لجريدة عمان:
2025-04-16@15:51:42 GMT

الأطباء.. جنود مجهولون في معركة غزة

تاريخ النشر: 11th, November 2023 GMT

الأطباء.. جنود مجهولون في معركة غزة

صورة عفويه لطبيب فلسطيني من شمال قطاع غزة الذي يتعرض لإبادة جماعية وهو يعالج قطة أُصيبت في القصف الهمجي على القطاع في اليوم الخامس والثلاثين للحرب وهى ضمن آلاف الصور والرسائل الإنسانية الكثيرة التي يصنعها يوميًا مع مرضاه على اختلاف أعمارهم وأجناسهم وأنسابهم منذ أن وطئت قدماه المستشفى لأول مرة.

يعمل الدكتور محمد ظاهر الذي تخرج من روسيا الاتحادية في المستشفى الأندونيسي الذي يقع بمدينة بيت لاهيا وهو المستشفى الأكبر بشمال غزة، بقي على رأس عمله طوال فترة الحرب ولم يغادره مطلقًا، يستقبل الشهداء والجرحى على مدار الساعة، يطبب ويداوي ويُجري العمليات الجراحية.

. وعلى الرغم من ذلك يشعر أن مكانه المفضل هو قسم الاستقبال والطوارئ، هذا القسم الذي لم يكن مجهزًا بالشكل الكافي الذي يناسب حجم التعداد السكاني الكبير لشمال غزة والذي يُقدر عدده بـ 450 ألف نسمة تقريبًا، يأخذ قسطا من الراحة لدقائق لتناول فنجان القهوة المحلاة ثم يستأنف نشاطه بهمة عالية، ينتقل ما بين سرير وآخر ويراقب دخول المزيد من الجرحى الذين يوضعون على أرضية صالة الاستقبال والبعض منهم يبقى على الأسرة الخاصة بسيارات الإسعاف بسبب الازدحام.

ومع غزارة القصف في المدينة، وزحمة الموت في كل مكان سُمع دوي انفجار ضخم جعل جدران المستشفى تتراقص وتهتز وكأن زلزالا قد هزّ المكان، توجهت سيارات الإسعاف والدفاع المدني نحو الحي المستهدف وسط مخيم جباليا للاجئين وهو أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية بقطاع غزة الذي أنشأته "الأونروا" عام النكبة 1948م بعد أن هُجروا قسرًا من مدنهم وقراهم وبلداتهم، يعيش فيه أكثر من 116 ألف لاجئ في بيوت متلاصقة تفصلها شوارع ضيقة للغاية، مساحته تبلغ 1.4 كيلومتر مربع فقط، يتلقى هذا المخيم خدماته من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، لقد سويت معظم البيوت ودفنت تحت الأرض.

كان جيش المستشفى الأزرق ومعهم الدكتور محمد على أهبة الاستعداد لاستقبال الأعداد الكبيرة من الجرحى والمصابين والشهداء يتنقل بينهم بسرعة فائقة، يلف سماعته حول رقبته، يحبس دموعه عنوة حتى يستطيع رؤية الإصابات، يكتم أنفاسه من هول ما يشاهد، أجساد محترقة بدرجات متفاوتة، أقدام مبثورة، شهداء عبارة عن أشلاء مقطعة، أمهات يبكين، صراخ يجتاح المكان من كل حدب وصوب، أصوات سيارات الإسعاف تؤكد أن هناك مجزرة، آباء يحملون أبناءهم بين أيديهم في حالة هلع وفزع يواسي ذوي الشهداء، يُطمئن أهالي المصابين، يبذل أقصى ما عنده لإنقاذ الكثير منهم فجأة رأى فتاة كالقمر يشع وجهها نورًا رغم غياب ملامحها بسبب رماد البيوت الذي علق به مسجاة على سرير الإسعاف الضيق، اتجه نحوها بسرعة البرق، أخبره أحد الممرضين أنها قد فارقت الحياة بسبب إصابة في الرأس، اقترب منها أكثر حتى أصبحت أمامه مباشرة، "يخيل إليّ أنني أعرفها"، تمتم قائلا، استدار حولها دون وعي ثم تحرك باتجاه معاكس وكأن الأرض في حالة دوران، وقف عند رأسها، وهنا كانت المفاجأة، لقد كانت قرة عينه.. ابنته "صبا" الجميلة التي لم يراها منذ اليوم الأول للحرب، كان صوتها يأتيه مفزوعًا خوفًا عليه بشكل يومي، يهدئ من روعها يطمئنها بأنه بخير، تتوسل إليه للعودة للبيت مع كل خبر يأتيها عن نية الاحتلال قصف المستشفيات، كان يصر على بقائه لتقديم المعونة للمرضى قائلًا إنها رسالته الوطنية، تكرر سؤالها إن كان بخير، هل تتناول طعامًا، خفف من السجائر والقهوة يا أبي، أرجوك خذ قسطًا من الراحة، أخواتى بخير لا تقلق، لا تعطيه مجالا للحديث، تسأل وتجيب، تعطى الأوامر والتوصيات، تدعو له بالسلامة، تغلق الهاتف ثم تعاود الاتصال مرات عديدة، تقلق وتضرب أخماسًا بأسداس إن لم يأتِ صوته مجيبًا على اتصالاتها، تعاتبه على عدم رده، يحب قلقها عليه رغم أن هذا الأمر يزعجه في بعض الأحيان، يقول لها: أنا بخير كفيّ عن قلقك، لكنها لا تأخذ بنصيحته.

"صبا" في العشرينيات من العمر.. صرخ "يا قرة عينى يا بابا"، دموعه تنهمر بصمت، يقولون إنما الصبر عند الضربة الأولى، احتضنها بين ذراعيه لبرهة، توقف الزمن فجأه فبدأ يعود بشريط الذكريات إلى النظرة الأولى لصبا المولودة حديثًا يحملها بين ذراعيه والدنيا لا تتسع لفرحته مرورًا بأول ضحكة لها، خوفه الشديد عليها عند المرة الأولى لإصابتها بالحمى وكيف كان يرتجف قلقًا وهو يتحسس جسدها الصغير رغم كونه طبيبا، أول سن لبني ظهر لها وكيف أخذته الفرحة والبهجة عندما قضمت إصبعه وهى تضحك، الحبو الأول لها في جنبات البيت، أول خطواتها وهي تستقبل عودته من العمل وتناديه "بابا بابا"، نومها المتكرر على ذراعه، مشاكستها، بكاءها، رقصها أمامه، غيرتها من وجود أمها بقربه.. ودار شريط الذكريات كأنه موجز سينمائي مر عليه بكل تفاصيله الكاملة.

مرت الذكريات ودموعه تتساقط على جسدها الطاهر، يسمع كلمات المواساة من زملائه لكنه لا يعي أيا منها في تلك اللحظة الملتبسة بين مختلف المشاعر. مسح على جبينها، خضّب يديه بدمائها الطاهرة، قبلها قبله طويلة، ثم حملها بين ذراعيه وتوجه إلى مكان تكفينها، جهزّها بنفسه للذهاب لدار البقاء، دفنها هي وصغارها وكأنه وضع روحه في حفرة وأطبق عليها، عاد إلى رأس عمله كأن شيئًا لم يكن، يكظم غيضه وحزنه في قلبه يتقبل التعازي وهو يواسي أهالي الشهداء وكأنه يواسي نفسه ويطبطب على قلبه.

نشر أحد الأصدقاء تعزية على جداره بصفحة الفيس بوك، أرسلت له رسالة تعزية كتبت فيها "كم الوجع أكبر من طاقتنا أكبر من تحملنا، بعرف ما في كلمة ح تواسيك باستشهاد صبا لكن هذه هي حياتنا ربط الله على قلبك يا دكتور وربنا يرحمها ويسكنها فسيح جناته أعظم الله أجركم وأحسن عزاءكم".

رد عليّ قائلًا "الله لا يدوقها لحدا يا دكتورة دفنت روحي بإيدي أنا".. فعلا لقد قالها الشاعر محمود درويش "على هذا الأرض ما يستحق الحياه".

يستحق الدكتور محمد وجميع الأطباء الحياة في ظل الخطر المتكرر لقصف المستشفيات، جيش أزرق كما يُطلق عليه أطباء، ممرضون، فنيو أشعة، فنيو مختبرات، فنيو عمليات، صيادلة، مسعفون، طواقم الدفاع المدني يعملون ليل نهار دون ترك أماكن عملهم البعض منهم لم يرَ أطفاله ولا عائلته منذ اليوم الأول للحرب على غزة. ومنهم من أُستشهد وهو على رأس عمله فقد بلغ عدد الشهداء من الطواقم الطبية 195 شهيدا، بالإضافة إلى 37 شهيدا من رجال الإسعاف والدفاع المدني حتى اللحظة سببت الحرب توقف 18 مستشفى عن العمل من أصل 35 مستشفى ممتدة من بيت حانون حتى رفح.

طبيب آخر كان يجلس في معبر رفح بزيه الطبي يحبس دموعه وهو يتحدث مع طفلته الصغيرة التي تقبله بين الفينة والأخرى، ودّع زوجته التي تحمل الجنسية الأجنبية وأبناءه أثناء سفرهم لم يُلقي بالًا لتوسلات أبنائه لمرافقته لهم، ذهبوا وبقي هو يكمل رسالته الوطنية والإنسانية داخل أحد مستشفيات جنوب قطاع غزة كان بإمكانه المغادرة لكن إحساسه بالمسؤولية كان أكبر من عاطفته الأبوية.

كلنا بكينا ونحن نشاهد الدكتور إياد شقورة عبر شاشات الأخبار وهو يستقبل إخوانه الشهداء واحدًا تلو الآخر وكان المصاب جللا عندما كانت أمه ضمن قائمة الحضور، ما لبث أن فاق من صدمته حتى جاءت أخته وأبناؤها وكان آخر من استقبلهم هم أبناؤه، وقف يبكيهم ويودعهم فردًا فردًا يحدثهم ويخاطبهم كأنهم أحياء.. كانت الكاميرا تنقل الحدث بشكل مباشر والخبر العاجل يقول طبيب في مستشفى ناصر بخان يونس ينعى أهله ويطالب العالم أجمع بتطبيق كافة المواثيق والأعراف الدولية والإنسانية لحماية المدنيين ولوقف المحرقة الجماعية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي تجاه أهالي قطاع غزة، دعا لهم واستودعهم، صلى عليهم صلاة الجنازة وحمل ابنه بين ذراعيه وقاد موكب الجنازة إلى مثواهم الأخير.

لم يكن حال الممرضة أم أحمد التي تعمل بالمستشفى الأندونيسي أفضل بكثير حيث كانت تسير داخل أحد ممرات المستشفى للذهاب إلى قسم الباطنية عندما دخل المسعفون وهم يحملون شابًا مصابًا، وبسرعة فائقة لمحته فإذا بصوتها يملأ المكان صراخًا وخوفًا وهلعًا.. لقد كان ابنها أحمد الذي أُستشهد للتو ونُقل إلى المستشفى.

لقد فاق عدد الشهداء والجرحى في قطاع غزة أكثر من 31 ألفا معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ و40% منهم سقطوا في المناطق التي نزح إليها المدنيون جنوب قطاع غزة مما يؤكد على كذب ادعاء الاحتلال الإسرائيلي عن وجود مكان آمن في قطاع غزة.

• د. حكمت المصري أكاديمية وصحفية فلسطينية من غزة

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: قطاع غزة

إقرأ أيضاً:

الجيش الإسرائيلي يقصف مستشفى «المعمداني» في غزة

غزة (الاتحاد)

أخبار ذات صلة الإمارات تبدأ حفر آبار مياه في غزة أوامر إخلاء إسرائيلية جديدة في خان يونس

شن الجيش الإسرائيلي، فجر أمس، غارات استهدفت مبنى في مستشفى «المعمداني» بالبلدة القديمة في مدينة غزة بشمال القطاع، وذلك بعد دقائق من إنذار الجيش لإخلاء المبنى من المرضى والجرحى ومرافقيهم. ودمر القصف الإسرائيلي مبنى الجراحات، ومحطة توليد الأكسجين لأقسام العناية المركزة في المستشفى.
وقال مسعفون: صاروخان إسرائيليان أصابا مبنى داخل المستشفى، مما أدى إلى تدمير قسم الطوارئ والاستقبال، وإلحاق أضرار بمبان أخرى. وذكرت وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا»، أن «جيش الاحتلال كان قد هدد بقصف المستشفى قبل استهدافه، وأمهل الموجودين فيه من مرضى وجرحى وطواقم طبية بإخلائه قسراً خلال 18 دقيقة، ما حال دون توفير أي رعاية طبية لمن تستدعي حالتهم ذلك، حيث أجبر عشرات الجرحى والمرضى على مغادرته، وافتراش الشوارع المحيطة به، في ظل أجواء البرد القارس».
وتسبب القصف الإسرائيلي في إخراج المستشفى من الخدمة بالوقت الحالي، ولم يعد قادراً على استقبال المصابين جراء الغارات الإسرائيلية المتواصلة على القطاع.
ويقدم المستشفى خدماته الصحية لأكثر من مليون مواطن في محافظتي غزة وشمالها، في ظل انهيار شبه كامل للمنظومة الصحية بفعل الهجوم الإسرائيلي المتواصل على القطاع منذ أكتوبر 2023، وتعمد استهداف المستشفيات، والمراكز الصحية، وفقاً لـ«وفا».
وفي أكتوبر 2023، أودى هجوم على مستشفى المعمداني بحياة مئات الفلسطينيين وإصابة مئات آخرين.
وأعلن المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، أمس، خروج 36 مستشفى في قطاع غزة من الخدمة بسبب القصف أو الحرق منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وذكر المكتب أن ذلك جاء بعد استهداف قوات الاحتلال مستشفى «المعمداني».
ووفقاً لتقرير السلطات الصحية، فإن المستشفيات المتبقية في قطاع غزة استقبلت 11 قتيلاً و111 إصابة خلال الـ24 ساعة الماضية.
وأضافت السلطات أنه لا يزال عدد من الضحايا تحت الركام وفي الطرقات، لا تستطيع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم.
ونددت قطر والأردن ومصر والسلطة الفلسطينية باستهداف المستشفى، وسط مطالبات للمجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته في حماية المدنيين العزل.
كما ندد وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي بالهجمات الإسرائيلية على مرافق طبية في قطاع غزة.
وقال لامي في بيان مقتضب: «أدت الهجمات الإسرائيلية على مرافق طبية إلى تدهور شامل في إمكانية الحصول على الرعاية الصحية في غزة».

مقالات مشابهة

  • البابا فرنسيس يشكر الأطباء الذين أنقذوا حياته
  • عيدان ألكسندر.. الجندي الأمريكي الذي احترق بين نيران القسام وقذائف جيشه
  • مسلحون مجهولون يقتحمون منزلاً في حي الضباط بالأنبار
  • حماس : سنرد قريبا على المقترح الذي تسلمناه من الوسطاء
  • كتائب القسام تشتبك مع قوات العدو الصهيوني المتوغلة في قطاع غزة
  • جنود إسرائيليون يعترفون: واجهنا مقاومين مُنظّمين ومُجهّزين في معركة بئيري
  • أطباء بلا حدود: إسرائيل تشن حربا وتطهيرا عرقيا ضد الحياة بغزة
  • الجيش الإسرائيلي يقصف مستشفى «المعمداني» في غزة
  • وزارة الخارجية: المملكة تدين بأشد العبارات الجريمة الشنيعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بقصفها المستشفى المعمداني في قطاع غزة
  • اعتقال الأطباء وأطقم التمريض.. مستشفيات غزة في مرمى نيران الاحتلال الإسرائيلي