مبادرات شعبية ومقاطعة واسعة.. دعم كويتي لا محدود لفلسطين
تاريخ النشر: 12th, November 2023 GMT
الكويت- لم تتوقف الكويت بكافة فئاتها الشعبية عن دعم الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ولم تدخر أي وسيلة في سبيل ذلك، سواء كان هذا الدعم ماديا أو معنويا.
فمنذ أن أطلقت كتائب عز الدين القسام الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وفصائل فلسطينية أخرى في قطاع غزة عملية "طوفان الأقصى" ردا على اعتداءات القوات والمستوطنين الإسرائيليين المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني وممتلكاته ومقدساته وبداية العدوان الإسرائيلي على غزة بدأت مجموعة كبيرة من الجمعيات الخيرية الكويتية حملة "فزعة لفلسطين" التي جمعت نحو 3 ملايين و261 ألفا و999 دينارا كويتيا (10 ملايين و540 ألفا و11 دولارا) لدعم أهالي غزة.
يضاف ذلك إلى تنظيم الوقفات التضامنية من مختلف القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات والنقابية والمهنية والمؤسسات الأهلية، وصولا إلى تنظيم حملات واسعة تدعو إلى مقاطعة الشركات وفروع السلاسل التجارية الداعمة للكيان المحتل تحت شعار "هل قتلت اليوم فلسطينيا؟" التي لاقت تجاوبا واسعا من مختلف فئات الشعب الكويتي.
وقد حققت حملة "فزعة فلسطين" نجاحا كبيرا، إذ قدمت 35 طنا من المواد الغذائية و65 طنا مستلزمات طبية، إضافة إلى 14 سيارة إسعاف (6 سيارات عادية و8 للعناية المركزة) ضمن 6 رحلات جوية.
وفي هذا السياق، يؤكد المشرف العام على الحملة عمر الثويني أن باب التبرع في الحملة ما زال مفتوحا ومتاحا للجميع من خلال الموقع الإلكتروني للجمعية الكويتية للإغاثة.
وقال الثويني للجزيرة نت "نحن ننفذ من خلال الشركاء المعتمدين في وزارة الخارجية الكويتية والجمعيات الخيرية المعتمدة في فلسطين مشاريعنا في القطاعات الصحية والغذائية والإيوائية وتوفير المياه وغيرها من القطاعات المهمة والحيوية التي تساعد الناس على العيش الكريم من خلال ما هو متوفر في الأسواق المحلية بقطاع غزة".
وأضاف "نعكف على دراسة الوضع قبل أن نعتمد تنفيذ أكثر من فكرة، إذ نظمنا حملة بعد حملة "فزعة فلسطين" لمدة 12 ساعة بداية نوفمبر الحالي، وجمعنا مليون دينار كويتي (3.3 ملايين دولار) بالتعاون مع جمعية العون المباشر التي أطلقت الحملة لتحويل الأموال عن طريقنا لتنفيذ المشاريع المخصصة للحملة".
ورغم استمرار المبادرات الشعبية الداعمة لنضال الشعب الفلسطيني فإن البعض يعتقد أن هناك المزيد لتقديمه من أجل ذلك.
ويقول راشد الطراروة نائب رئيس رابطة شباب لأجل القدس "نطمع في وجود عدد أكبر من المبادرات التي تعبر عن دعمنا الكبير لأشقائنا في غزة، وهذا من حقهم علينا".
وأضاف "نعمل حاليا للحصول على موافقة الجهات المختصة لتنظيم مسيرات تضامنية كبيرة الاستمرار بإقامة الوقفات التضامنية في ساحة الإرادة بشكل دوري كل أسبوع، وهناك مبادرات من الجامعات والمدارس وبعض الوزارات وفي بعض الجمعيات الخاصة".
وعن حملة مقاطعة منتجات بعض الشركات والفروع بعض السلاسل التجارية العالمية التي أظهرت دعمها لإسرائيل، أكد الطراروة أن المقاطعة مستمرة، وهي ليست مؤقتة، ونحن بصدد مقاطعة دائمة، لأن ما حصل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي في عملية "طوفان الأقصى" خلق نوعا من الوعي الكبير لدى الجماهير في الكويت وبقية الدول.
لدينا أشخاص يقاطعون بعض الشركات منذ أيام حملة "سيف القدس"، لكن حاليا ارتفعت درجة الوعي لدى شرائح كبيرة من أفراد المجتمع الكويتي، خصوصا لدى من لم يكن لديه اهتمام كبير.
وأضاف الطراروة للجزيرة نت أن وسائل الإعلام ووسائل التواصل لعبت دورا كبيرا في تسليط الضوء على معاناة الفلسطينيين وكشف الوجه القبيح للكيان المحتل من خلال الوقفات التضامنية والحملات الشعبية لمقاطعة منتوجات الشركات الداعمة لإسرائيل.
وقال "أصبح هناك التزام كبير في الكويت لدى نسبة كبيرة جدا من أفراد المجتمع بهذه المقاطعة، ولدي معلومات تؤكد وجود خسارة كبيرة لهذه الشركات، وهناك فكرة لإقناع وكلاء بعض هذه الشركات بالتخلي عن وكالة هذه الشركات والاتجاه لتغيير العلامة التجارية، وبدلا من أن يدفع نسبة شهرية للشركة الأم تتحول هذه الأموال له، وهذا أفضل له من تحويل الأموال إلى شركات تدعم الكيان، خصوصا أن هناك بدائل كثيرة، فلدينا منتجات وطنية رائعة أفضل بكثير".
وتابع الطراروة "ثم إن هناك شركات كثيرة تتعامل مع أخريات في دول مثل تايوان وغيرها، وهذا أفضل من التعامل مع شركات ودول تدعم قتل إخواننا في فلسطين"، مؤكدا العمل على تنظيم حملة لدعم المنتجات الوطنية ووضع البديل للاستغناء عن منتجات الشركات التي قوطعت.
ولم تقتصر المبادرات الداعمة لقطاع غزة على جمع التبرعات أو مقاطعة بعض الشركات أو تنظيم الوقفات التضامنية في ساحة الإرادة، إذ نظمت المستشفيات والمراكز التخصصية ومراكز الرعاية الصحية الأولية وقفات تضامنية نددت بقصف المشافي في غزة، وأكدت الموقف الدائم المساند للشعب الفلسطيني حيال ما يتعرض له من عدوان صهيوني والانتصار للأطباء والهيئات الطبية العاملة في مستشفيات القطاع والمرضى والشهداء.
كما عبر أطفال الكويت في عدد من المدارس عن تضامنهم مع الأطفال في قطاع غزة حيال ما يواجهونه من عدوان آثم على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي.
ونظمت مجموعة من القوى الطلابية في الكويت وقفة تضامنية ومهرجانا خطابيا في 5 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي بعنوان "جهزوا مفاتيحكم"، وذلك استجابة لنداء الشعب الفلسطيني المقاوم في غزة ودعما للجهود المبذولة من أجل إيقاف الاعتداءات المتواصلة على الشعب الفلسطيني.
ونظمت جمعية "النجاة الخيرية" مبادرة لكفالة أيتام فلسطين نجحت من خلالها بكفالة ألفي يتيم فلسطيني حتى الآن، وحققت تبرعات تجاوزت 350 ألف دينار.
ويرى عضو المكتب السياسي للحركة التقدمية الكويتية مشعان البراق أن المبادرات الشعبية تعبر عن إرادة الناس بكل ما يمكن لدعم الشعب الفلسطيني واسترجاع حقوقه ورفض العدوان الوحشي للكيان المحتل والتأكيد على خيار المقاومة، لأن قضية فلسطين قضية مركزية، كما تعبر عن غضب الشعوب من الموقف الرسمي المتخاذل والضعيف، على حد قوله.
أما عن جدوى مقاطعة بعض الشركات التي تدعم الكيان المحتل فيؤكد البراق أنها مهمة جدا، فهي رسالة الحد الأدنى التي يعبر من خلالها الناس عن موقفهم تجاه انحياز الرأسمال العالمي والطفيلي التابع الذي يخدم مصالح الكيان وداعميه.
وأضاف البراق للجزيرة نت أن للمقاطعة تأثيرها الاقتصادي والسياسي أيضا، وتكثيفها أكثر سيجعلها فاعلة في موازين القوى لمصلحة الشعب الفلسطيني، وهي تعزز ثقافة مضادة للثقافة الاستهلاكية المدمرة، كما تعزز ثقافة المقاومة والتضحية والتضامن والتعاون بين الناس، وتبني هوية ذاتية حقيقية قائمة على الشعور بالمسؤولية، وتعزز القيم الإنسانية والمجتمعية.
وعن البدائل التي يمكن تأمينها للناس، قال البراق "البدائل كثيرة، ومنها ما هو محلي، ومنها ما يمكن استيراده من شركات ودول ليست داعمة للكيان المحتل، ويمكن التخلي عن بعض البضائع والمنتجات حتى لو لم يؤمّن البديل لها، فالقضية أكبر من سلعة أو بضاعة، والهدف العظيم المتمثل بدعم الشعب الفلسطيني وتحرير فلسطين يحتاج إلى مواقف كبيرة لا تعني المقاطعة أمامها شيئا".
وأكد البراق ضرورة الاستمرار بتنظيم الوقفات التضامنية، لأنها -في رأيه- تشكل ضغطا على صناع القرار وتدفعهم إلى اتخاذ مواقف ملموسة تدعم نضال الشعب الفلسطيني وإيقاف العدوان.
وقال إنه يجب أن يكون الموقف الشعبي ضاغطا، والقوة الفاعلة في الكويت تعي هذا الأمر، لذلك هناك عزم على مواصلة الوقفات التضامنية وغيرها من الأنشطة ووسائل التعبير المتنوعة "ونسعى لتطويرها وزيادة ضغطها كي تصنع فارقا يفيد شعبنا في فلسطين ومقاومتها الباسلة".
يذكر أن القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في دولة الكويت دعت في بيان أصدرته في 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي طلاب الحرية والحركات الشعبية والوطنية والإسلامية في العالمين العربي والإسلامي إلى العمل السريع لدعم الشعب الفلسطيني وتفعيل حركة المقاطعة الاقتصادية للعدو وداعميه.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الشعب الفلسطینی للکیان المحتل بعض الشرکات فی الکویت من خلال فی غزة
إقرأ أيضاً:
ملحمة الشعب الفلسطيني: أنشودة الأرض، الدم، والتراث
فبراير 24, 2025آخر تحديث: فبراير 24, 2025
د. أروى محمد الشاعر
أهذا الشعب الفلسطيني بشرٌ مثلنا، أم جاؤوا من عالم آخر؟
من أين يستمدون كل هذا الصبر، كل هذا الكفاح، كل هذا العشق للمقاومة؟ أهناك روحٌ إلهية تعانقهم، تمنحهم القوة كلما اشتدّ الحصار؟
إنه شعبٌ كتب ملحمته بمداد من الصبر والدم، نقشها في حدائق الجنات، وسقاها من ينابيع الجراح والأمل، لكن فلسطين ليست فقط دماءً وتضحيات، إنها إرثٌ خالد، وتراثٌ يقاوم النسيان كما يقاوم المحتل.
على مرّ التاريخ، جسّد الفلسطينيون قيم الكرم والتسامح، ففتحوا أبوابهم للأرمن واليهود الذين أجبروا على الرحيل من أوروبا، بما في ذلك أرمينيا. لم يكن استقبالهم مجرد إيواء، بل كان احتضانًا إنسانيًا حقيقيًا، حيث وفّروا لهم المنازل والأمان، ليعيدوا بناء حياتهم وسط بيئة يسودها التآخي والتعايش.
منذ أن وُلد الفلسطينيون، والأرض تسكن في أعماق روحهم، يحملونها
في كفوفهم المثقلة بالألم. في كل بيت فلسطيني، يولد طفلٌ وتولد معه وصية: لا تفرّط، لا تتنازل، لا تنحنِ، فالأرض ليست ملكًا لك وحدك، بل هي أمانة الأجداد، وحلم الأجيال القادمة. يشقّ الأطفال طريقهم بين الرصاص، ويصنعون من حجارتهم أجنحةً تعانق الحرية. في العيون حكايا جيلٍ طاردته النكبات، لكنه لم يرضَ بأن يكون إلا فاتحًا للأمل، راوياً للغد.
يقف طفل أمام الدبابة، يُشهر حجارتَه في وجه الطغيان، ويؤمن بأن الحق، مهما طال الظلم، هو المنتصر في النهاية، يحمل حقيبته الممزقة ويمضي إلى مدرسته، يقرأ في كتابه عن العالم، كيف ينعم الأطفال في مدن الرخاء بطفولة هانئة؛ يحملون حقائبهم المدرسية الجديدة، يذهبون إلى مدارس مجهزة بأحدث التقنيات، لكن قلبه لا يعرف إلا لغة واحدة:
لغة الأرض. على الجدار المهدم، يرسم شمسًا لا تغيب، وشجرة زيتونٍ لا تُقلع، وحمامةً تحلق بعيدًا، هذا الطفل، رغم كل المعاناة والصعاب، يحمل في قلبه أملًا لا ينطفئ، وحلمًا بوطن حر يعيش فيه بسلام.
الأرض هنا تنجب الرجال، رويت بدمهم الذي اختلط بالتراب والأحجار، تودعهم وهم يرحلون شهداء، لكنها تعرف أنهم سيعودون في كل غصن زيتون، في كل زهر لوزٍ يورق عند أبواب البيوت المهجورة. كم مرةٍ ظنّ المحتل أن الذاكرة تُمحى، فإذا بها تشتعلُ أكثر، تزهرُ من جديد، تتحدّى الموت في كل مرة، وكم مرة اقتلع جذور الزيتون، فإذا بها تمتد أعمق.
في صباحٍ تكلله رائحة الزعتر، تودّع أمٌ ابنها الشهيد. لا تبكي، بل تزغرد، لأن دماءه لم تذهب هباءً، بل تنبت قمحًا في السهول، وزهرًا في الروح. على كتفها كوفية، وفي قلبها وجع، لكن في عينيها نورٌ لا يخبو. لقد أدركت أن الفجر، وإن تأخر، قادمٌ لا محالة.
“سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياةٌ تسرّ الصديق
وإما مماتٌ يغيظ العِدى”
هكذا قال عبد الرحيم محمود قبل أن يسقط شهيدًا، وكأن صوته لم يخبُ، بل صار نشيدًا يتردد في أناشيد الصغار وزنازين الأسرى.
وكما تحفظ الأرض دماء الشهداء، فإنها تحفظ التراث في كل تفاصيلها.
فالفلاح الفلسطيني، وهو ينثر بذور القمح، لا يزرع الأرض فقط، بل يزرع ذاكرةً وأملًا، يردد المواويل القديمة التي حملها الأجداد كرايةٍ لا تسقط:
“يا أرضنا الغالية يا ريحة الجدود، فيك الصبر مزروع والزرع ممدود، مهما جرفوكِ ومهما صاروا حسود، تبقي الأبية وما يطولك الغاصب، زرعنا الأرض ورد وسقيناه بدموع، كبرت السنابل والشمس إلها شموع، لو هدّوا الدار وسرقوا المفتاح، نبنيها من أول وما نرجع للرجوع”
إن الثوب الفلسطيني هو هوية تنبض بالحكايات، مغزول بخيوط الصبر، ومطرّز بأنفاس المقاومة. كل شكل هندسي وكل غرزة تروي فصلاً من تاريخ فلسطين، وفي زخارفه سيرة وطنٍ لا يشيخ، يحاك بأصابع الأمهات كما يُحاك المجد، المدن العتيقة تسكن تفاصيله، والألوان تحكي قصص الأجداد، يتوشّح بروعة الأرجوان الكنعاني، ذاك اللون الذي استخرجه أجدادنا الكنعانيون من أصداف الموركس، لون الملوك والكهنة والنبلاء، رمز العظمة التي لا تهزمها العصور. لم تكن الأمهات تُطرّزنه للزخرفة، بل كنّ يحيكن في نسيجه ملامح الأرض، وذاكرةً تتحدى النسيان، ويطرّزن ألف عامٍ من الصمود، حتى في الشتات، حين تمزّقت الأثواب، ظلّت النساء يطرزن، يحيكن حلم العودة في كل ثوب، وكأن الخيوط تتحوّل إلى درب يعيد اللاجئين إلى مدنهم وقراهم المهجورة، قالت فدوى طوقان:
“إنني جُذِرْتُ في أرضي كرمحِ اللوزِ في الغيمِ…
وما زالت عيونُ الفجر في عينيَّ مشدودة
كفكف دموعك ليس ينفعك البكاء ولا العويل
وانهض ولا تشكُ الزمان فما شكا إلا الكسول”.
حين يدبك الشباب الفلسطيني، يُعلن أن الأرض له. خطواتهم تضرب الأرض، كأنها توقيعٌ جديد على ملكيّتها. حتى في أعراسهم، يُغنّون لفلسطين، تُرفع الكوفية، وتعلو الزغاريد، فلا الفرح ينسيهم قضيتهم، ولا الحزن يُسقط من أيديهم راية المقاومة.
كما قال إبراهيم طوقان:
“موطني…..موطني
الجلال والجمال والسناءُ والبهاء في رباك في رباك”
في فلسطين تُورّث زيتونة الجدّ وتظل قائمة مئات السنين، لا تخيفها الجرافات، شاهدةٌ على حروبٍ، مجازر إنتفاضات وصلوات. المحتلّ يقتلع الشجرة، لكن الجذور تظلّ حيّة، تنتظر العائدين كي تولد من جديد، هناك التين والرمان والليمون في القرى العتيقة، نوافذ البيوت والأبنية المصنوعة من الحجر الكنعاني، كلها شواهد على أن فلسطين متجذرة في التاريخ، لا تُمحى مهما تبدّل الغزاة والمحتلون، هي الزيت والزيتون، هي رائحة الطابون في الصباح مع الأم التي تعجن الخبز، هي حكايات الجدات التي لا تزال تسري في دماء الأحفاد. في أزقتها، تعلو الأهازيج القديمة، وفي سمائها، لا تغيب أحلام الذين رحلوا وهم يحلمون بالعودةً، إنها الأرض التي تنبت الأحرار حتى لو حاصرها الطغيان، تظل تنتظر أبناءها ، كما تنتظر الأم ابنها الأسير، وكما تنتظر السنابل المطر لتزهر من جديد.
في المخيمات حلمٌ لا يموت: في كل بيتٍ لاجئ، مفتاحٌ قديمٌ يُعلّق على الحائط، ليس لأنهم يأملون فقط، بل لأنهم يعرفون أنهم سيعودون وأن الأوطان لا تضيع ما دامت منقوشة في أعماق ذاكرتهم وما دام القلب ينبض بها، تعلّم الأطفال أسماء مدنهم وقراهم التي لم يروها، حفظوها كما يحفظون أسماءهم. تسأل طفلًا أينما يعيش خارج فلسطين عن وطنه، فيجيبك: أنا من عكا، من يافا، من حيفا، من اللد، من بيسان. كيف تُمحى الأوطان من القلوب، وهي محفورةٌ فيها كالنقش على الصخر .يرددون ما قاله الشاعر أبو سلمى:
“سنرجعُ يومًا إلى حيّنا ونغرق في دافئات المنى سنرجع مهما
يمرّ الزمان. وتنأى المسافات ما بيننا”
لا يُكتب التاريخ إلا بمن رفض أن يكون في طيّات النسيان. في الزنازين، ينقش الأسرى حريتهم على الجدران، كأنها عهدٌ بأن الروح لا تُسجن، وأن الإرادة أقوى من القضبان. رغم العزل والقيود، يكتبون تاريخ الصبر، يرسمون مفاتيح العودة، ويتحدّون الحديد بأملٍ لا ينطفئ ، ومع كل فجرٍ جديد يبتسمون رغم الألم، لأنهم يؤمنون أن القيود ستنكسر، وأن الحرية قادمة لا محالة، يحفظون الشعرالذي كتبه شاعر الأرض المحتلة توفيق زياد:
“هنا على صدوركم، باقون كالجدار
وفى حلوقكم كقطعة الزجاج ، كالصبار
وفى عيونكم زوبعة من نار
نجوع ، نعرى، نتحدى، ننشد الأشعار
ونملأ السجون كبرياء
إنا هنا باقون، فلتشربوا البحرا
إذا عطشنا نعصر الصخرا
ونأكل التراب إن جعنا، ولا نرحل
وبالدم الزكى لا نبخل
هنا لنا ماض وحاضر ومستقبل
يا جذرنا الحى تشبث
واضربى فى القاع يا أصول”
فرغم الدمار، رغم القتل والحصار، رغم ليل الاحتلال الطويل، تظل فلسطين شعراً وأنشودةً لا تموت. في شوارع القدس، بين قبابها الذهبية، في مساجدها وكنائسها، في صوت الأذان وتراتيل الأجراس، هناك وطنٌ يقاوم. حلم العودة لا ينتهي، سينبت الورد في الساحات التي روتها دموع الأمهات ودماء الشهداء وعذاب الزنازين، وسيعود اللاجئون إلى بيوتهم، وستُفتح الأبواب بمفاتيح العودة، وسيتردد في الأفق صدى صوت فيروز :
“لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي
لأجلك يا بهية المساكن، يا زهرة المدائن يا قدس
عيوننا إليك ترحل كل يوم تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الإسراءً يا درب من مروا إلى السماء
عيوننا إليك ترحل كل يوم وإنني أصلي.