أيُّ عاقل قد يفكّر في الحديث عن الرياضة في وقت كهذا؟ هو سؤال منطقي قد يخطر في ذهنك، فهناك مدينة كاملة يقطن بها ما يزيد على مليونَيْ إنسان تُقصف يوميا بلا رحمة، وبلا توقف، ويُمنع عن أهلها المياه والكهرباء والطاقة، وكل ما له علاقة بسُبل العيش الآدمي، وتتعرض للتطهير العِرقي والإبادة الجماعية، للدرجة التي تستدعي استخدام عربات الآيس كريم لتحميل الجثث، بعد امتلاء المشارح عن آخرها بالقتلى (1).

 

لربما يكون الحديث عن الرياضة في الوقت الراهن من توافه الأمور التي لا بد من الترفّع عنها، من أجل تسليط الاهتمام على جرائم الاحتلال التي لا تنتهي. ولأجل ذلك تحديدا، نحن هنا؛ إذ إن الرياضة بالنسبة للفلسطيني لم تكن يوما من توافه الأمور، حيث حضرت الرياضة دائما بوصفها إحدى أذرع المقاومة الشعبية، التي سعى الاحتلال لعرقلتها وطمسها بكل السبل. فهي تهديد لكل ما بناه أو ما قد يبنيه، تماما كما لم يرَ سلاح الكلمة إلا بالعين ذاتها، محاولا بشتى الطرق تقييد الأفواه ودفن السردية الفلسطينية.

 

نحن نتحدث عن كيان مُحتل قرر المسؤول الأبرز فيه، رئيس الوزراء نتنياهو، أن يعقد اجتماعا مع إيلون ماسك، مالك شركة "إكس" (X) – تويتر سابقا، ليطلب منه أن يكون حازما أكثر مع المحتوى "المُعادي للسامية والمحرِّض على الكراهية". نعم، لهذه الدرجة تهتم إسرائيل بما قد نراه أحيانا من "توافه الأمور"، وللمفارقة؛ أتى اجتماع نتنياهو مع إيلون ماسك قبل أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أي قبل حتى أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه "إكس" (X) صوتا لكل الفارّين من قيود "ميتا" (Meta) وتحيُّزاتها الواضحة. هذا ما تفعله إسرائيل وأجهزتها الأمنية مع ما يقول عنه البعض "مجرّد كلمة"، فما بالك بما قد تفعله مع الرياضة؛ ذلك الشيء القادر على بث الوطنية، وتحريك مشاعر الناس. (2) (3) (4) (5).

نتنياهو طلب من ماسك أن يكون حازما أكثر مع المحتوى "المُعادي للسامية والمحرِّض على الكراهية" فقط لأنه يملك شبكة تواصل عالمية لازالت تدعم القليل من ما يسمى بـ "حرية التعبير" (مواقع التواصل)

أما عن بث الوطنية، فهو ليس رأينا، بل رأي العديد من علماء الاجتماع الرياضي، كما أتى على لسان الزعيم جنوب الأفريقي الراحل نيلسون مانديلا، بعد فوز جنوب أفريقيا ببطولة العالم للرجبي عام 1995. والآن، حان الوقت للحديث عن التاريخ الأسود لدولة الاحتلال مع الرياضة الفلسطينية، لكن قبل ذلك، دعنا نقصّ عليك قصة قصيرة (3).

 

لأن "حياة السُّود تُهِم" حقا

قبل 55 عاما، وبالتحديد في أكتوبر/تشرين الأول عام 1968، حدثت إحدى أكثر اللحظات الأيقونية في تاريخ الأولمبياد وربما في تاريخ الرياضة؛ فبعد انتهاء سباق الـ200 متر، الذي تفوَّق فيه العدّاءان الأميركيان تومي سميث وجون كارلوس وحصلا على المركز الأول والثالث على الترتيب، وقف اللاعبان على منصة التتويج لاستلام الميداليات، وما إن دوى صوت النشيد الوطني الأميركي في مسامع الحضور، صمت كلٌّ من سميث وكارلوس ولم يتلفّظا بأي كلمة (6).

50 years ago today, athletes Tommie Smith and John Carlos raised their fists in silent protest during the U.S. national anthem at the 1968 Olympics. pic.twitter.com/YM7sEOCOAG

— AJ+ (@ajplus) October 16, 2018

سميث وكارلوس من أصحاب البشرة السمراء، ولعلّك تعلم كم كان يعجّ المجتمع الأميركي بالعنصرية والكراهية تجاه السُّود، وهو المجتمع ذاته الذي وُلِد فيه سميث وكارلوس وترعرعا به حتى وصلا إلى تلك اللحظة المهمة والمفصلية في حياتهما، ليس فقط في مسيرتهما الرياضية، لكنهما في تلك اللحظة لم يفكرا قط في نفسيهما، لم يفكرا في مجد شخصي، أو تاريخ رياضي على وشك التسطير، بل كان كل ما يجول بخاطرهما هو إيصال صوت الآلاف من أبناء جلدتهم الذين يعانون القهر والتفرقة والإيذاء يوميا إلى العالم أجمع (6).

 

لم تكن أيقونية تلك اللحظة في عدم ترديدهما للنشيد الوطني، بل في شرحهما لمعاناة أبناء جلدتهما بالترميز لكل شيء بشيء؛ قام سميث -الفائز بالذهب- برفع قبضة يده اليمنى إلى الأعلى، في دلالة على قوة السُّود، في الوقت ذاته رفع كارلوس -الفائز بالبرونزية- قبضة يده اليسرى للدلالة على "وحدة" السُّود، كارلوس ارتدى أيضا قلادة من الخرز ليرمز إلى عمليات القتل المُتعمَّدة للأميركيين السُّود، كما صعد كلٌّ من سميث وكارلوس إلى منصة التتويج مُرتدين جوارب سوداء، دون أحذية، للدلالة على الفقر الذي يعانيه مجتمع السُّود في الولايات المتحدة (6).

 

دفع سميث وكارلوس الثمن غاليا، فبعد يومين فقط من الواقعة طُردا من بعثة المنتخب الأميركي وشُطب اسماهما، وهاجمتهما الصحافة الأميركية بلا هوادة، هذا ناهيك عن كمّ العنصرية الذي فاق الحدود تجاههما، لدرجة نعت البعض لهما بـ"الفئران السوداء الخائنة"، بل ووصل الأمر إلى تلقيهما وعائلاتهما مئات التهديدات بالقتل فيما تلا من سنوات، للدرجة التي دفعت سميث للانفصال عن زوجته، وفي الوقت الذي كان سميث فيه لا يزال في أوج مسيرته الرياضية، تحوّل العدّاء الذهبي -مضطرا- في غضون أربع سنوات إلى مجرّد مدرب للأطفال في إحدى المدارس بشمال إنجلترا، لكسب لقمة العيش (6) (7)!

كُتبت العديد من الكتب عن قصة حياة العدّائَين، وعن حجم تأثيرهم، بل وبُنيت لهم التماثيل، وأصبحوا -حتى يومنا هذا- أيقونات للدفاع عن حقوق ذوي البشرة السمراء. (الصورة: غيتي)

ربما دفع سميث وكارلوس الثمن غاليا، لكن ما فعلاه صاحَبه تأثير ضخم ليس فقط على مستوى الولايات المتحدة، بل في كل مجتمعات السُّود المضطهدة حول العالم، وعُرِفت تلك اللحظة فيما بعد بـ"تحية القوة السوداء" (Black Power Salute)، كُتبت العديد من الكتب عن قصة حياة العدّائَين، وعن حجم تأثيرهما، بل وبُنيت لهما التماثيل، وأصبحا -حتى يومنا هذا- أيقونتين للدفاع عن حقوق ذوي البشرة السمراء. ربما قتلت تلك اللحظة مسيرتهما الرياضية في مهدها، لكنها في المقابل خلّدتهما في عقول الملايين، وفي صفحات التاريخ، للأبد (6) (7).

 

الآن تخيل أن سميث وكارلوس هما طفلان من أطفال فلسطين المحتلة، وُلِدا بقطاع غزة المحاصر برا وبحرا وجوا من قوات الاحتلال في أكبر سجن مفتوح بالعالم، ورأيا الموت بأمّ أعينهما يوما تلو الآخر؛ يبدآن يومهما بصاروخ، ويُنهيانه بآخر، هذا إن لم يتجرّعا مرارة الفقد بالفعل في أقرب أقربائهم، ناهيك بحواجز التفتيش التي يُعامل الفلسطينيون على أبوابها كالحشرات، وليس كآدميين (8) (9).

 

تخيل أن طفلا وُلِد وترعرع في خضم كل تلك القسوة، وقلة الحَيل والحِيلة، ووصل في يوم من الأيام لاعتلاء منصة التتويج الأولمبية حاملا على ظهره العلم الفلسطيني، فقط تخيل كم عدد الأطفال الذين قد يتأثرون به، فقط تخيل كيف سيجتمع الفلسطينيون حوله وتشتد عزائمهم أكثر فأكثر، فقط تخيل كيف سيُرفع على الأعناق بوصفه بطلا قوميا، ورمزا حيًّا للمقاومة، دون حتى أن يشير إلى أي معاناة على تلك المنصة كما فعل سميث وكارلوس. هذه اللحظة السيريالية، تُمثِّل كابوسا للكيان الصهيوني، كابوسا لا يودُّ أحدهم أن يستيقظ يوما على إثره، ولهذا السبب سعى الاحتلال منذ اليوم الأول بكل جهوده حتى لا يُصبح هذا الكابوس واقعا.

 

نكبة رياضية.. وتآمر مبكر

لا نعلم في الحقيقة هل نحن بحاجة إلى شرح ما حدث في نكبة 1948؟ فنحن نتحدث هنا عن إحدى أكبر عمليات التطهير العرقي التي عرفها التاريخ، وإن كنّا بحاجة حقا إلى الشرح، فلا نعلم صراحة من أين نبدأ؛ هل نبدأ بسرد قصة نحو 800 ألف فلسطيني هُجِّروا من بيوتهم قسرا؟ أم نبدأ باستحواذ الصهاينة على 85% من مساحة فلسطين التاريخية حينها؟ أم هل نتحدث عن أكثر من 15 ألف فلسطيني لقوا حتفهم في 70 مجزرة دموية نفّذتها العصابات الصهيونية المسلحة، بل وتدمير 531 قرية من القرى الفلسطينية (10)؟

 

لم تُسَمَّ بـ"النكبة" من فراغ؛ فقد كانت نكبة في كل شيء. قصمت النكبة ظهر الرياضة الفلسطينية، ودُمِّرت البنية التحتية بشكل شبه كامل، بما في ذلك الاتحاد الرياضي الفلسطيني، أما ما تبقى من تلك البنية من مبانٍ ومنشآت فقد سطت عليه سلطات الاحتلال تحت أحد أغرب القوانين التي عرفتها البشرية، وهو القانون ذاته الذي سلب من آلاف الفلسطينيين أراضيهم ومنازلهم، تلك التي لا يزالون يحتفظون بمفاتيح أبوابها، أملا في العودة إليها يوما ما. عُرِف بقانون الغائبين، وينص على أن مَن غادروا البلاد أثناء عام 1948 لم يعد لديهم حق في ممتلكاتهم إذا غادروا إلى "دولة معادية"، وأن النازحين بالداخل "غائبون حاضرون"، وهم أيضا محرومون من دخول ممتلكاتهم (3).

 

منذ لحظة إعلان دولة الاحتلال الإسرائيلي، لم تعد الرياضة بالنسبة للشعب الفلسطيني أمرا ترفيهيا، بل أضحت حينئذ مسألة هوية، وجزءا من صراع البقاء الفلسطيني. لملمت الرياضة الفلسطينية جراح النكبة سريعا، رغم كل المصاعب والعراقيل، ولأن من رحم الألم يولد الأمل؛ وُلِد جيل فلسطيني جديد من الرياضيين من قلب فلسطين المحتلة والمئات من مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين، لتشارك فلسطين في دورة الألعاب العربية الأولى بالإسكندرية عام 1953، بل وتحقق 11 ميدالية (5 فضيات و6 برونزيات)، لتأتي في المرتبة الرابعة من 9 دول في عدد الميداليات آنذاك (11) (12).

شاركت فلسطين في دورة الألعاب العربية مرة أخرى عام 1961، وحصلت على 8 ميداليات (ذهبية واحدة و7 برونزيات)، وفي تلك الفترة لم تتنفس الرياضة الفلسطينية الصعداء فقط، بل بدأت تستشعر بوادر استقرار حقيقي لأول مرة منذ عقدين من الزمن، بالأخص في قطاع غزة الذي كان تحت الحكم المصري، الذي أصبح مع الوقت مركز ثِقل الرياضة الفلسطينية، وفي عام 1962 أُنشئ الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم وعدة اتحادات أخرى. في ظل هذه النهضة الرياضية الواضحة، بالطبع لن يقف الكيان المحتل مكتوف الأيدي (11) (12)!

 

حاولت إسرائيل بشتى الطرق أن تضغط على الاتحادات الدولية للألعاب المختلفة، وبالأخص الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، وهذا لكي تمنع الاتحادات التي أُنشئت في فلسطين من الانتساب إلى اتحادات الألعاب الدولية، وكانت الحجة آنذاك بسيطة؛ غزة ليست تحت السيادة الفلسطينية، بل تُعد إقليما مصريا، لذلك فإن انتسابها إلى هذه الاتحادات الدولية يُعد خرقا للقوانين الدولية باعتبارها جزءا من دولة أخرى. تبدو مزحة؛ إسرائيل تتحدث عن خرق القوانين الدولية (11).

 

بين ستينيات وتسعينيات القرن الماضي، تقدّمت فلسطين عدة مرات بطلب للانضمام إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، وكذلك اللجنة الأولمبية الدولية "IOC"، بعد أن أُنشئت اللجنة الأولمبية الفلسطينية عام 1974، لكن في كل مرة كان الرفض حليفا لهذه الطلبات، حتى أتى الفرج أخيرا في التسعينيات بعد مجهودات مكثفة، واعتُرف بفلسطين عضوا لـ"IOC" ولـ"فيفا" في عامي 1995 و1998 على الترتيب (11) (13).

 

حصلت اللجنة الأولمبية الفلسطينية أيضا على عضوية الاتحاد الآسيوي عام 1986. وشاركت في الألعاب الأولمبية الآسيوية عام 1990، والألعاب الأولمبية الدولية عام 1996 لأول مرة في تاريخها، وكذلك تحققت بعض النجاحات الرمزية للرياضة الفلسطينية في تلك الفترة كبرونزية كرة القدم في دورة الألعاب العربية التاسعة عام 1999، ومع كل تلك الاعترافات والعضويات وبعض النجاحات والتطورات الملموسة، أصبحت الرياضة الفلسطينية تُمثِّل تهديدا حقيقيا بالنسبة لسلطات الاحتلال، لتدخل منذ ذلك الحين في مرحلة جديدة كليا من القمع والتشويه والردع (3) (11) (13).

 

قتل واستهداف

منذ بداية الألفية الثالثة، استهدفت سلطات الاحتلال الرياضيين الفلسطينيين بشكل غير مسبوق، ففي انتفاضة الأقصى الأولى قُتِل نحو 300 لاعب من مُختَلَف الرياضات الفلسطينية، 300 لاعب بـ300 حلم مختَلِف، معظمهم من لاعبي كرة القدم، وهو ما أدى إلى تدهور النشاط الرياضي في البلاد في الفترة التي تلتها، لكن على أي حال، تلك لم تكن سوى البداية لسنوات من استهداف الرياضيين الفلسطينيين بأقذر الطرق الممكنة (14)!

في يوليو/تموز عام 2014، استهدفت صواريخ الاحتلال منزل اللاعب السابق والمدرب عاهد زقوت، مما أدى إلى استشهاده على الفور. كان عاهد زقوت أحد أبرز لاعبي كرة القدم الفلسطينيين في سنوات لعبه، لكن دوره بعد الاعتزال هو ما دفع سلطات الاحتلال إلى استهدافه وقتله، حيث كان له دور محوري في تأسيس مدرسة الناشئين الكروية بنادي غزة الرياضي التي أخرجت للنور العديد من لاعبي المنتخب الفلسطيني، كما كان أيضا من مؤسسي مدرسة أخرى للناشئين بنادي الهلال الغزي عام 2005. زقوت كان مؤثرا في صنع أجيال كروية جديدة ترغب في حمل العلم الفلسطيني ورفع رايته في المحافل القارية والدولية، لكن ثمن ذلك كان حياته (15) (16).

 

عاهد زقوت هو مثال من مئات الأمثلة التي استُهدِفت وقُتِلت بدم بارد، لكن أكثر فئة كانت تُستهدف هم هؤلاء المراهقون والشباب ممن تظهر عليهم علامات الكفاءة في وقت مبكر. في يناير/كانون الثاني عام 2009 قتلت سلطات الاحتلال 3 لاعبين كرة قدم كان يرى الجميع أن لديهم مستقبلا واعدا؛ وهم أيمن الكُرد، ووجيه مشتهى، وشادي السباخي، وبعد شهرين فقط من مقتل الثلاثة، قتلت سلطات الاحتلال اللاعب ساجي درويش، الذي كان من أبرز المواهب الكروية الصاعدة آنذاك، في ربيعه الـ18 فقط (17).

 

لم يقتصر الصهاينة في القتل على لاعبي كرة القدم فحسب، فقد فقدت الرياضة الفلسطينية شهداء في مختلف الرياضات، كان من ضمنهم لاعب الكاراتيه الراحل يوسف قدوم في أغسطس/آب عام 2022. يوسف كان من أبرز لاعبي الكاراتيه بنادي الزيتون الرياضي، وشارك في العديد من البطولات، قبل أن يستشهد عن عمر 24 عاما جرّاء قصف لمنزله بحي الشجاعية.

 

يوسف لم يكن أول شهيد بعائلته، فقد قُتِل بعد 20 عاما من استشهاد والده، سلمان قدوم، تاركا خلفه طفلا بعمر الرابعة وهو يوسف ذاته، وعندما كَبُر يوسف وأصبح بعمر والده، وابنته الصغيرة بعمره هو عندما استُشهد والده، قتلتهم صواريخ الاحتلال ولم تترك خلفها طفلا هذه المرة. الأب والابن والحفيدة استشهدوا، وقدموا دليلا مُسبقا على أن العائلات التي تُمحى بالكامل الآن في قطاع غزة هم فقط امتداد لمئات سبقوهم (18) (19)!

رغم قسوته ووحشيته، لم يكن القتل هو أسوأ ما تفعله سلطات الاحتلال للرياضيين، لأن الأسوأ من أن يُقتَل أحدهم هو أن يُقتَل حلمه أمام عينيه وهو على قيد الحياة؛ أن يفقد أعز ما يملك في جسده، ورأس ماله الرياضي، والوسيلة التي تُخوِّله من ممارسة حقه المشروع في اللعب. دائما ما تدّعي سلطات الاحتلال أن قتلها للرياضيين ليس مُتعمَّدا، وإن اعتبرنا للحظة أن هذه الرواية صائبة؛ فهل إطلاق الرصاصات على "سيقان" الرياضيين بالتحديد -دونا عن غيرهم- هو أيضا من قبيل المصادفة؟

 

في يناير/كانون الثاني عام 2014، كان جوهر ناصر (19 عاما) وآدم عبد الرؤوف حلبية (17 عاما) عائدين من التدريب، وبمجرّد اقترابهما من إحدى نقاط التفتيش، انهالت الرصاصات على أقدام جوهر، لتستقبل قدماه الاثنتان 10 رصاصات، وعندما حاول آدم إنقاذ صديقه تلقّى هو الآخر رصاصتين، واحدة في كل قدم، ولم يكن ذلك كافيا لقوات الاحتلال؛ فبعد أن وقع جوهر وزميله على الأرض غارقين في دمائهما، تركت قوات الاحتلال كلابها لتقوم بضربهما وعضّهما في أجسادهما، ليكون تدريبهما في مساء هذا اليوم بملعب فيصل الحسيني هو الأخير في مسيرتهما الرياضية (20)!

 

ادّعت قوات الاحتلال أن جوهر وآدم كانا على وشك إلقاء قنبلة على نقطة التفتيش، لكن تلك بالطبع ما هي إلا كذبة أخرى، تماما مثل كذبة "40 رضيعا مقطوع الرأس" التي لم يرها أحد، لكن رئيس دولة بحجم الولايات المتحدة الأميركية خرج ليكذب علنا على العالم، ومعه رئيس الوزراء الإسرائيلي، ثم تناولت الخبر شبكات إعلامية تُعطي العالم دروسا في المصداقية والتحقق من الخبر (20) (21).

طبعا نُفيت الكذبة فيما بعد، بعد أن كُشِف أنها مجرد كذبة من آلاف الكذبات التي سبقتها، وخرجت الشبكات نفسها لتوضّح أن أحدا لم يتأكد من صحة هذا الادّعاء، لكن هذا أيضا هو جزء من الخطة، وجزء من الخداع، لأن أحدا لن يتذكر النفي، ولأن الخداع هو جزء لا يتجزأ من تاريخ هذا الكيان المُحتل، على لسان قادته بأنفسهم (22) (30).

"لقد تعلمت أنه لا يمكن حكم دولة إسرائيل في جيلنا دون الخداع والمغامرة".

موشيه شاريت، أول وزير خارجية لإسرائيل (22)

ربما كانت واقعة جوهر وآدم هي الأبرز من نوعها، لكنها أبدا لم تكن الوحيدة؛ ففي 30 مارس/آذار عام 2018، وهو اليوم الأول من احتجاجات "مسيرة العودة الكبرى"، أُصيب الدراج الفلسطيني علاء الدالي بعيارات نارية في ساقه اليمنى، مما أدى إلى بترها فيما بعد، لتقتل قوات الاحتلال حلما آخر، هذا لأن علاء كان على وشك المشاركة في الألعاب الرياضية الآسيوية (23).

 

خلال الاحتجاجات ذاتها التي استمرت نحو 20 شهرا، أصيب أكثر من 7900 فلسطيني بأعيرة نارية، كان من ضمنهم 30 رياضيا في أول شهر فقط! وهناك عدد منهم أصيب في أقدامه واضطر لبترها، تماما كما حدث لعلاء، لكن قصة علاء تحديدا كانت فريدة؛ لأن هذا الرجل لم ييأس بعد بتر أقدامه من مواصلة حلمه الرياضي، وقرر أن يتقدم للمشاركة في دورة الألعاب الآسيوية البارالمبية، لكن مرة أخرى، كان علاء على موعد مع خيبة أمل جديدة؛ حيث رفضت سلطات الاحتلال أن تمنحه تصريحا بمغادرة البلاد للمشاركة في الألعاب، في إجراء تعسُّفي حدث لآلاف العاملين بالقطاع الرياضي من قبله (23) (24) (25).

 

لأن القتل لم ولن يكون كافيا صور للصلاة على بعض الشهداء في الحرب على غزة. (الصورة: الفرنسية)

بين عام 2000 وعام 2014 استشهد نحو 540 فلسطينيا من الكوادر الرياضية المختلفة، ناهيك بآلاف الجرحى، ومئات القُعَداء ومبتوري الأقدام، والمعتقلين بالسجون الإسرائيلية حتى اليوم، التي لم تقوَ السجلات الرسمية على حصرهم لكثرتهم، لكن كل هؤلاء ليسوا كفاية لسلطات الاحتلال، لتمارس بالتزامن مع تلك الجرائم اللا إنسانية المزيد من الجرائم تجاه الأبنية والمنشآت الرياضية (26).

 

في عام 2006 قصفت إسرائيل ملعب فلسطين الدولي في قطاع غزة، وهو الملعب الأهم للمنتخب الفلسطيني الأول والعديد من الأندية ومنتخبات الشباب، وخمِّن بمَ علل ممثل إسرائيل في الفيفا آنذاك هذا الهجوم؟ قاعدة عسكرية نعم، يا للمفاجأة غير المتوقعة بالمرة، تعليل جديد كليا. طبعا وجدت فيفا أن هذه كذبة أخرى، وقررت دفع تكاليف الترميم، لكنها الفيفا ذاتها التي منحت إسرائيل الحق في إقامة مباريات التصفيات الأوروبية في تل أبيب، في العام ذاته الذي حدث فيه القصف، هل نحن متفاجئون؟ امممممم.. لا، لسنا كذلك (27).

 

عادت إسرائيل لتقصف ملعب فلسطين الدولي مرة أخرى عام 2012، وهذه المرة عقدت العزم على ألا تترك منه شبرا واحدا بلا دمار؛ 11 طنا من المتفجرات في آنٍ واحد، أحالت المجمع الرياضي بالكامل إلى دمار غير مسبوق. في العام ذاته قصفت قوات الاحتلال ملعب اليرموك بقطاع غزة، وكذلك ملعب بيت حانون، ناهيك بالملاعب التي جُرِفَ العشب الخاص بها ليصبح غير صالح للاستخدام، أما عن مقرات الأندية الرياضية التي تعرّضت للقصف فحدّث ولا حرج؛ بين عامي 2008-2013 فقط، قُصِف 14 ناديا بصواريخ الاحتلال، كما قُصِف مقر اللجنة الأولمبية الفلسطينية وكذلك اتحاد كرة القدم (26) (28) (29).

ملعب فلسطين بعد تدميره جراء القصف الإسرائيلي في حرب 2012. (الصورة: مواقع التواصل)

السلطات التي تسعى لتدمير منشآت قائمة بالفعل، بل ومحوها تماما لتصبح أثرا بعد عين، بالطبع لن تسمح ببناء غيرها، فبالتزامن مع الهجمات المتكررة على البنية التحتية الرياضية كانت سلطات الاحتلال تمنع وتعرقل بناء أي منشأة رياضية أخرى؛ ملاعب، صالات رياضية، منشآت إدارية، إلخ. ولأن هذا ليس كافيا أيضا، كانت سلطات الاحتلال تُقيّد مرور أي أدوات أو معدات رياضية من المعابر الحدودية، بما في ذلك المعدات التي تأتي في صورة مساعدات من باقي الدول العربية ومن الفيفا، وعلى المؤسسات الرياضية أن تدفع مبالغ باهظة إن أرادت لهذه المعدّات المرور بسلام (26).

 

إن كنت تعتقد أن هذه التضييقات تنتهي بخروج اللاعبين من الأراضي الفلسطينية فأنت مُخطئ، ويمكن أن تشرح لك الأمر البعثة الفلسطينية في أولمبياد ريو 2016؛ إذ إنهم أُجبروا على السفر إلى البرازيل دون أي معدات تدريبية بحوزتهم، واضطروا لشراء معدات بديلة عندما سافروا، وإن كنت تعتقد أن الأمر يتوقف عند المعدات فأنت مُخطئ أيضا؛ لأن حتى الملابس الخاصة بالرياضيين لم تصل إلى البرازيل إلا في اللحظات الأخيرة بعد تأخيرها عمدا، وهو الأمر نفسه الذي حدث لمنتخب الفدائيين في نهائيات كأس آسيا 2017 (11) (32) (33).

 

لا معدات، ولا صالات، ولا ملاعب، ولا هيئات إدارية قادرة على مزاولة عملها دون تضييقات واقتحامات لا تتوقف؛ ماذا تتوقع أن تُنتج الرياضة الفلسطينية في النهاية؟ إسرائيل تفعل كل ما بوسعها لكي لا يوجد سميث وكارلوس الفلسطينيان في أحداث رياضية من الأساس، وإن حدث وكانا موجودين، فالأهم ألا يكونا كفئا لدرجة أن يصلا إلى منصة التتويج بالنهاية. وبالطبع في ظل كل تلك الانتهاكات، فلن تكون هناك منظومة قادرة على إنتاج رياضيين أكفاء قادرين على المنافسة، لأن الحقيقة المؤلمة هي أن الدوافع وحدها لا تكفي لصنع الأمجاد.

"ليس لدينا حمامات سباحة أولمبية بطول 50 مترا للتدرب عليها، وليس لدينا مدربون خبراء. لقد كانت المرة الأولى التي أتدرب فيها في حمام سباحة 50 مترا في استعدادات الألعاب الأولمبية نفسها!" (31).

دانيا نور. (الجزيرة)

جاءت هذه الكلمات على لسان السباحة الأولمبية الفلسطينية، دانيا نور، التي شاركت في أولمبياد طوكيو الماضية. كانت دانيا مُجبرة طوال فترة استعداداتها للأولمبياد أن تتدرب في حمام سباحة بطول 25 مترا فقط، وهو نصف حجم حمام السباحة الأوليمبي التي ستنافس نظيراتها فيه في الأولمبياد، بل والأسوأ من ذلك أن حتى هذا المسبح الذي كانت تتدرب به كان يُغلق تماما في فصل الشتاء، ما يترك أمامها خيارين أًصعب من بعضهما: إما الذهاب إلى رام الله الواقعة فعليا على بعد ثلاث ساعات بسبب حركة المرور، أو عبور الحواجز العسكرية في الصباح الباكر للذهاب إلى القدس، وهو ما يتطلب تصريح عبور نادرا ما تمنحه سلطات الاحتلال (31).

 

معايير مزدوجة

تلاعبت إسرائيل بكل المعايير والمواثيق والأعراف الرياضية الدولية في انتهاكاتها المتكررة للرياضة والرياضيين الفلسطينيين، تلك الانتهاكات التي تضمنت منعهم حتى من حق حرية الحركة الذي يُعَدُّ أمرا بديهيا لكل إنسان، لكنه بالنسبة للفلسطينيين أضغاث أحلام في ظل وجود 150 نقطة تفتيش ثابتة و100 أخرى متحركة في أرجاء البلاد. لكن في الحقيقة هناك جريمة أخرى لم نتحدث عنها حتى الآن، وإن كان إبليس تلك الأرض قادرا على التملُّص من كل جرائمه بمكره وخداعه، فهذه الجريمة بالتحديد لا يمكنه التملُّص منها، لأنها تُمثِّل انتهاكا صارخا لقوانين الفيفا (9).

 

إسرائيل التي كرّست كل جهودها قبل نحو 60 عاما من الآن لكي تمنع الاتحادات الرياضية الفلسطينية من الانتساب إلى الاتحادات الدولية، بذريعة أن قطاع غزة -مركز ثقل الرياضة الفلسطينية آنذاك- لم يكن تحت السيطرة الفلسطينية، هي الدولة ذاتها التي تملك اليوم 6 أندية تتنافس في الدرجات المختلفة من الدوري الإسرائيلي، بقلب المستوطنات الإسرائيلية الموجودة بالضفة الغربية، التي تُعَدُّ من الأراضي الفلسطينية وفقا للأمم المتحدة ووفقا للفيفا ذاتها، وهو ما يُعَدُّ انتهاكا واضحا للمادتين 10.1 و2.72 من دستور الفيفا (26) (34).

"من خلال السماح للاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم بإقامة مباريات داخل المستوطنات، ينخرط الفيفا في أنشطة تجارية تدعم المستوطنات الإسرائيلية، وهو ما يتعارض مع التزامات حقوق الإنسان التي أكدها فيفا مؤخرا في تقرير صدر في أبريل/نيسان 2016، الذي كُتِب بتكليف من فيفا نفسها، وكتبه جون روجي، مؤلف مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان".

مؤسسة هيومان رايتس ووتش (35)

ربما لا يقوى إبليس على التملُّص من هذه الجريمة، لكن إسرائيل في الواقع ليس بحاجة إلى ذلك، هي ليس بحاجة إلى التملُّص من كل الجرائم التي ارتكبتها في الحقيقة؛ لأنه مُحصَّنة من العقاب، ولأن ملف الانتهاكات الإسرائيلي مُحاط بالأسلاك الشائكة، ومكتوب عليه بالبنط العريض: "ممنوع الاقتراب أو اللمس"، ولأن الفيفا واللجنة الأولمبية الدولية، الذين فرضوا عقوبات لا حصر لها بحق الرياضة والرياضيين والإداريين ورجال الأعمال ودواب الأرض والذباب الطائر وكل شيء ينطق بالروسية، هم في الحقيقة ليسوا صما وبكما وعميا، لكنهم لا يرون إلا بعين واحدة، ولا يسمعون إلا بأذن واحدة، ولا تنطق أفواههم إلا لحقوق بعينها؛ لأن "الجميع" في مقولة: "الحقوق مكفولة للجميع" لم ولن تعني يوما "الجميع" حقا (36) (37).

 

قبل 50 عاما من الآن، اغتيل أيقونة النضال والأدب الفلسطيني غسان كنفاني غدرا، بعد أن زرعت قوات الاحتلال عبوة ناسفة في سيارته، لكن كلمات غسان دفاعا عن قضيته التي اغتيل في سبيلها ما زالت حية صادحة: "هذا العالم يقتل العدل بحقارة كل يوم". (38)

————————————————————

المصادر:

1- في غزة يستخدمون عربات الآيس كريم لتخزين الجثث لأن المشارح ليست كافية – Businessinsider

2- نتنياهو يحث إيلون ماسك على الحد من معاداة السامية على منصته X – غارديان

3- الرياضات الفلسطينية: عقود قبل النكبة وبعدها – Palestinechronicle

4- ما خفي أعظم "الفضاء المغلق" – الجزيرة يوتيوب

5- فيسبوك تتعاون مع الحكومة الإسرائيلية بشأن المحتوى الذي يجب فرض الرقابة عليه – The Intercept

6- في التاريخ: كيف هز احتجاج تومي سميث وجون كارلوس في دورة الألعاب الأولمبية في مكسيكو سيتي عام 1968 العالم – BBC

7- تحية القوة السوداء: تم التشهير بها في السابق، والآن يتم الإشادة بها – الجزيرة

8- غزة: أكبر سجن مفتوح في العالم – يوسف حطاب على Instagram

9- "الهدية" يحكي بدقة معاناة الفلسطينيين على حواجز التفتيش – alarab

10- في ذكراها الـ74.. النكبة جرح فلسطين الغائر – الجزيرة

11- عندما تحولت الرياضة الفلسطينية إلى كابوس لإسرائيل – Palestinechronicle

12- فلسطين في الدورات الرياضية العربية – hpalestinesports

13- فلسطين والأولمبياد: خلق وعي وطني جماعي – Palestinechronicle

14- الرياضة الفلسطينية تعاني قمع الاحتلال الإسرائيلي – الجزيرة

15- استهداف اللاعبين جزء من خطة اللعب الأكبر لإسرائيل – thenationalnews

16- الشهيد الكابتن عاهد زقوت جوهرة الرياضة الفلسطينية – palsport

17- لماذا تعتبر انتصارات فلسطين الرياضية جزء من المقاومة – peoplesworld

18- استشهد والده عام 2002.. نعي واسع لرياضي فلسطيني استشهد في العدوان الأخير على غزة – الجزيرة مباشر

19- رياضي فلسطيني من بين شهداء الغارات الإسرائيلية على غزة مع استمرار القصف لليوم الثالث تواليا – Newarab

20- بعد الأحداث الأخيرة، مستقبل إسرائيل في فيفا تحت التهديد – The Nation

21- هل قامت حماس بقطع رؤوس الأطفال حقا؟ – الجزيرة الإنجليزية على يوتيوب

22- عندما يتخلى الفيفا عن مبادئه من أجل إرضاء إسرائيل – Palestinechronicle

23- حلم الدراج الفلسطيني بالمنافسة في دورة الألعاب الآسيوية يُرفض مرتين – scmp

24- مسيرة العودة الكبرى – msf

25- أصابت إسرائيل 30 رياضيا فلسطينيا في غزة – MEM

26- الانتهاكات الإسرائيلية بحق الرياضة الفلسطينية – وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"

27- الفيفا يمول إصلاح ملعب كرة قدم في غزة – ynetnews

28- معاناة الرياضة الفلسطينية في ظل الاحتلال الإسرائيلي – spor

29- كرة القدم في فلسطين لا تنصفها الدبلوماسية الرياضية – al-monitor

30- ما لم يقله ايتو وما لم يفعله صلاح.. لماذا نخترع ونصدق الشائعات – الجزيرة

31- لقد أعاق الاحتلال الإسرائيلي تقدم هذه اللاعبة الأولمبية الفلسطينية، ولكنه لم يستطيع عرقلة عزيمتها – MEM

32- إسرائيل تمنع الفلسطينيين المتوجهين إلى الألعاب الأولمبية من السفر – الجزيرة

33- فخر وتضامن فلسطيني في الألعاب الأولمبية – مؤسسة الدراسات الفلسطينية

34- فيفا تحت الضغط لمعاقبة إسرائيل بسبب مباريات المستوطنات – al-monitor

35- إسرائيل/فلسطين: رعاية الفيفا للألعاب على الأراضي المستولى عليها – hrw

36- الفيفا واليويفا تحظران الأندية والمنتخبات الروسية من كل البطولات لحين إشعار آخر – FIFA

37- أسئلة وأجوبة بخصوص مشاركة الرياضيين الذين يحملون جواز سفر روسي أو بيلاروسي في المسابقات الدولية – Olympics.com

38- اغتيال غسان كنفاني.. سيناريو الحادث حتى لا ننسى – اليوم السابع

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الأولمبیة الفلسطینیة الاحتلال الإسرائیلی الألعاب الأولمبیة اللجنة الأولمبیة فی دورة الألعاب سلطات الاحتلال قوات الاحتلال الفلسطینیة فی منصة التتویج فی الألعاب إسرائیل فی فی الحقیقة تلک اللحظة لکرة القدم کرة القدم العدید من الذی کان قطاع غزة کان من وهو ما بعد أن لم تکن التی أ الذی ک لم یکن جزء من التی ت الذی ی

إقرأ أيضاً:

درس غزة القاسي.. لماذا انهزمت إسرائيل إستراتيجيا رغم فداحة التدمير؟

"لن نقبل بصفقة تبدد إنجازات الحرب، والصفقة الوحيدة المقبولة هي استسلام من بقي من حماس، وتحرير المختطفين".

هكذا صرح وزير المالية الإسرائيلي، ووزير الدولة بوزارة الدفاع، وعضو مجلس الوزراء الأمني المصغر، بتسلئيل سموتريتش في يوليو/تموز 2024 بعد أكثر من 9 أشهر على الحرب، وهو تصريح يتسق مع ما أفصح عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أكثر من مناسبة، ومنها في خطابه أمام الكونغرس الأميركي في الشهر نفسه، إذ أشار إلى أن الحرب في غزة ستنتهي فقط إذا استسلمت حماس وألقت سلاحها وأعادت الأسرى.

شدد نتنياهو في خطابه أيضا على أن الجيش الإسرائيلي سوف يبقى في غزة كي لا تشكل أي تهديد عسكري، مشيرا إلى إمكانية تشكيل إدارة مدنية في غزة يقودها فلسطينيون لا يعادون إسرائيل، ومؤكدا رفض تسليم القطاع للسلطة الفلسطينية تحت شعار "لا حماستان ولا فتحستان"، ثم عزز نتنياهو موقفه بتأكيد الاحتفاظ بمحوري نتساريم وفيلادلفيا زاعما أن محور فيلادلفيا أصبح قضية وجودية وأن التواجد فيه أصبح إستراتيجية لا غنى عنها لأمن إسرائيل.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف كشف طوفان الأقصى "كذبة الصهيونية" الكبرى؟list 2 of 2إبراهيم المقادمة مفكر المقاومةend of list

ولعله من نافلة القول أن تلك التصريحات الإسرائيلية ومثيلاتها لم تُطلق في الفراغ، إذ رافقتها تحركات عسكرية على الأرض شملت حشد نصف مليون جندي إسرائيلي نظامي واحتياطي بعد ما جرى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بهدف تحقيق 3 أهداف للحرب، وهي: القضاء على حكم حماس في غزة، وتفكيك القدرات العسكرية للحركة وسائر فصائل المقاومة في القطاع، والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين.

إعلان

وفي المقابل، التزمت حماس بأن أسرى الاحتلال لن يفرج عنهم دون اتفاق تبادل، وتمسكت الحركة بـ3 شروط لقبول أي صفقة وهي: عودة السكان لشمال غزة دون استثناء الرجال، والوقف الدائم لإطلاق النار، والتعهد بالانسحاب الإسرائيلي من القطاع.

وبالفعل انتهت الحرب الطويلة أخيرا باتفاق بوساطة قطرية مصرية ورعاية أميركية ينص على الانسحاب الإسرائيلي تدريجيا من غزة، بما في ذلك محور نتساريم الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه، ومحور فيلادلفيا على الحدود المصرية الفلسطينية، والإفراج عن الأسرى وفق اتفاق تبادل، مع عدم التطرق إلى مستقبل حكم القطاع داخل الاتفاق.

في غضون ذلك، كان الأسبوع الأخير قبل اعتماد الاتفاق من الأسابيع الدامية لجيش الاحتلال حيث شهد مقتل أكثر من 15 ضابطا وجنديا وإصابة العشرات، في دلالة على أن الهيكل العسكري لفصائل المقاومة لم يتفكك، وأن عناصرها رغم الحصار وشدة القصف وحجم المجازر الضخم ضد المدنيين، لم يرفعوا رايات الاستسلام، ولم يجعلوا الاحتلال يقرّ له قرار على أراضيهم، وجعلوا أيامه نزيفا متواصلا من الخسائر.

أهداف الحرب

لم تكن حرب غزة حربا تقليدية بين جيشين، بل هي حرب بين جيش احتلال مدعوم بقوى دولية ضد فصائل مقاومة محاصرة تملك القليل من الإمكانات العسكرية.

ولذا فإن مؤشرات الانتصار أو بمعنى أدق "نظرية النصر" لدى كل طرف تظل مختلفة تماما عن الآخر، ولا يحددها فقط حجم الخسائر البشرية لدى كلا الطرفين، وعلى جانب الاحتلال يتمثل الانتصار في تحقيق أهداف الحرب الثلاثة التي حددها نتنياهو بنفسه كمعايير للنصر، بينما يتعرف النصر لدى المقاومة من خلال قدرتها على الصمود ومنع الاحتلال من تحقيق أهدافه.

في صبيحة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 انهارت أركان نظرية الأمن الإسرائيلية القائمة على الردع والتفوق الاستخباري، مع سقوط خط الدفاع الإسرائيلي مع قطاع غزة بالكامل، فضلا عن نجاح مقاتلي المقاومة في أسر مئات الأشخاص والعودة بهم إلى غزة، ومقتل وإصابة آلاف الجنود والمستوطنين في أضخم خسارة بشرية تلحق بإسرائيل في يوم واحد منذ تأسيسها، مما دفع نتنياهو إلى التصريح بأن "إسرائيل في حرب وجودية صعبة"، في حين لخص مارتن أنديك السفير الأميركي الأسبق في تل أبيب -الذي توفي في يوليو/تموز من العام الفائت- دلالة ما حدث قائلا إن "حماس أعادت إحياء فكرة هزيمة إسرائيل بالقوة".

إعلان

في مواجهة هذه الحقيقة الجديدة والصعبة، شنت إسرائيل أضخم هجوم لها في فلسطين منذ النكبة وخاضت أطول حرب في تاريخها امتدت إلى 15 شهرا. واعتمدت الحملة العسكرية في مرحلتها الأولى على قصف جوي غير مسبوق لتدمير كل ما له صلة بالمقاومة والمجتمع المحيط بهم من منازل سكنية ومقرات حكومية ومؤسسات اجتماعية، فضلا عن الانتقام الجماعي من الأهالي عبر إحداث مقتلة هائلة في صفوف المدنيين، بالتزامن مع حصار مشدد يشمل منع المياه والطعام والوقود والكهرباء عن سكان القطاع، وتهديم البنية التحتية من مستشفيات ومدارس ومؤسسات.

لاحقا، شن الاحتلال عملية برية شملت كل أنحاء قطاع غزة، مع تكرار حملات الإخلاء لمنع السكان من الشعور بالاستقرار ولو في خيم النزوح، وأسفرت تلك المجزرة عن قرابة 50 ألف شهيد وفق الأرقام الرسمية، وأضعافهم من المصابين والمهجرين والمشردين، فضلا عن تدمير أغلب مقومات الحياة في قطاع غزة.

جانب من آثار الدمار التي خلفها قصف طائرات جيش الاحتلال (وكالة الأناضول)

عسكريا، أعلن الاحتلال شروعه في تفكيك البنية التحتية للمقاومة، وتدمير بنيتها العسكرية ومنظومات القيادة والسيطرة، متعهدا بقتل كل من شارك في طوفان الأقصى، والقضاء على شبكة الأنفاق الواسعة، والأهم تحرير أسراه من خلال الضغط العسكري، رافضا عرض المقاومة منذ بداية الحرب بالتفاوض لإجراء عملية تبادل أسرى تشمل كل الأسرى من الجانبين.

وفي منتصف عام 2024 أعلنت هيئة البث الإسرائيلية أن حكومة نتنياهو أعطت الجيش الضوء الأخضر للانتقال تدريجيا للمرحلة الثالثة والأخيرة من الحرب، والتي تشمل البقاء في محوري نتساريم وفيلادلفيا للضغط على حماس، وتنفيذ غارات وعمليات برية مركزة تستهدف مقدرات المقاومة وعناصرها. ووسع جيش الاحتلال محور نتساريم عبر هدم المنازل على جانبيه، بهدف فصل شمال قطاع غزة الذي تعرض للقدر الأكبر من التدمير عن جنوبه.

إعلان فشل المخططات الإسرائيلية

في غضون ذلك، أعلن الاحتلال مخططات عدة لمستقبل قطاع غزة، بينما أطلق وزراء يشغلون مناصب حكومية تهديدات بمحو غزة تماما وتهجير أهلها عن بكرة أبيهم، كما في حديث وزير التراث عميحاي إلياهو بأن أحد الخيارات أمام إسرائيل هي إسقاط قنبلة ذرية على القطاع، وإشادة وزير المالية سموتريتش بمقال عضوين في الكنيست بصحيفة وول ستريت جورنال، دعوَا فيه إلى تهجير 10 ألاف فلسطيني لكل دولة من دول العالم، في حين شدد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير على أن الاستيطان في قطاع غزة وتشجيع هجرة الفلسطينيين منه صارا هدفين واقعيين.

ومن بين تلك المخططات التي قادت الاحتلال خلال شهور الحرب الطويلة مقترح إقامة حكم عسكري في غزة، وهو المخطط الذي ندد به علنا وزير الدفاع الإسرائيلي -آنذاك- يوآف غالانت بمؤتمر صحفي في مايو/أيار 2024، فقد كشف أن بعض الجهات في حكومة الاحتلال تدفع باتجاه إقامة حكم عسكري في غزة، وأبدى تخوفه من غرق الجيش في حرب استنزاف طويلة في حال المضي قدما في تنفيذ هذه الخطة.

أكثر من ذلك، سعى الاحتلال من خلال غسان عليان منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية للشؤون المدنية في محاولات لدفع بعض العائلات الغزية إلى تشكيل إدارة أهلية في مناطق وجودها، والتنسيق معها في إدخال المساعدات وتوزيعها، وهو ما رفضه وجهاء العشائر وكبار العائلات مشترطين التنسيق أولا مع الأجهزة الأمنية بغزة، وهو موقف رحبت به حماس.

كذلك شجع الاحتلال على حدوث مظاهر فوضى في غزة شملت عمليات للسطو على شاحنات المساعدات، غير أن المقاومة ووجهاء العشائر عملوا على التصدي بحزم لتلك المظاهر ولإحباط المخططات الإسرائيلية.

أما واشنطن، فأعلنت تدشين رصيف بحري في غزة لتسليم المساعدات الإنسانية، وهو ما عكس رغبة أميركية إسرائيلية في سحب ملف توزيع المساعدات من أي جهة فلسطينية بغية تحقيق قدر أكبر من السيطرة عبر التحكم في توزيع الطعام في القطاع، وتزامن ذلك مع الاستهداف الإسرائيلي الممنهج لأي مظاهر حكم في غزة لتعزيز حالة الفراغ الإداري والأمني، إذ استهدف جيش الاحتلال عناصر أجهزة الأمن العام والأمن الداخلي ولجان الطوارئ والشرطة بقطاع غزة.

إعلان

وكشف الجيش الأميركي أن تكلفة بناء الرصيف بلغت 320 مليون دولار بمشاركة ألف جندي أميركي، لكن مشروع الرصيف انتهى بالتخلّي عنه وتفكيكه بسبب تجاوز أعباء تشغيله الفوائد المجنية منه، وفشله عمليا مع تعطله أكثر من مرة بسبب الأمواج العالية.

وفي سبتمبر/ أيلول 2024، درس الاحتلال خطة اقترحها مستشار الأمن القومي السابق الجنرال غيورا أيلاند، وتقضي بإعلان شمال غزة منطقة عسكرية مغلقة، وطرد من تبقّى من المدنيين والسكان "300 ألف شخص" إلى جنوب القطاع عبر تجويعهم ومنع إدخال أي مساعدات إنسانية، واعتبار كل من يظل في الشمال مقاتلين في المقاومة، وتصفيتهم، مما يجعلهم عرضة للاستهداف. وذلك للضغط على حماس لإجبارها على الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، فيما عُرف إعلاميا بـ "خطة الجنرالات".

وبالفعل بدأ الاحتلال في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2024 عملية عسكرية جديدة في مخيم جباليا بشمال غزة مع إجراءات في شمال القطاع تتسق مع  هذه الخطة.

وفي الخلفية من المشهد كله، كانت حركات الاستيطان الإسرائيلية تمني نفسها بالعودة إلى القطاع الذي انسحبت منه مرغمة قبل عقدين، ضمن خطة فك الارتباط لرئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون. وقد عقدت حركة نحالا الاستيطانية مؤتمرا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بخصوص "إعادة الاستيطان في غزة" بحضور وزراء في حكومة نتنياهو مثل بن غفير وماي غولان، وأعلنت تسجيل 700 عائلة للسكن في مستوطنات محتملة في غزة.

وأشار البيان الختامي للمؤتمر إلى أن البدء في بناء المستوطنات قد يحدث في غضون عام. واللافت أن منظمي المؤتمر من بينهم وزراء بالحكومة يدفعون باتجاه تنفيذ مخططهم رغم إبداء الجيش تحفظه تجاه إمكانية تنفيذه وكلفته.

الخلافات الداخلية

وسط هذا الزحام من الخطط الصهيونية المتخبطة، أصبح واضحا أن حكومة الاحتلال لا تمتلك رؤية لإنهاء الحرب وتحقيق الأهداف التي ألزمت نفسها بها، وأن السبب الرئيسي لاستمرار الحرب هو أن قادة الاحتلال لا يمتلكون تصورا حول تحقيق النصر خلالها، مكتفين فقط بالإمعان في أعمال التنكيل والإبادة الجماعية.

ومع كل يوم إضافي للحرب تناقصت مكتسباتها العسكرية باضطراد، بما يعني أن تكلفة مواصلة الحرب تفوق المنجزات العسكرية المتحققة على الأرض. ويوما بعد يوم، توسعت الهوة بين وعود القيادة الإسرائيلية ونتائج الحرب، وبدأ كبار السياسيين والقادة العسكريين في تبادل الاتهامات.

إعلان

فمن جهته، حمّل نتنياهو قيادة الجيش وأجهزة الاستخبارات المسؤولية عن الفشل في التصدي لهجوم 7 أكتوبر، وقال إن "كل وكالات الاستخبارات اعتبرت أن حركة حماس كانت تحت الردع إثر الحروب السابقة وتتجه نحو التسوية".

وفي المقابل، صدم دانيال هاغاري المتحدث باسم جيش الاحتلال نتنياهو وحكومته بتصريح صاعق في 19 يونيو/حزيران 2024 قائلا إن "الكلام عن القضاء على حماس خداع للجمهور لأنّ حماس فكرة ولا يمكن تدمير الأفكار، وأنه طالما لم تجد الحكومة بديلا لها فستبقى في غزة"، ولذا سرعان ما رد وزير الاتصالات شلومو كارعي قائلا "إن تصريحات المتحدث باسم الجيش تشير إلى الروح القيادية المتراخية والضعيفة لرئيس الأركان ووزير الدفاع".

لم تقتصر الخلافات على التراشقات الإعلامية فقد شملت تطورات عملية حملت رسائل سلبية وقت القتال، فعلى سبيل المثال انهار مجلس الحرب الذي تشكل من 5 أعضاء بعد طوفان الأقصى عقب انسحاب بيني غانتس وغادي أيزنكوت منه في 9 يونيو/حزيران 2024، ودعوتهما لإجراء انتخابات بأسرع وقت ممكن، واتهامهما لنتنياهو بعرقلة اتخاذ قرارات إستراتيجية مهمة لاعتبارات سياسية.

كما تصاعدت الخلافات بين نتنياهو وبين وزير الدفاع والجيش من جانب آخر على وقع تداعيات الحرب، فحينما صادق الكنيست على قانون تمديد إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية صوت وزير الدفاع غالانت إلى جانب المعارضة، وخالف حزب الليكود الذي ينتمي له، بحجة عدم العدالة في توزيع أعباء الحرب، وعيش الحريديم عالة على المجتمع، وهو ما تسبب في تفاقم الخلافات وصولا إلى قرار نتنياهو بإقالة وزير دفاعه غالانت في الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

بالإضافة إلى ذلك، وقعت العديد من الاستقالات وسط قادة الجيش وأجهزة الأمن على خلفية الإخفاق في التصدي لطوفان الأقصى، والخلاف مع إدارة الحكومة والجيش للحرب، ومن أبرز المستقيلين أهارون هاليفا رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، وأمير برعام نائب رئيس الأركان، وتامير يدعي قائد القوات البرية، ويوسي شاريئيل قائد وحدة التجسس 8200.

إعلان

وكانت المحصلة لكل ذلك هي ازدياد حجم التشققات في المجتمع الإسرائيلي مع طول أمد الحرب، وتضرر جنود الاحتياط من طول فترات خدمتهم، والانزعاج من رفض الحريديم للتجنيد في الجيش، واستمرار نزيف الخسائر البشرية، والإنهاك من صفارات الإنذار المتكررة بسبب القصف الصاروخي وبالطائرات المسيرة من لبنان واليمن.

الفصل الأخير

لقد ماطل نتنياهو طويلا في عقد صفقة لوقف الحرب، وطرح شروطا على المقاومة أقرب إلى الاستسلام، وراهن على أن الضغط العسكري المكثف وارتكاب المجازر في غزة سيحسن شروط الصفقة؛ وسيضمن تفكيك القدرات العسكرية لحماس فضلا عن إضعاف قدرتها على الحكم، فيما عمل جيش الاحتلال على تحويل قطاع غزة إلى منطقة غير قابلة للمعيشة، بهدف دفع السكان عند أول فرصة لمغادرته.

لكن في المقابل، صمدت حماس رغم ضخامة الثمن، ولم ترفع راية الاستسلام، وأعلنت أنها لن تقبل اقتراحات جديدة من إسرائيل، وأنها تطالب بتنفيذ الاتفاق السابق الموافقة من الطرفين عليه منتصف عام 2024 استنادا إلى رؤية بايدن وقرار مجلس الأمن، دون قبول تعديلات كتلك التي تشترط بقاء الاحتلال في محوري فيلادلفيا ونتساريم، وتفتيش العائدين إلى شمال القطاع من السكان.

ونجحت المقاومة بتوليد قناعة لدى الأطراف كافة بما فيها واشنطن باستحالة القضاء على المقاومة عسكريا، وهو ما أقرّ به وزير الخارجية الأميركي بلينكن قائلا إن حماس جندت خلال الحرب مقاتلين أكثر ممن فقدتهم.

تشير قدرة حماس وفصائل المقاومة على الاحتفاظ بأكثر من 90 أسيرا (يُعتقد أن بعضهم قتلوا بسبب القصف الإسرائيلي) رغم تلك الحرب الطاحنة، وتنفيذ هجمات يوميا على جيش الاحتلال في أنحاء غزة، واستمرار التواصل بين القيادة السياسية في الخارج والقيادة العسكرية في الداخل، إلى أن أهداف الاحتلال المعلنة لم تتحقق، وأن بنية المقاومة ما زالت موجودة وفاعلة، وأن منظومة القيادة والسيطرة تعمل ولم تتفكك، وذلك يعني فشل نتنياهو في تحقيق أحد الأهداف الرئيسية الكبيرة للحرب، ومن نافلة القول الإشارة إلى أن الهدف الكبير الآخر وهو استعادة الأسرى لم يتحقق أيضا.

إعلان

تقاطع هذا الصمود الكبير لحماس في مواجهة التعنت الشديد لنتنياهو مع قرب وصول إدارة ترامب للبيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني 2025، حيث تشكلت قناعة في واشنطن بأن نتنياهو يطيل أمد الحرب لتحقيق أهدافه السياسية الخاصة، وهو ما تقاطع مع رغبة ترامب في إنهاء الحرب بالشرق الأوسط للتفرغ لملفات أخرى ذات أولوية لديه، ولتجنب توريط أميركا في حرب لا مصلحة لها فيها، فضلا عن رغبة ترامب في تعزيز مسار التطبيع العربي مع إسرائيل بضم دول أخرى لاتفاقية أبراهام، وهو ما لا يمكن تنفيذه مع استمرار الحرب.

لقد أثبتت عملية طوفان الأقصى استحالة تحقيق إسرائيل للأمن مع استمرار انتهاكاتها للفلسطينيين واحتلالها لأراضيهم، كما أعادت طرح ملف الاحتلال الإسرائيلي على الأجندة السياسة العالمية، وأحدثت زلزالا جيوسياسيا بالمنطقة، ظهرت أولى تداعياته في لبنان وسوريا، ووضعت إسرائيل تحت مطرقة الحصار الدولي رغم مظلة الحماية الأميركية، حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه غالانت، في حين اعترفت النرويج وإسبانيا وأيرلندا بالدولة الفلسطينية.

ومع هدوء غبار المعركة، ستصبح المسيرة السياسية لنتنياهو في خطر، إذ ستتشكل لجان تحقيق لتحديد أوجه القصور ومحاسبة المسؤولين عنها، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الذي أشغل الرأي العام الإسرائيلي بتعديلاته القانونية التي أحدثت شرخًا مجتمعيا وأضعفت الاحتلال أمام خصومه، في وقت تتعالى فيه الأصوات في إسرائيل بأن الصفقة الأخيرة هي ذاتها التي عرقلها نتنياهو في منتصف عام 2024، وها هو ذا يقبل بها بعد أن دفعت إسرائيل ثمنا أكبر، وخاضت شهورا إضافية من القتال بلا طائل.

لا شك أن حرب الإبادة الإسرائيلية أحدثت دمارا هائلا في غزة بشريا وماديا، وتركت ندوبا غائرة تحتاج زمنا طويلا للتعافي، لكن الحقيقة الأكيدة أنها فشلت في تحقيق أهدافها، والأهم أنها لم تكفل الأمن لإسرائيل. لقد خرجت دولة الاحتلال من الحرب أكثر توحشا، لكنها في الوقت نفسه أكثر ضعفا وهشاشة، والأهم أن تداعيات هذه "الهزيمة الإستراتيجية" لإسرائيل لا تزال في بدايتها، وربما يتطلب الأمر سنوات قبل أن يدرك الإسرائيليون حقيقة ما فعله نتنياهو بدولتهم حين أوهمهم أن بإمكانه تحقيق الأمن من خلال تدمير غزة وإبادة شعبها.

إعلان

مقالات مشابهة

  • المقاومة الفلسطينية تستهدف جنود وآليات للاحتلال وتقصف غلاف غزة بالصواريخ
  • استياء إماراتي بشأن وقف اطلاق النار وانتصار المقاومة الفلسطينية في غزة
  • السيد خامنئي: المقاومة الفلسطينية أجبرت إسرائيل على التراجع
  • درس غزة القاسي.. لماذا انهزمت إسرائيل إستراتيجيا رغم فداحة التدمير؟
  • مع اقتراب صفقة التبادل.. ما هي الوحدة التي احتفظت بأسرى الاحتلال 15 شهراً؟
  • بنود اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بين المقاومة الفلسطينية وكيان العدو
  • القومي العربي: المقاومة الفلسطينية حققت نصرا استراتيجيا له ما بعده
  • سرايا القدس تبث مشاهد لقنص جندي إسرائيلي شرق مدينة غزة
  • سرايا القدس تعرض مشاهد توثق قنص جندي إسرائيلي في مدينة غزة
  • محلل إسرائيلي: هذه التغيرات التي عجّلت بإنجاز صفقة تبادل الأسرى