تاريخ طويل من الإنكار.. كيف استمرت إسرائيل في الكذب بشأن ترسانتها النووية؟
تاريخ النشر: 11th, November 2023 GMT
مقدمة الترجمة
أثار تصريح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو الذي دعا خلاله إلى ضرب غزة بالسلاح النووي موجة من الانتقادات الواسعة دوليا، بل وحتى في الداخل الإسرائيلي، جزء من هذه الانتقادات (خاصة الداخلية منها) لا يعود فقط لمدى وحشية هذا الاقتراح ودمويته، فإسرائيل تمارس قصفا وحشيا بحق غزة أودى بحياة 11 ألف شخص على الأقل حتى اللحظة وهي لا تمانع في قتل المزيد بدم بارد، بقدر ما يرجع إلى كون هذا التصريح كسر سياسة داخلية عمرها عقود تتعلق بـ"الغموض النووي" الإسرائيلي.
فكيف نشأت هذه السياسة؟ ولِمَ تعمدت إسرائيل التعمية على امتلاكها للسلاح النووي؟ هذا ما يجيبنا عنه دوغلاس بيرش وجيفري سميث في مقالهما المنشور في صحيفة "ذي أتلانتيك" عام 2014، الذي ننشره مترجما اليوم لأهميته في هذا النطاق.
نص الترجمةفي تصريح له خلال جلسات تأكيد تعيينه وزيرا للدفاع في مجلس الشيوخ عام 2006، صرَّح روبرت غيتس، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) بأن إيران محاطة بـ"قوى تملك في حيازتها أسلحة نووية"، بما في ذلك "إسرائيل التي تقع غرب إيران". وأكَّد الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر ذلك مرتين، مرة في عام 2008، والأخرى عام 2014 أثناء مقابلات أجراها وخطابات أكَّد فيها أن عدد رؤوس الحرب النووية الإسرائيلية حتى ذلك الوقت كان يتراوح ما بين 150-300 رأس حربي.
ولكن بسبب غرابة بعض القوانين التي تحمي قواعد السرية الفيدرالية، لا يُسمَح عادة لأولئك الذين يعملون في الحكومة الأميركية ويحملون تصاريح أمنية بالإدلاء بمثل هذه التصريحات. وإنما في حقيقة الأمر، يتلقى المسؤولون الأميركيون -حتى أولئك الموجودون في الكونغرس- تحذيرات دائمة ومتكررة من ذكر وجود ترسانة نووية إسرائيلية، وإن لم ينأوا عن ظل هذا الموضوع، فلن تتورع السلطات عن إيجاد وسيلة لمعاقبتهم.
في عام 2014، أثارتْ سياسة الولايات المتحدة المُتمثلة في حماية البرنامج النووي الإسرائيلي جدلا واسعا، ومع ذلك، فإن الصمت الأميركي في هذا الصدد ظل ثابتا لا يتزعزع قيد أنملة. (الصورة: غيتي)إن سياسة عدم تأكيد وجود ترسانة نووية إسرائيلية علنا -التي وصفها أحد العلماء ذات مرة بأنها "أحد أسوأ الأسرار المحفوظة في العالم"- تعود إلى اتفاق سياسي بين الولايات المتحدة وإسرائيل في أواخر الستينيات. وقد أدت هذه السياسة إلى مساعدة إسرائيل في الحفاظ على موقف عسكري فريد في الشرق الأوسط مع تجنب الضغوطات والانتقادات أو الاستهجانات التي تُوجَّه في العادة للقوى النووية الثمانية المعترف بها في العالم.
لكن في عام 2014، أثارت سياسة الولايات المتحدة المُتمثلة في حماية البرنامج النووي الإسرائيلي جدلا واسعا، ويرجع ذلك جزئيا إلى كونها لعبت دورا في الانتقادات المُوجهة إلى باحث معروف في مختبر وطني للأسلحة في شهر يوليو/تموز من ذلك العام، بعد نشره مقالا أقرَّ فيه بأن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية، فيما اشتكى بعض العلماء والخبراء أيضا من أن عدم صراحة الحكومة الأميركية في هذا الشأن يُعقِّد حملتها البارزة لمنع تطوير أسلحة نووية في إيران، فضلا عن التخطيط الذي تقوده الولايات المتحدة لاتفاقية محتملة لحظر الأسلحة النووية في أي مكان في المنطقة.
ومع ذلك، فإن الصمت الأميركي في هذا الصدد ظل ثابتا لا يتزعزع قيد أنملة. ومن جانبه، أوضح مسؤول كبير سابق في وزارة الخارجية الأميركية، الذي تعامل مع القضايا النووية خلال إدارة بوش، ورفض ذكر اسمه نظرا للحساسية السياسية المحيطة بهذا الموضوع قائلا: "لن نعترف على نحو قاطع بأن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية، بل يتعين علينا التعبير عن ذلك بصياغة أخرى تميل أكثر إلى الافتراض أو التكهن بأن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية".
ثم جاء بعد ذلك باراك أوباما في أول مؤتمر صحفي له في البيت الأبيض عام 2009 ليؤكد استمرار هذه السياسة الأميركية التي تبنَّتها الدولة منذ أربعة عقود وما زالت مستمرة حتى الآن. فعندما سألته الصحفية هيلين توماس عما إذا كان يعلم بوجود أي دول في الشرق الأوسط تمتلك أسلحة نووية، جاء رد أوباما كالتالي: "فيما يتعلق بالأسلحة النووية، إنني أرفض التكهن بوجودها". تصرف أوباما في ذلك الوقت كما لو أن الوضع المعروف لإسرائيل باعتبارها دولة تملك في حيازتها أسلحة نووية لا يتعدى كونه مجرد شائعات وافتراضات.
أصبح هذا الحذر نهجا أساسيا تبنَّاه الجميع بما فيهم بول بيلار، ضابط المخابرات الأميركي السابق لشؤون الشرق الأوسط، الذي اتضح تحفظه الشديد عند الإشارة المباشرة أو العلنية إلى ترسانة إسرائيل النووية، لدرجة أنه عندما كتب مقالا في مجلة "ذا ناشونال إنترست" (The National Interest) تحت عنوان "الأمور المشتبه بها التي يجب عدم ذكرها عن إسرائيل"، أشار إلى الرؤوس النووية في جميع أنحاء المقال باسم الكمكوات "kumquats" (التي تعني البرتقال الذهبي).
وحتى الكونغرس الأميركي ظل حذرا بشأن مناقشة هذا الموضوع. فعندما نشرت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ تقريرا عام 2008 بعنوان "سلسلة من ردود الفعل: تجنب سباق التسلح النووي في الشرق الأوسط"، تضمن التقرير فصولا عن المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا، ولكن لسبب ما لم يتطرق إلى ذكر إسرائيل ضمن هذه الدول. في ذلك التقرير المؤلف من 61 صفحة، تجاهل المؤلفون تماما ترسانة إسرائيل النووية، وكل ما فعلوه هو ذكرها في هامش صغير يشير إلى أن هذه الترسانة مجرد "تصور أو افتراض" لا أكثر.
بشكل أكثر تحديدا، جاء في نص التقرير القول: "رغم أن إسرائيل لم تعترف رسميا بامتلاكها أسلحة نووية، فثمة اتفاق واسع على ما يبدو في منطقة الشرق الأوسط وبين الخبراء في الولايات المتحدة بأن إسرائيل تمتلك عددا من الأسلحة النووية. وبالنسبة لدول الجوار، فيُعَدُّ هذا التصور أكثر أهمية بالنسبة لهم لأنه سيلعب دورا رئيسيا في تشكيل السياسات واتخاذ القرارات".
البيروقراطية لا تتقبل الصراحة قدَّم دويل خلال مقاله تقييما لاذعا للسياسة النووية الغربية حينما قال: "لم تردع الأسلحة النووية مصر وسوريا عن مهاجمة إسرائيل 1973، ولم تُثنِ العراق عن مهاجمة إسرائيل خلال حرب الخليج 1991". (الصورة: رويترز)على الجانب الآخر، قد يتمكن كبار المسؤولين السابقين في البيت الأبيض أو على مستوى مجلس الوزراء -على غرار روبرت غيتس، الذي صرَّح بأن إيران محاطة بقوى تخفي في جعبتها أسلحة نووية، مثل إسرائيل- من النجاة في النهاية بشكل أو بآخر بعد تصريحاتهم، لكن البيروقراطية لا تتقبل صراحة المسؤولين الصغار، وهو ما اتضح مع جيمس دويل، الخبير النووي البارز في مختبر لوس آلاموس الوطني، الذي تعرَّض للانتقاد بعد نشره مقالا في شهر فبراير/شباط عام 2013 بمجلة "سرڤايڤل" (Survival) البريطانية، يعبِّر فيه عن وجهة نظره التي تتعارض قليلا مع السياسة الرسمية للحكومة الأميركية.
قدَّم دويل خلال مقاله تقييما لاذعا للسياسة النووية الغربية حينما قال: "لم تردع الأسلحة النووية مصر وسوريا عن مهاجمة إسرائيل في عام 1973، ولم تمنع كذلك الأرجنتين من مهاجمة الأراضي البريطانية في حرب جزر الفوكلاند عام 1982، كما أنها لم تُثنِ العراق عن مهاجمة إسرائيل خلال حرب الخليج عام 1991". لكن هذه التصريحات أثارت غضب رؤسائه في مختبر الأسلحة النووية، كما أنها أجَّجت استياء أحد الموظفين الجمهوريين في لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب.
رغم تقييم ثلاثة متخصصين في مجال السرية مقالة دويل وتأكيدهم أنها لا تتضمن أي معلومات سرية، فقد قرر مسؤولون مهمون أن يتجاوزوا تقييم هؤلاء المتخصصين وادّعوا حدوث انتهاك غير محدد، واستخدموه مبررا لمعاقبة دويل، وحجبوا هذه المقالة باعتبارها مقالة سرية بعد نشرها. ولم يكتفوا بذلك، بل خصموا من راتبه وفحصوا حاسوبه الموجود في المنزل، وفي نهاية المطاف طردوه من العمل. وبعد ذلك، صرَّحوا بأن طرده لم يكن مرتبطا بمحتوى المقال، لكنَّ دويل ومحاميه يعتقدان أن طرده كان بالتأكيد عقابا لتشكيكه في المبادئ الأميركية للردع النووي.
جيمس دويل، الخبير النووي البارز في مختبر لوس آلاموس الوطني (الصورة: مواقع التواصل)لم يبُح دويل ولا زملاؤه عما إذا كانت الجملة الواردة في مقالته حول ترسانة إسرائيل من الأسلحة النووية هي التي أثارت استفزاز المسؤولين ودفعتهم إلى توجيه انتقادات مفرِطة لهذه المقالة باعتبارها انتهاكا أمنيا من وجهة نظرهم، ومع ذلك افترض العديد من الخبراء المستقلين أنها كانت السبب وراء ذلك. وبمرور الأيام، ظهر تفسير آخر محتمل للأسباب التي أفضت إلى معاملة دويل على هذا النحو السيئ، وهو ما أوضحته تصريحات ستيفن أفترجود، مدير مشروع السرية الحكومية في اتحاد العلماء الأميركيين.
اكتشف أفترجود أن وزارة الطاقة الأميركية استشهدت بمعلومات محددة لتصنيف وثائق دويل، ونبعت هذه المعلومات في الأصل من وثيقة تصنيفية تحمل الرقم "WNP-136" (وهي وثيقة سرية تتعلق بقدرات الدول الأجنبية في مجال الطاقة النووية). ورغم أن نص الوثيقة ذاتها ليس عاما أو متاحا للجمهور، ظل أفترجود يؤمن بأن التلميحات في هذه القضية توضح أن الإشارة الوحيدة التي أوردها دويل بخصوص برنامج نووي أجنبي حساس كانت تتعلق بإسرائيل، وهو السبب الذي استخدمته المختبرات ضده على الأرجح.
بداية المشروع كتب المؤرخ أڤنر كوهين أن التزام الولايات المتحدة بسياسة عدم الكشف الرسمي عن وجود أسلحة نووية في إسرائيل يبدو أنه نشأ عقب اجتماع جرى في سبتمبر/أيلول 1969 بين الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ورئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير. (غيتي)وفقا لمبادرة التهديد النووي (Nuclear Threat Initiative) (وهي منظمة غير ربحية في واشنطن تتعقب تطورات الأسلحة النووية)، فإن برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلي قد بدأ في الخمسينيات، ويُعتقد أن إسرائيل بدأت بتجميع أول ثلاثة أسلحة نووية لها خلال الأزمة التي أدت إلى حرب عام 1967. وعلى مدار عقود، تبنَّت إسرائيل سياسة أطلقت عليها اسم "amimut"، التي تعني الغموض أو عدم الوضوح للإشارة إلى برنامجها النووي. ومن خلال اعتمادها على التلميح بامتلاكها أسلحة نووية دون تأكيد ذلك، سعت إسرائيل إلى ردع أعدائها عن شن هجمات كبرى وفي الوقت نفسه تثبيط أي جهود لتطوير ترسانة نووية مشابهة.
كتب المؤرخ الإسرائيلي الأميركي أڤنر كوهين أن التزام الولايات المتحدة بسياسة عدم الكشف الرسمي عن وجود أسلحة نووية في إسرائيل يبدو أنه نشأ عقب اجتماع جرى في سبتمبر/أيلول 1969 بين الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ورئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير. ورغم عدم وجود نص مكتوب لهذا الاجتماع، صرَّح كوهين بأن من الواضح أن الزعيمين توصلا إلى اتفاق ينص على أن إسرائيل لن تُجري اختبارات نووية لأسلحتها أو تعلن عن وجودها، في حين لن تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل للتخلي عن هذه الأسلحة أو للتوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، وستتوقف عن تفتيش موقع ديمونا الذي يضم مركز أبحاث الطاقة النووية في منطقة النقب في إسرائيل.
ونتيجة للصفقة، تبنَّت واشنطن سر إسرائيل كما لو كان سرها الخاص، وفي النهاية قبلت الولايات المتحدة بأن تكون سياستها الرسمية مماثلة للسياسة الإسرائيلية فيما يتعلق ببرنامجها النووي، وهو أمر عارضه بشدة بعض المسؤولين الأميركيين الكبار في البداية. أما الرواية الرسمية المتكررة التي تتداولها الجهات الإسرائيلية على نحوٍ ثابت فتؤكد أن "إسرائيل لن تكون أول دولة تُدخل الأسلحة النووية إلى الشرق الأوسط، فضلا عن دعمها لفكرة أن تكون هذه المنطقة خالية من جميع أسلحة الدمار الشامل بعد تحقيق السلام".
لكن ظهرت إحدى المفارقات العجيبة عندما سعى مساعدو نيكسون إلى الحصول على ضمانات بأن هذا الوعد يعني أن إسرائيل لن تصنع فعليا أي قنابل نووية، لكن رد المسؤولين الإسرائيليين كان عبارة عن أن جملة "إدخال أسلحة نووية" تحمل معنى مختلفا، وهو أن إسرائيل لن تُجري اختبارات علنية للقنابل النووية أو تعترف بوجودها رسميا، وهو ما يترك مجالا واسعا لترسانتها غير المُعترف بها لتعيث فسادا دون رقابة أو حساب. وفي يوليو/تموز عام 1969، كتب مستشار الأمن القومي آنذاك هنري كيسنغر إلى الرئيس نيكسون في إحدى المذكرات التي لخصت سياسة واشنطن تجاه برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلي قائلا: "ربما قد نرغب في منع إسرائيل فعليا، لكن في حال تعذر علينا تحقيق ذلك، فسيصبح ما نريده على الأقل هو منع الاعتراف الدولي بوجود أسلحة نووية لدى إسرائيل".
موردخاي فعنونو، أحد الفنيين الذين عملوا في موقع ديمونا الذي يضم مركز أبحاث الطاقة النووية الإسرائيلية. (غيتي إيميجز)حتى عندما قدَّم موردخاي فعنونو، أحد الفنيين الذين عملوا في موقع ديمونا- الذي يضم مركز أبحاث الطاقة النووية الإسرائيلية-، أول تقرير علني مُفصّل عن البرنامج النووي عام 1986، ونشر صورا التقطها هناك لمكونات الأسلحة النووية، رفضت الجهتان (الولايات المتحدة وإسرائيل) تغيير موقفهما أو سياستهما. وبعد اختطافه من إيطاليا، سجنته إسرائيل لمدة 18 عاما، معظمها في الحبس الانفرادي، ثم مُنع بعد ذلك من السفر إلى الخارج أو التعامل مع الصحفيين الأجانب. وفي رسالة بريد إلكتروني متبادلة مع مركز النزاهة العامة (وهو منظمة صحافة استقصائية مهتمة بالكشف عن إساءة استخدام السلطة والفساد في المؤسسات العامة)، أشار فعنونو إلى أنه لا يزال يواجه قيودا لكنه لم يخض في تفاصيل.
على الجانب الآخر، امتدت سياسة أميركا في عدم الوضوح بشأن البرنامج النووي الإسرائيلي إلى القنوات الحكومية الخاصة، فقد أفاد مسؤول سابق في المخابرات الأميركية بأنه يتذكر إلى أي مدى أصابه ذهول تام من غياب أي ذكر لإسرائيل في وثيقة سرية تزعم أنها تصف جميع برامج الأسلحة النووية الأجنبية في التسعينيات، ولهذا السبب أرسل إلى زملائه شاكيا: "يبدو أننا بصدد مواجهة مشكلة حقيقية إذا لم نكن قادرين حتى على الاعتراف بالحقيقة في الوثائق السرية". لكنه في النهاية حصل على إشارة تسمح له بذكر الترسانة النووية الإسرائيلية ولكن على نحو طفيف وبصياغة مترددة وتقليدية.
وعلى المنوال ذاته، صرَّح غاري سامور، الذي شغل منصب كبير مستشاري الرئيس أوباما لشؤون منع انتشار الأسلحة النووية من عام 2009 إلى عام 2013، أن الولايات المتحدة فضَّلت منذ فترة طويلة أن تتمسك إسرائيل بسياستها المعروفة بـ"الكتمان النووي" خوفا من زيادة التوترات في منطقة الشرق الأوسط. يرى سامور أن اعتراف إسرائيل بوجود أسلحة نووية سيُعَدُّ أمرا استفزازيا قد يدفع بعض الدول العربية وإيران إلى تطوير أسلحة نووية، لهذا السبب تميل الولايات المتحدة إلى الغموض المتعمد. ولكن عندما سُئل سامور الذي يعمل حاليا بجامعة هارفارد عما إذا كانت حقيقة امتلاك إسرائيل أسلحة نووية تُعَدُّ أمرا سريا، أجاب: "لا يبدو الأمر بالنسبة إليّ سريا على الإطلاق".
ظل حاجز الصمت الرسمي للحكومة الأميركية قائما ولم يُكسَر إلا عن طريق المصادفة، وذلك حينما أصدرت وكالة المخابرات المركزية (CIA) عام 1979 تقريرا استخباريا يتألف من أربع صفحات بعنوان: "آفاق مواصلة انتشار الأسلحة النووية"، وجاء في نص التقرير القول: "نعتقد أن إسرائيل أنتجت بالفعل أسلحة نووية، وذلك استنادا إلى مخزونها الهائل من اليورانيوم، بالإضافة إلى برنامجها لتخصيب اليورانيوم، واستثماراتها في نظام صاروخي باهظ التكلفة قادر على حمل رؤوس حربية نووية".
أثار التقرير حينذاك موجة من العناوين الرئيسية، وكان من بينها هذا العنوان الذي تصدر صحيفة "نيويورك تايمز": "صرّحت وكالة المخابرات المركزية عام 1979 أن إسرائيل تملك بحوزتها قنابل نووية"، فيما تَصدَّر عنوان آخر مشابه صحيفة "واشنطن ستار": "تُعَدُّ إسرائيل عضوا في النادي النووي منذ عام 1974 وفقا للدراسة التي أجرتها وكالة المخابرات المركزية".
أحد المواقف المثيرة للسخرية هو ما حدث مع جون ديبريس، ضابط المخابرات المسؤول عن مسائل انتشار الأسلحة النووية في ذلك الوقت، الذي كان من واجبه مراجعة وتنقيح المواد السرية من التقرير قبل نشره، لكنه أشار إلى انتكاس في عملية تجريد المعلومات السرية في التقرير قبل نشره، وهو ما أدى إلى تسرب معلومات سرية إلى الجمهور بقوله: "إن الغريب في الأمر هو نشر الأجزاء التي فضَّلتُ حجبها، في حين حُجِبتْ الأجزاء التي كان من المفترض لها أن تخرج للعامة".
يبدو أن الأمر كان نوعا من الأخطاء الإدارية التقليدية بالنسبة لديبريس باعترافه قائلا: "يُعَدُّ ما حدث أحد الأنواع الشائعة للفشل البيروقراطي، فقد أساء الناس تفسير تعليماتي". وأكَّد أنه -على حد علمه- لم يُعاقب أي شخص على هذا الخطأ، حتى في عام 2008، عندما حصل جهاز الأمن الوطني على نسخة من الوثيقة بموجب قانون حرية الحصول المعلومات، ظل هذا القرار دون تصحيح أو إلغاء.
لكن استمرار واشنطن في رفضها لتأكيد ما هو واضح بأي طريقة أخرى، أفضى في النهاية إلى تجارب غريبة وصعبة خاض غمارها أولئك الذين يبحثون عن بيانات رسمية حول ترسانة إسرائيل النووية. وعن ذلك، يتذكّر برايان سيبرت، وهو أكبر مسؤول تنفيذي في وزارة الطاقة الأميركية والخبير في حماية أسرار الأسلحة النووية من عام 1992 إلى عام 2002، أنه شاهد كومة من الأوراق تصل إلى ارتفاع مترين تقريبا تتضمن وثائق من وكالة المخابرات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ووزارة العدل، بالإضافة إلى وزارة الطاقة، حول البرنامج النووي الإسرائيلي.
في السياق ذاته، أكَّد جون فيتزباتريك، الذي شغل منصب مدير مكتب مراقبة أمن المعلومات الفيدرالي منذ عام 2011، أن الولايات المتحدة تعتبر جوانب الوضع النووي لإسرائيل ضمن أمورها السرية التي يجب الحفاظ عليها بقوله: "نحن نعلم ذلك من السلطات المعنية بالأمور السرية في الوكالات التي تتعامل مع تلك المواد"، ولكنه امتنع عن تقديم تفاصيل أكثر حول هذا الأمر. وفي الوقت الذي استمرت فيه الولايات في تجنب هذا الموضوع، تبنَّت الجهات الإسرائيلية الرسمية الموقف ذاته، حيث أكَّدت كيري برودي، مديرة الاتصالات في السفارة الإسرائيلية بواشنطن، عدم وجود أي فرد في السفارة يمكنه مناقشة الوضع النووي لإسرائيل، وكتبت في رسالة بالبريد الإلكتروني تقول فيها: "لسوء الحظ، ليس لدينا أي تعليق يمكننا الإدلاء به في الوقت الحالي".
لكن من جهة أخرى، بدا المتحدث السابق للكنيست الإسرائيلي "أفراهام بورغ" أقل تحفظا خلال مؤتمر عُقد في شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2013 بحيفا، حينما أشار إلى أن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية وكيميائية، واصفا سياسة الغموض بأنها "بالية وطفولية". ومع ذلك، رفض روبرت غيتس، المدير السابق للـ(CIA) مناقشة هذه القضية، غير أن عددا متزايدا من الخبراء الأميركيين يتفقون مع بورغ في عدم تحفظه إزاء سياسة الغموض هذه.
وعن هذا الموضوع، كتب بول بيلار، ضابط المخابرات الأميركي السابق لشؤون الشرق الأوسط في إحدى مقالته، أن السياسة الأميركية المستمرة منذ 45 عاما لحماية البرنامج الإسرائيلي لم يعد يُنظر إليها في جميع أنحاء العالم على أنها سياسة ذات معايير مزدوجة فحسب، بل بات العالم يرى الولايات المتحدة وهي تعيش داخل كذبة كبيرة نسجتها بنفسها. وبالتالي لم تعد تصريحات أميركا بشأن الأسلحة النووية تُؤخذ على محمل الجد، بل وفي بعض الأحيان أصبحت تُواجَه بالازدراء ما دامت تتحدث عن الأسلحة النووية الإسرائيلية باسم "البرتقال الذهبي".
ومن جانبه، عبّر فيكتور جيلينسكي، الفيزيائي والعضو السابق في لجنة التنظيم النووي، عن استيائه من تظاهر الولايات المتحدة بالجهل بشأن قنابل إسرائيل النووية، وهو ما أوضحه في كتابه الأخير الذي ذكر فيه أن موقفا كهذا لم يعد مقبولا، فالمعايير المزدوجة الواضحة باتت تقوِّض الجهود المبذولة للسيطرة على انتشار الأسلحة النووية في جميع أنحاء العالم. فيما علّق جي ويليام ليونارد، الذي كان مديرا لمكتب مراقبة أمن المعلومات في عهد جورج بوش من عام 2002 إلى عام 2008، قائلا: "أحيانا تقوِّض هذه السياسات ذات المعايير المزدوجة نظام تصنيف المعلومات السرية، فقد أضحى الأمر غريبا ومحرجا للغاية باستغلال هذا النظام لحماية سر معروف رسميا".
في نهاية المطاف، يختتم دانا إتش ألين، مُحرر المقال الذي سبق وكتبه دويل في مجلة "سرڤايڤل" (Survival)، بتعليق حديث له نشره المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن: "إن أي شخص لديه معرفة سطحية بالشؤون الدولية، يعلم بالتأكيد عن هذه الأسلحة". كما أنه وصف ادعاء الحكومة باحتواء المقال على أسرار أمنية بأنه ادعاء "ساذج"، وأنهى حديثه بأن محنة دويل على أيدي السلطات كانت تجربة غير منطقية ولا تقل اضطرابا عن أعمال كافكا الأدبية (التي اشتهرت بتصوير الأوضاع المُعقدة المضطربة والتحكم البيروقراطي الذي يتغلغل في حياة الأفراد)*.
_____________________________________
* ملاحظة المترجم
ترجمة: سمية زاهر
هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: البرنامج النووی الإسرائیلی وکالة المخابرات المرکزیة انتشار الأسلحة النوویة النوویة الإسرائیلیة النوویة الإسرائیلی الولایات المتحدة إسرائیل النوویة الطاقة النوویة ترسانة إسرائیل الشرق الأوسط إسرائیل لن ت هذا الموضوع النوویة فی إسرائیل فی فی النهایة ت إسرائیل فی مختبر نوویة فی یبدو أن ومع ذلک فی هذا التی ت فی ذلک فی عام عام 2014 وهو ما عام 2008
إقرأ أيضاً:
الأسلحة الكهرومغناطيسية.. أسلحة قد تعيد البشرية قرونا إلى الوراء
أسلحة مصممة لإلحاق ضرر دائم أو مؤقت بالقدرات التقنية الحديثة، سواء العسكرية منها أو المدنية. وتعتمد في تشغيلها على إنتاج مجالات كهرومغناطيسية مُكثفة ومضغوطة، لضرب الأنظمة والأجهزة الإلكترونية مباشرة، ضمن نطاق جغرافي واسع، أو لتسريع إطلاق القذائف نحو أهداف محددة وتدميرها.
وللأسلحة الكهرومغناطيسية القدرة على الحسم السريع في الحروب، من خلال تدمير البنية التحتية التكنولوجية العسكرية للعدو، ما ينجم عنه تعطيل القدرات التقنية الحديثة للقوات المقاتلة، وإجبارها على الانتقال إلى حرب تقليدية بدائية، وترك القوات المختلفة معزولة عن بعضها البعض، دون قدرة على التواصل والتنسيق.
وتعطل هذه الأسلحة الأنظمة الإلكترونية والأجهزة التي تعتمد في تشغيلها على التيار الكهربائي، فتعمل على تدمير أو التشويش على أنظمة القيادة والسيطرة العسكرية وأنظمة التحكم في المركبات العسكرية وأنظمة توجيه الصواريخ وأنظمة الاتصالات والملاحة وأجهزة الاستشعار والرادارات وشبكات الكمبيوتر ومراكز البيانات التي يستخدمها الجيش، إضافة إلى تعطيل أنظمة الدفاع الجوي.
وقد تم تطوير أنواع مختلفة من الأسلحة الكهرومغناطيسية من قِبل دول عديدة، كالولايات المتحدة الأميركية وروسيا والكوريتين ودول أوروبية والهند وتركيا وإيران وإسرائيل، كما زودت إيران حزب الله اللبناني بأسلحة تشتغل بالتقنية نفسها.
القضاء على التقدم التقني المدنييثير احتمال استخدام الأسلحة الكهرومغناطيسية قلقا عالميا، لأنها تشكل تهديدا للأمن الدولي، لقدرتها على إحداث أعطال ليس في الأجهزة والأنظمة العسكرية فحسب، بل في البنية التحتية الحيوية المدنية.
ويشمل نطاق تأثيرها شبكات الطاقة والكهرباء وأنظمة الاتصالات والأقمار الصناعية وغيرها من الأنظمة والأجهزة الإلكترونية التي تُستخدم للأغراض المدنية، مما يعني القضاء على التقدم التكنولوجي في جميع قطاعات الحياة، وإعادة المجتمعات مئات السنين إلى الوراء، رغم عدم تسببها بأضرار مادية في المباني والعمران.
والشائع أن الأسلحة الكهرومغناطيسية "سلاح غير قاتل" أو "غير فتاك" باعتبارها لا تلحق ضررا بالبشر، مقارنة بالأسلحة التقليدية، ومع ذلك فإن آثارها الجانبية على صحة البشر على المدى البعيد غير معلومة على وجه الدقة.
وقد أثبتت بعض الدراسات العلمية قدرة الموجات الدقيقة على إتلاف القلب، وإحداث تسربات في الأوعية الدموية في الدماغ والتسبب بالهلوسات وغيرها من الأعراض النفسية، وينجم عن التعرض للموجات الصوتية أعراض مثل الغثيان وآلام الأذن والارتباك العقلي.
الأسلحة الكهرومغناطيسية تحدث مجالا كهرومغناطيسيا يُسرّع القذائف الحربية (الجزيرة-ميدجورني) المميزات العسكريةتتمتع الأسلحة الكهرومغناطيسية بمجموعة من المميزات في الاستخدام العسكري، أهمها:
صغر الحجم نسبيا، لذلك يمكن نقلها أو حملها على المنصات العسكرية البحرية والطائرات والمركبات المتنقلة. تتيح للمهاجِم استخدام عنصر المفاجأة بسبب سرعتها، إذ تنتقل الأشعة المستخدمة فيها بسرعة الضوء. توفر درجة كبيرة من السرية، لأن الأشعة فوق وتحت نطاق الطيف المرئي غير ملحوظة، ولا تحدث صوتا. انخفاض تكلفة تشغيلها مقارنة بالأسلحة التقليدية. الدقة والسرعة في إصابة الأهداف. أنواع الأسلحة الكهرومغناطيسيةتشمل الأسلحة الكهرومغناطيسية 3 أنواع رئيسية، هي:
أسلحة النبض الكهرومغناطيسي. أسلحة الطاقة الموجهة. القاذفات الكهرومغناطيسية.وتؤثر الطاقة الكهرومغناطيسية المستخدمة في النوعين الأولين في الهدف مباشرة، أما النوع الثالث فيعتمد على تحويل الطاقة الكهرومغناطيسية إلى طاقة حركية، تستخدم في إطلاق مقذوف نحو الهدف.
أسلحة النبض الكهرومغناطيسيتعمل أسلحة النبض الكهرومغناطيسي من خلال إحداث تفجير نووي على ارتفاعات عالية عن سطح الأرض، تنتج عنه أشعة غاما، التي تتفاعل مع عناصر الغلاف الجوي فينشأ عن هذا التفاعل مجال طاقة كهرومغناطيسي مكثف.
ويعتبر هذا المجال الناشئ سلاحا مدمرا، إذ يتمتع بعدة خصائص، هي:
القدرة على تدمير أو تعطيل جميع الأنظمة والأجهزة الإلكترونية، التي يعتمد تشغيلها على التيار الكهربائي، العسكرية منها والمدنية على حد سواء. تأثيره يطال مساحة واسعة من الأرض، يتناسب حجمها طرديا مع الارتفاع الذي وقع فيه الانفجار النووي، أي كلما زاد ارتفاع الانفجار عن سطح الأرض، زادت المساحة الجغرافية المتضررة. سرعة فائقة في إصابة الأهداف، إذ تنتقل الموجات الكهرومغناطيسية بسرعة الضوء، لذلك تتأثر المنطقة المستهدفة بأكملها في وقت واحد تقريبا. لا تحتاج الموجات الكهرومغناطيسية إلى وسط للانتشار، أي أنها تنتقل عبر الهواء والمواد الصلبة وفراغ الفضاء. عدم إلحاق ضرر بالمباني والبشر عادة، لكن بعضها يمكن أن يسبب ضررا في الجلد والأعضاء الداخلية للإنسان.وتمثل القنابل الإلكترونية تطبيقا عمليا لهذا النوع من السلاح، وتأتي القنبلة على شكل رأس حربي، يتم إطلاقها بواسطة منصات الصواريخ الدقيقة أو المُسيرات، ويولد انفجاره مجالا كهرومغناطيسيا قويا، يلحق أضرارا مؤقتة أو دائمة بالأجهزة الإلكترونية.
أسلحة الطاقة الموجهةتعمل هذه الأسلحة على إنتاج طاقة عالية التركيز، يتم توجيهها إلى هدف أو أكثر، بحيث تؤثر في الإلكترونيات الموجودة في الأهداف وتسبب ضررا دائما أو عطلا مؤقتا، ويمكن لتطبيقاتها المختلفة أن تستخدم للردع أو التدمير، فيتم توجيهها ضد الأجهزة الإلكترونية وأنظمة الدفاع الصاروخي والأفراد.
وتتميز أسلحة الطاقة الموجهة بخفائها، إذ إن الموجات فوق وتحت النطاق المرئي غير منظورة ولا تحدث صوتا وتسير بسرعة الضوء، وتتمتع بالدقة في إصابة الهدف، فمسار شعاع الضوء مستو تماما، لا يتأثر كثيرا بالجاذبية أو الرياح، وتسير أشعة الليزر بسرعة ومدى كبيرين، يجعلها صالحة للاستخدام في حروب الفضاء.
وتتأثر قوتها التدميرية بعدة عوامل، مثل طول مدة التصويب والمسافة إلى الهدف والجزء المستهدف، ويتراوح تأثيرها بين الحيلولة دون استخدام الهدف أو تدميره أو منع القوات المعادية من الوصول إلى منطقة ما مؤقتا.
وتضم أسلحة الطاقة الموجهة أنواعا مختلفة، يعمل كل منها في منطقة طيف كهرومغناطيسي مختلفة، وتتميز بخصائص متباينة وفقا لاختلاف أطوالها الموجية وتردداتها، ومن ثم تتفاوت في تأثيرها وقدرتها على اختراق المواد. وأبرز أنواعها:
أسلحة الليزر عالية الطاقة: تنتج شعاعا ضوئيا دقيقا للغاية، يمكن أن يُرسل على شكل نبضات أو على شكل شعاع متواصل، يُوجه إلى هدف واحد في كل مرة، ويحمل طاقة قادرة على إذابة المواد الصلبة، مثل صهر طائرة مسيرة أو خزان وقود، ويمكن أن يؤثر الوهج الذي تصدره الطاقة على قدرة الأفراد على الرؤية أو الإحساس. أسلحة الموجات المليمترية: تنتج شعاعا أكبر حجما من شعاع الليزر، مما يجعلها قادرة على إصابة أهداف متعددة في وقت واحد. أسلحة الميكرويف عالية الطاقة: تنتج موجات دقيقة ذات أطوال تفوق أشعة النوعين السابقين، وتحمل طاقة عالية بمعدل تكرار مرتفع، وتولد إشعاعا مستمرا بحجم كبير، يمكنه ضرب أهداف متعددة في وقت واحد، وقد يؤدي إلى إحداث ضرر دائم في الهدف.وقد طور مختبر أبحاث القوات الجوية الأميركي سلاحا يعمل بنظام ميكرويف منخفض الطاقة، يقوم بتسخين الماء في الجلد البشري، ويسبب ألما شديدا، يتيح السيطرة على الجموع وتفريق الحشود في حالات الشغب، ولكنه لا يسبب ضررا دائما، بحسب الاختبارات التي أُجريت، ورغم ذلك، يتنامي القلق بشأن آثاره الجانبية، وإمكانية إحداثه أضرارا دائمة في بعض الأعضاء، لا سيما العيون.
وتستخدم أسلحة الطاقة الموجهة لأغراض هجومية، مثل التشويش على الرادارات وأنظمة التحكم، وتعطيل المعدات كالطائرات والصواريخ، والمسيرات، كما تستخدم لأغراض دفاعية، مثل: توفير الحماية الذاتية للطائرات، والدفاع عن القواعد العسكرية الجوية والمطارات والقواعد المتنقلة والأقمار الصناعية، أو الردع مثل استخدامها للسيطرة على المظاهرات والجموع البشرية.
القاذفات الكهرومغناطيسيةتعتمد هذه التقنية على استخدام الطاقة الكهرومغناطيسية لإنتاج طاقة حركية قادرة على إرسال مقذوفات نحو الهدف، وتختلف هذه القاذفات الكهرومغناطيسية عن القاذفات التقليدية، في استخدامها للطاقة الكهرومغناطيسية بدلا من الطاقة الكيميائية لتوليد طاقة حركية، تعمل على دفع القذائف نحو الهدف.
ومن تطبيقات هذا النوع من الأسلحة:
المدافع الكهرومغناطيسية: تعتبر من أهم القاذفات الكهرومغناطيسية، وتتألف من محرك وقضيبين متوازيين، يتدفق تيار كهربائي عبرهما مولدا مجالا كهرومغناطيسيا، مما يؤدي إلى تسريع المحرك والمقذوف معا. ويمتاز المدفع الكهرومغناطيسي بقدرته على إطلاق قذائف ذات حجم ووزن صغيرين، وسرعة فائقة تتجاوز سرعة الصوت، لضرب أهداف برية أو بحرية بقدرة تدميرية هائلة. واختبرت الصين في صيف عام 2023 مدفعا كهرومغناطيسيا يمكنه إطلاق مقذوف يبلغ وزنه 124 كيلوغراما، بسرعة أولية بلغت 700 كيلومتر في الساعة. البنادق اللولبية: تُعرف كذلك باسم بنادق غاوس أو المسرعات المغناطيسية، وتستخدم فيها سلسلة من الملفات المغناطيسية مرتبة على طول ماسورة البندقية، ويتم تنشيط الملفات واحدا تلو الآخر لإنشاء مجال مغناطيسي يُسرّع المقذوف ثم يدفعه إلى الأمام بسرعة عالية. وتتميز البنادق اللولبية بسرعة إطلاق عالية، مع تكاليف أقل ووقت تشغيل أقصر. بعض الأسلحة الكهرومغناطيسية تعتمد على أشعة الليزر (الجزيرة-ميدجورني) تاريخ التطوير والإنتاجتشير بعض المصادر إلى أن روسيا كانت أول من استخدم تطبيقات الأسلحة الإلكترونية عمليا، وتبرز في هذا المجال حادثة عام 1904، حين استهدفت سفينة حربية روسية الاتصالات اللاسلكية اليابانية أثناء إحدى المواجهات العسكرية بينهما، وأحدثت تشويشا منع أكثر من 60 قذيفة يابانية من إصابة أهدافها.
وتذكر المصادر أن الاتحاد السوفياتي السابق طوّر في خمسينيات القرن الـ20، معدات كهرومغناطيسية يمكنها التأثير في الجهاز العصبي للإنسان، وفي تلك الفترة أيضا، بدأت الولايات المتحدة في إجراء دراسات تبحث إمكانية استخدام الليزر للأغراض العسكرية.
ولكن تطوير الأسلحة الكهرومغناطيسية ارتبط بشكل واضح بالمظاهرات وحالات الشغب التي عمت الولايات المتحدة في ستينيات القرن الـ20 لا سيما تلك المناهضة للحرب في فيتنام، وكان الغرض من تطوير هذه الأسلحة، استخدامها لمهام الشرطة، مثل حفظ الأمن والسيطرة على الحشود المحتجة، نظرا لما اشتُهرت به هذه الأسلحة من كونها "سلاحا غير مميت".
ومنذ مطلع الستينيات من القرن الـ20 بدأت بعض التجارب المتعلقة بالأسلحة الكهرومغناطيسية في الولايات المتحدة، فقد أُجريت تجربة فوق جزيرة جونستون شمالي المحيط الهادي عام 1962، تم فيها تفجير سلاح نووي بقوة 1.4 ميغا طن، على ارتفاع 250 ميلا.
وأنتج الانفجار موجة كهرومغناطيسية، أثرت على مئات الأميال حول مركز الانفجار، بحيث بلغ تأثيرها جزر هاواي على بعد 800 ميل شرقي مكان التفجير، وأدى إلى تعطل مصابيح الشوارع وانقطاع الخدمات الهاتفية في الجُزر وتعطل الملاحة اللاسلكية مدة 18 ساعة.
واستمرت الأبحاث والاختبارات التي تهدف إلى تطوير الأسلحة "غير المميتة" في الستينيات والسبعينيات من القرن الـ20، وتم بالفعل تحديد العديد من التقنيات لهذا النوع من الأسلحة، التي لم تُعط أولوية التطبيق في تلك الآونة، ولكنها شكلت الأساس الذي انبنت عليه الأسلحة الكهرومغناطيسية لاحقا.
وفي ثمانينيات القرن الـ20، أوْلت السلطات الرسمية في الولايات المتحدة أسلحة الطاقة الموجهة اهتماما خاصا، على إثر مبادرة الدفاع الإستراتيجي الأميركية عام 1983، الرامية لاستحداث طرق للدفاع ضد الصواريخ البالستية، عن طريق تطوير أسلحة الليزر عالية الطاقة.
وأثناء القرن الـ20، استُخدمت بعض أنواع الأسلحة الكهرومغناطيسية، مثل قنابل النبضات الكهرومغناطيسية عالية الطاقة، وأنظمة الرفض النشط، التي تعتمد في عملها على الموجات المليمترية.
وبحلول القرن الـ21، أخذ العديد من الدول، على رأسها الولايات المتحدة وروسيا والصين، تكثف نشاطات البحث والتطوير والإنتاج في مجال الطاقة الموجهة عالية التركيز، وذلك لمواجهة مجموعة من التهديدات، لا سيما أنظمة الطائرات المسيرة وأنظمة الرادار والاتصالات المعادية.
ومع التقدم في تطوير هذا النوع من الأسلحة، أصبح الدفاع الجوي القائم على الليزر، أحد الدفاعات ضد تهديدات الصواريخ الباليستية والفرط صوتية، خاصة على متن السفن الحربية.
دول تمتلك الأسلحة الكهرومغناطيسيةتعتبر الولايات المتحدة في مقدمة الدول التي تمتلك أسلحة كهرومغناطيسية، إذ أنتجت العديد من الأنواع، من بينها صواريخ النبضة الكهرومغناطيسية (تشامب)، التي طورتها عام 2009، ويعتمد تشغيلها على نبضات مكثفة من موجات الميكرويف، يمكنها تعطيل الإلكترونيات ومراكز القيادة داخل منشآت عسكرية مخفية أو تحت الأرض، وتدمير البنية التحتية العسكرية فيها.
وعلى متن المدمرة الأميركية "يو إس إس بريبل"، يُستخدم نظام الليزر بقوة 60 كيلو وات، وهو عبارة عن جهاز إبهار بصري ووحدة مراقبة، قادر على تدمير التهديدات السطحية والجوية، وتعمية أجهزة الاستشعار البصرية على متن السفن والطائرات المعادية.
وفي عام 2021، طور مختبر أبحاث القوات الجوية الأميركية في كيرتلاند نظاما كهرومغناطيسيا مضادا للطائرات المسيّرة حمل اسم "ثور"، يعمل بالموجات الدقيقة عالية الطاقة، ويتميز بأنه محمول وصغير الحجم، ويمكن أن يكون جاهزا للتشغيل بواسطة شخصين في غضون 3 ساعات.
وتستخدم روسيا أسلحة تعمل باستخدام نبضات ميكرومغناطيسية، وقد أدخلت إلى ترسانتها العديد من أسلحة الطاقة الموجهة الحديثة، منها نظام "بيريسيفت"، الذي أعلنت عنه عام 2018، وهو سلاح ليزر محلي، مصمم للدفاع الجوي، يمكنه تضليل الأقمار الصناعية المعادية، التي تحوم على بعد أكثر من 1500 كيلومتر.
وفي عام 2022، كشفت عن نظام الصواريخ الباليستية العابر للقارات "زاديرا" الذي يتضمن عنصر ليزر عالي الطاقة، والمصمم بغرض التصدي لتهديدات الطائرات المسيّرة الأوكرانية.
وتقدمت الصين بسرعة في برامجها الخاصة بالأسلحة الكهرومغناطيسية، فهي تمتلك أسلحة هجومية ودفاعية تعتمد في تشغيلها على المجال الكهرومغناطيسي، منها المدفع الكهرومغناطيسي، الذي صُمم لمكافحة الشغب وتفريق المظاهرات.
وطورت صاروخ كروز مزودا برأس حربي كهرومغناطيسي، يمكن إخفاؤه داخل حاوية شحن على متن سفينة، ويمكن إطلاقه من أي ميناء لتدمير مواقع عسكرية حيوية ومرافق تصنيع وبنى حيوية أساسية.
وأنتجت كذلك، سلاح ميكرويف صغير الحجم ذا قوة عالية، يمكن دمجه في صاروخ أو تثبيته على طائرة مسيرة، يعمل على تعطيل الأنظمة الإلكترونية المتطورة وشل حركة تشكيلات الدبابات.
ونجحت بريطانيا في اختبار نظام سلاح الطاقة الموجه بالليزر "دارغون فاير"، الذي يتميز بالدقة وسرعة الاستجابة والقدرة على اختراق المعادن، فضلا عن احتمال إصابة عالية للصواريخ سريعة الحركة والصواريخ الفرط صوتية.
واهتمت دول مثل كوريا الشمالية وجارتها الجنوبية وإيران والهند بامتلاك أنواع من الأسلحة الكهرومغناطيسية، وطورت اليابان وفرنسا وتركيا مدافع كهرومغناطيسية.
وزود الحرس الثوري الإيراني حزب الله اللبناني بشحنة من الأسلحة، تضم قنابل وصواريخ تحمل رؤوسا إلكترومغناطيسية متفجرة، يمكن إطلاقها من منصات قاذفة ثابتة، وبعضها يمكن حمله بواسطة طائرات مسيرة، قادرة على ضرب إسرائيل، وتدمير الأنظمة الإلكترونية العسكرية والمدنية فيها.