بوادر جديدة لتصاعد الصراع بين مختلف الأجنحة والقيادات الحوثية تعطل التغييرات الجذرية» المزعومة
تاريخ النشر: 11th, November 2023 GMT
بينما يتنافس قادة حوثيون من أجل الحصول على مناصب في الحكومة التي تزمع الجماعة تشكيلها في إطار «التغييرات الجذرية» المزعومة، بدأ قادة آخرون اتخاذ احتياطاتهم لتأمين أنفسهم وعائلاتهم؛ تحسباً لأي إجراءات قد تطالهم سواء بالاغتيالات أو الاختطاف أو الإحالة إلى المحاكم.
وذكرت مصادر مطلعة في صنعاء أن عدداً كبيراً من القيادات الوسطية والميدانية تراجعت عن المطالبة باستحقاقاتها من المناصب والنفوذ، بعد أن ظهرت بوادر جديدة لتصاعد الصراع بين مختلف الأجنحة والقيادات، خصوصاً بعد إعلان زعيم الجماعة الحوثية في سبتمبر (أيلول) الماضي «التغييرات الجذرية»، وبدأت بإقالة الحكومة غير المعترف بها، وتكليفها بـ«تصريف الأعمال».
وذكرت المصادر لـ«الشرق الأوسط» أن الصراع على المناصب والنفوذ، في إطار المساعي إلى تشكيل حكومة جديدة، انحصر بين قيادات الأجنحة التي تسعى إلى تعيين موالين لها ومحسوبين عليها في المواقع الحساسة في الحكومة، وأن الخلافات لا تقتصر على مناصب الوزراء ونوابهم، بل امتدت لتشمل الوكلاء ومديري العموم وحتى مديري الأقسام والإدارات.
وتدرس قيادات الجماعة الحوثية خيارات عدة لتجاوز الخلاف وعدم تصعيده، ومن ذلك إنشاء مزيد من الكيانات الموازية لمؤسسات الدولة بهدف توزيع حصص الأجنحة عليها.
وطبقاً للمصادر، فإن القيادات الجبهوية والميدانية التي تبحث عن استحقاقاتها من أموال الفساد والجبايات والمناصب، انقسمت إلى فريقين؛ ينتمي الأول إلى عائلات وأسر ذات علاقات قوية بقيادات الجماعة والأجنحة، ويحظى بدعمها، ولديه الجرأة للتصعيد والمطالبة باستحقاقاته، في حين لا يحظى الفريق الثاني بتلك الامتيازات، ويخشى أفراده التنكيل بهم حال أصروا على مطالبهم.
وتضيف المصادر أن زعيم الجماعة الحوثية اتخذ من أحداث غزة مبرراً لعدم حسم تشكيل الحكومة، وطالب مختلف الأطراف بالتأني، وتكريس جهودهم لخدمة التوجه الحوثي للمشاركة في الحرب، والاستفادة منها في توجيه الرأي العام وإشغاله عن الاحتجاجات الشعبية، ومطالب الموظفين العموميين برواتبهم.
تصفيات وحرب سيبرانية
يخشى عدد من القادة الميدانيين الحوثيين تصفيتهم أو التنكيل بهم، وذلك بعد وقائع عدة لتصفيات واختطافات جرى التستر عليها أو تلفيق تهم لضحاياها.
ولقي القيادي هادي غانم قصمة، المكنى «أبو طارق»، قائد الأمن الوقائي في محافظة البيضاء (277 كيلومتراً جنوب شرقي صنعاء)، مصرعه في مواجهات بين مسلحيه ومسلحين يتبعون قيادياً حوثياً من المحافظة، وذلك بعد قرابة شهر من مقتل القياديَين عبد السلام جحلان، شقيق القيادي ياسر جحلان المعين في منصب مدير مديرية مكيراس، وجمال أحمد عبد الله المصيادي، وإصابة آخرين من أقارب الأول.
وزعمت الجماعة أن الحادثتين تقف خلفهما عناصر إرهابية، الأمر الذي أثار الشك والقلق لدى عديد من القيادات من أن ذلك يعد تستراً على الواقعتين اللتين يرجح أنهما ضمن مخططات تصفية في سياق صراع الأجنحة، خصوصاً أن الثلاثة القتلى من أبرز القادة والمشرفين الحوثيين.
ولجأ عدد كبير من القادة إلى اتخاذ احتياطات أمنية ولوجيستية لحماية أنفسهم وعائلاتهم، من بينها نقل عائلاتهم خارج مناطق سيطرة الجماعة، وبعضهم بهويات مزورة.
وتفيد المصادر بأن الصراع بين الأجنحة اتخذ طابعاً جديداً فيما يشبه الحرب السيبرانية بينها، لينتقل معها إلى هيئة مكافحة الفساد والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة والمحاكم والنيابات، وجميعها أجهزة تسيطر عليها الجماعة الحوثية، وتتقاسم أجنحتها إدارتها وتديرها لصالحها.
وكشفت وسائل إعلام حوثية حديثاً، إقرار الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد (النسخة الحوثية) إحالة 26 متهماً في قضيتَي فساد، وصفتهما بـ«جسيمتين»، إلى القضاء، بعد إقرار نتائج إجراءات التحري والتحقيق التي نفذتها دائرة التحري والتحقيق في الهيئة وجهاز الأمن والمخابرات ومباحث الأموال العامة.
وتتهم الهيئة المتورطين في القضية الأولى بالإضرار بالاقتصاد الوطني والمؤسسات المالية، واختراق أنظمة عدد من المؤسسات المالية، والاحتيال الإلكتروني، والتزوير لوثائق إثبات الهوية، وغسل العائدات المتأتية بمبالغ تصل إلى 10 ملايين و330 ألف ريال يمني، و6 آلاف و700 دولار، و298 ألف ريال سعودي.
أما القضية الثانية، فتتضمن الإضرار بمصلحة الدولة، والاستيلاء على المال العام، وتخريب الاقتصاد الوطني في إحدى الوحدات الإنتاجية، وبحجم ضرر بلغ 3 ملايين و429 ألف دولار، بحسب مزاعم الهيئة التي أقرّت حجز وتتبع الأموال والأصول الخاصة بالمتهمين في القضيتين، وملاحقة المتهمين الفارين خارج سيطرة الجماعة الحوثية.
وأشارت الهيئة الحوثية إلى فرار عدد من المتهمين الضالعين في القضيتين إلى خارج مناطق سيطرة الجماعة، دون أن تورد أسماء أو صفات أي منهم.
المصادر تحدثت عن توسع المكايدات، وتسريب وثائق ملفات فساد من مختلف القطاعات، إلى جانب الاعتراض على وجود قيادات حوثية معينة في أكثر من منصب؛ مثل هاشم الشامي الذي يشغل منصبَين قياديَين في مؤسسة الكهرباء وهيئة الأراضي، وطه جران الذي يدير ما تُسمى بـ«الهيئة العامة لرعاية أسر الشهداء»، ومؤسسة «يتيم».
«حرب غزة» فرصة للإنقاذ
منذ أسابيع، نفّذ عناصر حوثيون أعمال دهم واختطافات واسعة طالت قيادات وناشطين، جرى التعتيم على غالبيتها؛ بسبب مخاوف عائلات المختطفين من التنكيل بهم، وعدم جدوى الوساطات للإفراج عنهم في حال إثارة قضايا اختطافهم عبر وسائل الإعلام.
إلا أن اختطاف القيادي والناشط الحوثي محمد الجرموزي من منزله أخذ مساحة من الاهتمام في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية، لأنه يحظى بشعبية وسط أنصار وأتباع الجماعة؛ بسبب كتاباته وأشعاره المؤيدة لها، والمبررة لممارساتها وحربها.
وكانت النيابة الجزائية التابعة للجماعة أصدرت أمر قبض قهري على الجرموزي بتهمة ازدراء القضاء، إلا أن تنفيذ الأمر تأخر أسابيع عدة.
واتهم الجرموزي قيادات في الجماعة الحوثية باختطافه؛ نتيجة موقفه الرافض لإرسال وفد إلى العاصمة السعودية، الرياض؛ للتفاوض من أجل إحلال السلام في اليمن، ووصف الأمر بـ«الخيانة، والتنكر لدماء المقاتلين»، مطالباً باستمرار الحرب.
ويرى مراقبون أن صراع الأجنحة المتصاعد يهدد إمكانية حدوث مفاوضات سلام حقيقية، وانخراط الجماعة الحوثية فيها بجدية، حيث يبدو جلياً، وفقاً لباحث سياسي مقيم في العاصمة صنعاء، أنه وبينما ترسل الجماعة وفوداً للتفاوض في أكثر من عاصمة عربية، فإن قيادات أخرى تعمل على التصعيد والتلويح بعودة المعارك.
وحذر الباحث، الذي طلب حجب بياناته، من أن التصعيد الحوثي في بعض الجبهات الداخلية يتزامن مع إعلانها المشاركة في حرب غزة، واتهامها دول الجوار بعدم تمكينها من إطلاق صواريخها ومسيّراتها، أو السماح لها بإرسال جنودها ومقاتليها إلى أرض مجاورة لغزة. وقال إن اتهام الجماعة المحيطَين الداخلي والعربي بالعمالة لإسرائيل يكشف عن نوايا سيئة للغاية.
وأكد الباحث أن حرب غزة منحت الجماعة فرصة لتجاوز كثير من التحديات التي تواجهها، والسعي لحل الخلافات الداخلية وإعادة توزيع حصص النفوذ والفساد، وتقوية جبهتها التفاوضية لإملاء شروط مجحفة، منبهاً إلى أنها تدرك أن القوى الدولية التي تضغط لتحقيق تسوية سياسية في اليمن تتفهم أسلوبها في الاستفادة من حرب غزة، ويمكن أن تساعدها على ذلك.
المصدر: مأرب برس
إقرأ أيضاً:
الكيان الصهيوني .. من التأسيس إلى بوادر الانهيار
منذ نشأته عام 1948، قام الكيان الصهيوني على مزيج من الأفكار الفلسفية والسياسية والعسكرية الناتجة من مسار طويل من الصهيونية والظروف الجيوسياسية، التي تلت الحرب العالمية الثانية. وُلدت الحركة الصهيونية ردَّ فعل على الاضطهاد الذي واجهه اليهود في أوروبا، وسعت لإقامة “وطن قومي” لهم.
تأسست فكرة هذا الوطن اليهودي على أساطير دينية تصف فلسطين بأنها “الوطن التاريخي” لليهود، على رغم الوجود الأصيل المتجذر للشعب الفلسطيني على هذه الأرض. وهكذا، بُنيت “الدولة” الصهيونية على أسس استعمارية غربية تحت غطاء “إعادة بعث الأمة اليهودية التوراتية في أرض الميعاد.”
كان الاستعمار الاستيطاني الإحلالي العنصري هو التجسيد العملي للمشروع الصهيوني الجائر. فبدأ التغلغل اليهودي في فلسطين أواخر القرن التاسع عشر، وتصاعد في القرن العشرين، حتى حدوث النكبة الفلسطينية وإعلان “دولة إسرائيل” عام 1948. واستُعملت أكذوبة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” لتبرير الاستيطان، متجاهلة قصداً الوجود الحضاري والتاريخي العميق والمتواصل للشعب الفلسطيني. وجرت عملية الاستيطان ومصادرة الأراضي، وارتُكبت المجازر والتهجير والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين، بحيث تم تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من حقولهم وقراهم ومدنهم في محاولة لمحو وجودهم وطمس هويتهم.
اعتمد الكيان الصهيوني منذ قيامه على مفهوم الأمن المطلق كأولوية، مدعوماً بفلسفة “الجدار الحديدي” التي طرحها الصهيوني زئيف جابوتنسكي. وتقوم هذه النظرية على فكرة أن “إسرائيل” لا يمكنها أن تعيش بسلام مع العرب إلا من خلال القوة العسكرية الهائلة التي تُرغم العرب على قبول وجودها. من هنا، أصبحت “إسرائيل” واحدة من أكثر الدول عسكرة في العالم، وركزت على بناء جيش قوي وتطوير تكنولوجيا عسكرية متقدمة، بما في ذلك السلاح النووي.
الدعم الغربي، وخصوصاً الأمريكي، كان الركيزة الأساسية لنجاح المشروع الصهيوني. لقد تجاوز الدعم الأمريكي لـ “إسرائيل” الأبعاد الاقتصادية والعسكرية ليصبح تحالفاً استراتيجياً عضوياً، بحيث شكلت “إسرائيل” قاعدة أمامية للإمبريالية الغربية في المشرق العربي، لتقوم بوظيفة حماية مصالحها في المنطقة، وتكون القلب والرأس للمنظومة السياسية التي شكلها الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، والمعروفة باسم منظومة “سايكس بيكو” المشؤومة.
لم يكن توسع الكيان الصهيوني عملية سياسية أو أمنية فحسب، بل هو أيضاً جزء أساسي من العقيدة الصهيونية الاستعمارية. بعد حرب عام 1967، احتلت “إسرائيل” الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان وسيناء. هذا الاحتلال فتح الباب أمام توسع استيطاني صهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بحيث تم بناء المستوطنات كأمر واقع على الأرض، وهو ما يُعرف بـ “سياسة الأمر الواقع”، التي تهدف إلى فرض حقائق جديدة يصعب التراجع عنها.
إلى جانب هذه العوامل السياسية والعسكرية، أدى الدين، وخصوصاً التلمود، دوراً متزايداً في رسم السياسات الصهيونية. على رغم أن الصهيونية تدعي أنها بدأت كحركة علمانية، فإن التلمود أدى دوراً كبيراً في صياغة توجهاتها وسياساتها، مساهماً في تعزيز تصور التفوق اليهودي وفكرة أنهم “شعب الله المختار”، وعادّاً ان فلسطين حقٌّ لليهود بناءً على التفسيرات التلمودية التي تدعو إلى السيطرة عليها.
يُعَدّ الاستيطان واجباً دينياً لا يقتصر على حدود 1948 أو 1967، بل يتعداها إلى “إسرائيل الكبرى” الممتدة من النيل إلى الفرات. تؤكد هذه القراءات الصهيونية الدينية تهميش الآخر العربي والتعامل العنصري التمييزي ضده. ورأينا هذا التعامل الصهيوني العنصري الدنيء في حرب الإبادة الجماعية التي يخوضها الكيان الصهيوني ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني. وهكذا، تحول التلمود من مجرد نص ديني قديم إلى قاعدة فكرية تعزز المشروع الصهيوني الحديث، وتبرر التوسع الاستيطاني والعنصرية والإبادة الجماعية، الأمر الذي يضيف أبعاداً دينية إلى الأيديولوجية الاستيطانية الصهيونية.
اعتمد الكيان الصهيوني على الإرهاب بشكل دائم وأساسي كوسيلة لتحقيق أهدافه. وقامت المنظمات الصهيونية الإرهابية، مثل “الهاغاناه” و”الأرغون”، بتنفيذ عمليات إرهابية ضد الفلسطينيين، بما في ذلك مجازر كمجزرة دير ياسين، وتهجير قسري وتطهير عرقي دموي للقرى الفلسطينية. يستمر الكيان الصهيوني في هذا النهج الإرهابي، بحيث يقوم جيشه الفاشي بشن عمليات عسكرية مفرطة في الإجرام والوحشية ضد المدنيين الأبرياء العزّل، من النساء والأطفال والشيوخ الفلسطينيين واللبنانيين، ويستخدم القصف العشوائي والتدمير والتجويع والحصار الغذائي اللاإنساني في حربه الإبادية على فلسطين ولبنان.
وطوّر الكيان أيضاً سياسة دبلوماسية فعالة تعتمد على بناء تحالفات دولية وإقليمية، مستغلًا الفراغ العربي والإسلامي الذليل والانقسامات العربية الداخلية، لبناء شبكة من التحالفات مع بعض الدول العربية المطبّعة، مثل اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر ووادي عربة مع الأردن، واتفاقيات التطبيع الإبراهيمي مع بعض دول الخليج. هذه التحالفات تسمح لـ “إسرائيل” بتعزيز نفوذها الإقليمي وتوسيع دائرة حلفائها، ونشر سرديتها الكاذبة التي تقدمها بشكل خادع للعالم كـ “الدولة الديمقراطية” الوحيدة في المنطقة، والتي تعاني تهديدات “الإرهاب العربي الهمجي.”
وعلى رغم أن المقاومة ضد هذا المشروع الاستعماري لم تتوقف منذ بداياته حتى اليوم، فإن تشكّل محور المقاومة في ثمانينيات القرن الماضي مثّل تحدياً استراتيجياً أمام “إسرائيل”. هذا المحور، الذي يشمل المقاومة الفلسطينية وحزب الله وسوريا واليمن والمقاومة العراقية وإيران، يشكل عائقاً فولاذياً أمام “مشروع إسرائيل الكبرى.” فالمقاومة اللبنانية والفلسطينية صمدت وثبتت، وحققت إنجازات وانتصارات أمام آلة عسكرية متفوقة عليها بشكل كبير، وكان العامل الحاسم في هذه المواجهة هو عزيمة المقاوم الفلسطيني واللبناني، وعقيدته وثباته في الميدان، واستعداده للاستشهاد في سبيل وطنه، وهو ما جعل الكيان الصهيوني في مأزق وجودي.
تمثل إيران، الداعم الرئيس لمحور المقاومة، تحدياً آخر لـ “إسرائيل”، وخصوصاً مع تطور قدراتها الصاروخية والطيران المسير وجغرافيتها الواسعة وبرنامجها النووي. يرى الكيان الصهيوني أن إيران نووية تشكل تهديداً وجودياً له، ويسعى باستمرار لمهاجمة إيران ومنعها من تحقيق هذا الهدف بكل الطرائق الخبيثة والقاسية، سواء عبر العقوبات الاقتصادية، أو العمليات الأمنية السرية كالاغتيالات، بدعم ومشاركة مباشرين من الولايات المتحدة. لكن إيران استطاعت أن تردع “إسرائيل” بجدارة، والدليل هو أن العدوان الأخير على إيران لم يكن، في أي مقياس، بمستوى التهديدات التي أعلنتها “إسرائيل.” واستنكار العدوان من جانب السعودية والدول المطبعة ليس عابراً، بل هو دليل على التوازنات الجديدة التي بدأت تترسخ في الإقليم.
التحدي الآخر، الذي يقف عقبة رئيسة أمام الكيان، هو التحدي الديموغرافي. فنسبة السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة تتزايد بسرعة، وهو ما يهدد بتغيير التوازن الديموغرافي داخل الكيان. وضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى “دولة إسرائيل” سيعني دمج الملايين من الفلسطينيين، الأمر الذي قد يغير طبيعة التركيبة السكانية ويجعل اليهود أقلية في “دولة” تمارس سياسة “الابارتهايد”. هذا السيناريو يُنظر إليه كخطر وجودي على “الدولة” اليهودية، ويؤثر في التأييد العالمي لها. وخطة الكيان الصهيوني للتعامل مع هذا الخطر الوجودي تعتمد على ممارسة سياسات الإبادة الجماعية والتهجير والتطهير العرقي، في محاولة لمحو الوجود الفلسطيني وطمس الهوية الفلسطينية بشكل نهائي ودائم.
وفي الوقت ذاته، يشهد العالم تحولات كبيرة في موازين القوى الدولية تؤثر بشكل مباشر في الكيان ومشروعه التوسعي. فالتراجع في الهيمنة الغربية، وخصوصاً الهيمنة الأمريكية، يتزامن مع صعود قوى عالمية جديدة، مثل الصين وروسيا ودول البريكس، الأمر الذي يعيد تشكيل العلاقات الدولية بشكل معادٍ للهيمنة الغربية، ويزيد في الضغط على الكيان الصهيوني المرتبط بالغرب، في ظل هذه التوازنات المتغيرة.
أما على الصعيد الاقتصادي، فيعتمد الكيان الصهيوني بشكل كبير على المساعدات الخارجية، وخصوصاً من الولايات المتحدة، وعلى تجارة التكنولوجيا المتقدمة. وأي تغييرات في الاقتصاد العالمي، مثل انخفاض الطلب على التكنولوجيا أو حدوث أزمات مالية، قد يؤدي إلى تأكّل الموارد التي يعتمد عليها الكيان في تمويل مشاريعه الاستيطانية والعسكرية. لذلك، يُعمل على مشاريع مثل “طريق الهند”، الذي يهدف إلى ربط الهند بالكيان لجعله محوراً اقتصادياً للمنطقة وتقليل الاعتماد على المساعدات الأمريكية، والتي قد تتضاءل مع تراجع النفوذ الأمريكي وارتفاع المطالب الداخلية الأمريكية الموجهة نحو تسخير الموارد للمعالجة الاقتصادية الداخلية الملحة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تكلفة المحافظة على الوضع الأمني في الأراضي المحتلة، وبناء المستوطنات، واستمرار العمليات العسكرية، تُثقل ميزانية الكيان بشكل كبير. وإنفاق الموارد المالية الضخمة على هذه المشاريع يعني تخصيص ميزانيات أقل لقطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية داخل “إسرائيل”، وهو ما يؤدي إلى تزايد الاستياء الداخلي. الأزمات الاقتصادية العالمية تزيد في هذا الضغط، الأمر الذي قد يؤدي إلى احتجاجات داخلية متزايدة.
وانسجاماً مع مسار التطور الطبيعي للمجتمعات الاستيطانية العنصرية، انزاح المجتمع الصهيوني نحو التيار اليميني المتطرف، بعد انهيار التيار الليبرالي الذي كان يرى أن السبيل الصحيح إلى ضمان بقاء “الدولة” اليهودية هو في التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين. هُزم التيار الليبرالي الصهيوني أمام التيار اليميني الفاشي، الذي يرفض أي نوع من التسوية ويؤمن بضرورة السيطرة المطلقة على “أرض إسرائيل الكبرى”، مؤكداً أن أي تنازل عن الأراضي خيانة للمشروع الصهيوني وللدين اليهودي. هذا التحول في المجتمع الصهيوني واصطفافه خلف الفكر التلمودي العنصري، إلى جانب تزايد نفوذ المستوطنين المتطرفين الفاشيين وتسليحهم، أمرٌ يؤكد بوضوح أن الصراع مع هذا الكيان هو صراع وجودي، وليس مجرد خلاف على الحدود.
ومن الاستراتيجيات الرئيسة التي تسعى “إسرائيل” لتعزيزها في الأعوام الأخيرة مسألة التطبيع مع الدول العربية والإسلامية. وتُعَدّ اتفاقيات التطبيع التي وُقعت مع بعض دول الخليج، مثل الإمارات والبحرين، جزءاً من محاولات الكيان الخروج من العزلة الإقليمية، وبناء تحالفات جديدة تعزز مكانتها في المنطقة. هذه الاتفاقيات تُعَدّ جزءاً من رؤية “إسرائيل” بشأن تقليص المقاومة العربية لمشروعها التوسعي.
وعلى رغم النجاح النسبي لهذه الاتفاقيات، فإنها لم تحظَ بدعم شعبي واسع في تلك الدول. فالشعوب العربية، التي ترى في القضية الفلسطينية قضية مركزية، تعارض بشدة أي تطبيع مع “إسرائيل” من دون التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية. هذا الوضع يجعل الحكومات العربية، التي وقعت على هذه الاتفاقيات، تحت ضغط داخلي كبير، ويحد قدرتها على تعزيز العلاقات بالكيان بصورة كاملة.
كما تشهد السياسة الأمريكية تجاه الكيان الصهيوني بعض التحولات، وخصوصاً مع صعود قوى تقدمية داخل الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة. هذه القوى تنتقد الدعم غير المشروط لـ “إسرائيل”، وتطالب بفرض شروط على المساعدات الأمريكية، وخصوصاً فيما يتعلق بالاستيطان وحقوق الإنسان.
بالإضافة إلى ذلك، تتزامن هذه التحولات السياسية مع تغييرات في الرأي العام الأمريكي والغربي تجاه القضية الفلسطينية، وخصوصاً بين الأجيال الشابة والأوساط الطلابية والأكاديمية، والتي أصبحت أكثر انتقاداً للسياسات الصهيونية، وتطالب بإنهاء الاحتلال ووقف الدعم العسكري والاستيطاني الأمريكي لـ “إسرائيل.” وهذا يشكل تحدّياً استراتيجياً آخر للكيان الصهيوني المتهالك.
هذه المتغيرات تضع ضغوطاً إضافية على الكيان، الذي يعتمد بشكل كبير على الدعم الأمريكي في المحافل الدولية. فحرب الإبادة الجماعية، التي يشنها الكيان الصهيوني الفاشي على الشعبين الفلسطيني واللبناني، كشفت زيف السردية الصهيونية التي ظل العالم مخدوعا بها مدة طويلة. هذه التحولات السياسية قد تؤدي إلى تخفيف الدعم العسكري والاقتصادي لـ”إسرائيل” في المستقبل، الأمر الذي يزيد في عزلتها العالمية، وفي قدرتها على الاستمرار في مشاريع التوسع، وفي قدرتها على البقاء.
في نهاية المطاف، وعلى رغم كل ما تمتلكه “إسرائيل” من قوة عسكرية ودعم غربي غير محدود، فإنها تتجه نحو مستقبل قاتم كارثي مع تقلص خياراتها بوتيرة متسارعة. فالكيان الصهيوني لا يدرك أنه يوجد في بيئة عربية معادية ترفض وجوده ككيان استعماري استيطاني عنصري. لقد استنزفت الأساطير والادعاءات الدينية والتاريخية، التي بُنيت عليها “إسرائيل”، مشروعيتها، ولم تعد تقنع أحداً.
وإن الدماء الغزيرة والألم العميق والدمار الهائل، الذي خلّفه هذا المشروع، بلغت مستويات تفوق القدرة الإنسانية على الاحتمال، الأمر الذي يجعل تفكيكه ضرورة مُلحّة قد تأخرت كثيراً.
إذا لم يستوعب المجمع الصهيوني هذه الحقيقة ويتخذ خطوات جادة لإيقاف آلة القتل والتدمير، ويبدأ عملية تفكيك طوعية منظمة بتنسيق مع القوى الغربية المسؤولة عن هذا الظلم التاريخي ومغادرة المنطقة، فسيأتي اليوم الذي سيُجبر فيه على ذلك بالقوة رغماً عنه، وهذا اليوم ليس ببعيد.
خبير في الشؤون السياسية.