العرب والغرب.. من ماضٍ سيئ إلى حاضر أسوأ
تاريخ النشر: 11th, November 2023 GMT
صالح الحارثي **
لم تدخر الإدارة الأمريكية جهدًا ومعها معظم الدول الأوروبية ولم تدع شاردة ولا واردة إلّا وافتعلتها من أجل الإساءة إلى العرب ودينهم وثقافاتهم، ولأجلِ ذلك سخّرت وبدعم وتخطيط من اللوبي الصهيوني المتنفذ في البيت الأبيض المبالغ الباهظة للسيطرة على الإعلام الأمريكي وتوجيهه بما يخدم مصالحها الاستراتيجية ومصالح ربيبتها إسرائيل داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.
وليس بغريب أن نرى كل هذا الانقياد الأعمى من جانب واحد للرواية الغربية حول ما يدور من أحداث في الشرق الأوسط، إلّا بسبب التأثير الهائل لتلك الآلة الإعلامية الغربية الجبارة المسيطرة على عقول شريحة واسعة من الشباب حول العالم.
وما فيلم "سقوط لندن London Has Fallen" وروايته الدنيئة المثيرة للكراهية عن إرهاب المسلمين، وأفلام أخرى مشابهة والصحافة المضللة، إلا غاية في المكر والخداع وأحد الشواهد الحية على ذلك السقوط الأخلاقي لصنّاع السياسات الغربية ومهندسيها.
وكدتُ بنفسي أن أصدق وأنا أشاهد بعض من تلك الأفلام المحبوكة بالمقاطع المثيرة للعاطفة ذلك الكم الهائل من الافتراء الممنهج على الإسلام والصورة النمطية عن المسلمين التي ترسخت في ذهن المشاهد الأجنبي الذي انطلت عليه قصة تفجير مبنى التجارة العالمية في نيويورك والتي من خلالها تمكّنت الولايات المتحدة الأمريكية من الولوج إلى الشرق الأوسط من أوسع أبوابه بحجة مكافحة الإرهاب العالمي، في تهديد واضح وصريح على لسان رئيسها جورج بوش الابن الذي من داخل بيته الأسود قال عبارته المشؤومة "من لم يكن معنا فهو ضدنا"، وذلك على مبدأ فرعون اللعين الذي قال لقومه "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" جعل العالم كله ينقاد إليه بعدها طوعًا أوكرهًا.
ولأنَّ المطامع الغربية في المنطقة العربية كبيرة وواسعة ولا تتوقف عند حد فلم تتوان الولايات المتحدة الأمريكية عن تنفيذ مخططها المشؤوم باحتلال العراق بحجة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل فدمرت جيشه وقتّلت أبناءه ونكَّلت بأهله ونهبت خيراته ودمرت بنيته التحتية واتلفت مزارعه؛ بل وأطلقت يد إسرائيل في المنطقة دون حسيب أو رقيب فنكّلت هي الأخرى بالفلسطينيين شر تنكيل وتوسعت في أراضيهم ولم تكتف بذلك بل وتسللت هذه الحية الرقطاء إلى الوطن العربي الكبير فبثت سمومها فيه من خلال مسرحية التطبيع فتغلغل سمها القاتل داخل الجسد العربي وأحدثت فيه الوهن والتفكك والضياع.
ولأنها حية خبيثة لا تصبر عن طبعها القاتل، لم ترض بالسلام الذي دعت إليه الدول العربية فنفخت في مزمارها إعلان الحرب على غزة وأمعنت فيهم تقتيلًا وتشريدًا وإبادة بدعم غربي غير مسبوق بالمال والحال والسلاح فكانت بصدق الحية التي وُلدت من رحم الأفعى الغربية.
في حقيقة الأمر، لا أدري ما الذي يجبر الدول الغربية على استعداء الشعوب العربية والتضحية بكل هذا الإرث من العلاقات الطويلة معهم وبهذا الحجم الضخم من الاستثمارات والتبادلات التجارية مقابل الانقياد الأعمى لإسرائيل وضمان أمنها الواهي.
الآن وقد سقطت ورقة التوت الأخيرة، بات على هذه الدول أن تزن مصالحها بميزان الربح والخسارة؛ فالخيارات العربية كثيرة، وعلى الدول الغربية أن تترك جانبًا سياسة الكيل بمكيالين هذا من شيعتي وهذا من عدوي، وأن تخلع عنها قميص يوسف الملطخ بدمٍ كذبٍ، وأن لا تحمّلنا عقدة الذنب التي تطوّق رقبتها، فهذا أمرٌ يخصها وحدها ولا يعنينا في شيء، وأن تنسى كذلك الشعارات الزائفة الرنانة حول الحريات العامة وحقوق الإنسان التي هي نفسها لم تحترمها على الإطلاق.
العالم من حولها لم يعد كما كان ولم تعد كذلك تنطلي عليه مثل هذه الأقاويل والأكاذيب المَمجُوجة التي صمّت بها أوروبا آذان العالم وأسماعه على مدى عقود طويلة.
وعليها أن تعلم كذلك- ونحن صادقون فيما نقول- أننا شعوب مُحبة للسلام ونسعى إليه ونمد أيدينا بكل حب إلى كل محب للسلام؛ فالعالم لا يحتمل كل هذا الدم والألم وبالأخص إسرائيل الصغيرة التي لم تجن شيئًا من عنادها وإرهابها سوى جلب الخراب والدمار لها ولغيرها.
إنَّ إسرائيل مسالمة متعاونة مع محيطها وجيرانها تعترف للفلسطينيين بدولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وتعيد الأراضي العربية المحتلة إلى أصحابها، خير من إسرائيل معادية لجيرانها حاضنة للإرهاب ومجرمي الحرب والدمار.
إن 450 مليون عربي مسنودين بالحال والمال بمليارين من المسلمين حول العالم قادرون على أن يجعلوا منها جنة الله في أرضه، أو يحولوا حياتها إلى قلق دائم وعذاب مستمر، ولها أن تختار أي الطريقين تسلك، أمْ حسِبتْ أنْ تُترك سُدى تعيث في الأرض الفساد دون ثمن باهظ تدفعه.
الشعوب العربية هي صاحبة القرار الحقيقي والفعلي النافذ بالتعامل مع إسرائيل من عدمه وهي لا تقبل على الإطلاق إلّا بفلسطين حرة أبيّة مستقلة، وما عدا ذلك فهو محض هراء وافتراء.
** سفير سابق
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
انتهى السلام الأمريكي وما يليه سيكون أسوأ
على مدى نحو ثمانية عقود، استفادت الإنسانية من النظام الدولي الذي بنته القوة الأمريكية وحافظت عليه.
تايوان معرضة لخطر أكبر من الصين
كتب نيكولاس كريل في موقع "ذا هيل، أن "السلام الأمريكي" الذي تميّز بعلاقات دولية مستقرة، وبتوسع التجارة العالمية، وبازدهار غير مسبوق، وبغياب النزاع بين القوى العظمى، انتهى فجأة، وما سيليه سيصدم كل الذين تعودوا على مكاسبه.
لم يكن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية مثالياً، لكنه حقق نتائج ملحوظة. أنتجت القيادة الأمريكية أطول فترة دون حرب كبرى بين القوى العظمى في التاريخ الحديث. وتراجع الفقر العالمي بشكل كبير، حيث انخفض عدد الذين يعيشون في فقر مدقع من أكثر من نصف سكان العالم في الخمسينيات، إلى أقل من 10%.
"The tragedy is that many Americans, frustrated by the costs of global leadership, fail to recognize the many indirect benefits they’ve received from it."https://t.co/HhKsAm4MZ6
— Sebastian Huluban (@HulubanS) March 1, 2025وتوسع الحكم الديمقراطي إلى مستويات غير مسبوقة. وأنشأت المؤسسات الدولية، من الأمم المتحدة إلى منظمة التجارة العالمية، منتديات لحل النزاعات سلمياً. وحدث كل هذا تحت مظلة التفوق العسكري الأمريكي والالتزام بالنظام الدولي القائم على القواعد. إن تلك الحقبة انتهت، ليس بحدث حاسم، لكن بالتخلي الأمريكي عنها عمداً.
ولفت الكاتب إلى أن المطالب الأخيرة للرئيس دونالد ترامب، من محاولة شراء غرينلاند من الدانمارك رغم إرادتها، والتهديد بفرض تعريفات عقابية ضد الحلفاء والجيران، إلى إجبار أوكرانيا على تسليم الثروة المعدنية مقابل استمرار الدعم الأمريكي، تشير إلى تحول جوهري. وتتخلى أمريكا عن دورها مسؤولة عن النظام لمصلحة التحول إلى مجرد قوة عظمى أخرى لا تهتم إلا بمصالحها. وستكون العواقب واسعة النطاق وشديدة.
Pax Americana: deposing leaders, seizing turf, redrawing borders—all while two powers carved up the world /2https://t.co/nXRun8i5wh
— Brandon Zicha (@ProfBZZZ) March 1, 2025يرى الكاتب أن الضمانات الأمنية التي منعت نشوب الصراعات المسلحة، ستضعف.وطيلة عقود ردع المعتدون المحتملون عند معرفة أن مهاجمة حلفاء أمريكا من شأنه أن يؤدي إلى تدخلها. ومع تآكل هذه المصادقية، فإن القوى الانتهازية ستختبر الحدود. فتايوان معرضة لخطر أكبر من الصين، ودول البلطيق والدول الأخرى المتاخمة لروسيا أكثر عرضة للخطر.
وستتحول الدول الأصغر، على نحو متزايد، بيادق في منافسات القوى العظمى. فخلال "السلام الأمريكي"، كان بوسع الدول الصغيرة أن تمضي في علاقاتها الدولية باستقلالية معقولة، محمية بالمعايير الدولية المدعومة من الولايات المتحدة. وفي النظام الناشئ متعدد الأقطاب، ستواجه هذه البلدان الإكراه من القوى الإقليمية التي تسعى إلى إنشاء مناطق نفوذ.
ونحن نشهد فعلاً هذه الديناميكية مع الغزو الروسي لأوكرانيا، والمواقف العدوانية المتزايدة من الصين في بحر الصين الجنوبي. ومثلها كمثل أسماك القرش التي تشم رائحة الدم في الماء، تستعد القوى المعادية للعودة إلى عالم حيث، كما كتب ثوسيديديس الشهير "الأقوياء يفعلون ما في وسعهم، والضعفاء يعانون ما وجب عليهم". ستصبح الحروب الكبرى بين الدول أكثر شيوعاً مما كانت عليه خلال العقود الماضية.
وغير بعيد، سيصبح اختلال توازن القوى بين الدول النووية وغير النووية أكثر وضوحاً وخطورة. خلال فترة "السلام الأمريكي"، حمت المظلة النووية الأمريكية الحلفاء، ما أدى إلى تقليل حوافز الانتشار النووي. وبما أن هذه الحماية باتت غير جديرة بالثقة، فستواجه البلدان خياراً صارخاً، إما تطوير أسلحة نووية، أو قبول الضعف. ومن المرجح أن تكون النتيجة انتشاراً للنووي، ما يزيد خطر سوء التقدير والحوادث واندلاع سباقات التسلح الإقليمية.
وسيعاني الازدهار الاقتصادي مع تفكك الاقتصاد العالمي المتكامل. لقد خلق النظام الذي تقوده الولايات المتحدة الظروف المثالية للعولمة، بممرات شحن آمنة، وقواعد يمكن التنبؤ بها، وتجارة حرة نسبياً. ودون قوة عظمى تعمل على فرض هذه المعايير، سترتفع النزعة الحمائية، وستتمركز سلاسل التوريد، وتتراجع الكفاءة الاقتصادية.
إن الدول الأكثر فقراً، التي استفادت بشكل كبير من الاندماج في الأسواق العالمية، ستعاني أكثر من غيرها مع تراجع الاستثمار إلى ملاذات أكثر أماناً. وستشهد الدول الأكثر ثراءً انخفاضاً في مستوى معيشتها بسبب منع الوصول إلى الأسواق التي توفر عمالة أرخص.
والمأساة هي أن الكثير من الأمريكيين، الذين يشعرون بالإحباط من تكاليف القيادة العالمية، يفشلون في إدراك الفوائد غير المباشرة العديدة التي حصلوا عليها منها. صحيح أن الحفاظ على الهيمنة الأمريكية لم يكن حراً، ولكن بتحمل تلك التكاليف، تمكنا من الحفاظ على عالم يفضي بشكل ملحوظ إلى صون مصالح الولايات المتحدة. إن عصر الأسواق المستقرة للصادرات، والقدرة على الوصول إلى الموارد بشكل موثوق، والقليل من التهديدات الأمنية المباشرة، يقترب من نهايته، مع ابتعادنا عن دور القوة المهيمنة الخيّرة نسبياً.
ومن شأن الفوضى المقبلة أن تلحق الضرر بالأمريكيين أكثر مما يدركون، وذلك بالتهديدات العسكرية المتزايدة والاضطرابات الاقتصادية. إن الذين يحتفلون بتراجع أمريكا عن القيادة العالمية، سيدركون قريباً أن أمنيتهم قد تحققت على مخلب قرد. إن العالم الذي سيتبع "السلام الأمريكي" سيكون أكثر فقراً، وأكثر خطورة، وأقل حرية، وهو درس قاس عن مدى تحسن النظام المنقوص، الذي تقوده الولايات المتحدة مقارنة مع البدائل التي يقدمها التاريخ.