رأي اليوم:
2024-07-06@03:09:30 GMT

د. عقل صلاح: الدولة من أعماق الحضارات

تاريخ النشر: 6th, July 2023 GMT

د. عقل صلاح: الدولة من أعماق الحضارات

د. عقل صلاح لم ينعم التاريخ الإنساني في معظمه بوجود الدول. فالسجل البشري من قديم الأزل يظهر تتبعات وتعقبات الجنس البشري منذ 40 ألف عام، غير أن الدولة بمدركاتها الحقيقية لم تظهر إلا في بلاد الرافدين في العراق فيما يقرب من 3 آلاف عام قبل الميلاد. لفت مثل هذا التغير الدراماتيكي الانتباه إلى النظريات الاجتماعية الكلاسيكية.

فالليبرالية والماركسية على حد سواء تمتلكان رؤى للتطور التدريجي لجذور الدولة وأصلها. فهما تؤكدان على أن أسلوب الحياة البرية عفا عليه الزمن، وتم استبداله تبعا لذلك بالاختراع الذي حدث آنذاك، ألا وهو الزراعة، والذي أطلق عليه “ثورة العصر الحجري”، ونتج عن ذلك زيادة في التشابك الاجتماعي الذي يصاحبه أحيانًا تقدم في شكل التنظيم السياسي من الجماعة إلى القبيلة. تمخض عن كل هذا خلق ما يسمى بالدولة. ترى الليبرالية ظهور الدولة من منطلق المفردات الوظيفية، فهي ترى أن الدولة عبارة عن خلق عضو لاستكمال الأغراض العامة. على النقيض من ذلك، ترى الماركسية أن الدولة ما هي إلا نتاج للطبقة الاجتماعية الأولى المسجلة عبر التاريخ، تواجه الماركسية بذلك القضية المفاهيمية التي تتعلق بماهية اليرقة في البرعم في مجتمع بدائي قائم على المساواة (أي أن هذا المجتمع لم ينضج بعد)، وما تستطيع أن تسمح به من أجل ميلاد الطبقة الاجتماعية في المكانة الأولى. أو بخلاف النظريات الاجتماعية هذه، أفرزت النظرية الاجتماعية الألمانية تعليلًا بسيطًا وصريحًا لظهور الدولة، تلك النظرية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالواقعية. وفقًا لوجهة النظر هذه، وأفضل من عبروا عنها راتزل، وأوبنهايمر، وجمبلوويكز، وثورنوالد وكانت موجودة أيضًا عند ماكس ويبر وايبرهارد، وهم يرون أن الدولة نتجت عن الغزو العسكري، الذي جاء غالبًا من الزراعيين الذين استوطنوا في الأرض، والبدو الذين يقطنون الأماكن النائية. لم تلق أي نظرية من هذه النظريات الدعم الكامل من العلم الحديث، بالرغم من أن كل نظرية من هذه النظريات لديها رؤى يمكن استخدامها من حين لآخر. لقد أحرز العلم الحديث تقدمًا رئيسيًا في وضع تصور لنشأة الدولة. ولا يسعنا إلا أن نقر بأن التوصل إلى اتفاق عام بشأن العمليات الاجتماعية التي تنخرط في تشكيل الدولة لم تكن وشيكة الظهور على ما يبدو. يرجع هذا ببساطة إلى أنه يوجد – في واقع الأمر – حالات قليلة جداً من البدائية، وهذا غير تقليدي، وتهدف عملية تنمية الدولة من أجل السماح بوضع قواعد عامة راسخة للدولة. وبالفعل نشأت الدولة في الأصل على هذه الشاكلة في أمريكا الوسطى، وبلاد الرافدين، بدون أي إمكانية للاتصال. الشيء نفسه – على ما يبدو – حدث في أوائل الدول في كل من وادي نهر السند (يقع في الهند ويمر في الباكستان)، الصين، والبيرو. لكن، ربما كان يوجد نوع من أنواع التعميم لمصر، وقد أثر هذا التعميم في معظم العمليات التي تناولها الدارسون في مناقشة أصول ونشأة الدولة. يعني هذا أن تلك الدول لم يكن بها عمليات أصلية بل محاكاة. تمثلت الرسالة المخبأة تحت عباءة نظرية تطور الدولة في أن الشعوب البدائية بحاجة ماسة إلى الدولة. ذلك هو مذهب الغائية، الذي أسقطه العلم الحديث إسقاطًا كاملًا. كما روج كتاب “اقتصاد العصر الحجري”، للأنثروبولوجي الأمريكي مارشال ساهلين لفكرة الاكتشاف الأنثروبولوجي العام الذي مفاده أن الحياة البرية لم تكن بحاجة إلى الزراعة، ناهيك عن الدولة. بضع ساعات عمل فحسب كل يوم، هو كل ما كان يحتاجه الأفراد الذين يحيون حياة البرية والصيد، على الرغم من أنهم كانوا في حاجة لوقت كبير يخصصونه للحفاظ على الاتصالات الإقليمية، تلك الاتصالات التي تعتبر تأمينًا وضمانًا لهم من الأوقات البيئية الصعبة وغدر الطبيعة. كان هؤلاء الأفراد ينعمون بالكثير من الوقت والثراء. كثير من هؤلاء الأفراد – وتحديداً الهنود الأمريكيين الشماليين – عرفوا الزراعة، لكنهم لم يتخذوها كمهنة طوال الوقت، ولا عجب في ذلك لأنها كانت ستحرمهم من أوقات فراغهم، وكانت ستحول حياتهم إلى حياة شاقة. غير أن بعض البريين اختاروا الممارسات الزراعية الأكثر استقرارًا، وربما اضطروا إلى فعل ذلك لتزايد الأفراد الذين يمتهنون المهن البرية القائمة على صيد الحيوانات. غير أنه لا يوجد توافق تام بين اختراع أو اختيار الزراعة وأصل الدولة، فالزراعيون البدائيون يتزايدون، في الوقت الذي لا يزداد فيه عدد الدول. قد لا تكون القضية أن نعرف ما هي الأمور التي تزداد تشابكاً؟ بالتأكيد، يوجد قياس للنسق الليبرالي بمقدار التشابك الذي سوف يشجع على التخصيص. هذا التخصيص بين الذين يحيون الحياة البرية معروف، وأكثر تحديدًا للتعامل مع الجماعات الأخرى، كما أنه شائع نسبيًا بين القبائل إما لأغراض الحرب أو لأغراض التوزيع الاقتصادي. أدى هذا إلى ابتداع نظريات متدرجة في التطور للنوع الوظيفي للدولة، وفقًا للتقدم الثوري من الجماعة إلى القبيلة، ومن ثم من الزعامة إلى الدولة. تلك هي النقطة التي صبت فيها الماركسية جام غضبها على وجهة النظر الليبرالية. يوجد قدر كبير من الشواهد تظهر أن الشعب البدائي قد تم تجهيزه على الفور ليسمح بالتخصيص، وليقاوم أي محاولة تجعله دائمًا ومستقرًا. خير مثال لأي مجتمع يتصدى للاستغلال يتمثل في مشروطية أن تحقيق حكم الدولة المستقر سوف يكون مشروطًا بمصير جيرانيمو. وقد عهد إلى جيرانيمو – القائد الهندي المشهور – قيادة قبيلته لكي يتخلص من إثم معين، وبمجرد الانتهاء من مهمته، رفض أهل قبيلته بطريقة منتظمة إتباع مخططاته الطامحة، لدرجة أنه كان قادرًا على الاستعانة باثنين من المحاربين الشجعان فقط في حرب واحدة. ومن الواضح أن الأفراد الذين يحيون حياة البرية كانوا ضعفاء جدًا لدرجة لا يستطيعون معها أن يقيموا الدولة. لكن الأفراد الذين يبنون الدولة ليسوا محظوظين مع رجال القبائل. وقد تم إتباع محاولات للإرغام عن طريق المراوغة. كل ما سبق كان عبارة عن شواهد للتحرك نحو الدولة، ولا سيما بمجرد إدراك تداعيات الحكم الدائم. إن الأسلوب الملائم لوضع أصول نشأة الدول في إطار مفاهيمي أجبرنا عن طريق هذه الاكتشافات أن نكون واضحين، فالدولة غير طبيعية، وتفسير أصولها يستلزم منا أن نحدد السبب الذي من أجله كان البشر قادرون على المراوغة حتى الآن، ثم أصبحوا فجأة محبوسين داخل تنظيمات دائمة للإرغام. فما هي العملية الاجتماعية الناتجة عن محيط الأنشطة الاجتماعية وحبس البشر داخل الدول بعد ذلك؟ وإجابة هذه المعضلة تنقسم إلى فئتين: الأولى، عنصر بيئي. يميل هذا العنصر إلى الربط بين الزراعة ونشأة الدولة، وأهمية هذا الربط بسيط، فالري وأشجار البلح والزيتون يربطون المزارعين بشدة بالأرض، ومن ثم تجعلهم الصنف الأفضل للدول، كونه مرتبط بالأرض يجعل من الصعوبة هروبه من الحبس. إن التفسير الأكثر دقة يرى أن الدولة في نشأتها الأولى جاءت نتيجة لتحرك سريع غير واع من الوظيفية إلى الاستغلال. كان ينبغي على الزعامة في وادي النهر أن تضطلع بأدوار كثيرة جداً مثل المساعدة في التجارة والري والتخزين، لكي تصبح في النهاية قادرة على التحرك من بند الخدمات إلى خلق ما يسمى بالإرغام. ركز العنصر الثاني للعلم الحديث على الأصول الدينية للدولة. وتمثل الافتراض السابق في هذه الحالة إلى أن اختراق الدولة وتطويرها كان بالفعل أمرًا هامًا جداً. وكان ضد مزاج الفرد أو ميله الفطري أي لم يأت موضوع هذا التطوير على هواه ومزاجه الفطري. وكان هذا هو الاحتمال الوحيد على أساس أن الإرغام كان مقبولًا لأنه كان في البداية على الأقل – في خدمة الرب – لكن هذا الجدل لم يمتلك قدرًا كبيرًا من القوة. وكان يوجد زعامات كثيرة في مدن مثل ويسكس (وهي مملكة أنجلو ساكسونية في جنوب غرب إنجلترا) وبولينزيا، حيث تم إعداد خدمات متعلقة بالطقوس الدينية دون حدوث حبس داخل زنزانات الدول. لكن، من الممكن أن نحدد هذا العنصر الديني بمثل هذه الطريقة التي تصبح جزءًا ضروريًا لأي تفسير لنشأة الدولة. لا يسعنا في هذا الأمر إلا أن نتبع تحليل “القبيلة والدولة”. تركز باتريكا على أن التغير الكبير في الشؤون الإنسانية أدى إلى الموافقة على تنظيمات الدولة، فالقبيلة هي مفهوم فطري، يقوم فيه المجتمع السياسي على صلة القرابة والنسب. أما الدولة – على عكس ذلك – تختلف تمامًا عن القبيلة لأنها تسعى إلى تنظيم الناس عن طريق مفاهيم غير متآلفة مع الوجود الشخصي مطلقًا. وبناء عليه، لا يمكن إعداد الدولة عن طريق مطالب يعتقد أنها خارقة أو غيبية. يدعم الدليل التاريخي لبلاد الرافدين وجهة النظر هذه، حيث تمثل الشكل المبكر للدولة في اقتصاد المعبد، فقد كان الغرض الرئيسي هو إطعام الآلهة. والأكثر أهمية من ذلك، عدم وجود دليل على عدم المساواة الاجتماعية بين البشر في حقوقهم، على الرغم من أن التقسيم الاجتماعي تبع خلق الدولة، وتمسك جميع البشر بأن يكونوا أدنى مرتبة من الآلهة. لكن الموقف في بولينزيا اختلف عن الموقف في بلاد الرافدين في تفسيرين: “إما أن الدول كانت ستتطور أو لم تتطور حسبما يتراءى لهم وبطريقتهم الخاصة، فإن احتمالية التطور الديناميكي للزعامات البولينزية (نسبة إلى بولينزيا) لم تكمن في السرد المحلي للتنظيم القبلي لكنها تكمن في الدين. وإذا كانت الآلهة البولينزية لديها مطالب أكثر، فإن بناء المعبد كان من الجائز أن يولد أدوارًا اجتماعية وسياسية جديدة هنا كما حدث في سومريا (نسبة إلى السومريين)، لكن لسبب أو لآخر، كانوا راضين تمامًا. فإنه يتوقع أن هياكل الدولة ظهرت بين السومريين في الوقت الذي لم يتم فيه تطوير التنظيم القبلي. قليل من الخوف والذعر الأكبر (الالكيركجاردياني (نسبة إلى الفيلسوف الدنماركي كير كجارد أبو الوجودية) يبدو ضروريا للدين الحقيقي: فالآلهة لا ينبغي أن تشبع! غير أنه – وبطريقة مساوية في الأهمية – يكون غياب التنظيم القبلي الذي سمح بحبس البشر في زنزانة الدولة الباقية والمستمرة. لم تكن هذه التفسيرات متصارعة مع بعضها البعض، بل بالأحرى تؤكد هذه التفسيرات على عناصر مختلفة للعملية الفردية، ويضيء كل عنصر الطريق إلى الآخر في آن واحد. وهكذا، فإن حبس البشر في بيئة معينة يساعد على تفسير ضياع الروابط القبلية. أليس من المحتمل أن عدم استساغة مفهوم الآلهة كانت نفسها مرتبطة بضياع هذه الروابط بين القبائل؟ من المهم أن نكرر أننا لا نملك نظرية عامة موحدة لأصل نشأة الدول البدائية، إلا أنه يوجد حالات قليلة جداً هي التي تسمح بهذا. علاوة على أن ليس كل هذه الدول ولدت في وديان النهر الطمي وسجن البشر في محيط بيئتهم لا يمكن أن يعلل – تبعا لذلك – قسوة الآلهة في أمريكا الوسطى. نحن ببساطة لا نمتلك دليلًا كافيًا نعرف من خلاله ما إذا كان هذا يجعل التفسير العام لأصل الدول الذي تم تقديمه هنا صالحًا أم لا. من الصعب أن نفسر على نحو مرضي ظهور الدولة البدائية كما أن تفسير ظهور الدول الثانوية لا يقل صعوبة بأي حال من الأحوال. إن التفسيرات التقليدية لأصل الدولة تبدو خادعة جدًا لنا لأن العوامل التي حددوها تلعب أدوارًا مهمة في خلق الدول الثانوية. لذا، وجدت الدولة الرافدية (نسبة إلى بلاد الرافدين) أن السيطرة المركزية كان لها فوائد عسكرية جمة. وبحلول 2300 قبل الميلاد حول الملك سرجون مؤسس السلالة الأكادية القدرة العسكرية تجاه خلق النظام الإمبريالي الأول. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، اكتظت صفحات التاريخ القديم بالدول التي خلقت عسكريًا، بمعنى استخدام الغلبة العسكرية في السيطرة على دول أخرى، من الحيثيون إلى الفرس، ومن الأشوريين إلى المقدونيين، تلك الدول التي تصعد وتهبط وفقًا لتنظيم ضعيف البنية. وبمجرد اختراع الدولة، فإن قدرتها على تنظيم قوتها العسكرية كان يعني أنها لم ترجع مرة ثانية إلى المجتمع الريفي الرعوي المسالم. نخلص من هذا بنتيجة مهمة حول طبيعة التطور الاجتماعي، فحقيقة أن معظم النظريات المتدرجة في التطور كانت ساذجة وآلية لا يعني أننا نستطيع أن نعمل بدون مفهوم تطور الدولة كلية. فقد حدثت تغيرات أساسية معينة في الوسائل التاريخية للتنظيم الاجتماعي، أدى هذا إلى تغير المفردات وفقًا لما ينبغي أن تفعله المجتمعات، أما هذه التغيرات فتستحق أن يطلق عليها تغيرات متدرجة في التطور لكن النظرية الأفضل المتاحة للتطور الاجتماعي تعتبر حدثًا عرضيًا جديدًا. لا يوجد غاية ملازمة للعملية التاريخية التي تضمن التقدم الحتمي فالتطورات المهمة للدولة ربما تكون نتيجة البدايات التصادفية بدلًا من أن تكون نتيجة للمنطق المتعنت المتصلب. تسعى معظم التنظيمات الاجتماعية إلى التكيف مع الظروف المجتمعية من أجل تحقيق توازن عاطفي وعقلي، لذا يميل التغير الاجتماعي الجوهري إلى أن يكون ذلك الشيء الذي يسير ضد مزاج وطبع الأطراف الاجتماعية وتنظيماتهم. صناع التغيير الاجتماعي يمكن وصفهم بأنهم فاشلين بالتكيف. *كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية.

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

جريصاتي يقرأ في مداخلة فياض: غاب عنها الدعوة الى الالتصاق بمشروع الدولة.. وعلى كل طيف قوي رفد الدولة بقوته

في 1-6-2024، عُقد مؤتمر "حركة التجدد للوطن" تحت عنوان من "لبنان الساحة... إلى لبنان الوطن" وقد كانت للنائب علي فياض مداخلة استحوذت على اهتمام رجال الفكر والسياسة لأنها فتحت نقاشاً حول هواجس الطوائف والضمانات(نص المداخلة في آخر المقال)
الحلقة الثالثة مساهمة الوزير السابق سليم جريصاتي في مناقشة مداخلة فياض.

يقول الوزير السابق سليم جريصاتي، استمعت إلى مداخلة النائب الدكتور علي فياض القيّمة والتي تتجاوز البعد الاكاديمي البحت الى كل الدلالات في ما يختص بموقف "حزب الله" من المسائل الحساسة والمطروحة على الساحة السياسية اللبنانية، سواء منها القديمة الجديدة والمقصود بناء الدولة واستكمال تنفيذ "وثيقة الوفاق الوطني اللبناني" (اتفاق الطائف)، إن لجهة ما أدرج من مبادئها وأحكامها في مقدمة الدستور ومتنه أو لجهة ما اعتبر منها بمثابة "تعهدات وطنية" لا تحتمل الأنكار والنقض، وأيضاً المسائل المستجدة بعد حرب غزّة ودخول "حزب الله" طرفا فيها من جنوب لبنان، ما عمّق هوة الخلاف حول السلاح المقاوم ووظيفته من خارج إطار الدولة وقرارها بالحرب والسلم الذي يتولاه مجلس الوزراء حصراً على ما ورد في المادة 65 من الدستور. وإن ما زاد الهوة اتساعاً فراغ السدّة الرئاسية وتأييد تصريف الأعمال وأحادية مرجعية قرار الحرب الذي أطّر بالمشاغلة والمساندة.

ويضيف جريصاتي: تضمنت مداخلة النائب فياض، مقاربة لما أسماه هواجس الطوائف والضمانات، تلك الهواجس التي بقيت على حالها من التوجس بغياب الضمانات التي يجب أن تأتي من الطوائف نفسها والتي لا نجد أثراً لها في الدستور والوثيقة على ما قال، في حين أن هذين المرجعين الساميين قد أشارا إلى السبل المؤدية إلى إزالة هذه الهواجس إن أحسنّا جميعا سلوكها وعقدنا النية الصادقة على ذلك. ففي البداية كان الدستور، وقبل تعديله الأحدث كانت الوثيقة، وفيهما كل مباني السيادة الوطنية ومعانيها، تلك السيادة التي هي من أقانيم الدولة، كل دولة. أما في ما يخص المرحلة الانتقالية التي نص عليها كل من اتفاق الطائف والدستور المستقى منه في مادته الـ 95، فصحيح أننا لا زلنا في دائرتها ونعاني من أننا لم نخرج بعد منها، على ما دعانا إليه دستورنا وميثاق عيشنا المشترك الذي لا شرعية لأي سلطة تناقضه، إلا أنه ليس من الضروري أن تواكب هذه المرحلة هشاشة تصل إلى حدود اضمحلال الدولة، ذلك أن كل مرحلة انتقالية تعني أن ثمة انطلاقة من موضع ثابت إلى موضع ثابت آخر بالمفهوم اللغوي وبالمفهوم القانوني أيضا. لذلك إن ما أتت عليه المادة 95 من الدستور من حالة مرحلية إنما انطلق من مجلس نواب منتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وهذا ما حصل، وإن كنا نطمح إلى مجلس نواب منتخب على أساس وطني في نهاية المطاف، على ما سوف تنتهي إليه الحال المرحلية والانتقالية، ما يعني أن الدولة هي البداية والنهاية.إن مجلس النواب هو الذي تنشأ عنه كل سلطة وهو السلطة الدستورية الأكثر التصاقاً بإرادة الشعب الذي هو مصدر السلطات وصاحب السيادة والذي يمارس السلطات تلك والسيادة عبر المؤسسات الدستورية، ومنه، وبعد انتصافه بين المسلمين والمسيحيين، انطلقت المرحلة الانتقالية التي لا زلنا نعيش في ظلها. ان الهشاشة في منظومة الدولة اسبابها في سياق آخر تماما.

وهذا يعني، بحسب جريصاتي، أن المرحلة الانتقالية تلك بدأت من موقع الدولة وسلطة محورية فيها، كما وضع أسسها ومبادءها وأنماط الحكم فيها دستورنا في مقدمته ومتنه، ما لا يمكننا معه أن نخلص إلى أننا ما زلنا في حال من الفراغ أو العدم أو في حال من انعدام الوزن والاستقرار بسبب هذه المرحلة الانتقالية وطالما لم نبلغ الخواتيم المرجوة على ما جاء توصيفها وتبيان آليات بلوغها في متن دستورنا. والصحيح الأصح أن هذه المرحلة الانتقالية لم تبدأ بعد طالما أن مجلس النواب لم يتخذ الإجراءات الملائمة لالغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية لاقتراح الطرق الكفيلة بالغاء الطائفية ومواكبة تنفيذ الخطة المرحلية.

إن ما يحتاج اليه الدستور، كما يؤكد جريصاتي، هو، قبل كل شيء آخر، حسن تطبيق واستكمال تنفيذ ما ورد فيه والوثيقة، وذلك ليس فقط لإجراء عملية تقويم ولكن أيضاً لبلوغ هذه الخواتيم التي لا خلاص لعيشنا المشترك من دونها. من هنا الدعوة، التي كنت أرغب صادقاً في أن أجد أثراً لها ساطعاً في كلام نائب من النخبة تسمو لديه بنات فكره النيرات غرائزه، إلى الالتصاق بمشروع الدولة التي يجب بناؤها سوية، تلك الدولة التي قال هذا النائب نفسه في خاتمة مداخلته أنها هي المرام والهدف والتي يجب أن يتفق عليها اللبنانيون وعلى روافد قوتها ومنعتها ومناعتها.

ويقول جريصاتي: إن ما أعنيه هو أن المرحلة الانتقالية تلك إنما تنطلق من الدولة أو مفهوم الدولة على أساس ممارسة السلطة من مختلف السلطات الدستورية بشكل كامل ومنسق ومتوازن ومتعاون في آن، وهذا مبدأ من ركائز النظام الديمقراطي البرلماني الذي هو النظام الذي ارتضيناه معا عندما جعلنا ميثاق عيشنا المشترك حجر الزاوية في كياننا. ان الدولة المنشودة لا تكتمل أقانيمها وعناصر قوتها ولا يصلب بنيانها إلا بتجاوز المرحلة الانتقالية التي يجب أن تصب حكماً في ما اعتبره الدستور ذاته هدفاً سامياً ألا وهو إلغاء الطائفية وليس فقط الطائفية السياسية. ان الغاء الطائفية يعني أن نترك فاصلاً بين الدولة والسلطات فيها من جهة، وبين الدين من جهة أخرى، ولكن من دون أن يعني ذلك التنكّر لأي دين بل بالعكس التشدد في حماية المعتقد والشعائر الدينية إلى أبعد الحدود.

إن الدور المؤثر للدين والطائفة والمذهب يجب أن ينحسر يوما عن مفاصل السلطة، وليس بالضرورة عن أعلى هرمها الثلاثي لرمزيته دينياً وليس مذهبياً في الدولة اللبنانية، التي تصبح حينذاك دولة ضامنة لحقوق أطياف الشعب اللبناني والموجبات، يقول جريصاتي، فننتقل من أن نكون مجموعة شعوب وطوائف تعيش تحت سماء واحدة وتتحكم فيها مشاعر الخصام والتشتت والتبعية والالتقاء النفعي الذي لم يرتق يوماً إلى مسار العيش الواحد في كنف دولة مركزية قوية، إلى شعب واحد، على تنوعه، ومتماسك وممسك بناصية مصيره. إن معايير الكفاءة والاختصاص والجدارة في الوظائف العامة ترفد الدولة العميقة بأساليب القوة وسمو القانون ما عداه من اعتبارات.

أما الحقوق الاساسية والحريات العامة والخاصة على أنواعها، فهي مصانة في دستورنا، ولن تجد سبيلاً إلى الحماية والضمانة المطلقتين إلا من خلال قضاء مستقل ومتحرر من الطائفية والتبعية السياسية والارتهان والترغيب والترهيب.

ثمة من قد يقول إن في الأمر مبالغة أو شيئاً من التنظير البعيد كل البعد عن أرض الواقع، في ظل مجتمع لبناني تفتك به أوبئة سامة، تبدأ بالخوف ولا تنتهي بالغبن، وكنا قد اعتقدنا، بحسب جريصاتي، في يوم مضى أننا انتهينا من هذه المعزوفة بمجرد ان توافقنا في الطائف على قواعد عيشنا المشترك وتطويرها عند الاقتضاء، إلا أن الشعوب الحية والحالمة بمستقبل أفضل ورغد عيش ورخاء وحرية ودولة راعية وضامنة ابسط الحقوق، إنما تعبّرعن ذلك في صناديق الاقتراع، والادلة على ذلك حديثة وساطعة، وإن كان بعض المجتمعات الديمقراطية أكثر تماسكاً وطنياً من مجتمعنا. فلنحدّث قانون انتخاب أعضاء مجلس النواب في هذا الاتجاه حفاظاً على صدقية الاقتراع والتعبير الأصدق عن إرادة الشعب.

ويقول جريصاتي إن مجرد الخروج من الجمود والتحرك بثبات لاعتماد الاليات التي تعزز مفهوم الدولة الذي ارتضيناه في الطائف، وهو قابل للتطوير في ظل تبدل الظروف والمصلحة الوطنية العليا، إنما يوجد مناخاً تنبثق منه الحلول لكل أزماتنا، أو معظمها، فنخرج من دوامة الهواجس والضمانات، حتى أنه يمكننا، في ظل هذا المناخ الخلاق، أن نطرح مسألة السلاح المقاوم،على أقله لجهة وظيفته التكاملية مع الدولة، على ما أتى في مداخلة النائب فياض، طالما أن هذا السلاح لا يزال موضع انقسام وطني خطير، زادت من خطورته المحاولات الجهيضة لوضع استراتيجية دفاعية يندرج هذا السلاح في سياقها، فتستكين في ظله النفوس وتجف جذور التوجّس والترقّب والتشرذم والاحتكام إلى العنف والاستتباع للخارج والأهواء التي لا يستقيم معها وطن حر ومستقل وسيد وشعب مقاوم كل غطرسة واستبداد واعتداء. إن عدونا غاشم وغادر وقاتل وسالب أرضنا وثرواتنا ومستبيح كرامتنا الوطنية وهادم سلم القيم الانسانية وهاتك المواثيق والمبادىء والاعراف الدولية، ما لا يحتمل معه أي تردد من الجماعة اللبنانية، كل الجماعة، في مواجهته وردعه.

ويبقى ان نسأل وفق جريصاتي، ولم يسأل المحدث، أين الرئيس من كل ذلك، هذا الذي أولاه دستور الطائف موقعاً ودوراً ورمزية، وهي خصائص تتكون فيها ومنها كل الضمانات طالما أحسن الحكم مقاربة الأمور المصيرية وحرص، وفقاً لقسمه، على احترام دستور الأمة اللبنانية والقوانين والسهر على استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه؟ خصائص اندثرت ولم يأبه بها أحد، فارتعدت فرائص الطائف واهتزت أعمدة البنيان اللبناني بدليل الحال التي وصلنا اليها، وأكمل المسؤولون عن هذه الجريمة الوطنية، بكل ما لهذا التوصيف من معان وتداعيات، إدارة شؤون الدولة بما تيسّر. فكيف لنا، في ضوء ما سبق، أن نقارب القرار الدولي 1701 وضرورة التقيد به وتفادي الاخفاقات ووضع حد للخروقات وإعادة التوازن إلى مندرجاته لتحصينه؟ وكيف يمكننا أيضاً مقاربة أزمة النزوح السوري وتداعياتها وأخطارها على وطن الأرز؟ وكيف يمكننا أيضاً وأيضاً إعادة الثقة إلى المودع والمستثمر والسائح في بلد سمي يوما سويسرا الشرق؟

بديهي القول، وفق جريصاتي، إن على كل طيف قوي من أطيافنا، في مرحلة ما من حياتنا العامة، أن يرفد الدولة بقوته، وأن لا يقوضها ويتفّه مواقعها ورموزها، وأنا لست في موقع اتهام بقدر أني في الموقع الراصد لواقع الأمور، والأمر لا يحتاج إلا إلى التمسك بالدولة المركزية القوية على ما أتى في "وثيقة الوفاق الوطني اللبناني" والإقدام على الإصلاحات الواردة فيها، ولعل أبرزها اللامركزية الإدارية الموسعة ومجلس الشيوخ والسلطة القضائية المستقلة تماماً وكمالاً وإنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية وتمكينها من نيل هذا الإنجاز السامي، وصولاً إلى سنّ قانون انتخاب على أساس وطني، فلا يشعر أحد منا أنه مغلوب على أمره في وطنه وأن دوره ووجوده مهددان، طالما أن الوجود مرتبط دوماً بالدور، فيستكين الشعب وتزول عنه غمّة القلق على مصيره. إن مرحلة الوعي السياسي، لا بل الوعي الوطني، لا يمكن بلوغها إلا بعقلنة المقاربات والحلول أو بالحكمة أو للاسف بالانهاك، وقد أصاب الانهاك جميع أطياف الشعب اللبناني .

وإذا كان لا بد من أن ننهي بالبعد أو المعطى الاقليمي وتأثيره على وطن الارز، فإنه من المؤكد، بحسب جريصاتي، أن هذا التأثير لن يكون بالقوة ذاتها والاستتباع ذاته والضرر ذاته في ظل دولة مركزية قوية بالمفهوم الذي أشرنا اليه، ذلك أن عوامل التشتت والتبعثر وانهيار منظومة الدولة إنما هي عوامل جذب للاقليم وحساباته ورهاناته إلى وطننا وتداخل عكسي في المصالح والايديولوجيات، فنذهب إليه ويأتي إلينا ونذوب فيه ويذوب فينا، حتى إن لجأ أو نزح إلينا، أصبح الخطر محدقاً بنا وجودياً على ما هي الحال في الداخل وفي المخيمات وعلى الجبهات، وإن ذهبنا إليه عقدنا مصيرنا بمصيره برابط دموي، وفقدنا مقومات خاصيتنا الوطنية وجمالية تنوعنا.

المداخلة
وكان النائب علي فياض اعتبر في مداخلته أن سياسة إنكار الهواجس الكبرى للطوائف، لا تجدي نفعاً، أكانت هذه الهواجس صحيحة أم كانت وليدة الوهم والمبالغة، لأنها في كلتا الحالتين، هي ذات أثر واقعي من حيث المواقف والسلوك. لذلك، من وجهة نظرنا يجب التعاطي معها كهواجس واقعية، على أن يتركز الجهد البناء على مناقشة أطر المعالجة وأدوات الحلول. ورأى أن هاجس الطائفة السنية هو حماية اتفاق الطائف الذي أعطى موقعاً متميزاً لرئيس الحكومة، أما الهاجس الدرزي، فهو حماية الدور في خضم الاضطرابات والتحولات الكبرى، في حين أن الهاجس المسيحي، هو حماية الوجود واستعادة الصلاحيات في ظل مسار التضاؤل الديموغرافي، أما الهاجس الشيعي، فهو مواجهة الكيان الصهيوني، لأسباب وطنية وأيديولوجية. ويعتبر فياض، أن الواقع، في بعديه الداخلي والإقليمي، هو أكثر تعقيداً من أن يعالج بنوايا حسنة، إن الاكتفاء بالنوايا الحسنة هو اختزال ساذج لآتون ملتهب من التعارضات في الرؤى والتطلعات وفهم التحديات والأهداف والمصالح لكنه على اللبنانيين أن يواجهوا الأسئلة الحقيقية التي يهربون من مواجهتها منذ عقدين من الزمن، والتي تتصل بالأسباب العميقة لعدم استقرار كيانهم الصغير، وتحوّل هذا اللا استقرار إلى صفة ملازمة لحياتهم السياسية وشؤونهم الدولتية والمجتمعية.

واعتبر أن الدستور اللبناني، في المادة 95 يسمي المرحلة التي نعيش دستورياً في ظل أحكامها الراهنة، بأنها مرحلة انتقالية. ورغم أن الطابع الانتقالي جرى ربطه بغياب تطبيق الإصلاحات السياسية الجذرية فإنني من الذين يعتقدون بأن الطبيعة الانتقالية إنما تتصل بكل ما يرتبط بمقتضيات الدولة في بعديها الداخلي والخارجي، أي النظام السياسي والموقع الجيوستراتيجي. المصدر: خاص "لبنان 24"

مقالات مشابهة

  • كيف صاغ حكام مصر ومفكروها هويتها الوطنية؟ قراءة في كتاب
  • تضم ذكرى من كل الحضارات.. صلاح الدين تكشف حجم الدمار الأثري من أحداث 2014 - عاجل
  • جريصاتي يقرأ في مداخلة فياض: غاب عنها الدعوة الى الالتصاق بمشروع الدولة.. وعلى كل طيف قوي رفد الدولة بقوته
  • ما هو حلف الناتو وشروط الانضمام إليه؟
  • بايتاس: مليون و127 ألف موظف سيستفيدون من زيادات في الأجور بقيمة إجمالية تصل 45 مليار درهم
  • رحلة استكشافية جديدة إلى بوابة الجحيم تكريماً لضحايا تيتان
  • بعد حلف اليمين الدستورية.. "وزير الدولة للإنتاج الحربي" يتوجه بالشكر للقيادة السياسية بعد تجديد الثقة.. ويؤكد: سنستكمل ما بدأناه
  • وزير الإنتاج الحربي يتوجه بالشكر للقيادة السياسية بعد تجديد الثقة.. ويؤكد: سنستكمل ما بدأناه
  • السيرة الذاتية لوزير الدولة للإنتاج الحربي اللواء محمد صلاح الدين
  • وزير الإنتاج الحربي: سنستكمل ما بدأناه ونسعى لتحقيق المزيد