«صامِدون وصامِدون وصامِدون» هكذا يندلع النشيد عبر ممر الصوت المزدحم بالصلوات بين الأرض والسماء، فيرجع الصدى من السماء إلى بئر القلب الجاف: «صامدون وصامِدون وصامِدون» حتى تتكسر النصال على النصال، ويتهتك غموض الفجر عن جسد آخر الأحياء تحت ركام المدينة. هناك، في ذلك الانتظار الطويل على حدود موته الزاحف كالتَّصحر، يرفض الفلسطيني الأخير صورته الوحيدة المقبولة دوليًا كضحية مستسلمة مقلمة الأظافر، لا تحيا إلا باستدرار شفقة الذئب وتعاطف المتفرجين.
هي عودةُ الفلسطيني الأخير إلى مرجعية الذات، إلى مواهبها وأسرارها في ترويض الممكن للصعود إلى المستحيل، والتي لم يُكشف عنها كلها بعد. ويأتي النشيد: «يا أيها الولد المكرس للندى- قاوم، قاوم»! وحده سيقاوم الغرق في الماء وفي اليابسة، وحده سيشاهد عن كثبٍ كيف يتشبث البحرُ بالبر، وسينجو قليلاً، في قيلولة من الدهر، بين الحرب والحرب، ليحب الحياة كيفما سالت شهوتها في الماء المغسول بالدم. وكلما اشتدَّ حصاره اشتدَّ ساعده - فعليه دائما أن يكون، أن يستشهد ليكون، لنكرس له هذا المديح. فتلك بطولته وهذا «حبنا القاسي».
هو الفلسطيني الموهوب إذن، وريث القتلى أبناء القتلى، أبناء بناتهم القتلى، من احترف مقاومة ألم الحياة طوال خمسة وسبعين عامًا منذ النكبة، لا لشيء سوى ليكون جديرًا بالحياة في أبسط صورها كيفما اتفقت، كئيبةً ومملةً، ولكن خارج شروط الاحتلال. صارت المقاومة الآن أنامله، صارت أطرافه وجسدَه. إذ لم تكن ثقافة المقاومة السلمية في فلسطين مجرد حيلة من حيل الأمل الجارح والجريح في آن معًا، فحسب، بل ظلَّت على مدار سنوات الاحتلال تقدم لفلاسفة الحرية والمؤرخين واحدة من أهم ظواهر المقاومة المدنية في تاريخ الاستعمار، حيث تحولت تلك الرقعة الجغرافية، الممزقة بأنياب الجرافات والمطوقة بحواجز التفتيش العسكرية، إلى ساحة اعتصام مفتوحة طوال أيام السنة للنشطاء الحقوقيين والمتضامنين مع القضية الفلسطينية من كل أنحاء العالم. بينما كانت مَسيرات العودة السنوية إلى القرى الفلسطينية المهجرة، والتي انطلقت لأول مرة عام 1998، تعبيرًا جديدًا من نوعه في تاريخ النضال الشعبي السلمي، يذكر اللاجئين وأبناء اللاجئين بأن حلم العودة ليس سوى مسافة طريق. أما جنازة الشهيد الفلسطيني، سواءً كانت في الضفة أو في القطاع أو حتى في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فهي بحد ذاتها ظاهرة اجتماعية وسياسية خاصة، يمتزج فيها البعد التراجيدي بالملحمي في مشهد يستدعي التأمل والهتاف والبكاء في ذات اللحظة، حيث تتحول الجنازة إلى مظاهرة حاشدة تعلو فيها «لاءات» الفلسطينيين التاريخية التي تقلق الهاجس الأمني الإسرائيلي وتحفر بدأب بطيء جدار الفصل العنصري.
في الوقت نفسه، لم تكن المقاومة الفلسطينية المسلحة بمختلف مراحلها وانعطافاتها وانكساراتها، مجرد مشروع استثمار سياسي يمكن محاسبته في يوم من الأيام بثنائية النجاح أو الفشل، بل هي شكل من أشكال التعبير البديل للرد على طغيان القوة التدميرية للعدو، الذي لا يملك أدنى خبرة حضارية لاستيعاب الخطاب الإنساني الشفاف الذي أبدعه الشعب الفلسطيني كمكابرة أخلاقية حاسمة بين السيف والعنق، والتي قد تكون الأخيرة في عصرنا، عصر السباق النووي الذي لا تُستدعى فيه الأخلاق إلا لتنميق الخطاب السياسي.
إن مقاومة الإنسان الفلسطيني، بجميع ألوانها، العقلانية أو الطائشة، المدنية أو المسلحة، لهي أبعد من أن تكون نظرية نضال ظرفية. فلقد تعمقت في السلوك غير الواعي كفلسفة حياة يطورها الفلسطيني اليومي، الفلسطيني العادي، السائر مثلنا على الرصيف بقميص خالٍ من بقع الدم، الباحث مثلنا عن وظيفة ومعاش، والحالم مثلنا بقصيدة حب صافية، وبشعرٍ خالٍ من فرقعة السلاح وطبول الحماسة.
فأن تكون فلسطينيًا فهذا يعني بالضرورة أن المقاومة مهنة عيش في المقام الأول، قبل أن تكون وسيلة تحرر وطني.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
المركزي الفلسطيني يجتمع برام الله.. وعباس يشتم المقاومة ويطلب تسليم الأسرى الإسرائيليين
بدأ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس اجتماع المجلس المركزي، اليوم الأربعاء، بمهاجمة حركة المقاومة الإسلامية حماس ومطالبتها بتسليم أسرى الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.
ويعقد المجلس المركزي الفلسطيني، دورته الـ 32 في مدينة رام الله، وسط الضفة الغربية، في ظل مقاطعة كل من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة المبادرة الوطنية، يومي 23 و24 نيسان/ أبريل، لبحث قضايا "مصيرية"، منها مسألة اختيار نائب لرئيس منظمة التحرير.
وشتم عباس حركة حماس خلال كلمة افتتاحية أمام أعضاء المجلس المركزي قائلا: "يا أولاد الكلب سلموا الرهائن وخلونا نخلص"، مشددا على ضرورة وقف حرب الإبادة في قطاع غزة.
محمود عباس على الهواء في مؤتمر المجلس المركزي الفلسطيني :
ياولاد الكلب سلموا الرهائن
وخلونا نخلص . pic.twitter.com/I8aBmUZmLJ
ونقلت وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" عن عباس بقوله: "نواجه مخاطر جمة، هي أقرب ما تكون إلى نكبة جديدة تهدد وجودنا، وتنذر بتصفية قضيتنا الوطنية كلها، تنفيذا لمخططات من صنعوا نكبة شعبنا الأولى، وصولا إلى نكبة عام 1967، وبعد ذلك نكبة الانقلاب عام 2007، الذي استخدمه عدونا لتمزيق نسيجنا الوطني، ولمنع قيام دولتنا المستقلة".
وذكر أنه "يجب وقف حرب الإبادة الإسرائيلية التي يتعرض لها قطاع غزة، وانسحاب قوات الاحتلال بشكل تام من أراضي القطاع، وكذلك وقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على مدننا وقرانا ومخيماتنا في الضفة الغربية، ومنع الانتهاكات التي تتعرض لها المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، والخليل، وجميع المناطق الفلسطينية".
ويناقش اجتماع المجلس المركزي عدة ملفات أبرزها: وقف حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، ورفض خطط التهجير في القطاع والضفة الغربية المحتلة والتي تروج لها الولايات المتحدة وإسرائيل، فضلا عن رفض الاستيطان، وتشريع انتخاب نائب لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بحسب وكالة "وفا".
ويأتي الاجتماع فيما يرتكب الاحتلال بدعم أمريكي مطلق منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بغزة، خلّفت أكثر من 168 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود.
والثلاثاء، بررت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قرار عدم المشاركة في اجتماعات المجلس المركزي، باعتباره "خطوةً مجتزأة، لا يمكن أن يكون بديلا عن الخطوات التي حدّدتها جولات الحوار ومخرجاتها المُكررة، والتي جرى تعطيل تنفيذها أكثر من مرة".
لكنها أكدت على "التزام الجبهة بمواصلة الحوار مع حركة فتح وكافة القوى الوطنية والإسلامية من أجل بناء وحدة وطنية قائمة على برنامج واستراتيجية وطنية".
وتعد الجبهة الشعبية ثاني أكبر فصيل بعد حركة فتح، في منظمة التحرير الفلسطينية المعترف بها في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، والتي تأسست عام 1964 لتمثيل الفلسطينيين في المحافل الدولية.
فيما أرجعت حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية مقاطعتها لاجتماعات المجلس المركزي الفلسطيني إلى كونها "متأخرة"، قائلة إن هذا الاجتماع "كان يجب أن يعقد منذ شهور لبلورة استراتيجية وطنية كفاحية موحّدة للتصدي لحرب الإبادة والتجويع والتهجير في غزة والضفة الغربية".