لجريدة عمان:
2025-04-23@17:25:14 GMT

موتوا فرجة و«حكي»

تاريخ النشر: 11th, November 2023 GMT

«تعب الحكي من الحكي»، تعبت الحناجر من الصراخ والاستغاثة، تعبت الشوارع من أقدام المتظاهرين، وتعبت المدن من المسيرات، تعبت الشعوب من التنديد، وتعبت من المطالبة بوقف المجازر، تعبت القاعات من الحكي، وتعبت العيون من الدموع والشاشات من اللون الأحمر القاني، تعبت الأيدي من الأعلام، تعب البكي من البكي، كل شيء تعب من كل شيء.

«يا حبيبي شو نفع البكي.. شو إله معنى بعد الحكي». كما قالت فيروز.

لكن ثمة فرجة، من أراد أن يتفرج فثمة مسارح مفتوحة كثيرة ومتعددة، لكن المسرح المفتوح على مصراعيه الذي لا يغلق أبدًا، هو مسرح غزة وما يحدث فيها، ويظل يذكرنا بدورنا في الفرجة. العالم المحسوس كله يتحول إلى عالم فرجة، فلا غرابة في ذلك، الكل يتفرج على ما تفعله آلة القتل الجهنمية التي لا تفرق بين قتل الأطفال أو النساء أو الشيوخ، قتل مجاني لا حدود له، مجازر ومذابح في كل مكان من غزة، أشلاء أطفال متطايرة وجثث متفحمة ومدفونة تحت الركام، مسرح مفتوح، تدمير وإبادة جماعية وتطهير عرقي. الكل متفرج ومتواطئ ومتخاذل. القنابل الأمريكية البريطانية تنهال على غزة ومدنيّها، كل شيء مباشر لحظة بلحظة، تتسارع الصور ووسائط التواصل الاجتماعي لنقل صور الضحايا والقتل والتدمير، الصور تتدفق والعالم يتفرج. إنه ببساطة عالم الفرجة، جوهر اللاواقعية كما وصفه الفرنسي جي ديبور مؤلف كتاب مجتمع الفرجة الصادر في عام 1976.

الكل يتفرج على الكل، تشعبت عوالم الفرجة وتداخلت، تعدد المتفرجون، متفرجون قاسون فاعلون لا تدخل الرحمة قلوبهم متعجرفون مبتذلون، ومتفرجون آخرون ليس لهم من الأمر حيلة، لكن ما هو المؤلم حقًا عندما تتفرج الضحية على الضحية، المظلوم على المظلوم، يتفرج المقموع على المقموع، فمنطق القوي يقول لنا بكل بساطة موتوا فرجة واكتموا غيضكم. إنه عالم القوي، فالغلبة دائما للأقوى كما يوحي بذلك ابن خلدون. منطق عالم الفرجة اللاواقعي يفرض علينا أن نبقى متفرجين، رغم أننا نصرخ بأننا شبعنا من الفرجة وأصابتنا التخمة لدرجة تداخلت علينا الألوان وتخمرت المشاعر والحواس، تفرجنا بما فيه الكفاية وضحكنا كثيرًا ولا ندري هل نحن نتفرج أو نضحك؟ وكأنها حالة هيستيرية تنتابنا تمتزج فيها الفرجة والضحك، ضحكنا فيها حتى الموت أو اشتد ضحكنا وفرجتنا ليتحول كالبكاء كما وصفه المتنبي. لكن ماذا لنا أن نفعل، مكتوب علينا أن نظل متفرجين، أخذنا في غفلة ولم نكن نعلم أن للفرجة قواعد تنظمها، قواعد صارمة يفرضها المخرج على الجمهور، فليس لهذا المتفرج إلا النظر، له أن يتفرج فقط وله أيضًا إن أراد أن يكتم مشاعره ولا يظهرها للعيان حتى لا تفسد المسرحية أو الفرجة، لكن ليس له أن ينطلق بكلمة أو حتى يرمش بأهداب عينه ولا يحرك جفونها بشيء، ليس له إلا المشاهدة والتفرج فقط.

هكذا نحن بكل بساطة نتحول إلى متفرجين، نحضر التفرج وما تظهره لنا الصورة. فالمنطق الذي تفرضه أمريكا والغرب بشكل عام لا يسمح لنا إلا أن نكون ضمن جوقة المتفرجين، كائنات متفرجة مقموعة تتكالب على قمعنا قوى مختلفة تعمل على تغذية عالم الفرجة من خلال ترسيخ عقدة النقص والدونية لدى المتفرج المقهور ولا يستطيع التخلص من ذلك. فالقواعد صارمة والتعليمات نافذة ولا يسمح بمناقشتها. فمنطق القوة يقول لأمريكا والغرب أن يقفوا مع المعتدي بكل شيء يملكونه، فهم وحدهم من يزوده بالأسلحة الفتاكة، ولا يسمح للمتفرجين أن يقفوا مع الضحية ولا حتى يتعاطفوا معها، فهذا المنطق هو الوحيد المسؤول عن توزيع الأدوار وهو الذي يفرض الهيمنة، يصف الضحية بالإرهاب ويصف الإرهابي الحقيقي بالبريء والضحية، كل شيء في منطق القوي مختلف ومعاكس، المغتصبة أرضه لا يحق له مقاومة المحتل، فهذا المنطق هو الوحيد القادر على تصنيف من تحتل أرضه ومن لا تحتل. لا يبقي عالم الفرجة إلا قليلين هم فقط أولئك الذين يتمردون على عالم الفرجة ويجدفون عكس التيار وعكس الهوى والمزاج السائد يخرجون عن القطيع ويغردون خارج السرب.

كم هو مؤلم أن نعيش عالم الفرجة، عالم يجعلنا متفرجين غير مشاركين ولا فاعلين، ليس لنا وجود إلا فقط لأغراض الفرجة. عالم الإلهاء والاستهلاك، الأخطر ما في عالم الفرجة بأنه يتحول تدريجيا إلى أسلوب حياة ويدخل في اللاوعي وكأنه مكون لنا وملتصق بكينونتنا والأدهى من ذلك عندما يتحول ذلك إلى تبلد في المشاعر والأحاسيس، فلا يولد لدينا أي غيرة أو نخوة «لا سمح الله» فيصبح كل شيء عاديا ويوميا ومستساغا وغير مربك، ننهض من النوع فنهرع للفرجة، نفطر فرجة، نتغدى فرجة، عشاؤنا فرجة، وأحلامنا فرجة، وكأننا نتناول وجبة دسمة أو نحتسي كوبا من القوة في مقهى أثيري. الفرجة تصبغ حياتنا. عالم الفرجة إنه ببساطة عالم الاستلاب والاغتراب، فيحولنا ذلك إلى كائنات هلامية سهلة الانقياد مطيعين مسالمين ودودين.

فلا غرابة عندما نشاهد مثلا على شاشات التلفزة مسؤولين عربا يتلعثمون في الكلام ولا يستطيعون النطق بالحقيقة التي تخامر عقولهم وقلوبهم، فتجدهم يتخفون خلف كلمات دبلوماسية توحي ولا تقترب، تلامس المعنى من بعيد، فلا يستطيعون البوح بما يريدون. في المقابل نشاهد العكس تمامًا فالمسؤولون الغربيون والأجانب الذين يتقاطرون على منطقتنا نشاهدهم أقوياء يخرجون الكلمة دون مواربة ولا نقصان ولا يلجأون للغة الدبلوماسية إلا نادرا. ببساطة هي السلطة والقوة والقمع، فالمواطن العربي على الصعيد الفردي لا يستطيع المواجهة والتعبير عن رأيه بشكل واضح وجلي؛ لأن سلطة القمع المتمثلة في الحكومات التي تمارس ضده وتقمع أي رأي لا تترك له المجال فتولد لديه ما يشبه المناعة من البوح بالرأي وإذا دعت الأمور واحتاجت الضرورة لذلك فأن يصبح التعبير عن الرأي بكلمات غير مفهومة وغير واضحة وتحوم حول الفكرة. يتولد لدى المقهور وهم يعيش في شرنقته ولا يستطيع التخلص منه، فكما الإنسان العربي البسيط يظل متفرجا، ويعيش عالم الفرجة يخاف من السلطة إن عارضها ووقف في وجهها، يتولد لديه هاجس الأمن وقوته وقوت عياله ومن ثم يفقده ذلك الإحساس بالقوة والمواجهة، فيظل حبيس الفرجة، فهكذا على صعيد السلطة العربية فهي قامعة للإنسان العربي ولشعوبها، وفي الوقت نفسه هي مقموعة متفرجة من طرف سلطة قوية خارجية تتمثل في أمريكا والغرب بشكل عام.

إلى متى يستمر عالم الفرجة هكذا، ألا شيء يوقف فرجته المخزية؟ أتكون غزة وحدها من يوقف هذه الفرجة المخزية؟ نزار قباني وكأنه يستشرف المستقبل البعيد، يخاطب تلاميذ غزة فيقول:

يا تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكم

فنحن نسينا.. علمونا بأن نكون رجالًا

يا تلاميذ غزة لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا..

اضربوا اضربوا بكل قواكم

حررونا من عقدة الخوف فينا.. واغسلونا من قبحنا.

بدر الشيدي قاص وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کل شیء لیس له

إقرأ أيضاً:

البابا فرنسيس يُشيد بليونيل ميسي: "رجل نبيل ذو قلب كبير يُجسِّد نُدرة الإنسانية"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في حديثٍ لافت، كشف البابا فرنسيس الذي رحل عن عالمنا صباح أمس الاثنين عن عمر يناهز 88 عامًا، عن تفاصيل لقاءٍ جمعَه بنجم كرة القدم الأرجنتيني ليونيل ميسي على متن طائرة في العاصمة بوينس آيرس. ووصف البابا اللقاء بأنه "لحظة استثنائية" كشفت له الجانب الإنساني العميق للاعب الذي يُعتبر أسطورة في عالم الرياضة.  

ميسي رجل نبيل.. وقلبه أكبر من أي مجد رياضي

بتأثيرٍ عاطفي واضح، قال البابا فرنسيس: "ميسي رجل نبيل، وهو إنسان ذو قلب كبير جدًا. تحدثت إليه ورأيتُ في عينيه تواضعًا لا يعكسه ضوء الشهرة أو الإنجازات. إنه يمتلك نعمة الإنسانية التي تجعله مميزًا حتى خارج الملعب". وأضاف البابا أن هذه الصفات النادرة هي ما جعلت منه "قدوةً حقيقيةً للشباب في عالم يبحث عن قيمٍ أصيلة".  

من القلب إلى القلب.. حوار البابا مع ميسي يكشف عن عمق شخصية اللاعب

فخلال اللقاء الجوّي، تبادل البابا وميسي حديثًا شخصيًا تناول قِيمًا إنسانيةً وروحية. وأكد البابا أن ميسي "لم يتحدث عن أهدافه أو كؤوسه، بل عن أهمية العائلة، وعن الرغبة في استخدام شهرته لخدمة المجتمع". هذا الحوار، بحسب البابا، أكد أن "الإنجازات الحقيقية لا تُقاس بالبطولات، بل بمدى تأثير الإنسان في حياة الآخرين".  

رسالة البابا للعالم: "تعلّموا من ميسي التواضع والتعاطف"

حيث اختتم البابا فرنسيس حديثه برسالةٍ موجهة إلى الجمهور: "عندما نرى شخصًا مثل ميسي يجمع بين العظمة الرياضية والصفاء الإنساني، علينا أن نتوقف ونتساءل: ماذا نقدم نحن للعالم؟". ودعا البابا إلى الاقتداء بقيم التعاطف والتواضع التي يجسِّدها اللاعب، مؤكدًا أن "هذه هي الروح التي تُصلح العالم، وليس الألقاب أو الثروات".  

يذكر أن تصريحات البابا فرنسيس تفتح نافذةً جديدةً لفهم شخصية ليونيل ميسي بعيدًا عن الأضواء الرياضية، مؤكدةً أن العظمة الحقيقية تكمن في التواضع والإنسانية. 

هل شكل هذا اللقاء التاريخي بدايةً لحوار أعمق بين عالم الرياضة وقِيَم الروح؟ الوقت قد يجيب.

مقالات مشابهة

  • «التمويل واللاشيء».. معرض فردي للصيني «تشينغلو ليو»
  • «الذكاء الاصطناعي» يقتحم عالم الملاعب والتحكيم
  • عالم فيزياء يحذر من سياسات ترامب تجاه البحث العلمي: طر على العالم
  • الذكاء الاصطناعي يقتحم عالم التحكيم
  • البابا فرنسيس يُشيد بليونيل ميسي: "رجل نبيل ذو قلب كبير يُجسِّد نُدرة الإنسانية"
  • نشأت الديهي: لا وقت للراحة للمحارب في أيام الأعياد
  • عالم أزهري يعلق على قـ.تل طبيب لكلب عمدًا: لايجوز إيذاء أي كائن حي
  • "الكهف"
  • إرث فرنسيس ومعضلات البابوية في عالم متغير
  • «الريادي المنفرد».. بريق الحرية أم عبء الوحدة؟