مذبحة خان يونس.. إسرائيل ارتكبتها وضحاياها بقو تحت أنقاض بيوتهم لـ47 عاماً
تاريخ النشر: 12th, November 2023 GMT
السومرية نيوز – دوليات
تعيش مدينة خان يونس ومدن غزة عامةً لحظات عصيبة، وذلك على إثر حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هذه اللحظات أعادت إلى أذهان أهالي خان يونس واحدةً من أبشع جرائم ومجازر إسرائيل في غزة، وهي المجزرة التي يصطلح عليها باسم "مذبحة خان يونس" التي وقعت سنة 1956.
إذ تُعد مذبحة خان يونس التي استمرت عدة أيام واحدةً من كبرى المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق اللاجئين الفلسطينيين جنوبي قطاع غزة، هذه المذبحة التي ارتُكبت على مرحلتين راح ضحيتها أكثر من 250 فلسطينياً، في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1956، وبعد تسعة أيام من المجزرة الأولى، أي في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1956، نفذت وحدة من جيش الاحتلال الإسرائيلي مجزرةً وحشية أخرى راح ضحيتها نحو 275 شهيداً من المدنيين في المخيم نفسه، كما قُتل أكثر من مئة فلسطيني آخر من سكان مخيم رفح للاجئين في اليوم نفسه.
حدثت المذبحة في سياق الهجوم الثلاثي على مصر
في عام 1956 قرّر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، وهو ممر مائي مهم يسمح للتجارة من وإلى البحر الأبيض المتوسط مع المحيط الهندي، عن طريق البحر الأحمر.
شكّل ذلك القرار تهديداً لمصلحة الدول الكبرى، في مقدمتها بريطانيا وفرنسا، اللتان أرادتا إفشال قرار عبد الناصر بأي طريقة، حتى ولو تكفّل ذلك شنّ عدوانٍ على مصر.
وبالفعل، وفي اجتماع سري عُقد في سيرفر، يوم 24 أكتوبر/تشرين الأوّل 1956، وافقت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على شن هجوم من ثلاث جهات ضد مصر، وبدأ الهجوم بضربة إسرائيلية على مواقع مصرية في شبه جزيرة سيناء، في 29 أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام.
سرعان ما استغل الاحتلال الإسرائيلي الهجوم وإعلان وقف إطلاق النار في 2 نوفمبر/تشرين الثاني، ليقوم بغزو رفح وقطاع غزة، الذي كان خلال تلك الفترة يقع تحت السلطة والسيادة المصرية.
ورداً على المقاومة التي أبداها سكان خان يونس بقطاع غزة، قام الاحتلال الإسرائيلي بقصف المدينة بسلاح المدفعية، ما أدى إلى خسائر فادحة في أرواح المدنيين، ليهيئ نفسه لارتكاب واحدة من أبشع مجازره في غزة.
مذبحة خان يونس الأولى
بدأت خيوط المذبحة بإلقاء الاحتلال منشورات من الطائرات تحذر السكان من مقاومة القوات الإسرائيلية، قبل أن تدفع بآلياتها العسكرية بشوارع خان يونس، وتطالب عبر مكبرات الصوت بخروج الذكور من عمر 16 وحتى 50 عاماً.
وبينما أطلق الجنود الرصاص على المتجمعين بالساحات العامة بشكل عشوائي، لم ينجُ من بقوا بمنازلهم من القتل أمام أعين عائلاتهم.
وقعت المذبحة الأولى في مخيم خان يونس للاجئين، في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1956، كان الغرض من المذبحة استئصال المقاومين من غزة، إلّا أن ضحاياها في الأغلب كانوا مدنيين، فقد كان الجنود الصهاينة يعدمون أي شخصٍ يشتبهون في قدرته على حمله السلاح بشكلٍ فظيع، وبلغ عدد الضحايا أكثر من 250 فلسطينياً. مذبحة ثانية بعد تسعة أيّام
بعد تسعة أيام من المجزرة الأولى ارتكب جنود الاحتلال مجزرةً أفظع، راح ضحيتها مئات الفلسطينيين، ففي 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1956، نفذت وحدة من الجيش الإسرائيلي مجزرةً وحشية أخرى راح ضحيتها نحو 275 شهيداً من المدنيين في نفس المخيم.
إذ جمع ما تبقى من سكان المخيم بعد فرزهم بنفس طريقة المذبحة الأولى، بمكبرات الصوت والمنشورات التي تطالب المدنيين بالخروج من المدينة، قبل أن يغدر بهم جيش الاحتلال ويقتل أكثر من 275 فلسطينياً منهم.
أدى فرض حظر التجول المفروض على مواطني غزة إلى بقاء جثث ضحايا المجزرة في العراء وتحت الأنقاض لفترة طويلة، كما منع الاحتلال الفلسطينيين من استرجاع جثث القرويين، وتُركت الجثث متناثرة حول المنطقة.
وبعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من غزة وسيناء، في مارس/آذار 1957، اكتُشفت مقبرة جماعية في محيط خان يونس، احتوت على جثث 40 رجلاً فلسطينياً أصيبوا برصاصة في الجزء الخلفي من الرأس.
كانت فظاعة المجزرة لا توصف، إذ استمر بقاء ضحايا مذبحة خان يونس تحت أنقاض بيوتهم وقراهم لعشرات السنين، فقد عثر على بعض ضحايا المذبحة في سنة 2003، وذلك بعد 47 سنة على ارتكاب مذبحة خان يونس.
قامت الأمم المتحدة بتوثيق مقتل 250 فلسطينياً فقط في خان يونس، ولم تتحدث عن مذبحة اقترفها جيش الاحتلال بحق المدنيين أو تحمّله أي مسؤولية، وبالتالي لم تقدم مذكرات قانونية لإخضاع أي من قادة الاحتلال للمُساءلة بارتكاب جرائم حرب منذ المذبحة وحتى الآن.
المصدر: السومرية العراقية
كلمات دلالية: الاحتلال الإسرائیلی جیش الاحتلال راح ضحیتها أکثر من
إقرأ أيضاً:
المذبحة كخطاب متكرر والمُشاهد قارئ بلا ذاكرة ولا اعتراض
إبراهيم برسي
30 يناير 2025
في المشهد الإنساني الأكثر قتامة، حيث تنطفئ الأنفس قبل أن يُزهق الجسد، تتجلى ثلاثة كيانات تتشابك في رقصة مروعة: القاتل، الضحية، والمشاهد.
إن ما يحدث الآن في السودان ليس مجرد دمٍ يُسفك، بل هو إعادة إنتاج مأساوية لسردية قديمة، حيث يصبح الموت بيانًا، ويُختزل الإنسان إلى مادة مرنة في أيدي سادة العنف.
هنا، لا يعود القتل فعلًا لحظيًا، بل يتحول إلى بنية، إلى نظام يعيد تشكيل العالم وفق منطقه الخاص، حيث يتساوى الجسد بالرماد، وحيث يتلاشى الفارق بين الحياة والموت، لأن العيش تحت سطوة الذبح ليس إلا موتًا مؤجلًا.
القاتل في هذا المسرح الكابوسي ليس مجرد فرد يحمل سكينًا، بل هو كائنٌ أُعيد تكوينه ليكون وسيلة، حلقةً في سلسلةٍ لا نهاية لها من الإبادة الرمزية والمادية.
لم يكن يولد كذلك، بل صُنع، جُرّد من شعوره بالآخر، وسُلب منه كل وعيٍ بالذات إلا بوصفها انعكاسًا لغايةٍ أكبر، تبرر الذبح بوصفه طقسًا تطهيريًا، وأداةً لإعادة ضبط العالم وفق تصور أيديولوجي مشوّه.
إن صناعة القاتل لا تتطلب فقط توفير سلاح، بل تحتاج إلى عملية تفكيكٍ ممنهجة لكل بقايا التعاطف بداخله. إنها عملية تحول تدريجية، تبدأ بالتجريد النفسي، ثم تمر عبر الأدلجة، لتنتهي باللحظة التي تتحول فيها اليد المرتجفة إلى يدٍ واثقة تُمسك السكين بلا تردد.
نيتشه كان يحذر من أن «من يحارب الوحوش عليه أن يحذر من أن يتحول إلى وحش»، لكن ماذا إن كان المرء قد خُلق داخل فم الوحش ذاته؟!
ماذا إن كانت كل معاييره، منذ البداية، قد بُنيت داخل تلك العتمة، بحيث لم يعد يرى النور إلا بوصفه خيانة؟
لكن، إن كان القاتل قد فقد صلته بجوهر الإنسانية، فإن الضحية تواجه المصير ذاته من الجهة الأخرى.
هنا، لا يكون الموت مجرد إعدامٍ لجسد، بل هو تدميرٌ لبنية المعنى.
في لحظة الذبح، لا تُقتل الأجساد فقط، بل يُقتل الزمن، يُمحى كل شيءٍ سابق، ويُعاد تشكيل الواقع على مقاس الرعب.
الضحية ليست فقط فردًا يُباد، بل هي رمزٌ يُراد تحطيمه، فكرةٌ يُراد إسكاتها، تاريخٌ يُراد شطبه. لهذا السبب، لا يكون القتل مجرد إنهاءٍ للحياة، بل تأكيدًا على أن الذابح هو من يحدد من يستحق البقاء ومن يُمحى من الوجود.
ما يميّز الجريمة المطلقة أنها لا تترك حتى للضحية حق الموت بمعناه الإنساني، بل تسلب منه هيبته، تحيله إلى مشهدٍ، إلى استعراض، حيث يتحول الجسد إلى نصٍّ مكتوبٍ بالدم، نصٍّ يُقرأ من قبل الجميع، لكنه في حقيقته صرخةٌ لا أحد يسمعها.
فيكتور فرانكل، حين كان في معسكرات النازي، لم يكن يرى المأساة في الموت ذاته، بل في الطريقة التي كان يتم بها محو الإنسان من داخله قبل أن يُقتل، حيث يتحول الضحية إلى شيءٍ، إلى كيانٍ فقد كل خصوصيته، ولم يعد يُعرف إلا بوصفه عددًا في قائمة الهلاك.
غير أن المشهد لا يكتمل إلا بذلك الطرف الذي يبدو الأكثر براءة، لكنه ربما يكون الأكثر خطورة: المشاهد.
المشاهد الذي يجلس هناك، سواء خلف شاشة هاتفه أو في قلب الحدث، يراقب كيف يُذبح الإنسان، كيف تُقطع أوصاله، كيف تُمحى ملامحه، ولا يدري أنه في تلك اللحظة، يتحول هو نفسه إلى جزءٍ من آلة العنف.
حين نرى الدم مرةً، نشعر بالفزع، لكن حين نراه ألف مرة، يصبح مجرد لونٍ آخر.
تتبلد الحواس، تنخفض العتبة الأخلاقية، ويتحول الرعب إلى عادة.
لكن، ماذا يحدث عندما تصبح العادة هي القاعدة؟ عندما لا يعود القتل استثناءً، بل مشهدًا يوميًا يمر أمام الأعين كما تمر الإعلانات على شاشة التلفاز؟ عندها، يصبح السؤال الأكثر رعبًا: متى نتوقف عن الإحساس أصلًا؟
الإنسان، بطبيعته، يملك قدرةً هائلةً على التكيف، لكن ماذا لو كان هذا التكيف هو عين السقوط؟!
فرويد تحدث عن هذه الظاهرة بوصفها «التكرار القهري»، حيث يعيد الإنسان إنتاج الصدمة حتى تفقد أثرها الأصلي، حتى يتماهى معها.
وحين يحدث ذلك، فإن العنف لا يعود استثناءً، بل يصبح جزءًا من النسيج النفسي للذات.
وماذا يحدث حين يتحول العنف إلى لغة؟ إلى نظام تواصلٍ غير معلن؟
عندها، لا يعود الموت هو المشكلة، بل الحياة في ظل هذا الموت المستمر.
المجتمعات التي تعتاد مشهد الذبح لا تبقى كما هي، بل تعيد تشكيل نفسها وفق منطقه.
هنا، يولد جيلٌ جديدٌ لا يعرف الحياة إلا كحالة طوارئ دائمة، حيث تُصاغ الأحلام وفق قوانين الخوف، وحيث لا يعود هناك فرقٌ كبيرٌ بين أن تكون قاتلًا أو ضحية، لأن الجميع يعيش داخل نفس المسلخ، فقط بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الإدراك.
ليس غريبًا أن يكون السلاح المفضل في هذه المشاهد الدموية ليس الرصاص، بل السكين.
فالسكين ليس مجرد أداة قتل، بل هو سلاحٌ ذو رمزيةٍ خاصة في الحروب الأهلية والمذابح العرقية.
السكين، على عكس الرصاص، لا يقتل بسرعة. إنه يمنح الجريمة امتدادًا زمنيًا، يجعل الألم جزءًا لا يتجزأ من عملية الموت، ويحوّل القاتل إلى سيد اللحظة، حيث يُقرر كيف، ومتى، وبأي وتيرةٍ يمزّق أوصال الحياة.
حين نرى هذه المشاهد في السودان اليوم، حيث تستخدم قوات العمل الخاص ( كتائب الإسلاميين الارهابية ) السكاكين لشجِّ الرؤوس، وتقطيع الأيدي قبل الذبح، فإن الأمر يتجاوز مجرد القتل إلى صناعة مشهدٍ متكاملٍ للرعب، حيث يُراد للضحية أن تموت ببطء، وللمجتمع أن يشاهد، وللدم أن يتحول إلى الحبر الذي يُكتب به واقعٌ لا نهاية له من الرعب.
لكن، هل هناك مخرجٌ من هذا الحصار الوجودي؟! أم أن الأمر مجرد إعادة تدويرٍ لا نهائي للدم؟!
ربما يكون المخرج الوحيد هو في التمرد على بنية المشهد ذاته، في رفض اللعبة بكاملها، لا بممارسة العنف المضاد، بل بكسر المنطق الذي يجعل من العنف ضرورة، بكشف الخدعة الكبرى التي تجعل الإنسان يقبل أن يكون مجرد متفرجٍ على مذبحةٍ لا تنتهي.
لأن الخطر الحقيقي ليس في السكين الذي يقطع الجسد، بل في العين التي ترى ولا ترتعش، في الروح التي تشاهد ولا تسأل، في القلب الذي يتوقف عن الخفقان أمام مشهد الموت، ليس لأنه قد مات، بل لأنه لم يعد يرى فرقًا بين الحياة والموت.
zoolsaay@yahoo.com