«تعب الحكي من الحكي»، تعبت الحناجر من الصراخ والاستغاثة، تعبت الشوارع من أقدام المتظاهرين، وتعبت المدن من المسيرات، تعبت الشعوب من التنديد، وتعبت من المطالبة بوقف المجازر، تعبت القاعات من الحكي، وتعبت العيون من الدموع والشاشات من اللون الأحمر القاني، تعبت الأيدي من الأعلام، تعب البكي من البكي، كل شيء تعب من كل شيء.
لكن ثمة فرجة، من أراد أن يتفرج فثمة مسارح مفتوحة كثيرة ومتعددة، لكن المسرح المفتوح على مصراعيه الذي لا يغلق أبدًا، هو مسرح غزة وما يحدث فيها، ويظل يذكرنا بدورنا في الفرجة. العالم المحسوس كله يتحول إلى عالم فرجة، فلا غرابة في ذلك، الكل يتفرج على ما تفعله آلة القتل الجهنمية التي لا تفرق بين قتل الأطفال أو النساء أو الشيوخ، قتل مجاني لا حدود له، مجازر ومذابح في كل مكان من غزة، أشلاء أطفال متطايرة وجثث متفحمة ومدفونة تحت الركام، مسرح مفتوح، تدمير وإبادة جماعية وتطهير عرقي. الكل متفرج ومتواطئ ومتخاذل. القنابل الأمريكية البريطانية تنهال على غزة ومدنيّها، كل شيء مباشر لحظة بلحظة، تتسارع الصور ووسائط التواصل الاجتماعي لنقل صور الضحايا والقتل والتدمير، الصور تتدفق والعالم يتفرج. إنه ببساطة عالم الفرجة، جوهر اللاواقعية كما وصفه الفرنسي جي ديبور مؤلف كتاب مجتمع الفرجة الصادر في عام 1976.
الكل يتفرج على الكل، تشعبت عوالم الفرجة وتداخلت، تعدد المتفرجون، متفرجون قاسون فاعلون لا تدخل الرحمة قلوبهم متعجرفون مبتذلون، ومتفرجون آخرون ليس لهم من الأمر حيلة، لكن ما هو المؤلم حقًا عندما تتفرج الضحية على الضحية، المظلوم على المظلوم، يتفرج المقموع على المقموع، فمنطق القوي يقول لنا بكل بساطة موتوا فرجة واكتموا غيضكم. إنه عالم القوي، فالغلبة دائما للأقوى كما يوحي بذلك ابن خلدون. منطق عالم الفرجة اللاواقعي يفرض علينا أن نبقى متفرجين، رغم أننا نصرخ بأننا شبعنا من الفرجة وأصابتنا التخمة لدرجة تداخلت علينا الألوان وتخمرت المشاعر والحواس، تفرجنا بما فيه الكفاية وضحكنا كثيرًا ولا ندري هل نحن نتفرج أو نضحك؟ وكأنها حالة هيستيرية تنتابنا تمتزج فيها الفرجة والضحك، ضحكنا فيها حتى الموت أو اشتد ضحكنا وفرجتنا ليتحول كالبكاء كما وصفه المتنبي. لكن ماذا لنا أن نفعل، مكتوب علينا أن نظل متفرجين، أخذنا في غفلة ولم نكن نعلم أن للفرجة قواعد تنظمها، قواعد صارمة يفرضها المخرج على الجمهور، فليس لهذا المتفرج إلا النظر، له أن يتفرج فقط وله أيضًا إن أراد أن يكتم مشاعره ولا يظهرها للعيان حتى لا تفسد المسرحية أو الفرجة، لكن ليس له أن ينطلق بكلمة أو حتى يرمش بأهداب عينه ولا يحرك جفونها بشيء، ليس له إلا المشاهدة والتفرج فقط.
هكذا نحن بكل بساطة نتحول إلى متفرجين، نحضر التفرج وما تظهره لنا الصورة. فالمنطق الذي تفرضه أمريكا والغرب بشكل عام لا يسمح لنا إلا أن نكون ضمن جوقة المتفرجين، كائنات متفرجة مقموعة تتكالب على قمعنا قوى مختلفة تعمل على تغذية عالم الفرجة من خلال ترسيخ عقدة النقص والدونية لدى المتفرج المقهور ولا يستطيع التخلص من ذلك. فالقواعد صارمة والتعليمات نافذة ولا يسمح بمناقشتها. فمنطق القوة يقول لأمريكا والغرب أن يقفوا مع المعتدي بكل شيء يملكونه، فهم وحدهم من يزوده بالأسلحة الفتاكة، ولا يسمح للمتفرجين أن يقفوا مع الضحية ولا حتى يتعاطفوا معها، فهذا المنطق هو الوحيد المسؤول عن توزيع الأدوار وهو الذي يفرض الهيمنة، يصف الضحية بالإرهاب ويصف الإرهابي الحقيقي بالبريء والضحية، كل شيء في منطق القوي مختلف ومعاكس، المغتصبة أرضه لا يحق له مقاومة المحتل، فهذا المنطق هو الوحيد القادر على تصنيف من تحتل أرضه ومن لا تحتل. لا يبقي عالم الفرجة إلا قليلين هم فقط أولئك الذين يتمردون على عالم الفرجة ويجدفون عكس التيار وعكس الهوى والمزاج السائد يخرجون عن القطيع ويغردون خارج السرب.
كم هو مؤلم أن نعيش عالم الفرجة، عالم يجعلنا متفرجين غير مشاركين ولا فاعلين، ليس لنا وجود إلا فقط لأغراض الفرجة. عالم الإلهاء والاستهلاك، الأخطر ما في عالم الفرجة بأنه يتحول تدريجيا إلى أسلوب حياة ويدخل في اللاوعي وكأنه مكون لنا وملتصق بكينونتنا والأدهى من ذلك عندما يتحول ذلك إلى تبلد في المشاعر والأحاسيس، فلا يولد لدينا أي غيرة أو نخوة «لا سمح الله» فيصبح كل شيء عاديا ويوميا ومستساغا وغير مربك، ننهض من النوع فنهرع للفرجة، نفطر فرجة، نتغدى فرجة، عشاؤنا فرجة، وأحلامنا فرجة، وكأننا نتناول وجبة دسمة أو نحتسي كوبا من القوة في مقهى أثيري. الفرجة تصبغ حياتنا. عالم الفرجة إنه ببساطة عالم الاستلاب والاغتراب، فيحولنا ذلك إلى كائنات هلامية سهلة الانقياد مطيعين مسالمين ودودين.
فلا غرابة عندما نشاهد مثلا على شاشات التلفزة مسؤولين عربا يتلعثمون في الكلام ولا يستطيعون النطق بالحقيقة التي تخامر عقولهم وقلوبهم، فتجدهم يتخفون خلف كلمات دبلوماسية توحي ولا تقترب، تلامس المعنى من بعيد، فلا يستطيعون البوح بما يريدون. في المقابل نشاهد العكس تمامًا فالمسؤولون الغربيون والأجانب الذين يتقاطرون على منطقتنا نشاهدهم أقوياء يخرجون الكلمة دون مواربة ولا نقصان ولا يلجأون للغة الدبلوماسية إلا نادرا. ببساطة هي السلطة والقوة والقمع، فالمواطن العربي على الصعيد الفردي لا يستطيع المواجهة والتعبير عن رأيه بشكل واضح وجلي؛ لأن سلطة القمع المتمثلة في الحكومات التي تمارس ضده وتقمع أي رأي لا تترك له المجال فتولد لديه ما يشبه المناعة من البوح بالرأي وإذا دعت الأمور واحتاجت الضرورة لذلك فأن يصبح التعبير عن الرأي بكلمات غير مفهومة وغير واضحة وتحوم حول الفكرة. يتولد لدى المقهور وهم يعيش في شرنقته ولا يستطيع التخلص منه، فكما الإنسان العربي البسيط يظل متفرجا، ويعيش عالم الفرجة يخاف من السلطة إن عارضها ووقف في وجهها، يتولد لديه هاجس الأمن وقوته وقوت عياله ومن ثم يفقده ذلك الإحساس بالقوة والمواجهة، فيظل حبيس الفرجة، فهكذا على صعيد السلطة العربية فهي قامعة للإنسان العربي ولشعوبها، وفي الوقت نفسه هي مقموعة متفرجة من طرف سلطة قوية خارجية تتمثل في أمريكا والغرب بشكل عام.
إلى متى يستمر عالم الفرجة هكذا، ألا شيء يوقف فرجته المخزية؟ أتكون غزة وحدها من يوقف هذه الفرجة المخزية؟ نزار قباني وكأنه يستشرف المستقبل البعيد، يخاطب تلاميذ غزة فيقول:
يا تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكم
فنحن نسينا.. علمونا بأن نكون رجالًا
يا تلاميذ غزة لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا..
اضربوا اضربوا بكل قواكم
حررونا من عقدة الخوف فينا.. واغسلونا من قبحنا.
بدر الشيدي قاص وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
محمد عفيفي: طه حسين خير ممثل لفكرة الانتماء إلى عالم البحر المتوسط
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
نظم معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدولة العربية، في مقره بمنطقة جاردن سيتي بالقاهرة، ندوة فكرية تحت عنوان "حوار حول الفكرة المتوسطية في المشرق العربي"، تحدث فيها الدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، والدكتور محمد كمال مدير معهد البحوث والدراسات العربيّة، وأستاذ العلوم السياسيّة في جامعة القاهرة وأدارتها الدكتورة أماني فؤاد أستاذة النقد الأدبي في معهد البحوث والدراسات العربية وأكاديمية الفنون .
وخلال الندوة تحدث عفيفي عن مفهوم الفكرة المتوسطية التي تعني الانتماء إلى عالم البحر المتوسط، موضحًا أنها تقوم على رابطة فكرية في الأساس، بالإضافة إلى أبعاد سياسية واقتصادية، ومرتكزات من التاريخ المشترك بين شعوب هذه المنطقة.
واستعرض عفيفي جذور النزعة المتوسطية في المشرق العربي، موضحا ما كان يعنيه البحر المتوسط في أذهان المفكرين في القرن التاسع عشر، مركّزًا على فترة الثلاثينيات من القرن العشرين، التي شهدت ذروة صعود الفكرة المتوسطية كحركة فكرية في مصر ولبنان، وتداعياتها على الفكر السياسي في تلك الفترة.
كما أشار إلى دور القوى السياسية في مصر تجاه عودة الفكرة المتوسطية في التسعينيات، والتي تم تبنيها في سياق العلاقات بين الحكومات الفرنسية والمصرية لمواجهة "مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تم طرحه في العام 2004 ولاقى غضبا كبيرا من حكومات الدول العربية.
وأشار إلى أن هذا المفهوم شهد تحولًا كبيرًا حينما أصبح أيديولوجيا عقب الحرب العالمية الأولى، في فترة شهد فيها العالم دمارًا واسعًا واستنزافًا كبيرًا. ومن هنا، بدأت المتوسطية كحركة فكرية وأدبية، حيث انطلقت من فرنسا عبر مجلة "كراسات الجامعة" التي ركزت على الانتماء إلى عالم البحر المتوسط وتأثيره في الأدب والفكر حيث امتدت تأثيرات هذه الحركة إلى إسبانيا، ثم إلى تونس والجزائر، وعلى المستوى المصري كان طه حسين خير ممثل لهذه الفكرة في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر".
وأضاف الدكتور عفيفي أن النزعة المتوسطية في إيطاليا نمت مع صعود الفاشية الايطالية التي أتت بموسوليني الذي كان يطلق على البحر المتوسط لفظ "بحرنا"، مستعيدًا تعبيرًا لاتينيًا قديمًا في إطار محاولاته إحياء مجد الإمبراطورية الرومانية وكان يطمح لجعل البحر المتوسط بحيرة رومانية .
وقال إنه في المقابل، شهدت مصر وبلاد المشرق، مثل لبنان وسوريا، صعودًا للأيديولوجيات والقوميات، مع انتشار الفكر الشيوعي وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين. كما ظهرت في لبنان مجلة "فينيقية"، أغلب كتاباتها باللغة الفرنسية، وتناولت الانتماء إلى الماضي الفينيقي وعالم البحر المتوسط، مع رفضها لفكرة القومية العربية، حيث اتسمت نصوصها بجرأة واضحة.
ورغم أن النزعة المتوسطية نمت وتأججت على حساب القومية العربية لفترة، إلا أن الأخيرة استعادت مكانتها مع أحداث ثورة 1936 في فلسطين، التي شهدت تصاعدًا حادًا للصراع الأيديولوجي في المنطقة.
في السياق، أشار الدكتور محمد كمال إلى أن طه حسين عدَّل فكره تجاه المتوسطية بعد توليه عمادة معهد الدراسات والبحوث العربية عام 1961، وهي فترة تولى خلالها هذا المنصب لفترة قصيرة جدًا. وأوضح أن تراجع طه حسين عن تبني الفكرة المتوسطية جاء في سياق التحولات السياسية التي أعقبت نجاح ثورة 23 يوليو 1952.
فقد تبنى قادة الثورة فكر القومية العربية، ما أدى إلى تراجع الأفكار المتوسطية وغيرها من الأيديولوجيات الأخرى. وفي ظل هذا المناخ السياسي، اضطر طه حسين إلى تعديل موقفه من المتوسطية بشكل تكتيكي وسياسي يتناسب مع المرحلة.
وعلى الرغم من هذه التعديلات، ظل هذا الجيل من الرواد، مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، أوفياء لقوميتهم المصرية، محافظين على هويتهم الفكرية والثقافية حتى وفاتهم.
ومن جانبها، قالت الدكتورة أماني فؤاد بأنه قد تنامى ُبعدًا جديدًا إلى فهمنا بمساهمة الحضارة اليونانية الرومانية في تشكيل الحضارة الأوروبية. فبينما أشار مفكرون كطه حسين وسلامة موسى إلى أن هذه الحضارات القديمة كانت مصدرًا للإلهام للأدب والفلسفة الأوروبيين،و ترى الدكتورة فؤاد أن هذه الحضارات قدمت أيضًا أسسًا مهمة لحقوق الإنسان، وحرية التعبير، وتقدير التنوع الثقافي.
وطرحت الدكتورة فؤاد سؤالًا: كيف يمكن تحويل هذه الأفكار النخبوية إلى سلوكيات وثقافة عامة؟ إن الانتقال من الفكر إلى السلوك يتطلب جهدًا مشتركًا من المثقفين، وصناع القرار، ووسائل الإعلام. يجب أن يتم ترجمة هذه الأفكار إلى برامج تعليمية، ومبادرات مجتمعية، وقوانين تحمي الحريات الأساسية.
تتجاوز أهمية هذه الأفكار حدود الجغرافيا الزمنية والمكانية. فالتأكيد على حقوق الإنسان، وحرية التعبير، والتسامح، هي قيم عالمية تسعى البشرية جمعاء لتحقيقها. إن فهم جذور هذه القيم في الحضارات القديمة يمكن أن يعزز من تقديرنا لها، ويشجعنا على العمل من أجل نشرها في جميع أنحاء العالم. فالحوار بين الحضارات، وتبادل المعارف، هو السبيل الأمثل لبناء عالم أكثر عدالة وسلامًا.
حضر اللقاء عدد من المثقفين والكتاب من بينهم؛ الناقد محمد عبدالباسط عيد،والشاعر أحمد الجعفري، والناقد سيد ضيف الله، والدكتور محمد الطناحي أستاذ التاريخ في معهد البحوث والدراسات العربية، والكاتبة نهال القويسني.