بكر السباتين: قضايا ساخنة- إسقاطات فكرية وتاريخية في عمق الأزمة الفرنسية ومآلات العاصفة.. واكثر من سؤال
تاريخ النشر: 5th, July 2023 GMT
بكر السباتين
هل تعيد الأحداث الجارية في فرنسا البلاد إلى روح تجربة الثورة الفرنسية من خلال ثورة جديدة أخذت تتجلى في الوقت الراهن، كردة فعل ضد إجراءات وقوانين جائرة أصدرتها دولة يحكمها اليبراليون الجدد، الذين خالفوا مبادئ الثورة الفرنسة، وذلك من خلال سن قوانين هجينة تتجاوز مضمون تلك المبادئ حتى تبرر لقيم العنصرية بذريعة مقاومة الإرهاب وإعادة تفسير الظلم وحقوق الإنسان والحريات.
من هنا يمكن القول بأن فرنسا في أزمة تشريعية فكرية واقتصادية من الصعب تجاوزها بارتجال القوانين دون معالجة الأسباب الحقيقة والتعامل معها بشجاعة وموضوعية.
وكان الأولى بفرنسا الاعتراف بأن للأزمة الراهنة في فرنسا جذور تاريخية من خلال ممارسة التهميش للفرنسيين من أصول أفريقية، وخاصة حاملي الهوية الدينية الإسلامية، والتعامل معهم وفق مفهوم “الإسلامفوبيا” المرتبط جوهرياً بقانون الإرهاب، خلافاً لقوانين معاداة السامية وحماية المثليين.
فالتاريخ البعيد القريب يقرّ دون مجال للشك بالدور الفرنسي الاستعماري في نهب ثروات مستعمراتها في أفريقيا، التي تُعَدُّ منبعاً للهجرات غير الشرعية إليها، وما نجم عن ذلك من ظلم وفقر واضطهاد.. على نحو ما حصل إبان ثورة تحرير الجزائر (1954-1962) التي لقبت من جرّائها ببلد المليون شهيد.
مع أن فرنسا لا تنكر احياناً دور أولئك المهاجرين في الدفاع عن فرنسا إبان الغزو النازي وإسهاماتهم المشهودة في البناء؛ لكنهم ظلوا في عين اليمين الفرنسي فئة غير أصيلة لا بد من اجتثتثها.
وهذا يفسر ما يجري الان في فرنسا من أحداث عصيبة واحتجاجات تجاوزت في اسبابها مقتل الشاب الفرنسي نائل وهو من أصول جزائرية، على يد شرطي فرنسي، بعد تنبيهه لمرتين، أعقبهما إطلاق النار عليه بدم بارد، متذرعاً بتطبيق القانون.
حدث ذلك في مشهد انتشر كالنار في الهشيم عبر الفضاء الرقمي واضعاً الدولة الفرنسية برمتها على المحك.
ما يحدث الآن في فرنسا أحرج موقفها في مجال حقوق الإنسان.
إذ حث مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الحكومة الفرنسية يوم الجمعة الماضية، على “معالجة جدية للمشاكل العميقة للعنصرية والتمييز في إنفاذ القانون”.
وقالت مفوضة حقوق الإنسان في مجلس أوروبا، دنيا مياتوفيتش، إن أعمال العنف المتفرقة لبعض المتظاهرين أو أفعالا أخرى مُدانة ارتكبها آخرون خلال التظاهرات، لا تبرر الاستخدام المفرط للقوة من قبل عناصر تابعة للدولة.
وقد أدينت فرنسا من قبل رئيس رابطة حقوق الإنسان باتريك بودوان، ومنظمة هيومن رايتس ووتش وهذا من شانه أن يضر بسمعة فرنسا التي ارتبط اسمها بحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان وفق مبادئ الثورة الفرنسية.
والغريب في الأمر أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تجاوز عمق الأزمة المدمرة للبلاد وما رافقها من عنف شبابي لافت، معزياً أسبابها- فقط- إلى إدمان الشباب على ألعاب الفيديو التي ساهمت في ترسيخ العنف في العقول والتحريض على ممارسته، دون وعيٍّ منهم لمخاطره على النفس والمجتمع.
كما درج ماكرون -وفق ما يرى مراقبون على مدار أعوام خلت- على الاستخفاف بالقضايا التي دأبت على تثوير الشارع الفرنسي، على نحو ارتفاع معدل المعيشة بسبب التضخم الناجم عن توريط البلاد في الحرب الأوكرانية، وقوانين الضمان الاجتماعي الجديدة التي رفعت من عمر التقاعد، وأزمة البطالة التي عزاها ماكرون إلى تكاسل الشباب في البحث عن فرص العمل التي قال بأنها متوفرة، ما ثوّر اليسار الفرنسي عليه.
وفي سياق ذلك قالت ماتيلد بانو النائبة عن حزب فرنسا الأبية اليساري المتشدد، إن “ماكرون أصبح صورة كاريكاتورية لماكرون”.
وكأنها تشير إلى عجزه عن اجتراح الحلول، والدوران نمطياً حول نفسه دون أن يفكر خارج الصندوق.
لا بل اعتبرت النائبة بانو أنه “بإظهار ماكرون هذا الازدراء للناس، فإن الشخص الوحيد الذي نأمل أن يكون عاطلاً عن العمل هو إيمانويل ماكرون نفسه”.
وهذه دعوة مبطنة ساخرة لإسقاطه في الانتخابات المقبلة.
وفي وقت سابق هذا العام، اتهم وزير الداخلية جيرالد دارمانان اليسار المتشدد بالرغبة في “مجتمع من دون جهد” والدفاع عن “الحق في الكسل”.
وهذا استخفاف من قبل الحكومة الفرنسية بأسباب الأزمة المستفحلة في فرنسا، مما سيصعب على أصحاب القرار اتخاذ ما يلزم بشانها، لا بل من شأن ذلك أيضاً تسجيل بعض النقاط لصالح اليسار الذي يسعى لتجيير الأزمة لصالحة، مزاحماً في ذلك اليمين الفرنسي الذي يُحَمّلُ سياسة ماكرون تبعاتها.
ولكن الطامة الكبرى تتمثل بتحذيرات وزير العدل الفرنسي إريك دوبوند موريتي للفرنسيين مهدداً:
“أقول للمحرضين في مواقع التواصل الاجتماعي إننا سنصل إليكم”.
محذراً الأسر الفرنسية من مغبة سماحها لأبنائها بالخروج ليلاً من البيوت؛ بغية التفاعل مع الأحداث، منذراً باعتقال كل من يقبض عليه بالجرم المشهود من المشاركين في الأحداث وأولياء أمورهم، في سابقة فرنسية غير مشهودة، وتخالف مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكأن فرنسا باتت من جمهوريات الموز التي اغرقت البحر الكاريبي بالدماء.
فكيف تقوم الأسرة بالدور المنوط بها في ظل قوانين جائرة تهمش دورها التربوي!
بحيث يعتمد هذا التهميش على إعادة تفسير معنى “الأسرة” بمضمونها التربوي ودورها في التكاثر الطبيعي، واستهدافها بالتفكيك المبرمج ومن ثم إغراقها بالأزمات التي تساعد على ذلك، على نحو سن قوانين حداثية تنتهك الظروف المعيشية المتميزة للمواطن الفرنسي تحت شعار مواجهة التضخم، الذي بات كما يبدو مزمناً، ما أثر سلبياُ على تماسك الأسرة، وقد رافق ذلك ما نجم من أزمات أسرية تجاوزتها القوانين بغية بناء إنسان فرنسي مبرمج على الطاعة العمياء والسطحية الخالية من الأسئلة العاصفة البناءة، وكأن المجتمع بات يحتوي على تقاسم نوعي بشريِّ جديد تتراوح عناصره الأربعة ما بين: الذكر، والأنثى، والمثليّ، والإنسان(الريبوت) الآلي.
فيقوم هذا التقاسم غير الطبيعي على إعادة تعريف مفهوم الحريات العامة من خلال التحرر من كل القيود الاجتماعية والدينية وتسطيح العقل الفرنسي، لا بل والغربي برمته! بالانقلاب على الثوابت العلمية والدينية التي تغذي الإسرة بمعطيات البقاء والتأثير الإيجابي والتي تستكمل المؤسسات التعليمية التربوية رسالتَها؛ لتقبل المتغيرات الشاذة التي حولتها السياسات التربوية الغربية إلى واقع مستدام فصار من الطبيعي قيام جامعة عريقة بريطانية، مثل أوكسفورد التي تضاهي السوربون في المكانة، باستقبال نجمة الأفلام الإباحية مايا خليفة لتلقي محاضرة في الطلاب من نفس المنبر الذي شهد محاضرات قدمها أشهر خريجيها من امثال: ماريغريت تاتشر، وليستر بيرسون، وديفيد كميرون، وتوني بلير، ووليان جوندينغ.. وغيرهم من رجال العلم والسياسة!
نعم الأسرة التي يُحَمِّلُها وزير العدل الفرنسي تبعات الأزمة هي نفسها المستهدفة أيضاً من خلال دعم القوانين الفرنسية -كسائر الدول الغربية- دعم المثلية والتزاوج الشاذ لبناء أسر فارغة المحتوى، بهدف ضرب الأسرة التقليدية الطبيعية التي تعتبر نواة المجتمع المستهدف من قبل الليبراليين الجدد.
فهل يستقيم العتب والتجني على أسرة مكبلة بالقيود؟
لذلك فقبل تحميل أولياء الأمور مسؤولية الاحتجاجات الأخيرة وما نجم عنها، لا بد من إجراءات إصلاحية جذرية تساعد على بناء الأسرة لا هدمها.. ما يعني بأن الكرة باتت في ملعب وزير العدل الذي خاطب الجماهير الفرنسية كقائد عسكري تحركه الشهوة إلى الانتقام.. في تصعيد يتوافق مع العقلية الأمنية الفرنسية التي تتصدى للاحتجاجات بالحديد والنار ما جعلها تستفحل وتمعن تخريباً في البلاد.
لذلك لجأت قوات الأمن الفرنسي إلى الاستعانة بخبرات أعتى أنظمة الفصل العنصري في العالم، “إسرائيل” التي اكتسبت خبرتها من خلال الاحتلال وارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين منذ ثمانية وأربعين حتى هجوم جنين الأخير دون رادع أممي.
وما بين الاستخفاف الرئاسي بالأزمة ومحاولة التصغير من دوائرها المنداحة، إلى جانب تلك العقلية الأمنية التصعيدية، تقف فرنسا وتاريخها على المحك في أحوال تذكر الفرنسيين بالأسباب التي فجرت الثورة الفرنسية الكبرى أواخر القرن 18، التي غيرت العقل الأوروبي عبر قرون خلت، وما زالت مبادئها تتفاعل في العقل الغربي إلى أن جاء من يسعى لطيّ صفحتا إلى الأبد! من خلال الليبرالية الجديدة وتمدد نتائجها تدريجياً في عموم القارة العجوز.
كاتب فلسطيني
المصدر: رأي اليوم
كلمات دلالية: فی فرنسا من خلال من قبل
إقرأ أيضاً:
كرة القدم وحروب الإبادة: النسخة الفرنسية من صناعة الهولوكوست
تضمّ فرنسا العدد الأكبر من اليهود على النطاق الأوروبي، أكثر من نصف مليون من حيث ديانة الأمّ والأب؛ وفيها يعيش 750 ألف ممّن يسري عليهم قانون «حقّ العودة» واكتساب الجنسية الإسرائيلية (جدّ واحد يهودي، على الأقلّ)؛ ومقابل كلّ 1000 مواطن فرنسي، هنالك 6.87 يهودي؛ وبذلك فإنّ فرنسا (نحو 65.300 مليون نسمة) تعدّ في المرتبة الثالثة، عالمياً، من حيث أعداد السكان اليهود.
هذه معطيات إحصائية ديموغرافية، وعلى أهمية دلالاتها فإنها غالباً غير مرشحة بالضرورة لتوفير المزيد من عناصر التأثير على حقيقة كبرى راسخة تتصل بخصوصية فرنسا البلد في الذاكرة اليهودية الحديثة والمعاصرة عموماً، من جانب أوّل؛ أو في التوظيف الصهيوني لهذه الخصوصية، من جانب ثانٍ، على مستويات سياسية واجتماعية ــ اقتصادية وعقائدية وإعلامية وثقافية، خصوصاً.
هنا، في باريس، تواترت فصول محاكمة الضابط الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس، الذي استثار رسالة إميل زولا الشهيرة «إني أتهم!» في سنة 1898؛ بالنظر إلى براءة الرجل، وكذلك مناخات العداء للسامية التي عمّت شوارع فرنسا وشهدت على ألسنة الحشود الغفيرة ولادةَ الهتاف الشهير: «الموت لليهود!».
هنا، في باريس هذه السياقات ثانياً، كان صحافي نمساوي يهودي يدعى تيودور هرتزل يعمل مراسلاً لـ«الصحافة الحرة الجديدة» أبرز المطبوعات الليبرالية في أوروبا تلك الأيام. ورغم أنّه لن يشهد تبرئة الضابط البريء دريفوس، لأنه توفي عام 1904، فإنّ مناخات تأثيم اليهود كانت أحد أبرز حوافزه لكتابة مسرحيته «الغيتو الجديد» التي ترصد انعزال مختلف الطبقات الاجتماعية والثقافية ليهود فيينا في صيغة أقرب إلى الغيتو.
ثمّ كرّاسه الأشهر «الدولة اليهودية» الذي لم يتوّجه في موقع الأب المؤسس للحركات الصهيونية فقط، بل كان النصّ ذاته بمثابة تبشير مبكّر بفكرة يهودية دولة الاحتلال كما تعاقبت صياغاتها تباعاً.
وهنا، ثالثاً، موطن «عقدة الذنب» التي لا تُمحى عواقبها ولا يُحسم النقاش حولها، حول المسؤولية الفرنسية عن ترحيل عشرات الآلاف من اليهود إلى معسكرات الاعتقال النازية خلال فترة حكومة فيشي (1940ــ1944): هل تقع على عاتق فرنسا/ الأمّة بأسرها، كابراً عن كابر، كما ساجل يهود فرنسيون صهاينة؟ أم هي فرنسا/ الدولة، البيروقراطية الخاضعة لاحتلال نازي، حيث المؤسسات الحكومية خاضعة مأمورة؟
في الهرم الأعلى من رئاسة الجمهورية الخامسة، كان أربعة رؤساء (شارل دوغول، جورج بومبيدو، فاليري جيسكار ديستان، وفرنسوا ميتيران) قد اعتنقوا التأويل الثاني؛ وفي سنة 1995 استقرّ الرئيس جاك شيراك على التأويل الأوّل، فاعتبر أنّ حكومة فيشي كانت الدولة، وفرنسا الرسمية، وبالتالي فهي مسؤولة عن الترحيل.
لا حاجة، أغلب الظنّ، إلى أكثر من هذه السياقات الثلاثة لقراءة آخر مسرحيات النفاق الفرنسي، الحكومي والشعبي معاً، تجاه يهود فرنسا في المقام الأوّل؛ ودولة الاحتلال الإسرائيلي، في الجوهر الأهمّ والأشدّ صفاقة؛ حتى إذا اقتصر الأمر على مباراة كرة قدم بين الفريق الوطني الفرنسي والفريق الإسرائيلي، ولكن ربما تحديداً لأنه لا يقتصر على الجانب الشكلي من المسألة الأعمق.
وعند كتابة هذه السطور كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس وزرائه ميشيل بارنييه، وسلفه الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، ورئيسة منطقة العاصمة فاليري بيكريس؛ هم السباقون إلى إعلان حضور هذه المباراة، والمتبارون في أيّهم يغطي النفاق الفاضح بالعبارة المفضوحة.
الرئاسة الفرنسية أعلنت أنّ حضور ماكرون في الملعب هو «رسالة أخوّة وتضامن بعد أعمال العداء للسامية التي أعقبت المباراة في أمستردام، ولا يمكن التسامح معها». بيكرس، من جانبها، تحضر المباراة لأنها «أُصيبت بالهلع إزاء صور أمستردام» و«الجمهورية لن تسمح لأحد باضطهادها».
وزير الداخلية برونو ريتايو، الذي أخرجه ماكرون من قبعة يمين مندحر يزعم الديغولية ولا يتمسح إلا باليمين المتطرف، صوّر المباراة وكأنها تجري بين «قِيَم» الجمهورية الخامسة وفلول البرابرة أعداء الحرية والديمقراطية. ولقد بدأ من رفض نقل المباراة إلى موقع آخر (كما فعلت بلجيكا مثلاً، حين نقلت مباراة فريقها الوطني مع الفريق الإسرائيلي من بروكسيل إلى ديبرستين في هنغاريا)؛ ثمّ ذهب أبعد حين فسّر قراره هكذا: «فرنسا لن تتراجع، لأنّ ذلك يعني الاستسلام في مواجهة تهديدات العنف ومعاداة السامية»ّ.
محافظ العاصمة أمر بنشر نحو 4.000 شرطي حول الملعب وفي داخله (وهذا ممنوع، طبقاً لتعليمات الاتحاد الدولي لكرة القدم) بالإضافة إلى 1.600 من موظفي الستاد الأصليين؛ وأمّا جمهور الكرة، بالغ التحمس عادة لفريقه الوطني الفرنسي، فلم يحجز سوى 20.000 بطاقة، من أصل 80.000، في إشارة لا تخفى نحو تأكيد خيار المقاطعة.
دافيد غيرو، النائب عن حزب «فرنسا الأبية» خاطب صنّاع مسرحية المباراة هكذا: ”لا تنسوا، وأنتم تصفقون للفريق الذي يمثّل دولة ترتكب إبادة جماعية، أنه في غزّة لم يعد هناك ملعب لكرة القدم. ومع ذلك، فإن المنتخب الإسرائيلي يطلق النار، ولكن في صدور الأطفال. لا تنسوا أنه في فلسطين، كما في لبنان، الضربات جوية وتقتل الأبرياء».
لقد أسمعَ غيرو لو نادى أحياء، ولكن أيّ حياة لمنادى مثل وزير الداخلية ريتايو ابتلع لسانه، قبل أيام قليلة فقط، حيال المشهد المهين لإقدام الشرطة الإسرائيلية على اقتحام حرم موقع إليونا الديني الواقع تحت الوصاية الدبلوماسية الفرنسية، الأمر الذي دفع وزير الخارجية الفرنسي جان ــ نويل بارو إلى الامتناع عن دخول المكان؛ وانتهاء المشهد باعتقال مهين لاثنين من عناصر الدرك الفرنسيين حرّاس القنصلية في القدس.
وقال غيرو، من داخل الجمعية الوطنية برلمان فرنسا: ”سيدي وزير الداخلية، أنت الذي عادة ما تكون سريعاً جداً في الحديث، لقد كنت متحفظاً للغاية عندما قامت الشرطة الإسرائيلية في فلسطين المحتلة باعتقال اثنين من رجال الدرك الفرنسيين». كان صامتاً بالطبع، كما كانت حال قصر الإليزيه غير المعتاد على السكوت عن إهانة «الجمهورية»؛ وكانت حال بارو، أيضاً، الذي لاذ بالعبارة المهذبة الشهيرة «غير مقبول»…
وقد لا تكون هذه الأحوال الفرنسية بمنأى عن منزلقات سابقة ومحورية ذهب إليها الرئيس الفرنسي شخصياً، ومنذ الأيام الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، حين ارتجل مبادرة مضحكة قوامها دفع التحالف الدولي، المتواجد في المنطقة ضدّ «داعش» أساساً؛ إلى التوجه صوب القطاع، والقتال ضدّ «حماس».
صحيح أنه تراجع عنها، بين ليلة وضحاها تقريباً، في تصريحات تالية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس والملك الأردني عبد الله والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؛ إلا أنّ جهل ماكرون وانحيازه إلى الاحتلال وحاجته إلى تعظيم ذاته، فضلاً عن خلائط جهالة أخرى متقاطعة، دأبت على إعادة إنتاج ذاتها منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وحتى موعد مباراة فرنسا ودولة الاحتلال.
وليست تلك الخلائط مرشحة لمراجعات جدية أو تبدلات جوهرية، وما تكرر مع وزير الداخلية السابق جيرار دارمنان، لجهة حظر تظاهرات تأييد الفلسطينيين واضطراره إلى التراجع أمام رأي مضادّ صدر عن مجلس الدولة؛ يتكرر اليوم مع خليفته ريتايو بصدد ملفات أخرى عديدة، ليس الحماس الهستيري لتطويق مباراة كرة قدم سوى الأحدث فقط في فصولها.
وثمة في العمق نسخة من صناعة الهولوكوست فُصّلت على مقاييس فرنسا تحديداً؛ لا تُستعاد خلالها قضية دريفوس بقلم إميل زولا، بل بلسان مجرم حرب مثل بنيامين نتنياهو؛ وتتساوى في أخلاقياتها ملاعب كرة القدم مع ساحات القتل والإبادة والتجويع والتهجير، في قطاع غزة.
القدس العربي