ها قَدْ غابت شمس اليوم وأنا جالس على كرسي هذا المقهى، أقضي السَّاعات والدقائق لأراقب المارَّة طوال اليوم وأتصيد من أحادثه بأحاديث تكسر مرارة وحدتي، وآلام الصَّمت المرير. ودَّعت شمس اليوم لأستقبل شمس الغد وأنا جالس على ذات الكرسي، ولتكرر أحداث الأمس خلال ساعات اليوم حتَّى أصبحَ يومي كغَدي.
نهاية لَمْ أكُنْ أتوقعها، فقَدْ قضيت سنوات شبابي في أنشطة العمل التطوُّعي تارةً في أنشطة الحركة الكشفيَّة أشارك رفقتي في رفع العَلم، ونصب الخيام، وطهو الطعام على نار أشعلناها على رمال الصحراء بمهارة الكشَّاف العنيد الصُّلب، وتارةً أقضي ساعات طويلة في أنشطة الجمعيَّات، وأخرى في الفرق التطوُّعيَّة، أخدم النَّاس وأخدم المُجتمع، فنقضي ليالي رمضان نخدم الصائمين فنعدُّ لهم وجبات الإفطار، ونُنظِّم للمحاضرات، وننسِّق للمسابقات الرمضانيَّة، ونقضي أيَّام العيد نجتهد لتقديم المساعدات والبرامج، وأقضي الصَّيف في الإشراف على المعسكرات الطلابيَّة والشَّبابيَّة، وكنتُ أحرم أبنائي من السَّفر التزامًا منِّي بمتابعة الأنشطة الصيفيَّة، كنتُ شعلة نشاط لا تكاد تنطفئ، فما كاد ينتهي برنامج حتَّى أبدأ الآخر من مؤتمر إلى حملة تنظيف ساحل ما، ثمَّ إلى حملات مساعدة المعوقين والمَرضى، وكَمْ كنَّا نسعد ونفخر عِندما كنَّا نلتقي بزملائنا المتطوِّعين خارج البلاد لِنستعرضَ تجاربنا، فنسافر من بلد إلى آخر نزور الجمعيَّات والفِرق التطوُّعيَّة فنستفيد ونفيد ونقضي أمتع أيَّام حياتنا ونصنع معًا أجمل الذكريات.
وكَمْ تقلَّدتُ مناصب قياديَّة في مواقع مختلفة من الجمعيَّات، وكَمْ ابتدعت أفكارًا جديدة في مجال العمل التطوُّعي لخدمة النَّاس والمُجتمع، آه لو أنَّني وثَّقت هذه الأفكار ضِمْن إجراءات الحماية الفكريَّة.
حتَّى جاء اليوم الَّذي اضطررت فيه أن أتركَ العمل التطوُّعي، فكثرة الصراعات، والنزاعات الَّتي عشتُها مع المتطوِّعين جعلتني أعتزل ساحة طالما أبليتُ فيها بلاءً حسنًا.
ها أنا اليوم أُعيد حساباتي لا لأقوِّمَ مسار حياتي، بل لأعضَّ أصابع النَّدم، فكَمْ كنتُ أقضي الأيَّام الطويلة في الأنشطة التطوُّعيَّة، فأنشغل عن أُسرتي، وزوجتي وأبنائي وأهلي، حتَّى ضيعت حقوقهم، وكنتُ أعدُّ هذا بطولة منِّي، بل أفخر به، وكَمْ كانت زوجتي تستصرخ وتترجَّاني أن أعطيَ كُلَّ ذي حقٍّ حقَّه، إلَّا أنَّني كنتُ أقولها خدمة النَّاس شغفي، فتردُّ عليَّ مستنكرةً: ألَا تَعدُّ أهلك من النَّاس؟ وطالما ناقشتني في محاولات يائسة أن أستفيدَ من السَّاعات الطويلة الَّتي أقضيها في التطوُّع، في مشروع تجاري مربح لِنرفعَ دخل أُسرتنا، فينتهي في كُلِّ مرَّة نقاشنا بشجار عنيف.
كنتُ أظنُّ نفسي فارسًا لَنْ يترجلَ أبدًا، كنتُ أظنُّ أنَّ مَنْ تطوَّعتُ لخدمتهم، ومَنْ شاركتُهم في أجمل ذكريات العمل التطوُّعي لَنْ يتنازلوا يومًا ما عن رِفقتي، وها أنا اليوم أحدق في شاشة هاتفي على أمل أن أرى اسمَ أحدِهم على شاشة الهاتف يتَّصل بي. وكَمْ كنتُ أتصفَّح المجلَّات الَّتي تصدرها الجمعيَّات علَّني أجد اسمي فيها، فلديَّ أمَل أن يذكرَني أحَدهم في صفحات الروَّاد، أو يشير إلى جهودي، إلَّا أنَّني اليوم أصبحتُ نسيًا منسيًّا، وقَدْ رموا بي في جبِّ النسيان.
أمَّا أُسرتي فقَدْ أصبحتُ غريبًا بَيْنَهم، فلَمْ يعتادوا مجالسَتي، فلدَيْهم من ألفوا رفقته. حاولت الاقتراب من أهلي وأقاربي، إلَّا أنَّ تقريب المسافات الَّتي كانت بَيْنَنا على مدى سنوات بسبب انشغالي المبالغ فيه باتَ أمرًا صعبًا، وقَدْ ألفوا بُعدي، حتَّى أدركتُ أنَّني أضعتُ صناعة ذكريات كان يجِبُ أن تجمعَني مع أهلي، فبتُّ غريبًا بَيْنَهم. لو أملكُ أن أعيدَ دَوْرة الأيَّام لأنشأتُ علاقات مع أهلي وأقاربي وجيراني وأصدقائي كَيْ لا أكونَ غريبًا وسط من حولي، هنا أدركتُ معنى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم (فاعط كُلَّ ذي حقٍّ حقَّه) ولكن بعد فوات الأوان. أدركتُ أنَّ في معاني هذا الحديث ليس إنصافًا للآخرين، بل هو إنصاف لي كَيْ لا أكونَ غريبًا بَيْنَ أهلي، وأدركتُ أنَّ الأقربين أوْلَى بالمعروف فهُمْ أوْلَى بالتطوُّع لخدمتهم… ودُمْتُم أبناء قومي سالمين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
najanahi@gmail.com
Najwa.janahi@
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: العمل التطو غریب ا
إقرأ أيضاً:
???? هنالك تساهل غريب من قبل الدولة مع هذا العميل الخطير (حمدوك) ورهطه
هنالك تساهل غريب من قبل الدولة مع هذا العميل الخطير (حمدوك) ورهطه_ أدوات التدمير الناعمة_ باسم القوى المدنية، فهو وبالرغم من أنه لم تكن له علاقة بالسودان لفترة طويلة، ولا حتى بالسياسة، لكنه مع ذلك حرص على الحضور وبذر بذور الفتنة بين السودانيين وشرعنة التدخل الأجنبي، لدرجة أنه كتب خطابا سرياً طالب فيه ببعثة أممية دون أن يشاور قيادة الدولة.
جاء حمدوك باسم الخبير الاقتصادي، لكنه لم ينشغل بالاقتصاد أبدا، لم يفتتح طوال عهده لا مصنع ولا شركة ولا أي مشروع تنموي، فكان كل تركيزه على الاتفاق الإطاري وتقوية المليشيا وهيكلة الجيش وجمع المعلومات عن الأمن والاقتصاد والبنية التحية وإرسالها لكفيله في أبوظبي، وقد ارتبطت فترته في الحكم، هو وقحت بالفوضى وبداية تدهور كل شيء، وتوظيف أموال المنظمات الأجنبية في الرشوة والتهديد أو التلاعب والفساد الأخلاقي، وتخريب المؤسسات والشركات والخدمة المدنية عبر ما كان يسمى بلجنة إزالة التمكين، ثم انتقلوا بعد ذلك لخدمة مشروع التدخل العسكري عبر بندقية آل دقلو.
خدمّ العملاء هذا المشروع عبر تنسيقية تقدم بصورة مستميتة، وكانت تتغير الوجوه والوسائل لكن الأهداف ثابتة، والآن وبذات الوضاعة والخيانة انتقلت هذه المجموعة_ عبر واجهات مختلفة_ لدعم الحكومة الموازية المقترحة، لتمزيق أوصال السودان، وحشد الموارد الاقتصادية والسياسية لها، والمطالبة بحظر الطيران، ومنع الجيش من القيام بواجبه في التصدي لهذا العدوان الإرهاب ي. فكل هذا النشاط المدفوع والممول لأجل انجاح مخطط السيطرة على موارد السودان بعد إضعاف القوات المسلحة والقضاء على كافة أشكال المقاومة.
وبالتالي يجب عدم التساهل مع هذه المجموعة، ومواجهتها بكل الوسائل، وسن قوانين صريحة تجرم الأعمال التي تضر بالأمن القومي، فالخيانة والعمالة ضد الوطن هما من أكثر الجرائم خطورة وأكثرها إساءة إلى الأمة والشعب.
عزمي عبد الرازق