السودان والمؤامرات الخارجية المتكررة
تاريخ النشر: 5th, July 2023 GMT
الأستاذ الدكتور ذياب عيوش في العام 1968 كنت أعمل معلما ومشرفا اجتماعيا في مدرسة “اثنين بللسمر” بمنطقة أبها في المملكة العربية السعودية، تلك المنطقة الرائعة بأهلها، ومناخها، وجمال الطبيعة في أرضها.كان عدد قليل من المعلمين في تلك المدرسة من السعوديين، بينما كانت الأغلبية من المعلمين الفلسطينيين ، والأردنيين، والسوريين، واللبنانيين، والسودانيين، وعراقي واحد.
وأذكر أنني كنت وزملائي معجبين بوداعة المعلمين السودانيين، ولطفهم، وبعلاقاتهم المميزة بعضهم مع بعض من جهة، ومع زملائهم العرب من جهة أخرى.لم يقتصر الأمر على هذا الاعجاب، وانما تعداه الى علاقتهم بحكومتهم وسفراء بلادهم المتعاقبين في السعودية، والتي كانت لافتة للانتباه ،حيث كانت تصلهم بطاقات التهنئة من حكومتهم في جميع أعيادهم الوطنية والدينية وأعني بالأخيرة عيد الفطر السعيد وعيد الأضحى المبارك، مما يدل على عمق الروابط الخاصة وغياب الكراهية أوالتحاسد أو التباغض أو الصراع، بينهم. لم يقتصر الأمر على هذه الظاهرة ، بل كانت هناك ظاهرة أخرى تدل على التزام أكبر بتقوية العلاقة بين السودانيين المغتربين.وتتمثّل هذه الظاهرة الأخيرة في أنه اذا قَدِمَ موجّه سوداني للتفتيش على المعلمين في أي مدرسة في المملكة العربية السعودية،لا يقبل دعوة من أي معلم غير سوداني الا بعد أن يزور بيوت جميع المعلمين السودانيين في المدرسة المذكورة. وفي دعوة خاصة للزملاء، في منزلي، على شرف موجّه سوداني (ي.و.) بعد أن أنهى مهمته التفتيشية على المدرسة، روى لنا الموجّه قصة غريبة أحسست أن مضمونها يؤسس لانفصال الجنوب السوداني عن شماله ، لا لكراهية أو عداء أو رغبة جامحة في الانفصال بين السودانيين، وانما لمؤامرة خارجية تدار من خارج السودان وبفعل فاعل أجنبي.قال الموجّه المحترم أثناء سرده للقصة : “ذهبت مرة للتفيش على مدارس في “جوبا” ، المدينة الجنوبية، وبدأت مهمتي في مدرسة تبشيرية. وعندما وصلت البوابة الخارجية للمدرسة، رأيت اثنين يستقبلانني عن اليمبن وعن الشمال وكل منهما يرفع رُمحا برأسه بطّيخة شقها الرمح، فأدركت، والحديث للموجّه،أنهما يوجّهان لي رسالة مفادها: ” لا تأت الينا أيها الموجّه، المُرسل من الوزارة في الشمال، مرة أخرى، فزيارتك التفتيشية لنا غير مرغوب فيها، وانك ان عُدت الينا مرة أخرى سوف نفجر رأسك برماحنا كما فعلنا بالبطيختين”. ثم أكمل الموجّه حديثه وقال: ” ومع ذلك، فقد قررت أن أكمل مهمتي الرسمية، فدخلت الى أحد الصفوف حسب الخطة المرسومة للزيارة وبدأت عملي بالسلام على معلم الصف والطلبة فلم يرد علي أحد منهم، فبدأت أوجّه أسئلة للتلاميذ، فلم يجبني أحد وامتنعوا عن التكلّم معي… فقلت في نفسي :ربما كان تلاميذ هذا الصف مُبرمجين على هذا النحو بفعل فاعل، فجرّبت زيارة صف آخر وواجهت نفس ردود الفعل والامتناع عن التغاعل معي أو الرد على أسئلتي أو توجيهاتي…فأدركت انهم يريدون أن يبلغوني رسالة مُفادها أنه لا رغبة لديهم في استقبال موجّه مكلّف من حكومة شمال السودان، مما ينبؤ بنزعة انفصالية”. هذه الرواية شدتني منذ ذلك الحين الى التعمّق أكثر بما جرى في السودان، فيما بعد، من حالات التمرد أو العصيان أو الصراع، خلافا للانطباع الذي ارتسم في نفسي ونفوس زملائي عن تواد السودانيين وتراحمهم ،ومحبتهم لبعضهم كما بيّنت،وخاصة ما شاهدته من طيبة بين المعلمين السودانيين في المملكة العربية السعودية. وعندما بدأت طبول الحرب تدق بين شمال السودان وجنوبه بعد عشرات السنين، أعادت الى ذاكرتي الرسالة التي تلقاها الموجّه (ي.و) في العام 1968 ، والتي كانت تفيض بمعاني الكراهية والتمييز، وفهمتُ أن صانعي هذه الكراهية لابد أن يكونوا جهات خارجية وغرباء عن الشعب السوداني وقيمه، التي تفيض بالمعاني السامية لدى السودانيين في الشمال والجنوب على السواء. وهكذا استنتجت أنه ما لم يوضع حد للتداخلات الخارجية المتآمرة على وحدة السودان وثرواته الهائلة ، فان كارثة كبرى ستصيب هذا البلد الشقيق المليئ بالثروات البشرية والطبيعية، وأن الكراهية المختلقة التي واجهها الموجّه المذكور في المدرسة التبشيرية التي كان يديرها ويموّلها جهات أجنبية خارجية هي المقدمة الكبرى للعمل التخريبي الذي بذلته تلك الجهات الخارجية لتحقيق انفصال الجنوب السوداني عن الشمال بتاريخ 9 تموز 2011م .واعلانه دولة مستقلة. استقل جنوب السودان وحقق ما سعى له بعض من رغبوا في الانفصال عن السودان ألأم،وجرّب قادة الجنوب ممارسة الحكم وادارة البلاد، وأدركوا بعد سنوات ليست بعيدة أن العودة الى السودان الموحّد فيه قوة، وطمأنينة، وأمن، وهيبة أكبر لكل السودانيين ،مما تحقق من خلال الانفصال المدفوع من قوى خارجية، وبغض النظر عما يحصل هذه الأيام من صراع دموي بين الأشقاء المتصارعين في شمال السودان، أعتقد أنه اذا ما سويت بعض الأمور التي أدت سابقا الى انفصال الجنوب ،فان الجهات الخارجية ستجرّب خلق فتن داخلية جديدة، وصراعات جديدة ، وانفصالات جديدة، بأثواب ودعاوى جديدة ، لتمزيق دولة السودان الموحّد. ولما كانت التدخلات الخارجية المغرضة، والمصالح الشخصية أو القبلية،أو الجهوية،أو الاقأليمية ،أو الدولية، التي عصفت بوحدة السودان وشطرته سابقا الى دولة في الشمال ودولة أخرى في الجنوب، ما تزال قائمة، وان تبدّل شخوصها والجهات المحركة لها داخليا وخارجيا ، سواء كانت تبشيرية أو غير تبشيرية، فان ما يحدث اليوم في السودان من صراع أو حرب بين الجيش السوداني وأنصاره، من جهة، وبين قوات الدعم السريع وأنصارها من جهة أخرى، انما هي مسألة لا تتوافق ،في التحليل السوسيولوجي، مع خصائص الشخصية السودانية الراقية ، ولا مصلحة السودانيين الذين أنهكت الصراعات الداخلية والانقلابية اقتصادهم، ولا مع العبر التي تعلّمها الانفصاليون في الجنوب واعترفوا بعدم جدوى الصراع أو الانفصال عن السودان الأم. وفي ضوء التحليل السوسيولوجي لهذا الصراع الدائر اليوم بين قيادة الجيش السوداني وبين قوات الدعم السريع ، نرى أن هذا الصراع لا يخدم مصالح السودان، وأنه يسير باتجاه معاكس لمقتضيات نظرية الصراع السوسيولوجية من جوانب عدة أهمها:أولا، أن العداء الخارجي الذي يواجهه السودان ككل من أطراف خارجية طامعة بثرواته أو راغبة في تفتيته أو اضعافه، يتطلّب ، حسب النظرية، وحدة السودانيين قيادة وشعبا لمواجهة تلك .الأطراف التخريبية و افشال مساعيها الخبيثة، والعجب كل العجب، أن القيادات الداخلية المتصارعة تشعل حربا داخلية مدمرة لشعبها ربما بأكثر مما يمكن أن تحققه المؤامرات الخارجية عليه غير آبهة بالعواقب.ثانيا،لا يوجد رغية سودانية مجتمهية أو اعتراف مجتمعي في السودان بجدوى الاقتتال الداخلي، ولا يجد شعب السودان لأي من الطرفين المتصارعين أو المتحاربين من يصدّق رواية الآخر حول مبررات الحرب أو جدواها، بين الاخوة غير المصالح الخاصة والرغبة في الحكم، ولهذا نرى كيف تتوجّه نداءات السودانيين الى الطرفين لايقاف القتال دون جدوى.ثالثا، ان ما حصل ويحصل من تدمير لاقتصاد السودان بسبب الاقتتال ، ومن تشريد الملايين من المدنيين من مختلف الأعمار والأجناس، وقتل وجرح ألاف المدنيين والعسكريين أبناء الوطن الواحد وعُدته يوم الحاجة هو، في التحليل السوسيلوجي، عمل مخالف للنظريات الاجتماعية، والقيم الأخلاقية. والدينية،ومتطلبات الوحدة الوطنية، والصمود أمام الطامعين. رابعا، ان المرجعيات التي تستند اليها الأطراف المتصارعة متقاطعة الى حد كبير، وهي ليست مرجعيات وطنية حريصة على وحدة الوطن السوداني ونمائه كما يبدو، ولهذا نرى كل الجهود التي تبذلها المملكة العربية السعودية وغيرها من العرب والأفارقة لتثبيت ما يتفق عليه من هدنة لا تصمد أمام من قرروا اضعاف السودان وتقسيمه من خلال أدوات داخلية، بمعنى ان أطراف الصراع مرتبطون باهداف شخصية و/أو بأجندات خارجية ضاغطة لا يهمها مصلحة السودان ولا تكترث بدماره أو اقتتاله. خامسا، ان عدم تحقيق مطالب شعب السودان بانهاء حكم العسكر واقامة حكومة مدنية ديمقراطية، منذ الانقلاب على حكومة البشير، هي أحد أسباب الحرب الحالية، وما تحمله من لوم وادانة لموقف المتحاربين من أجل البقاء على رأس السلطة بعيدا عن مصلحة الشعب الذي يرغب في تحقيق السلام والأمن والاستقرار، خلاصة القول، ان المصلحة الوطنية والقومية للسودان تقتضي أن يتوقف قادة الحرب الداخلية فيه عن مواصلة القتال، وأن يهتموا بوحدة وطنهم وقوته، وحمايته من الأطماع والمخاطر الخارجة، واذا لم يفعلوا فانهم سيواجهون تيارا سودانيا عارما ذا مرجعية سودانية أصيلة يعصف بهم ويحفظ شعبهم بعيدا عن أطماع الحرب الدائرة. ان على المتحاربين أن يدركوا أن بلدهم عظيم وقوي اقتصاديا وبشريا وسياسيا بوحدته ،وأنه مؤهل لأخذ مركز قيادي على صعيد القارة الأفريقية، والأمة العربية، ان عرف كيف يستغل امكاناته الاقتصادية والبشرية الهائلة ويوظّفها بشكل لائق قوامه السلام الأهلي والاعتماد على النفس وحُسن التدبير أولا، وان يعلموا أن الصراع الداخلي فتنة كبرى لا تمت لمصلحة السودان ووحدته وصموده في وجه الطامعين والمتآمرين عليه بصلة، وأن شعبهم لا يمكن أن يتهاون في محاسبة من يشرد به الى مصالحه الشخصية أو القبلية، وأن بلدهم لن ينتصر على أعدائه المتربصين به الاّ بوحدة شعبه بكل ألوانهم وأصولم ، فالوحدة ، والتخلّص الكامل من التبعيات والتأثيرات الخارجية هما الطريق الوحيد لسلامة السودان ونهضته. بيت لحم: بروفيسور في علم الاجتماع
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
وزير الخارجية: لا تهاون في الأمن المائي لمصر
أكد وزير الخارجية والهجرة الدكتور بدر عبد العاطي يوم الخميس، أنه لا تهاون في أمن مصر المائي.
وجاءت تصريحات وزير الخارجية خلال زيارته إلى نجامينا، حيث التقى بوزير الشئون الخارجية والتكامل الإفريقي التشادي عبد الرحمن غُلام الله، وبحث معه عدد من الملفات ذات الاهتمام المشترك والتي من بينها التطورات في السودان والتي تؤثر بشكل مباشر على كل من مصر وتشاد، حيث تعد مصر وتشاد أكثر الدول استقبالًا للنازحين من السودان.
كما تناول الوزيران تطورات الأوضاع فى ليبيا، وفي منطقتي الساحل والقرن الأفريقي، فضلا عن الأمن المائى المصرى وتأكيد السيد الوزير انه امر لا تهاون فيه.
وصرح السفير تميم خلاف المتحدث الرسمى باسم وزارة الخارجية ان الوزير عبد العاطي اشاد بالروابط التاريخية والثقافية التي تجمع مصر وتشاد، مؤكداً على أن زيارته تأتي في إطار الحرص على الارتقاء بمستوى العلاقات الثنائية بين البلدين في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والاستثماريّة والبناء على زيارة المارشال محمد إدريس ديبي رئيس جمهورية تشاد إلى مصر في يوليو الماضي، فضلاً عن اللقاءات الدورية بين وزيري خارجية البلدين بما يعكس الالتزام المشترك بتعزيز التعاون الثنائي وتنسيق المواقف بالنسبة التطورات فى الإقليم.
أضاف المتحدث الرسمى أن الوزير عبد العاطى اكد على أهمية الارتقاء بمستوى التبادل التجاري بين البلدين واستكشاف الفرص المتاحة لزيادة الاستثمارات، حيث اصطحب وزير الخارجية وفداً من ممثلي كبرى الشركات المصرية لبحث فرص التعاون في مختلف القطاعات وعلى رأسها البنية التحتية والطاقة والزراعة، لتحقيق التنمية المشتركة بما يعود بالنفع والازدهار على شعبي البلدين.
فى سياق متصل، شدد الوزير عبد العاطى على حرص مصر على تقديم الدعم لتشاد لتعزيز قدرات المؤسسات الوطنية ذات الصلة بتحقيق الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب والتطرف، مشيراً إلى أهمية تبني مقاربة شاملة تراعي الأبعاد التنموية والاجتماعية والأمنية والفكرية.
وثمن الدور المحوري الذي يقوم به الأزهر الشريف في تشاد في مكافحة الفكر المتطرف، وكذلك دور مركز القاهرة الدولي لتسوية النزاعات وحفظ وبناء السلام في بناء القدرات في مجالات مكافحة الفكر المتطرف والجريمة المنظمة عابرة الحدود.
أشار وزير الخارجية إلى أهمية زيادة الدورات التي تقدمها الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية، وتوفير العديد من المنح في التخصصات المختلفة للطلاب التشاديين في الجامعات المصرية، والتوسع في برامج تدريب الدبلوماسيين التشاديين في القاهرة، واشاد بدور فرع جامعة الإسكندرية في نجامينا.
وقد تم الإعلان عن تسيير قافلة طبية مصرية في مجال طب العيون لدعم القطاع الصحي في تشاد، واتفق الوزيران على عقد اللجنة المشتركة بين البلدين في أقرب وقت، لبحث سبل تعزيز أطر التعاون القائمة ودفع العلاقات الثنائية.
على صعيد آخر، تبادل الجانبان الرؤى حول عدد من القضايا الإقليمية، وعلى رأسها التطورات في السودان والتي تؤثر بشكل مباشر على كل من مصر وتشاد، حيث تعد مصر وتشاد أكثر الدول استقبالًا للنازحين من السودان.
كما تناول الوزيران تطورات الأوضاع فى ليبيا، وفي منطقتي الساحل والقرن الأفريقي، فضلا عن الأمن المائى المصرى وتأكيد السيد الوزير انه امر لا تهاون فيه.