لجريدة عمان:
2025-01-13@05:25:19 GMT

المقاومة.. فلسفة حياة

تاريخ النشر: 11th, November 2023 GMT

«صامِدون وصامِدون وصامِدون» هكذا يندلع النشيد عبر ممر الصوت المزدحم بالصلوات بين الأرض والسماء، فيرجع الصدى من السماء إلى بئر القلب الجاف: «صامدون وصامِدون وصامِدون» حتى تتكسر النصال على النصال، ويتهتك غموض الفجر عن جسد آخر الأحياء تحت ركام المدينة. هناك، في ذلك الانتظار الطويل على حدود موته الزاحف كالتَّصحر، يرفض الفلسطيني الأخير صورته الوحيدة المقبولة دوليًا كضحية مستسلمة مقلمة الأظافر، لا تحيا إلا باستدرار شفقة الذئب وتعاطف المتفرجين.

سيدقُّ «جدران الخزان» بدوي أقوى هذه المرة ليقول إن الضحية تقاوم؛ لتقاوم صورتها كضحية. فها هم أبناء مخيم جنين، من ولدوا تحت الأسوار بالأمس، صاروا يموتون فوق الأسوار اليوم برصاص القناصة: «تحت الأسوار ولدنا/ فوق الأسوار نموت».. يكتب سعدي يوسف. أما في غزة المحاصرة، فقد اقتحم الفلسطينيون الأسوار، بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك حينما وثقت الكاميرات صورتهم التذكارية، وهم يهدمون الأسوار الخرسانية العملاقة بجرافات العدو.

هي عودةُ الفلسطيني الأخير إلى مرجعية الذات، إلى مواهبها وأسرارها في ترويض الممكن للصعود إلى المستحيل، والتي لم يُكشف عنها كلها بعد. ويأتي النشيد: «يا أيها الولد المكرس للندى- قاوم، قاوم»! وحده سيقاوم الغرق في الماء وفي اليابسة، وحده سيشاهد عن كثبٍ كيف يتشبث البحرُ بالبر، وسينجو قليلاً، في قيلولة من الدهر، بين الحرب والحرب، ليحب الحياة كيفما سالت شهوتها في الماء المغسول بالدم. وكلما اشتدَّ حصاره اشتدَّ ساعده - فعليه دائما أن يكون، أن يستشهد ليكون، لنكرس له هذا المديح. فتلك بطولته وهذا «حبنا القاسي».

هو الفلسطيني الموهوب إذن، وريث القتلى أبناء القتلى، أبناء بناتهم القتلى، من احترف مقاومة ألم الحياة طوال خمسة وسبعين عامًا منذ النكبة، لا لشيء سوى ليكون جديرًا بالحياة في أبسط صورها كيفما اتفقت، كئيبةً ومملةً، ولكن خارج شروط الاحتلال. صارت المقاومة الآن أنامله، صارت أطرافه وجسدَه. إذ لم تكن ثقافة المقاومة السلمية في فلسطين مجرد حيلة من حيل الأمل الجارح والجريح في آن معًا، فحسب، بل ظلَّت على مدار سنوات الاحتلال تقدم لفلاسفة الحرية والمؤرخين واحدة من أهم ظواهر المقاومة المدنية في تاريخ الاستعمار، حيث تحولت تلك الرقعة الجغرافية، الممزقة بأنياب الجرافات والمطوقة بحواجز التفتيش العسكرية، إلى ساحة اعتصام مفتوحة طوال أيام السنة للنشطاء الحقوقيين والمتضامنين مع القضية الفلسطينية من كل أنحاء العالم. بينما كانت مَسيرات العودة السنوية إلى القرى الفلسطينية المهجرة، والتي انطلقت لأول مرة عام 1998، تعبيرًا جديدًا من نوعه في تاريخ النضال الشعبي السلمي، يذكر اللاجئين وأبناء اللاجئين بأن حلم العودة ليس سوى مسافة طريق. أما جنازة الشهيد الفلسطيني، سواءً كانت في الضفة أو في القطاع أو حتى في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فهي بحد ذاتها ظاهرة اجتماعية وسياسية خاصة، يمتزج فيها البعد التراجيدي بالملحمي في مشهد يستدعي التأمل والهتاف والبكاء في ذات اللحظة، حيث تتحول الجنازة إلى مظاهرة حاشدة تعلو فيها «لاءات» الفلسطينيين التاريخية التي تقلق الهاجس الأمني الإسرائيلي وتحفر بدأب بطيء جدار الفصل العنصري.

في الوقت نفسه، لم تكن المقاومة الفلسطينية المسلحة بمختلف مراحلها وانعطافاتها وانكساراتها، مجرد مشروع استثمار سياسي يمكن محاسبته في يوم من الأيام بثنائية النجاح أو الفشل، بل هي شكل من أشكال التعبير البديل للرد على طغيان القوة التدميرية للعدو، الذي لا يملك أدنى خبرة حضارية لاستيعاب الخطاب الإنساني الشفاف الذي أبدعه الشعب الفلسطيني كمكابرة أخلاقية حاسمة بين السيف والعنق، والتي قد تكون الأخيرة في عصرنا، عصر السباق النووي الذي لا تُستدعى فيه الأخلاق إلا لتنميق الخطاب السياسي.

إن مقاومة الإنسان الفلسطيني، بجميع ألوانها، العقلانية أو الطائشة، المدنية أو المسلحة، لهي أبعد من أن تكون نظرية نضال ظرفية. فلقد تعمقت في السلوك غير الواعي كفلسفة حياة يطورها الفلسطيني اليومي، الفلسطيني العادي، السائر مثلنا على الرصيف بقميص خالٍ من بقع الدم، الباحث مثلنا عن وظيفة ومعاش، والحالم مثلنا بقصيدة حب صافية، وبشعرٍ خالٍ من فرقعة السلاح وطبول الحماسة.

فأن تكون فلسطينيًا فهذا يعني بالضرورة أن المقاومة مهنة عيش في المقام الأول، قبل أن تكون وسيلة تحرر وطني.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

سامح عاشور: الأحزاب يجب أن تكون جزءا من عملية المشاركة المجتمعية والسياسية

أكد سامح عاشور نقيب المحاميين الأسبق، أن جماعة الإخوان تصدرت المشهد السياسي بعد يناير 2011، ولكنها فشلت في تلبية مطالب الشعب أثناء فترة حكمها، مما دفع الملايين للخروج إلى الشوارع حفاظًا على الوطن وهويته

دينا عبد الكريم: إقبال كبير من كوادر متميزة في مختلف التخصصات للانضمام إلى حزب الجبهة الوطنيةعضو الهيئة التأسيسية لـ حزب الجبهة الوطنية: نعيش في مرحلة بناء الحياة السياسية

وقال سامح عاشور في  حواره مع الإعلامية فاتن عبد المعبود في برنامج " صالة التحرير " المذاع على قناة " صدى البلد"، :"   الأحزاب السياسية في مصر شهدت تراجعًا كبيرًا بعد أحداث يناير 2011، مشيرًا إلى أن نظام الحكم قبل تلك الفترة قام بتهميش دور الأحزاب السياسية، باستثناء جماعة الإخوان الإرهابية.

وأضاف سامح عاشور أنه لم يتمكن أي حزب سياسي من تصدر المشهد  مشيرًا إلى أنها تركز أنشطتها على أمور بسيطة أقرب إلى دور الجمعيات الخيرية، دون تقديم أي برامج إصلاحية أو أدوار سياسية فعالة.

وفي سياق متصل، أرجع عاشور تأسيس حزب الجبهة الوطنية إلى الفراغ السياسي الناتج عن ضعف الأحزاب القائمة، مؤكدًا على ضرورة أن يتجنب الحزب الجديد اتباع نفس الأساليب التي تتبعها الأحزاب الحالية، مشددًا على أهمية تقديم رؤية حقيقية تخدم المجتمع.

واختتم حديثه بالإشارة إلى أن غياب الأحزاب ذات الدور الفعّال كان سببًا رئيسيًا في انهيار أنظمة حاكمة في العديد من الدول العربية، لافتًا إلى أن الأحزاب السياسية يجب أن تكون جزءًا أصيلًا من عملية المشاركة المجتمعية والسياسية لضمان استقرار الأنظمة الحاكمة وتلبية احتياجات الشعوب. 

مقالات مشابهة

  • حرائق لوس أنجلوس.. قد تكون الأكثر تكلفة في تاريخ أمريكا
  • نائب وزير التربية والتعليم يشرح فلسفة نظام البكالوريا المقترح
  • سامح عاشور: الأحزاب يجب أن تكون جزءا من عملية المشاركة المجتمعية والسياسية
  • 3 لا يُستجاب دعاؤهم.. احذر أن تكون منهم
  • المقاومة الفلسطينية تواصل ضرب الاحتلال بأسلحته.. اعتراف ضباط كبار
  • 3 رجال لا يستجيب الله لهم الدعاء في رجب.. احذر أن تكون منهم | فيديو
  • أسامة حمدان: المقاومة أسقطت مخطط الاحتلال لتصفية القضية الفلسطينية
  • المقاومة الفلسطينية: العدوان على اليمن يكشف الوهن والضعف الصهيوني
  • المقاومة الفلسطينية: العدوان على اليمن يكشف الوهن والضعف الصهيوني في مواجهة بأس أبطال اليمن
  • أبناء حجة يحتشدون في 204 ساحات دعماً وإسناداً للشعب الفلسطيني