الكاتب أزهر جرجيس: الأدب يدافع عن المسحوقين.. وما قيمة الرواية إن لم تكن احتجاجا؟
تاريخ النشر: 5th, July 2023 GMT
باريس – عبر لعبة استحضار الذاكرة ورياح الحنين، تغوص رواية "حجر السعادة" للكاتب العراقي أزهر جرجيس في قصة حياة مصور فوتوغرافى عراقي مغمور يدعى كمال توما، ويمتزج مسار حياة البطل الرمزي المكثف ويتزاوج جنبا إلى جنب في الرواية مع تاريخ العراق منذ الستينيات حتى عام 2018.
وينجح جرجيس عبر توظيف أدوات فنية سردية في المراوحة والمزاوجة بين الكتابة بالكلمات والقص من جهة والكتابة بالصور والكاميرا من جهة أخرى، لتتحول هذه الآلة العجيبة المحنطة للزمن "الكاميرا" هي نفسها شخصية مركزية في الرواية والسرد يتوارى خلفها البطل كمال توما ليروي قصة مدينته المنكوبة الموصل وبلده الغارق في العنف؛ العراق.
يرمز حجر السعادة الأزرق المضمن في الرواية إلى التميمة العجيبة التي حاول البطل المتناقض والضعيف كمال توما الاستعانة بها كي يحقق سعادته ويعثر على توازنه النفسي وهويته ومكانته الاجتماعية، بينما يدفعه الراوي العليم (الكاتب نفسه) بتطور الخط الدرامي السردي إلى التخلص من هذا الحجر "اللعنة" المجسد لثقافة الخمول والسكون والطمأنينة، ومعاندة قدره ومواجهة مصيره والثورة على العادات والتقاليد والخروج من كهف الخضوع والانطلاق نحو الحرية والثورة، وكأني به يستحضر صرخة الشباب العراقي والعربي وهم يرددون في ساحات النضال صرخة أبي القاسم الشابي الشعرية: "إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر".
وأزهر جرجيس كاتب وروائي عراقي من مواليد بغداد 1973 حاصل على الليسانس في علم الاجتماع، عمل في الصحافة الثقافية ونشر العديد من المقالات والقصص في الصحف والدوريات المحلية والعربية. نشر في عام 2005 كتابًا ساخرًا يحمل عنوان "الجحيم الأرضي"، تعرض بسببه لمحاولة اغتيال اضطر على إثرها إلى مغادرة البلاد نحو منفاه الأخير في النرويج التي يقيم فيها منذ ذلك التاريخ.
أصدر جرجيس مجموعتين قصصيتين بعنوان "فوق بلاد السواد" و"صانع الحلوى"، قبل أن ينتقل إلى عالم الرواية ويصدر رواية أولى بعنوان "النوم في حقل الكرز" التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية في دورة 2020، ثم أتبعها بروايته الثانية "حجر السعادة" التي وصلت إلى القائمة القصيرة من الجائزة نفسها في دورتها الأخيرة لعام 2023، والروايتان صادرتان عن دار الرافدين للنشر.
قصص وحكايات ساخرة بعنوان "فوق بلاد السواد" لأزهر جرجيس (الجزيرة)عن العوالم الخفية لرواية "حجر السعادة"، وبطلها كمال توما الذي يمثل صرخة المهمشين والمنسيين والبسطاء والمضطهدين في المجتمع، وعن الخلطة الفنية السحرية التي حملت أسباب وبذور نجاح هذه الرواية ووصولها إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، كان للجزيرة نت هذا اللقاء مع الروائي والكاتب أزهر جرجيس الذي أكد أن الأدب الروائي ليس تقريرا صحفيا بل هو نص جمالي قائم على التخييل، وعرج في حديثه على حراك تشرين الثوري الذي وصفه بالعفوي لكنه لم يصمد أمام الآلة الحربية للسلطة، وانفتح الحوار أيضا على قضايا ومواضيع ثقافية عربية وإنسانية أخرى كالمنفى والثورة، فإلى الحوار:
كيف تلقيت وصول روايتك الأخيرة "حجر السعادة" إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، وقبلها روايتك "النوم في حقل الكرز" في القائمة الطويلة للجائزة نفسها؟ وكيف تنظر إلى دور الجوائز في التحفيز على الكتابة؟بفرح طبعا، وللجوائز دور في تسليط الضوء على النص بما يزيد من رقعة مقروئيته وترجمته إلى لغات أخرى.
برأيك، هل الحصول على جائزة ما هو فخ كبير للمبدع الحقيقي يمكن أن يلهيه ويسقطه في الشهرة الزائفة وحب الظهور والابتعاد عن العمق في أعماله القادمة؟ هذا البعد المفخّخ للجوائز كيف تقيّمه؟الأمر نسبي بلا شك، فكم من كاتب تحصل على جائزة فأعشته أضواء الشهرة وأطفأت شعلة إبداعه! ولكم من كاتب شكّلت له الجائزة دافعًا لمواصلة مشروعه الكتابي!
رواية "حجر السعادة" لأزهر جرجيس (الجزيرة) تحمل شخصية كمال توما بطل رواية "حجر السعادة" بعدا رمزيا مكثفا لتجسد طبقة المهمشين والقابعين في قاع المجتمع والشوارع الخلفية، فأي قصدية فنية ورمزية لهذا التوجه المضموني؟ وهل تعد نفسك ناطقا رسميا باسم المهمشين والمنسيين؟كل الشخصيات الضعيفة في الرواية كانت طرفًا في صراع الهامش مع المركز؛ البنوّة المعنّفة أمام الأبوّة المتسلّطة والقاسية، التلميذ الهزيل الأرنب أمام التلميذ القوي المتنمّر، الخدم أمام رجل دين كاذب ومستغل، العزّل أمام المسلّحين.. كلها ثنائيات شكّلت دائرة الصراع، فكانت "حجر السعادة".
ما قيمة الأدب حين لا يدافع عن طبقة المسحوقين في المجتمع؟ وما قيمة الرواية إن لم تكن مسيرة احتجاج؟ بكل تأكيد، أنا مع الرأي القائل بضرورة أن يكون للكاتب موقف تجاه السلطة والمجتمع، وأن يتجسد ذلك من خلال نصوصه وآرائه.
هل تتبنّى هذا البعد النضالي للأدب الذي يعرفه كناطق رسمي باسم الطبقات المسحوقة في المجتمع والمهمشين والمدافع عنهم؟ وكيف تعرف الكتابة والأدب والإبداع عموما؟ما قيمة الأدب حين لا يدافع عن طبقة المسحوقين في المجتمع، وما قيمة الرواية إن لم تكن مسيرةَ احتجاج؟ بكل تأكيد، أنا مع الرأي القائل بضرورة أن يكون للكاتب موقف تجاه السلطة والمجتمع، وأن يتجسد ذلك من خلال نصوصه وآرائه. الأدب الروائي ليس تقريرًا صحفيا يحيط القارئ بالخبر، بل هو نص جمالي قائم على الرؤية والتحليل، وقبل ذلك على الموقف من الوجود.
تغوص رواية "حجر السعادة" في قصة حياة مصور فوتوغرافى عراقي مغمور يدعى كمال توما، كما أن كل أحداثها وشخصياتها موصلية عراقية تنبش في الواقع المحلي بكل تفاصيله، فلماذا اخترت العودة لمواجهة الواقع العراقي رغم أنك تقيم منذ سنوات في النرويج؟ وإلى أي مدى يمكن الاطمئنان فنيا إلى لعبة الذاكرة والحنين التي قام عليها السرد؟هذا ليس صحيحًا، فالأحداث مقسمة بين الموصل وبغداد، وكذلك الشخصيات. لقد اتخذت من هاتين المدينتين ظرفًا مكانيا لأحداث الرواية، وهذا بالطبع ما يتسق مع حياة "كمال توما" وحكايته. أما كوني مقيمًا في النرويج، ففي الواقع لم أعتمد في كتابة "حجر السعادة" على خزّان الذاكرة، بل سافرت إلى العراق وبقيت هنالك مدة طويلة كانت كافية لإتمام مسودة الرواية.
يحفل المجتمع النرويجي، وخاصة في ظل وضع العرب والمسلمين والمهاجرين داخله، بكثير من المواضيع والقضايا المحفزة على الكتابة والخيال، فهل لديك فكرة عمل روائي عن ضفة الشمال؟ ومتى ستكتب عن اللاجئين والمهمشين والقاطنين في أحياء الصفيح النرويجية والإسكندنافية والأوروبية؟لا توجد أحياء صفيح في النرويج، والكل يعيش فوق خط الفقر. هذا لا يعني أن الأمر يخلو من مشاكل، لا سيما تلك التي تخص المهاجرين وحيواتهم، وقد كتبت كثيرا من القصص عن ذلك، كما أن روايتي الأولى كانت عن مهاجر عراقي يعمل موزّع بريد في النرويج، ولم أغفل معاناته مع اللغة والاندماج والقوانين الجديدة عليه، وما تؤول إليه حياة اللاجئ حين يتعرض للعنصرية في العمل والشارع.
يمتزج مسار حياة البطل كمال توما ويتزاوج جنبا إلى جنب في الرواية مع تاريخ العراق الحديث، فما رسائلك الإبداعية من خلال الحيلة الفنية التي وظفتها في المراوحة بين الكتابة بالكلمات والقص، والكتابة بالصور والكاميرا، حيث أصبحت هذه الآلة العجيبة المحنطة للزمن هي نفسها شخصية مركزية في الرواية يتوارى خلفها البطل كمال توما؟الرواية واقعية أكثر منها خيالية، وما دامت كذلك فلا حيلة لعزل البطل عن محيطه، وإلا سيكون بطلًا من ورق. لقد عاش كمال توما عمر العراق الحديث منذ بدايات الجمهورية الأولى حتى مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي وسقوط النظام فتشييد نظام جديد على أنقاضه، وهذه مدة طويلة شهدت كثيرا من الاضطرابات السياسية والاجتماعية، فكان لا بد من تتبعها، لكن لا على سبيل العناية، فالأولوية لحكاية كمال ومجريات حياته، بل جعلها بمنزلة الحديقة الخلفية للسرد.
يرمز حجر السعادة الأزرق المضمّن في الرواية إلى التميمة العجيبة التي حاول البطل الضعيف كمال توما الاستعانة بها كي يحقق سعادته ويعثر على توازنه النفسي، فإلى أي مدى تعد لحظة تخلصه من هذا الحجر في النهر دعوة خفية منك للثورة على العادات والتقاليد والموروث والخروج من كهوف الخضوع والانطلاق نحو الحرية والثورة؟ رواية "النوم في حقل الكرز" لأزهر جرجيس (الجزيرة)هي وثيقة احتجاج على العادات والتقاليد البالية التي ظلت تتوارث من جيل إلى جيل حتى أمست بمنزلة الحقائق المسلّمة، ودعوة إلى إعادة قراءة الموروث الشعبي برمّته، والتعامل معه على أنه "أنتيكة" من شأنها تزيين المكان فحسب. ما حدث مع "كيمو" هي حالة نفسية جاءت كأثر منطقي لمسلسل العنف الأسري الذي كان يتلقّاها من قبل الأب المتسلط وزوجة الأب الواشية، وليس من المنطق علاجها بحجر صامت بلا حول ولا قوة. لقد عرف هذا بعد سنوات طويلة من النكوص والضعف بسبب الاتكال على الحجر، لهذا كان لا بد من لحظة المواجهة مع الذات والخلاص من أسباب ضعفها.
الحالة السياسية في العراق مرتبكة، وهنالك التباس مقصود بين السلطة والمعارضة يرتقي في بعض الأحيان إلى مستوى التخادم.
لماذا برأيك فشل الحراك الثوري الشبابي في العراق في تغيير الوضع السياسي والاجتماعي المتكلس منذ عقود، رغم الهبة التلقائية الثورية الجميلة التي توحدت لأول مرة تحت راية العراق بعيدا عن الشعارات الطائفية؟الحالة السياسية في العراق مرتبكة، وهنالك التباس مقصود بين السلطة والمعارضة يرتقي في بعض الأحيان إلى مستوى التخادم. حراك تشرين الثوري جاء عفويا بادئ الأمر، واضح المعالم، لكنه لم يصمد أمام الآلة الحربية للسلطة، وذلك فسح المجال لدخول لاعب جديد بدعوى حماية المحتجين السلميين، وهكذا تم ركوب الموجة وإفشال الحراك كما في كل مرة.
قصص "صانع الحلوى" لأزهر جرجيس (الجزيرة) تلخص القولة الجميلة للشاعر الفرنسي روني شار "نحن لا نسكن إلا الأماكن التي نغادرها" روايتيك "النوم في حقل الكرز" و"حجر السعادة"، فكيف تتعامل مع ذاكرة الأمكنة في كتاباتك السردية؟ وإلى أي مدى تعتبر هذه الذاكرة محفزا للكتابة والإبداع؟ وهل للأماكن أرواح مثل البشر؟لقد هاجرت من العراق في عقدي الثالث وذلك يعني أن سنوات التكوين كانت هناك، فمن الطبيعي أن تكون بغداد بأزقتها وأسواقها وجسورها حاضرة في أعمالي، لا سيما وأننا نتكلم عن واحدة من حواضر الدنيا الآفلة. أنا مهووس بهذه المدينة وقد حضرتْ في "حجر السعادة"، لا كمكان يلمّ الأحداث فحسب، بل كشخصيّة ضمن الشخصيات الرئيسية في الرواية.
النص الجيد هو ما يلتبس به الذاتي بالموضوعي ويختلط فيه الخيالي بالواقعي؛ إنها لعبة سردية جديرة بالاهتمام أن يوزّع الكاتب حياته على نصوصه إلى حد التباس الأمر على القارئ.
تحمل شخصية سعيد بطل روايتك "النوم في حقل الكرز" كثيرا من شخصيتك، فهو كاتب قصص وصحفي يكتب زاوية ثابتة في إحدى الصحف المحلية، فضلا عن بعض الشخصيات الأخرى في الرواية، فأين يبدأ الموضوعي وأين ينتهي الذاتي في كتاباتك؟ وإلى أي مدى يستطيع المبدع أن يتخلص من ذاته وتفاصيل حياته في أعماله الإبداعية؟أرى أن النص الجيد هو ما يلتبس به الذاتي بالموضوعي ويختلط فيه الخيالي بالواقعي. إنها لعبة سردية جديرة بالاهتمام أن يوزّع الكاتب حياته على نصوصه إلى حد التباس الأمر على القارئ، فيدخل في جو من التشويق والبحث عن الحقيقة. غير أن بعض الكتّاب يسهب في سرد حياته داخل النص مما يضعف التخييل لديه ويخرج الأمر عن كونه رواية.
العزلة التي يشتكي منها المهاجرون ناسبتني كثيرًا وحاولت الإفادة منها في الكتابة، ولو لم توفر المنافي سوى الأمان الشخصي لكفى.
كيف استفدت فنيا وإبداعيا وإنسانيا من تجربة المنفى الاختياري الذي تخوضه منذ عام 2005 في النرويج؟لم يكن منفىً اختياريا على أي حال، لكنه رغم ذلك لم يكن سيئًا تمامًا، فالعزلة التي يشتكي منها المهاجرون ناسبتني كثيرًا وحاولت الإفادة منها في الكتابة. اختلاف الحياة بين "هنا وهناك" دفعني أيضا إلى التجريب والدخول إلى مساحات لم تكن محروثة لي من قبل، أما على المستوى الإنساني فلو لم توفر المنافي سوى الأمان الشخصي لكفى.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً: