بين كمال الجزولي وبيني أستاذنا عبد الخالق محجوب. عرفنا منه عن كثب ما ربانا معاً على معنى للزمالة صمد لعاتيات تحولاتي السياسة ولعاتيات كمال الكثيرة. كان إذا جاءت سيرته بيننا أشرق فانوس من المثاليات من رجل أخذ رسن القيادة بحقها. وكان هذا الرباط أيضاً ما وثق بيني وبين المرحوم عبد الله محمد الحسن في آخر الستينات.

ولا أعرف مثله أحب عبد الخالق. وأحب هو عبد الخالق جداً. وله كتابات في الرد على صلاح أحمد إبراهيم حين أطلق سخريات مرة عن عبد الخالق البرلماني في 1968.
وحكاية عبد الخالق وصلاح أحمد إبراهيم مما كان كمال يؤنسني بها. ووقعت في أيام المبارزة المعروفة بين صلاح وعمر مصطفي المكي، رئيس تحرير جريدة الميدان وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي، على صفحات جريدة الصحافة في شتاء 1968. وكانت لها عناوين جهادية مثل "الأقنعة الزائفة لا تبدل من الحقيقة شيئا" (عمر مصطفي المكي) و "هيها يا مسيلمة فشرف المبارزة قاصر على الشرفاء" (صلاح أحمد إبراهيم). ودخل عبد الخالق على تلك الخصومة بدماثة قيادية قد لا يصدق أحد أنها مما يحدث ماضياً وحاضراً.
وفي ليلة في ذكرى صلاح أحمد إبراهيم حكى كمال الجزولي كشاهد عيان مأثرة لأستاذنا تأخذك منك. قال للحضور:
ولأنَّني أحسُّ بأن معظمكم ربَّما كان متشوِّقاً لسماع إفادة في هذا المحور، فلا أغادر دون أن أدلي بما يقع في حدود علمي:
رغم ما قد يبدو على صلاح أحمد إبراهيم أحياناً من خشونة مظهريَّة في معاركه الفكريَّة، وفي خلافه، بالأخص، مع الحزب الشِّيوعي، إلا أنه يتَّسم، مع ذلك، بدماثة متناهية، ولين مزاج اجتماعي رائق. جاء من باريس بعد الانتفاضة، لأوَّل مرَّة، وكنت، وقتها، عضواً بهيئة التَّحقيق والاتِّهام ضد عمر محمد الطيب، نائب رئيس الجُّمهوريَّة، ورئيس جاز أمن الدَّولة، ومجموعة من ضبَّاطه، في قضيَّة ترحيل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل، فرجاني ألا أخاطبهم بغير ألقابهم العسكريَّة! قال: ذلك لن يضير عملكم في شيء، لكنهم خارجون لتوِّهم من "دنياهم المجيدة" إلى ظرف استضعاف لم يعتادوه، فيجدر "التَّرفُّق" بهم مهما كانت أفعالهم! قال ذلك رغم أنه، شخصيَّاً، كان قد تضرَّر من معاملة جهاز الأمن له، ولأسرته، وأصدقائه، على مدى سنوات طوال حرم خلالها حتَّى من زيارة السُّودان!
في عام 1968م كنت صحفيَّاً بجريدة "الضِّياء"، لسان حال الحزب الشِّيوعي بعد حله، وكان يرأس تحريرها عمر مصطفى المكي، وكنت أشاركه، وسمير جرجس، مكتباً داخليَّاً واحداً. كانت الجَّريدة متوقِّفة عن الصُّدور بسبب تعثُّرها في سداد مستحقَّات المطبعة. فكان عمر مشغولاً، معظم الوقت، بكتابة مقالاته الهجوميَّة ضدَّ صلاح، في إطار سجالهما المشهور بجريدة "الصَّحافة"، يغلظان على بعضهما البعض بصورة غير مسبوقة، وكان يشرف على "تسخين" تلك السِّجاليَّة الصـَّحفي النَّشط مبارك الرفيع!
وأذكر أن غالبيَّة المبدعين داخل الحزب كانوا غير راضين عن محاولة عمر التعريض بإبداع صلاح (!) علماً بأننا كنا نوقِّر مكانة الأخير المرموقة في خارطة الشِّعر السُّوداني، بل والعربي. وكانت لبعضنا علاقات طيِّبة معه في المستوى الشَّخصي، لذلك تأثُّرنا بالغاً حين علمنا بارتفاع السُّكر في دمه بسبب تلك السِّجاليَّة حسبما أبلغه الطبيب!
وذات مرَّة توعَّده عمر بأنه، في مقال قادم، سيتناول "شعره المزعوم"، على حدِّ تعبيره! وبحكم وجودي في نفس المكتب كنت شاهد عيان على مجيء عبد الخالق، في ذلك اليوم، إلى مقرِّ "الضِّياء"، برفقة الرَّشيد نايل، ليطلب من عمر التَّوقُّف عند ذلك الحدِّ، قائلاً له ما يعني أن النَّاس، عادة، لا يقبلون الأحكام النَّقديَّة تصدر من غير المتخصِّصين، وأنت لم تُعرف كناقد أدبي، فضلاً عن أن صلاحاً شاعر حقيقي، والخلاف السِّياسي معه ليس تكأة لأن نحشر موضوع شعره فيه!
وكان قد سبق لعبد الخالق موقـف مماثل، تأسيساً على احتجـاج كـان أبداه زميلنا عـبد الله علي إبراهيم إزاء هجوم صحيفة الحزب، في مناسبة سلفت، على صلاح الشَّاعر، ولعلّه أشار لذلك قبل فترة، إن لم تخنِّي الذاكرة!
الشَّاهد أنني، في محاولة لإقناع صلاح بأن عبد الخالق لا يقف خلف مقالات عمر كما كان يعتقد، استشهدت له بتلك الواقعة مرَّتين: الأولى مساء نفس اليوم، عندما التقينا، وبعض الأصدقاء، في مكتبة ومقهى "سدرة المنتهى" بالمحطة الوسطى بالخرطوم. لكنه لم يكن ليصدِّق، فقد كان يجزم أن عمراً لا يكتب إلا بتحريض من عبد الخالق، وسبحان من كان يستطيع أن يقنعه بخلاف ذلك!
أمَّا المرَّة الثَّانية فقد حدثت بعد ذلك بعشرين سنة، حين التقينا عام 1988م، على مائدة عشاء بمنزل صديقنا المؤرِّخ العسكري عصمت زلفو. كان صلاح هناك، بالإضافة إلى علي المك ومحجوب عثمان. وحاولوا جميعاً أن يؤكدوا له أنه مخطئ في اعتقاده بأن عبد الخالق كان يحرِّض ضدَّه. بدا، ليلتها، ميَّالاً للتَّصديق، لا سيَّما وقد أشرت إلى طلب عبد الخالق الاستماع إلى "الطير المهاجر" في سهرة إذاعيَّة استضيف فيها بمناسبة فوزه في انتخابات الدَّائرة الجنوبيَّة التَّكميليَّة بأم درمان، وذلك كي أؤكِّد له أن الرَّجل لا يضمر موقفاً شخصيَّاً ضدَّه! فأبدى دهشته، قائلاً إنه لم يسمع بذلك من قبل! لكنني أذكر، ونحن عند حوض غسيل الأيدي، أنه قال لي، فجأة، بانفعال شديد: "لكين ياخ يخليني أتكلم زي المجنون ميَّة سنة ما يقول لي عينك في راسك"؟! فتيقَّنت، ساعتها، من أن ذلك هو لبُّ الضَّغينة! لكن، بعد سنوات من ذلك، جاءت استضافة حسين خوجلي له في مقابلة تلفزيونيَّة، خلال سنوات الإنقاذ الأولى، ومحاولته جرجرته لمهاجمة الشِّيوعيين، وربَّما عبد الخالق نفسه، لكنه رفض بعناد أسال منه دمعاً تلألأ في عدسات الكاميرات، ورآه كلُّ المشاهدين، مِمَّا ينطوي، دون شكَّ، على دلالة لا تفوت على فطنة الفطنين!
رحمة الله ورضوانه على صلاح، وعلى جميع الرَّاحلين مِمَّن مرَّ ذكرهم في هذه الكلمة، وأطال أعمار الأحياء ومتَّعهم بالصَّحَّة والعافية، والشُّكر أجزله لكم على حسن الاستماع!

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: عبد الخالق على صلاح ما کان

إقرأ أيضاً:

"الزراعة" تختتم ورشة عمل حول الزراعة المُستدامة والأمن الغذائي بالتعاون مع "كاردني"

اختتمت وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، ممثلة في قطاع الإرشاد الزراعي، فعاليات ورشة العمل التدريبية التي تم تنظيمها بالتعاون مع المركز الإقليمي للإصلاح الزراعي والتنمية الريفية في الشرق الأدنى "كاردني" تحت رعاية علاء فاروق وزير الزراعة واستصلاح الأراضي، حول الزراعة المستدامة والأمن الغذائي.

ومن جهته أكد الدكتور علاء عزوز رئيس قطاع الإرشاد الزراعي، على أهمية هذه الورشة، والتي استمرت على مدار ثلاثة ايام، ناقشت خلالها عددا من الموضوعات من بينها: سياسات الأمن الغذائي في مصر، الإدارة المُتكاملة للموارد الطبيعية ودورها في تحسين الأمن الغذائي، تنمية المحاصيل الحقلية لتحقيق الأمن الغذائي والتنمية الزراعية المُستدامة، فضلا عن تنمية الثروة الحيوانية والداجنة ركيزة أساسية لتحقيق الزراعة المُستدامة وتعزيز الأمن الغذائي، ودور الإبتكار الزراعي في تعزيز الأمن الغذائي الزراعي في المناطق الريفية،

وأشار إلى أن ورشة العمل ناقشت موضوعات: الزراعة الذكية والحلول المُستقبلية لتحقيق الأمن الغذائي المُستدام، فضلا عن مكافحة أمراض وآفات النباتات لتحقيق الزراعة المُستدامة وتعزيز الأمن الغذائي، ودور تنمية الثروة السمكية في تعزيز الأمن الغذائي، فضلا عن تأثير التغير المناخي علي الزراعة المُستدامة والأمن الغذائي.

وأكد رئيس قطاع الارشاد الزراعي، أن الزراعة المستدامة تعد حجر الزاوية لتحقيق الأمن الغذائي والمحافظة على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة وزيادة الإنتاج الزراعي بشكل يراعي التحديات البيئية نظرا لما يواجه العالم من تحديات مثل تغير المناخ وندرة المياه وتدهور التربة مما يجعل من الضروري تبني الزراعة المستدامة كحل رئيسي لمواجهة هذه التحديات.

وأوضح عزوز أن الزراعة المستدامة تساهم بشكل كبير في تعزيز الأمن الغذائي وحماية البيئة، وتحسين جودة الحياة للمزارعين، لافتا إلى أنه من أجل تحقيق الزراعة المستدامة يجب توعية المزارعين بأهمية هذه الممارسات وتدريبهم على كيفية تنفيذها، بحيث يتضمن التدريب تقنيات زراعية جديده والتوعيه باهمية تطبيق نظم الري الحدي واستخدام الأسمدة العضوية بالإضافة إلى كيفية التكيف مع التغيرات المناخية.

 

وأكد رئيس قطاع الإرشاد الزراعي على أهمية تكامل الجهود بين المراكز البحثية والجامعات والجهات التي تقدم خدمات الإرشاد الزراعي للمزارعين وتبني الممارسات الزراعية المستدامة لضمان مستقبل أفضل للزراعة.

وجاء ختام فعاليات ورشة العمل وتوزيع الشهادات على المتدربين بحضور:  الدكتور علاء عزوز رئيس قطاع الإرشاد الزراعي، والدكتور موفق السرحان  المدير التنفيذى للمركز الإقليمي للإصلاح الزراعي والتنمية الريفية في الشرق الأدنى " كاردني".

وشارك في ورشة العمل  قطاعي: الخدمات الزراعية والمُتابعة، وتنمية الثروة الحيوانية والداجنة، فضلا عن الجهاز التنفيذي لمشروعات تحسين الأراضي، كذلك مركز البحوث الزراعية ممثلا في معاهد: بحوث المحاصيل الحقلية، البساتين، تكنولوجيا الأغذية، الارشاد الزراعي، الصحة الحيوانية، أمراض النباتات، القطن، الهندسة الوراثية فضلا عن معهدي بحوث الأمصال واللقاحات البيطرية، الإقتصاد الزراعي، والمعامل المركزية للمناخ الزراعي، الزراعة العضوية، تحليل متبقيات المبيدات والعناصر الثقيلة في الأغذية، وبحوث الحشائش، فضلا عن مركز معلومات تغير المناخ والنظم الخبيرة.

كما شارك في ورشة العمل أيضا ممثلو مديريات الزراعة بمحافظات: الجيزة، القليوبية، الفيوم، المنوفية، والغربية، فضلا عن: الإتحاد التعاوني الزراعي المركزي، الجمعية العامة للأراضي المُستصلحة، والجمعبة العامة للإصلاح الزراعي.

مقالات مشابهة

  • أحمد محمد إبراهيم يحصد فضية بطولة الجمهورية للجودو
  • شاعر مغربي من معرض الكتاب: نحن مدينون لمصر ثقافيًا
  • عمر كمال يتذكر الراحل أحمد رفعت بهذه الكلمات| ماذا قال؟
  • من طفولته في الإسكندرية إلى المنفى بباريس.. بيرم التونسي شاعر لم يعرف الحب أبدا
  • على خطى الأبنودي.. «عمر زايد» شاعر متميز شارك بديوان في معرض القاهرة الدولي
  • بعد صلاح ومرموش.. إبراهيم عادل مرشح للانتقال إلى مانشستر يونايتد.. عاجل
  • مندوب مصر لدى مجلس الأمن يشيد بالدور التاريخي لـ "أونروا" في غزة
  • "الزراعة" تختتم ورشة عمل حول الزراعة المُستدامة والأمن الغذائي بالتعاون مع "كاردني"
  • الإرشاد الزراعى: الزراعة المستدامة تساهم في تعزيز الأمن الغذائي
  • اصفرار