لاشك أن قصص الصراعات بين الأعراق المختلفة وخاصة الهنود الحمر وذوي الأصول الافريقية في مواجهة البيض الوافدين كانت وما تزال تشكل إطارا فكريا واجتماعيا وأرضية يستند اليها التاريخ الأميركي الحديث.

ومهما تم تبسيط ذلك الصراع الدامي والتغطية عليه الا ان وقائع كثيرة واكثر من ان تحصى كانت وما تزال حاضرة في العقل الجمعي الأميركي وتؤثر بشكل مباشر في الوعي الفردي وصولا الى شعور بوطأة الضمير الجمعي وهو يحاكم تلك الظواهر.

من هنا يعود المخرج الأميركي الكبير مارتن سكورسيزي الى الواجهة وقد تعدى سن الثمانين وأخرج قرابة 28 فيلما خلدتها الشاشات، ليعيدنا الى تلك الانعطافات الخطيرة والاستثنائية في الحياة الأميركية وليقدم لنا اكثر الشخصيات توحّشا وتعبيرا عن موت الضمير وتكلّس الوعي والمشاعر الملوثة المليئة بالكراهية.

فها هو يتحه الى اقتباس فيلمه هذا والذي ما يزال موضع جدل ومناقشات ويتصدر عناوين الصحف والمواقع الالكترونية واهتمامات النقاد، فيأخذه عن كتاب بالاسم نفسه صدر عام 2017 للصحفي الأميركي ديفيد غران، وهو كتاب احتل واجهات المكتبات منذ صدوره في سنة 2017 لأنه حفر عميقا في الواقع الأميركي من خلال توثيق سلسلة من العمليات الإرهابية التي كان القصد منها تصفية السكان الأصليين في العشرينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي قتل خلالها العديد من أعضاء قبيلة أوسيدج في في ولاية أوكلاهوما ، وهي جرائم قتل متسلسلة طالت عائلات ثرية بعينها بقيت غامضة ومجهولة الفاعل.

هنا سوف تكون قبيلة اوسيدج من الهنود الحمر، سكان اميركا الأصليين وخاصة ولاية اوكلاهوما هم مادة القتل، والسبب في ذلك هو الثروة الهائلة التي جعلت لكل عائلة بثرا نفطيا مما اسال لعاب البيض وأجج اطماعهم فالأرض لاتباع بمخزوناتها الهائلة من الثروات الطبيعية بل يمكن ان تورث.

على ان محور هذه الدراما والعنصر المهم فيها انما يتزامن مع اول المشاهد التي يظهر فيها آرنست يوركهارت – يؤدي الدور الممثل ليوناردو دي كابريو، جريح الحرب العالمية الأولى الذي مزقت الحرب احشاءه وها هو يلوذ بعمه وليام هيل، يقوم بالدور الممثل روبرت دي نيرو فهو نائب عمدة فيرفاكس، البلدة التابعة لولاية أوكلاهوما، والذي يمثل السلطة في البلدة وهو الذي يفتح عينيه على كل من في المدينة من منطلق المسؤولية ويمثل دور العطوف على جميع السكان دون استثناء والمهتم بشؤونهم بينما هو اليهودي الماسوني المتطرف الذي يؤمن بأحقية العرق الأبيض وبالتخلص من الاجناس والاعراق الأخرى.

وهنا سوف يبرز دور عائلة من الهنود الحمر – الأوساج التي يتساقط افرادها تباعا في سلسلة جرائم لا يعرف فاعلها لكن التحول الدرامي في وسط ذلك يكمن في قرار آرنست الزواج من مولي كايل – تؤدي الدور الممثلة ليلي غلادستون وهي من سلسلة العائلات الهندية الاصلية الثرية ومن خلال حب شفاف وجميل لم يكن لأرنست من ورائه من هدف سوى حبه لتلك الفتاة التي سوف تنجب له العديد من الأبناء بينما يكون العم قد بدأ باستغلال ذلك الزواج لصالحه من خلال الفتك بعائلة مولي تباعا وحتى الفتاة نفسها المصابة بداء السكري يوهمها بعلاجها بعقار قادم توّا من الخارج هو خلاصة انسولين الابقار لكنه كان سما قاتلا كاد ان يودي بحياة مولي.

تتوالى الاحزان وتفقد الزوجة اعزاءها تباعا وهنا سوف تكون شخصيتا الزوج والزوجة هما اللتان تنطويان على مزيد من التعقيد والاشكاليات المركبة التي تنطوي عليهما كل منهما.

فمن جهة وجدنا مولي مثالا للمرأة والأم التي تنثر حنانها بهدوء وتخلص لزوجها ومع ان بإمكانها ان تقرأ من هم من حولها وتصل الى قناعة ان أولئك البيض الذين يموجون من حولها في مشهد مؤثر للغاية هم كارهون لها ولعرقها الهندي وانهم يسعون بلا هوادة لاجتثاثهم وهي ترى في زوجها خاضعا خضوعا شبه تام لعمه ذا الوجهين، رجل الحكومة والمخطط للجرائم.

والحاصل ان مولي جسدت دورا باذخا وغزير التعبير وسوف يشكل علامة فارقة في مسارها الابداعي.

اما لجهة الزوج ارنست فهو الذي عاد محطما من الحرب لكي يعيش حياة مسالمة تحت جناح عمه ولكي تمضي حياته بسلام فإنه يؤدي فروض الطاعة لذلك العم الخبيث وينفذ أوامره، هو في هذا الدور جبان ومتردد وخانع وينفذ بشكل او بآخر جرائم العم وبما فيها جرائم سقطت فيها شقيقتا زوجته وبمعنى اخر انه وجه طعنات قاتلة لزوجته وهما اللذان يتبادلان مشاعر الحب والإخلاص وكدليل على انصياعه فإنه يحرص على حقن الزوجة بسموم لا يتحقق منها.

هذان الخطان المتوازيان قدما صورة حياة الهنود الحمر من خلال وجهة نظر مولي ولهذا تستمع لخطب زعاماتهم المليئة بالحزن والإحباط بسبب خساراتهم لأعزائهم وعدم نجدتهم من طرف السلطات الفيدرالية، انهم الاثرياء الذين صارت ثرواتهم وبالا عليهم واما من جهة أخرى فهنالك حياة ثلة من البيض من قتلة مأجورين ومدمني مخدرات وصعاليك ومضاربين ومحتالين وهم الذين يستغلهم ارنست وعمه استغلالا كاملا لضرب الهنود الحمر بلا رحمة.

تتشابك هذه الخطوط الدرامية لتكون نسيجا سرديا فريدا ملفتا للنظر زج فيه المخرج الكبير سكورسيزي خلاصة خبرته ليقدم خطابا سينمائيا مكتملا وقطعة فنية فريدة تنضح بالحس التاريخي ولا تفارق الحس الجمالي.

فلكي يجذر تلك الدراما في نطاقها الزمني نراه يستخدم الوثائق الفيلمية وحتى المقطع الفيلمية المصورة في تلك الحقبة ليقدم لنا حصيلة وافرة ومتميزة وبذلك كان يخرج من نطاق الايهام بالدراما وطابعها الخيالي الى ما هو اكثر مصداقية وواقعية من خلال إحالة تلك الوقائع الى حيزها التاريخي.

من جهة أخرى تجده يقدم شخصياته وهي تتنازعها قوى غامضة وغالبا نزعات شريرة وذلك في نطاق اجتماعي كان محوره العم هيل الذي جسد شخصية الماسوني اليهودي في واحد من الأدوار الملفتة للنظر التي اداها روبرت دي نيرو ببراعة في المقابل كانت شخصية ارنست تنسحق تحت وطأة كمية الشر السائدة فيما هو ينقاد اليها حتى يستيقظ في القسم الأخير من الفيلم ليقرر ان يكون مع نفسه ومخلصا امام ذاته ومنفصلا بشكل نهائي عن عمه ومن دون رجعة.

هذه المحصلات كلها تم توظيفها بكل غزاراتها على صعيد نسيج الصورة واللون والحركة وجماليات المونتاج لتقديم شكل سينمائي كلاسيكي متدفق جماليا وحيث عمق حياة الهنود الحمر وعقائدهم وطقوسهم تقابلها حياة البيض وحفلاتهم الراقصة الصاخبة ونزعاتهم الانانية واطاعهم.

واما اذا توقفنا امام المراجعات النقدية وما كتبه عدد من نقاد السينما وفي العديد من الصحف والمواقع العالمية فإنه كثير جدا وذلك لاسباب عديدة من ابرزها انه أحدث أفلام المخرج الكبير مارتن سكورسيزي وقد نضجت وترسخت تجربته السينمائية والذي زج فيه ممثلين كبار من وزن دي نيرو وكابريو وغيرهم.

من وجهة نظر الناقد برايان تاليريكو في موقع روجر ايبيرت،

" هذا الفيلم يجسد دراما تاريخية بارعة، عن الشر الذي يتفاعل على مرأى من الجميع. هذه هي قصة الرجال الذين تعاملوا مع جرائم القتل ببرود تام، وأصدروا أوامر بقتل الأشخاص وكأنهم يطلبون مشروبًا في الحانة. لقد سار سكورسيزي على خط رفيع بين سرد قصة محددة جدًا لزوجين في قلب المأساة وبين التعمق سينمائيا في الطبيعة الأكثر توحشا للشر الكامن في الذات البشرية".

بينما يكتب الناقد كسان بروكس في الغارديان البريطانية قائلا " ان هذا الفيلم يقدم تراجيديا سوداء حول كيفية انتصار الغرب الأميركي، وإعادة انتاج "جنة عدن" أميركية تجسدها منطقة جرداء قاحلة وحيث الفاكهة الوحيدة هي النفط الخام والدم على الأرض هو الذي يزرع بذور المستقبل لإنتاج مزيد من الشر والانتقام".

....

اخراج / مارتن سكورسيزي

تمثيل/ روبرت دي نيرو، ليوناردو دي كابريو، ليلي غلادستون، جيس بليمونس

سيناريو/ ايريك روث ومارتن سكورسيزي

انتاج وتوزيع / أبل وبارامونت وآخرون

التقييمات/ 93% روتن توماتو، 8 من 10 أي أم دي بي، 4 من 5 موقع روجر ايبيرت.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال دی نیرو

إقرأ أيضاً:

"متحف اللوفر".. مسار متجدد بين التاريخ والمستقبل

في قلب العاصمة الفرنسية باريس، يواصل متحف اللوفر رحلته كأحد أعظم المعالم الثقافية في العالم، حيث يجسد فلسفة التحول المستمر والتفاعل مع الزوار. لا يقتصر دور المتحف على كونه مجرد مستودع للآثار والتحف الفنية، بل هو مساحة حية ومفتوحة للحوار بين الماضي والمستقبل، يهدف إلى إعادة تعريف المعرفة الإنسانية من خلال معارض جديدة وتجهيزات مبتكرة، بالإضافة إلى المشاريع الإنشائية المستمرة.

المهمة المستمرة: بين التجديد والاحتفاظ

من خلال التحديث المستمر للمعروضات والترتيبات الداخلية، يسعى متحف اللوفر إلى تقديم تجربة غنية تجمع بين الحفظ العميق للتاريخ وفتح أبواب جديدة للمستقبل. لا يعد المتحف مجرد مكان للعرض، بل هو ملتقى ثقافي يعكس التفاعل بين الأجيال ويدعو الزوار لإعادة التفكير في معنى التاريخ وأثره على الحاضر.

شكر خاص لرئيس الدولة

وفي سياق متصل، عبر كريستيان غريكو، مدير المتحف، عن شكره وامتنانه لرئيس الدولة على دعمه المستمر. وأشار إلى أن "حضور الرئيس يعزز من مسيرة المتحف ويؤكد على دوره المهم في تشكيل الثقافة المعاصرة وتوسيع آفاق المعرفة".

المرآة الزمنية: من الماضي إلى المستقبل

يظل متحف اللوفر شاهدًا على تطور الحضارات الإنسانية، حيث يعرض بشكل مستمر كنوزًا تاريخية وفنية تعد مرآة للثقافات المتنوعة. وبينما تتغير الأجيال وتواجه تحديات العصر، يستمر المتحف في تقديم نفسه كفضاء للتفكير النقدي والإبداعي، داعماً الوعي الثقافي والفكري في المجتمع.

مقالات مشابهة

  • أسرار القمر الثاني لكوكب الأرض.. يبدأ رحلته خلال ساعات
  • أبو الغيط: الجامعة العربية تحرص على الالتزام الثابت بالسلام والمبادئ الحقوقية والإنسانية التي تغذيها جروح التاريخ
  • إشارة غامضة قبل أقوى انفجار بركاني في التاريخ.. ما الذي كشفه العلماء؟
  • من كل بستان زهرة – 86-
  • يهوى الصيد والطبخ.. من هو نجل نادية الجندي الذي أخفته عن الأضواء؟ (صور)
  • ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
  • المستهلك الأميركي يبقى انتقائيا في فترة "بلاك فرايدي"
  • المستهلك الأميركي يبقى انتقائيا في فترة "بلاك فرايدي"
  • "متحف اللوفر".. مسار متجدد بين التاريخ والمستقبل
  • خبير فرنسي: هذه هي الإدارة الأكثر معاداة للفلسطينيين في التاريخ الأميركي