نابلس- "الأكل والمونة في الدار وفي البراد، وفي باب خلفي بيطلع على حوش جيرانا لو تريدون تنسحبوا، وفداكم الدار طوبة طوبة، المهم تبقون بخير، في 700 شيكل في الفريزر، لو لزمكم مصاري، الله يحميكم ويأخذ بيدكم".

لم تكن تلك الكلمات مجرد رسالة عادية خطها أحد أفراد عائلة في مخيم جنين إلى المقاومين أو من يأوي مستجيرا بمنزلهم الذي نزحوا منه إلى خارج المخيم تحت زخات الرصاص وتهديد الاحتلال الإسرائيلي بقصف بيوتهم عليهم، بل هي عبارات حملت في طياتها مضامين تؤكد دعم الأهالي للمقاومين، وترشدهم لمكان الطعام والمال والانسحاب الآمن أيضا، والأهم أنها رهنت البيت فداء لهم ووضعته تحت تصرفهم.

إنقاذ مصابين

ما سلف جزء يسير من تعاضد أهالي المخيم في محنتهم ووقوفهم إلى جانب بعضهم رغم حالة المعاناة الجماعية التي عاشوها يومين كاملين تحت وقع الاجتياح الإسرائيلي لمخيمهم وتدميره لبنيته التحتية من الماء والكهرباء والاتصال، وآثار الدمار الكبير الذي خلَّفه الاحتلال في منازل المواطنين والتي بدأت تتكشف أكثر بعد انسحابه منتصف الليل من المخيم.

وعن تلك اللحظات الرهيبة في الاقتحام يروي شافع السعدي للجزيرة نت تفاصيل الساعات الـ48 التي عاشها في منزله مع نحو 25 شخصا من أسرته وأقاربه الذين تجمعوا داخل منزله، ويقول إنه مع اللحظات الأولى من القصف الإسرائيلي للمخيم قبيل العملية العسكرية أصيب شابان بجروح خطيرة أمام منزله، فسارع لسحبهما لداخل منزله وإسعافهما.

ويضيف السعدي "كانت شظايا الصاروخ قد اخترقت جسدَي المصابين بشكل كامل، ومع ذلك قدمنا الإسعاف لهما، والأهم أننا آويناهما حتى مجيء الأطقم الطبية وإسعافهما ونقلهما للمشفى، وأبقيت على الاتصال بهما بعد انسحاب الجيش منتصف الليل حتى اطمأننت على حالتهما الصحية، وهما بصحة جيدة".

برنامج إسناد

ومستفيدا من تجربته الواسعة كما يقول خلال الاجتياح الإسرائيلي لمخيم جنين عام 2002 سارع السعدي لإعداد برنامج ذاتي لمد يد العون للمواطنين، فعمل على تحويل منزله لمطبخ لإعداد وجبات الطعام لكل من احتاجها في الشارع، كما خاطر بنفسه وتسلل بين الأنقاض وصولا إلى أحد الصيدليات لإحضار دواء لمريض سكري تعثرت حالته، عدا "الإمداد اللوجستي الكبير" بالماء والقهوة للمواطنين.

ولم يكتف السعدي بما قدّم، بل حوَّل منزله لمركز إيواء، ويقول إنه وآخرين سارعوا للدخول إلى المنازل المستهدفة في حارة النادي وأخرجوا أهلها منها، وكان بينهم شيوخ كبار بالسن ومقعدون، تحت وقع القصف، ونقلوهم إلى منزله في مشهد عكس حجم "المحبة" الكبير الذي تربى عليه أهالي المخيم، ويضيف بلكنته البسيطة "إحنا بالمخيم غير".

وعمل السعدي ومن معه كأنهم بساحة حرب وحافظوا على أكبر قدر من طاقة الهواتف الخلوية لإنقاذ المواطنين، ويقول واصفا أخطر مشاهد عنف الاحتلال إن الجنود اقتحموا منزلا مجاورا لهم وعاثوا به فسادا بعد أن صادروا كل محتوياته، ثم زرعوا بداخله متفجرات، وانسحبوا منه بدون أن يبلغوا أحدا بفعلتهم، وقاموا بنسفه محدثين انفجارا ضخما وذعرا للكبار والأطفال.

في الانتصار والحزن معا

وكل قصص المعاناة والصمود هذه أضحت حديث أهالي المخيم الآن يتداولونه وغيرهم ممن عاش الاقتحام أو رصده عن قرب، كحال الصحفيين الذين حظوا باهتمام كبير من أهالي المخيم رغم محنتهم.

وخط الصحفي حافظ أبو صبرا على صفحته على فيسبوك وسط الاحتفاء بالنصر بعد انسحاب جيش الاحتلال، يقول "آخر ما تناولناه في جنين، حلوى نصر المخيم، هذا بعد كل الكرم الذي لمسناه من الأهالي داخل المخيم، كنا بعيدين عن عائلاتنا إلا أننا لم نشعر إلا أننا بين أهلنا".

وعن صبر أهالي المخيم وتعاضدهم والعض على جراحهم كتب أبو صبرا واصفا مشهدا حزينا لعمال من المخيم يحفرون مقبرة جديدة داخل المخيم، "اقتربت من أحدهم وسألته: ماذا تفعلون؟ فقال: مقبرة المخيم امتلأت، وباتت غير قادرة على استيعاب جثامين 10 شهداء دفعة واحدة".

فداء الأرواح

وأبهى صور تضافر المخيم "فداء الأرواح" بوصف علي قاسم سعدي أحد نشطاء المخيم، والذي قدّمه الشبان والمقاومون بالمخيم وعكسوا من خلاله أنهم "جسد واحد".

ويقول سعدي للجزيرة نت "في الساعات الأولى من اقتحام المخيم أصيب أحد المقاومين وهو سميح أبو الوفا، فتقدم صديقه لينقذه رغم إدراكه أنه ليس بمنأى عن رصاص القناص الإسرائيلي الذي أسقطه جانب صديقه، ثم تبعهم صديقهم الثالث لينقذهم، فاستشهد بجانبهم". ويضيف سعدي "ارتقى الشهداء الثلاثة معا، فهم تعاهدوا من قبل، إما الحياة معا أو الموت معا".

والأكثر تألقا في أشكال التعاضد برأي سعدي هو الحاضنة الشعبية للمقاومين داخل المخيم، وتساءل كيف يتخلى الأب والأم عن أبنائهم، ويقول إن كل الدمار والخراب الذي ألحقه الاحتلال في الممتلكات العامة والخاصة ليس إلا "انتقاما من هذه الحاضنة التي لم ولن يفت عضدها يوما، وجرَّب ذلك في اجتياح 2002 ولم يفلح".

وهو ما لم ينكره المقاومون أنفسهم وتحدثوا به أمام كاميرات الصحافة بعيد الانسحاب الإسرائيلي، وأكدوا على "دعم الأهالي الكبير" واحتضانهم لهم في أحلك الظروف.

حملة للتبرع بالدم في الخليل لصالح جرحى العدوان الإسرائيلي في جنين https://t.co/yFd14yI7zH

— shahennews.com (@dawodsha49) July 4, 2023

إمداد الخارج

وثمة صور أصدق عكست اللحمة الفلسطينية خارج حدود المخيم ومدينة جنين ككل وفق سعدي، ويقول "كل الضفة الغربية وقفت مع المخيم، نعم كل الشعب"، ولم يكن ذلك داخل المخيم فحسب، بل خارجه أيضا، لا سيما بمؤازرة وإيواء من نزحوا منه، "وقد فتح الناس في القرى والمدن أبوابهم واستقبلونا بمنازلهم وبين أهلهم".

وانطلاقا من الإضراب الشامل الذي أعلنته الضفة الغربية على مدى يومي العدوان الإسرائيلي على مخيم جنين بدأت عمليات مؤازرة المخيم في مختلف مناطق الضفة الغربية، وأطلقت فعاليات التبرع بالدم وحملات الإغاثة المختلفة والتي لا تزال مستمرة.

كما خرجت عديد المظاهرات المنددة بجريمة الاحتلال في المخيم، في الضفة الغربية والداخل المحتل والقدس أيضا، واشتبك المواطنون في أكثر من موقع مع جيش الاحتلال ومستوطنيه.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الضفة الغربیة

إقرأ أيضاً:

رمضان بطعم الحزن.. اليأس يخيم على الفلسطينيين فى جنين وطولكرم بالضفة الغربية.. عمليات جيش الاحتلال تؤكد قسوة الظروف فى ظل أوامر إخلاء المخيمات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يختلف رمضان هذا العام في الضفة الغربية اختلافاً كبيراً عن احتفالات الأعوام الماضية، حيث يتصارع آلاف الفلسطينيين النازحين، وكثيرون منهم من مخيمات اللاجئين في جنين وطولكرم، مع حقائق العملية العسكرية الإسرائيلية التي اقتلعت حياتهم من جذورها. وبالنسبة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين، أصبح الشهر المقدس، الذي عادة ما يكون وقتاً للعبادة الروحية والتجمعات المجتمعية والعائلية، بمثابة تذكير قاتم بقسوة وعدم يقين فى ظل الأوامر الإسرائيلية بإخلاء المخيمات ونزوحهم.
شوارع بلا أضواء
وذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن الأسواق الصاخبة في رمضان، والتي كانت تمتلئ تقليدياً بدفء المجتمع وتوقع وجبات الإفطار، أصبحت الآن مجرد ظل لما كانت عليه في السابق. ففي مدينتي جنين وطولكرم بالضفة الغربية، أصبحت الشوارع هادئة بعد أن كانت تتوهج ذات يوم بالأضواء وأصوات الأطفال وهم يلعبون. يقول محمود سكر، وهو أب لأربعة أطفال من جنين، نزحت أسرته خلال العملية العسكرية الإسرائيلية التي بدأت في يناير: "كان رمضان يشرق في الماضي". ويزعم الجيش الإسرائيلي، الذي نفذ عمليات كاسحة في المنطقة، بما في ذلك إرسال الدبابات إلى جنين وإقامة وجود عسكري في طولكرم، أن العملية تهدف إلى تفكيك الشبكات "الإرهابية". ومع ذلك، كان التأثير مدمرًا بالنسبة للأسر النازحة، ويتساءل الكثيرون متى، أو ما إذا كانوا سيعودون إلى منازلهم؟.
بالنسبة للأسر مثل عائلة سكر، فإن مصاعب النزوح أثرت سلبًا على حياتهم العائلية والروحية. فر محمود وعائلته من جنين وليس لديهم سوى الملابس التي يرتدونها. اضطروا إلى التشتت عبر منازل مختلفة لتجنب العنف المستمر. ومع بداية شهر رمضان، سعت الأسرة إلى لم شملها، مدفوعة بالرغبة في الحفاظ على الوحدة المقدسة للشهر الكريم.
يقول محمود: "لقد غادرنا بلا شيء. والآن لا نعرف إلى أين ننتمي". وقد أصبح هذا الشعور بعدم الانتماء، إلى جانب صدمة النزوح، موضوعًا مركزيًا للعديد من العائلات الفلسطينية.
في غياب مجتمعهم السابق، تكافح العائلات النازحة لإعادة خلق وسائل الراحة في المنزل. على سبيل المثال، لا يمكن العثور على المسحراتي - الشخصية الأيقونية التي تمشي تقليديًا في الشوارع ليلاً، وتدعو الناس إلى وجبة السحور قبل الفجر - في أي مكان. تقول نائلة سكر، زوجة محمود: "لن يطرق بابنا هذا العام، ليس لدينا باب ليطرقه". الهدوء الذي يلف شوارع طولكرم الآن لا يكسره سوى أصوات المركبات العسكرية وتحرك السكان النازحين بين الحين والآخر عبر أنقاض منازلهم السابقة. بالنسبة إلى انتصار نافع، من طولكرم، فإن غياب مطبخها المحبوب، حيث كانت تعد وجبات الطعام لمجتمعها خلال شهر رمضان، أمر مؤلم بشكل خاص. وتقول "لا شيء مثل رمضان هذا العام. إنه يتعلق بالعائلة، وكسر الخبز معًا. بدون ذلك، ماذا يتبقى منه؟".
التهجير القسري
بالنسبة للعديد من الفلسطينيين النازحين، أصبحت وجبة الإفطار التقليدية، والتي تتكون عادة من الحساء والسلاطة وطبق رئيسي دسم، امتيازًا نادرًا. فبدلاً من الوجبات التي تعدها الأسرة، يعتمد الكثيرون الآن على المساعدات، حيث يقوم المتطوعون بتسليم وجبات الإفطار الباردة للمحتاجين. إن هذه الوجبات المعبأة، والتي يتم تسليمها في كثير من الأحيان في وقت متأخر من اليوم، تشكل تذكيرًا صارخًا بالظروف الصعبة التي يواجهها الفلسطينيون في الضفة الغربية.
إن النزوح المستمر وعدم اليقين بشأن مستقبلهم يلقي بظلاله القاتمة على شهر رمضان بالنسبة للأسر في الضفة الغربية. ولم تبد إسرائيل أي إشارة إلى أن العملية العسكرية ستتوقف قريبًا، الأمر الذي ترك الأسر النازحة في حالة من الغموض. وبالنسبة للعديد من الناس، أصبح شهر رمضان، الذي كان تقليديًا وقتًا للتجديد والتأمل، شهرًا للانتظار - انتظار الأخبار، وانتظار الأمل، وانتظار إمكانية العودة إلى المنازل التي عرفوها ذات يوم.
ومع تقدم الشهر المقدس، يواصل الفلسطينيون في الضفة الغربية التعامل مع واقعهم القاسي، متمسكين بالأمل الخافت في أن يعودوا ذات يوم إلى منازلهم ويستعيدوا الحياة التي سُرقت منهم.
 

مقالات مشابهة

  • ربط فرنسي بين الإعمار والإصلاحات.. ومساندة لضمان الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجنوب
  • الاحتلال يحرق منازل في جنين وطولكرم ويواصل الاعتقالات بالضفة
  • العدو الإسرائيلي يواصل إحراق المنازل في جنين
  • هكذا تحارب إسرائيل التعليم في جنين وتمنع وصول آلاف الطلبة لمدارسهم
  • رمضان بطعم الحزن.. اليأس يخيم على الفلسطينيين فى جنين وطولكرم بالضفة الغربية.. عمليات جيش الاحتلال تؤكد قسوة الظروف فى ظل أوامر إخلاء المخيمات
  • من جنين وطولكرم ونورالشمس.. تشريد 40ألف فلسطيني من شمال الضفة
  • جيش الاحتلال يقتحم بلدة قباطية جنوبي جنين بالضفة الغربية
  • إعلام فلسطيني: قوة من جيش الاحتلال تقتحم بلدة قباطية جنوبي جنين بالضفة الغربية
  • فيلادلفيا.. محور الموت الذي يمنع أهالي رفح من العودة
  • آثار الدمار في المبنى السكني الذي استهدفته طائرات الاحتلال الإسرائيلي في مشروع دمر بدمشق