونه المخرب الأساسي لما يسميه “المحميات الطبيعية” التي تحوي أراضٍ خصبة وتنوعًا حيويًا غنيًا؛ وذلك بتوسعه الإسمنتي الاستيطاني عميقًا في قلب العديد من “المحميات. كما أن مستعمراته وجدرانه الكولونيالية وتدريباته العسكرية دمرّت، وجرفت ونهبت مئات آلاف الدونمات من الأراضي المزروعة والخصبة؛ علاوة على تدميره مساحات واسعة من الغطاء الأخضر واقتلاعه وسرقته مئات آلاف الأشجار المثمرة، واجتثاثه مجموعة هائلة من النباتات البرية النادرة، وتهديده التنوع الحيوي في مختلف أنحاء الضفة الغربية. وفي المقابل، الفلاحون الفلسطينيون تحديدًا، هم الذين حافظوا منذ مئات السنين على التوازن الطبيعي الحساس بين النشاط الهادف إلى صيانة الطبيعة، وبين زراعاتهم التقليدية المتوارثة في كنف الطبيعة. المشهد الاستيطاني العدواني جنوب الخليل، مجرد امتداد للمشهد ذاته الذي تعمل في ظله “سلطة الطبيعة والمتنزهات” في سائر أنحاء الضفة الغربية. إذ أن هذه “السلطة” لا علاقة لها من قريب أو بعيد، بما تدعيه من تأمين وضع “الحماية” للمناطق التي يفترض أن تكون “محميات طبيعية”. كما أن “السلطة” ذاتها تتواطأ مع الوجود العدواني لمستوطني البؤر الاستيطانية، حتى عندما يكون ذلك الوجود على حساب الطبيعة. على سبيل المثال، وبهدف حرمان المزارعين الفلسطينيين من زراعة أراضيهم في وادي قانا (قضاء سلفيت) ونهبها منهم، أعلن الاحتلال، منذ الثمانينيات، الوادي “محمية طبيعية”؛ علمًا أن تلك المناطق تميزت عبر مئات السنين بكونها أراض زراعية خصبة زرعها الفلسطينيون بالمحاصيل المنوعة والغنية. وادي قانا تحديدًا الذي تعاني بنيته الطبيعية الساحرة العدوان الاستعماري المدمر، يعد من أهم وأبرز المواقع الطبيعية في الضفة الغربية؛ إذ تتركز فيه الينابيع، ومساحات كبيرة من الأحراج والغطاء النباتي الطبيعي النادر الذي انكمش وجوده كثيرًا في مناطق أخرى في الضفة. فبركات واختراعات لتكريس المشروع الصهيوني عند إجراء مقارنة سريعة بين العدوان الإسرائيلي على المزارعين الفلسطينيين وأراضيهم بذريعة “حماية المحميات”، والنشاط الاستعماري اليهودي في “المحميات” المزعومة ذاتها، نجد أن الاحتلال يستخدم ذريعة “المحميات الطبيعية” والأحراج أداةً لنهب الأراضي واقتلاع أصحابها الفلسطينيين منها وضمها إلى ما يسمى “سلطة الطبيعة” أو “أحراج إسرائيل”، أو تأجيرها لما يُسمى “مجلس الاستيطان الأعلى” الذي يبادر إلى اقتلاع الأشجار وبناء الوحدات الاستيطانية. فحاليًا، يوجد أكثر من ثلاثين محمية طبيعية أعلنها الاحتلال، ومنها ما يعود إلى عهد الاحتلال البريطاني، تشغل أكثر من عُشْر مساحة الضفة الإجمالية. المستعمرون اليهود يزرعون مساحات كبيرة في قلب العديد من تلك “المحميات” الكائنة في الضفة الغربية، بما في ذلك مناطق الأغوار. فعلى سبيل المثال لا الحصر، سمح الاحتلال (“الإدارة المدنية”) للمستعمرين بأن يزرعوا في محمية حمامات وادي المالح. بل، ولهذا الغرض، اخترعت “الإدارة المدنية” مخططًا لتعديل حدود “المحمية”، بحيث يُخصص جزءٌ منها لأغراض الزراعة الاستيطانية. كما وافق الاحتلال على إنشاء حظائر إسرائيلية للدجاج في “محمية” أم الريحان شمال الضفة الغربية قرب جنين؛ وقد عدّلت “الإدارة المدنية” ما يسمى المخطط الهيكلي لمستعمرة “ريحان” المجاورة، بما يتلاءم هو وأغراض النشاط الاستعماري في “محمية” أم الريحان. بل، أنشأ الاحتلال مستعمرة “هار حوما” على محمية جبل أبو غنيم الطبيعية قرب القدس المحتلة، فضلًا عن ممارسة المستعمرين نشاطات استيطانية زراعية في أراضي “محمية” جبل الكبير شرقي نابلس. بمعنى أن الزراعات وتربية الدواجن الاستعمارية اليهودية والبناء الاستيطاني في المحميات تنسجم هي وصيانة “المحميات الطبيعية”، بينما تشكّل الزراعات الفلسطينية “تهديدًا مدمرًا” لتلك “المحميات”، بل، قبل بضع سنوات، سمحت “الإدارة المدنية” للمستعمرين بتوسيع مستعمرة “ياكير” على حساب أراضي “محمية” وادي قانا، بزعم أن البناء الاستيطاني هناك لا يشكل ضررًا على “المحمية”، إضافة إلى توسعة البؤرة الاستيطانية “ال نتان” على مساحة أخرى في “المحمية” نفسها، والتمدد الاستيطاني لأحياء مستعمرة “كَرني شومرون” التي ابتلعت مساحات كبيرة من “محمية” وادي قانا. إذن، ما يسمى “سلطة الطبيعة” عبارة عن ذراع إسرائيلية وظيفتها هندسة فضاءات الاحتلال. وبخصوص الزراعة الفلسطينية في “المحميات الطبيعية”، من المعروف أن التقاليد المتوارثة في فلسطين تسمح بمواصلة فلاحة الأراضي ذات الملكية الخاصة المتواجدة في “المحميات الطبيعية”، والتي كانت تعد أصلاً أراضٍ زراعية، إلا أن الاحتلال زعم في السنوات الأخيرة أن الفلسطينيين ينفذون أعمالاً تضر “المحميات”. تهويد الينابيع في العقود الماضية، أُرغِم أهالي قرية “عين البيضا” الفلسطينية الواقعة شمال الأغوار الفلسطينية على التخلي عن جزء كبير من أراضيهم الزراعية، وبخاصة في العقد الأول بعد احتلال عام 1967، حيث نقل الاحتلال تلك الأراضي إلى المستوطنات في الأغوار أو حوّلها إلى مناطق عسكرية. في الأشهر الأخيرة، ازدادت مخاوف أهالي “عين البيضا” على مستقبل زراعتهم في الأراضي المتبقية بحوزتهم، بعد أن قرر المستوطنون تحويل الينابيع التي يستخدمها أهالي القرية إلى مواقع “سياحية”، وبطبيعة الحال، تصرف المستوطنون دون أي تنسيق مع مواطني القرية الذين يملكون الأراضي المحيطة بالينابيع والمجاورة لها، ولم يحصلوا على موافقتهم. وأخيرًا، أخذ المستوطنون يعملون على تحويل الينابيع إلى مواقع للسياحة والاستحمام، وفي نبعين تحديدًا، وضعوا منصات خشبية وأقاموا درجات تقود المستحمين إلى الينابيع. في هذه المواقع وغيرها من الينابيع، وضع المستوطنون الطاولات والكراسي والأراجيح. وفي الجوار، وكذلك في شارع 90 الذي يعد شريان المواصلات الرئيس في الأغوار، نُصِبَت لافتة توضح أن في المنطقة يوجد مشروع “أرض الينابيع”. التعبير الأخير يُقصَد به (استيطانيًا) وصف الأغوار الشمالية، وتحديدًا الجزء الكائن في الضفة الغربية، باعتباره منطقة للرحلات المائية في كنف الطبيعة، على غرار “وادي الينابيع” الواقع داخل “إسرائيل”، غرب بيسان. وجاء في الشرح الوارد على اللافتات “أرض الينابيع هو مشروع تربوي يربط الأطر التربوية بحب الأرض ومُثُل الصهيونية والاستيطان وازدهار البرية”. وورد كذلك: “إننا نرى أهمية كبيرة في الكشف عن الينابيع وتطويرها وجعلها في متناول عامة الناس لفائدة ارتباط شعب “إسرائيل” بوطنه، بالتنزه والغطس في المياه الطبيعية لأرض إسرائيل”. منذ سنوات طويلة، يعمل المستوطنون على نطاق واسع لتحويل الينابيع في المناطق الزراعية الفلسطينية في الضفة الغربية إلى “مواقع سياحية”، فيما عكفت “آفاق البيئة والتنمية” في السنوات الأخيرة على توثيق المشاريع الاستيطانية المدمرة للبنية الإيكولوجية والبيئية في الضفة الغربية. باستثناء الأغوار الشمالية، يوجد في مختلف أنحاء الضفة الغربية نحو 75 ينبوعًا رئيسًا (من أصل مئات الينابيع)، حوالي 30 ينبوعًا مغلقون تمامًا أمام الفلسطينيين، و40 ينبوعًا عرضة لمستويات مختلفة من التهديد. الأغوار الشمالية هي المنطقة الأولى (في الضفة الغربية) التي ثَبَّت فيها المستوطنون مشروعًا سياحيًا “إقليميًا” (يستهدف جلب الإسرائيليين من “إسرائيل” ذاتها)، مع تكريس وقائع على الأرض في مواقع الينابيع، وبحرمانهم من مصادر مياه الينابيع، يجد الفلسطينيون في المنطقة صعوبة في مواصلة أعمالهم الزراعية. الينابيع التي يزعم المستوطنون أنهم هم الذين اكتشفوها، ويخترعون بالتالي أساطير وهمية حولها، استخدمها الفلاحون الفلسطينيون عبر الأجيال، بمن فيهم مزارعو عين البيضا، حيث يعتاش معظم أهالي القرية من الزراعة ويسوّقون منتجاتهم المتنوعة من الفاكهة والخضار إلى مدن نابلس وطوباس والسوق الإسرائيلي. في السنوات الأخيرة، خفضت شركة “ميكوروت” الإسرائيلية التي تتحكم بمصادر المياه الفلسطينية، تزويد عين البيضا بالمياه، وبالتالي ازداد اعتماد السكان على مياه الينابيع للاستخدامات المختلفة، وبخاصة الري الزراعي. وأخيرًا ازداد عدد الإسرائيليين الغزاة لمنطقة الينابيع، حيث يتوافدون بمجموعات كبيرة، بمرافقة “مرشدين سياحيين”، مع حراسة أمنية يوفرها الجنود الإسرائيليون الذين يمنعون أهالي المنطقة الاقتراب من الينابيع. لدى أهالي الأغوار الشمالية عمومًا، وعين البيضا خصوصًا، أسباب وجيهة للخوف من زيادة القيود الإسرائيلية المفروضة على وصولهم إلى الينابيع، وبالتالي قدرتهم على استخدام المياه في المستقبل، كما حدث في ينابيع أخرى في الضفة الغربية، حيث سيطر عليها المستوطنون وأغلقوها حصريًا لاستخداماتهم، بما في ذلك ينبوع عين الدار في محيط قرية عين البيضا، الذي استولى عليه المستوطنون وأحاطوه بالسياج. عربدة المستوطنين المتزايدة في مواقع الينابيع تسبّبت في تخريب مرافق تابعة لتلك الينابيع، مثل إعطاب منشآت ضخ المياه من الينابيع، وتحطيم الخلايا الشمسية في المنشأة الشمسية التي تزود المضخة بالكهرباء (في عين البيضا). إن محاولة “إسرائيل” الخرقاء تسويق نفسها باعتبارها حارسة الطبيعة والمدافعة عن البيئة في الضفة الغربية، تتعارض مطلقًا مع مصالح المشروع الصهيوني الاستيطاني العدواني القائم على مبدأ الاستعلاء العنصري والتطهير العرقي ونهب أكبر قدر ممكن من الأرض والموارد، وإحلال المستعمرين الغزاة على أنقاض السكان الأصليين. وبالتالي، الاعتبارات البيئية الإسرائيلية، إن وجدت أصلاً، تُخضع دائمًا لاعتبارات ومفاهيم صهيونية عنصرية، مثل التفوق العرقي اليهودي الذي هو أساس المشروع الكولونيالي الاستيطاني الاقتلاعي.
المصدر: رأي اليوم
كلمات دلالية:
فی الضفة الغربیة
أن الاحتلال
إقرأ أيضاً:
بالفيديو.. باحثة سياسية: دولة الاحتلال تضغط على الفلسطينيين للنزوح من خلال انتهاكاتها وأفعالها
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قالت الدكتورة تمارا حداد، الكاتبة والباحثة السياسية، إن إسرائيل تستغل الأحداث والمتغيرات الإقليمية والدولية وأيضا المحلية في الداخل الفلسطيني، إذ إنها تضع أعينها على المناطق المصنفة تحت السيطرة المدنية للسلطة الفلسطينية، وتستهدف توسيع حالات الاستيطان في الضفة الغربية.
وأضافت "تمارا" في حوارها لفضائية "القاهرة الإخبارية" اليوم الاثنين، أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تهدم منازل الفلسطينيين وتطردهم من أماكنهم، وأيضا التهجير القسري الصامت الذي يحدث كل يوم على أرض الواقع، وتحديدا في بيت لحم ومنطقة جنوب الخليل، علاوة على شمال الضفة الغربية، مشددة على أن تلك الانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية مخالفة للقانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة فضلا عن اتفاقية أوسلو.
واوضحت، أن إسرائيل لا تعترف بأي اتفاقية دولية، ولا تريد تشكيل الدولة الفلسطينية بل تقليص الوجود الفلسطيني ومساحة أراضيه لتصبح فقط 9%، متابعة أن دولة الاحتلال تضغط على الفلسطينيين للنزوح من خلال انتهاكاتها وأفعالها واعتداءات.