الكيان الصهيوني والتطهير العرقي في فلسطين.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 10th, November 2023 GMT
الكتاب: التطهير العرقي في فلسطين
الكاتب: المؤرخ "الإسرائيلي" إيلان بابيه، ترجمة: أحمد خليفة
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية،الطبعة الأولى 2007، مترجم عن الإنجليزية (يقع في 374 صفحة من الحجم المتوسط)، تم طبع الكتاب في لندن عام 2006، وفي بيروت عام 2007، وفي فلسطين عام 2007.
يشير مصطلح التطهير العرقي إلى الإزالة المنظمة والقسرية لمجموعات عرقية أو دينية من المناطق التي يعيشون فيها.
في حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني لإقتلاعه من قطاع غزة، وإلقائه في صحراء سيناء، يمثل موقف الكاتب الإسرائيلي "إيلان بابيه" من سياسة التطهير العرقي في فلسطين المحتلة، شجاعة تحرس نقاء الضمير وإنسانية الموقف. فهو رجل الاستقامة المبدئية الذي ينظر إلى جريمة حرب غزة بمنظور جرائم التطهير العرقي، التي مارسها الكيان الصهيوني منذ نشأته في عام 1948.
في هذا الكتاب الذي يحمل العنوان التالي: "التطهير العرقي في فلسطين" المتكون من مقدمة و12فصلا وخاتمة، وصدر باللغة الإنجليزية عن دار "عالم واحد" في لندن، وتمت ترجمته من الإنجليزية إلى العربية عن طريق مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 2007، ويقع في 374صفحة من الحجم المتوسط، لمؤلفه المؤرخ الإسرائيلي "إيلان بابيه"، المحاضر في العلوم السياسية في جامعة حيفا، والمدير الأكاديمي لمعهد الدراسات من أجل السلام في جفعات حفيفة، ورئيس معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية في حيفا، وهو مؤلف عدد من الكتب منها (تاريخ لفلسطين الحديثة)، و(الشرق الأوسط الحديث) و(المسألة "الإسرائيلية" /الفلسطينية)،في هذا الكتاب، يحاول المؤلف أن يبين بأن الحركة الصهيونية قد شنت سنة 1948 حربا على الشعب الفلسطيني لكي تطبق خططها البعيدة المدى للتطهير العرقي، والترويع والقتل وإحراق المساكن لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم.
البيت الأحمر والإرهاب الصهيوني
بدأ المؤلف كتابه بمقدمة عنوانها: البيت الأحمر، الذي هو مقر قيادة الهاغانا، ويعد من أفضل نماذج البناء في تل أبيب. ومن هذا البيت الأحمر، كشف هذا الكتاب كيف جرت عمليات التطهير العرقي في فلسطين سنة 1948، وكيف كان الترحيل والتطهير العرقي جزءا جوهريا من استراتيجيا الحركة الصهيونية.
وينقض المؤلف الرواية الإسرائيلية عن حرب 1948، ليؤكد أن طرد الفلسطينيين لم يكن مجرد هروب جماعي وطوعي للسكان، بل خطة مفصلة جرى وضع اللمسات النهائية عليها في اجتماع عقده دافيد بن ـ غوريون في تل أبيب يوم 1948/3/10 بحضور عشرة من القادة الصهيونيين، وتضمنت أوامر صريحة لوحدات الهاغاناه، باستخدام شتى الأساليب لتنفيذ "الخطة دال" التي وضعتها "إسرائيل" سنة، 1948، وتحتوي على سلسلة منظمة من وسائل التطهير، التي يتطابق كل منها مع الوسائل الواردة في تعريف الأمم المتحدة للتطهير العرقي، كما أنها تشكّل الخلفية للمذابح التي رافقت مرحلة التخطيط إلى مرحلة التنفيذ النهائية، يشكل حسب هذه التعريفات، حالة تطهير عرقي ثابتة.
وتتمثل هذه الخطة في إثارة الرعب، وقصف القرى والمراكز السكنية، وحرق المنازل، وهدم البيوت، وزرع الألغام في الأنقاض لمنع المطرودين من العودة إلى منازلهم. وقد استغرق تنفيذ تلك الخطة ستة أشهر. ومع اكتمال التنفيذ، كان نحو 800 ألف فلسطيني قد أُرغموا على الهجرة إلى الدول المجاورة، ودمرت 531 قرية، وأخلي أحد عشر حيا مدنيا من سكانه. وهذه الخطة، بحسب ما يصفها إيلان بابيه، تعد من وجهة نظر القانون الدولي، "جريمة ضد الإنسانية" (ص 13).
لا يأمل الكاتب بابيه إخراج المسؤولين الصهاينة من قبورهم لمحاكمتهم؛ إنما يود أن يكشف ما تختزنه الأراشيف. إنَّ استعمال مؤشر التطهير العرقي يمكّن المرء بسهولة من اختراق عباءة التعقيدات التي يلفع الديبلوماسيون الإسرائيليون الحقائق بها بصورة شبه غريزية، والتي يختبئ الأكاديميون الإسرائيليون تحتها عندما يتصدون للمحاولات الخارجية لانتقاد الصهيونية، أو الدولة اليهودية... ومنذ أن بدأت الولايات المتحدة استعدادها لتبني هذه المقاربة المشوهة والقبول بالغطرسة الكامنة وراءها (ص 8).
وهذا الكتاب ليس كتابا دعائيا أو تحريضيا، لكاتب سياسي متحمس، بل ثمرة جهد توثيقي كبير للمؤرخ اليهودي- الدكتور ايلان بابيه؛ أستاذ في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة حيفا، وقد ثارت ثائرة زملائه عليه بحجة أنه معادٍ للصهيونية، ومعادٍ لـ"إسرائيل"، وانتقل بعد هذا إلى قسم العلوم السياسية في الجامعة نفسها.
يعيش د. بابيه في مدينة طبعون، بين حيفا والناصرة، ويتعرض باستمرار للتهديدات التلفونية من الأوساط العنصرية والترانسفيرية، التي تعده خائنا لـ"إسرائيل" وعميلا للفلسطينيين. كما تعرض مرات كثيرة للتهديد بالقتل.
الدكتور إيلان بابيه إنسان مثير جدا لا يعرف الخوف، ويعتقد أن المؤرخ يجب أن يأخذ موقفا أخلاقيا وأيديولوجيا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالتطهير العرقي والعنصرية واقتلاع شعوب من أوطانها. إن الرصانة الأكاديمية، في نظره، ترتبط بكشف الحقيقة عبر بحث تفصيلي موثَّق، ولكن الرصانة الأكاديمية لا تعني أن يكون الباحث كلب صيد عند المؤسسة السياسية والعسكرية لبلاده ومحاميا عن جرائم دولته.
مخطط بن غريون للتطهير العرقي: الخطة دال(د)
قال الدكتور إيلان بابيه؛ إن استراتيجية الجيش "الإسرائيلي" خلال حرب 1948، كانت تنفيذا للخطة التي وضعها دافيد بن غوريون و 18 من كبار مساعديه السياسيين والعسكريين. وقد كتب بن غوريون الوثيقة بيده في 1948/3/10 قبل بدء الحرب. وشملت الخطة توزيع فلسطين إلى مناطق جغرافية وأوكل لقادة الهاغاناه مهمة تنفيذها عندما تبدأ الحرب. ولخّص بن غوريون الخطة بكل صراحة، عندما قال: يجب استحواذ الجيش اليهودي على أكبر مساحة من أرض فلسطين مع أقل ما يمكن من الفلسطينيين. وكان واضحا أن الاحتلال يجب أن يرافقه الطرد الجماعي للفلسطينيين المحليين، مع أعمال قتل لدفع الناس للرحيل، خوفا على حياتهم.
ويورد الدكتور بابيه في كتابه هذا أن دافيد بن غوريون كتب رسالة إلى ابنه عام 1937، أكَّد فيها رؤيته الواضحة بضرورة طرد الفلسطينيين، أكثر ما يمكن من الفلسطينيين عنوة، من فلسطين، عندما تحين اللحظة المناسبة، كالحرب، مثلا. ويناقش الباحث، اعتمادا على الوثائق، أن الطرد لم يكن لمقتضيات الحرب فقط، أو لصعوبات عسكرية أدّت إلى طرد السكان، بل إن الطرد كان هدفاً استراتيجيا وضعه القادة السياسيون والاستراتيجيون قبل الحرب.
ركز بن غوريون عمله على تنفيذ خطة التطهير العرقي ومقاومة المحاولات العربية لمنع اليهود من الاستيلاء على فلسطين، معتمدا على قدرة القوات اليهودية، بدأ تنفيذ خطة تطهير فلسطين من سكانها- الخطة دال (د) ـ أوائل شهر نيسان/أبريل من عام 1948م. وقد حددت الأوامر العسكرية لتنفيذ الخطة وهي تدمير القرى العربية وطرد سكانها؛ كي يصبحوا عبئا اقتصاديا على القوات العربية العامة.
يستعرض الكاتب كيفية احتلال القسطل واستشهاد عبد القادر الحسيني، ومذبحة دير ياسين وما جرى فيها من جرائم قتل، وتدمير للبيوت، واغتصاب، حيث يذكر أن عدد الشهداء قد بلغ "170 شهيدا من بينهم 30 طفلا" (ص 101، 102). وكذلك يبين كيف تم احتلال قالونيا، ساريس، بيت سوريك، بدو، وكيف تم نهب محتويات البيوت بعد تدمير هذه القرى. كما وتضمنت الخطة دال(د) تدمير المدن الفلسطينية واحتلالها، بعد مجازر بشعة كما حدث في طبرية، حيفا، عكا، بيسان، يافا. ويذكر الكاتب كيفية تنفيذ الهجمات العسكرية على هذه المدن والمجازر البشعة التي ارتبكت ضد السكان الأبرياء، ويبين الدور التآمري للبريطانيين وكيف صمتوا على هذه الأعمال الوحشية، بل إنهم ساعدوا في تدريب العصابات الصهيونية وسلحوها؛ كي تستطيع أن تقوم بهذه الأعمال ضد الشعب الفلسطيني.
بعد نيسان/أبريل 1948، يأتي الكاتب على وصف تفجيرات حيفا وإلقاء القنابل المتفجرة وسط الحشود، وطرد الناس تحت التهديد بالموت. في بداية الاشتباكات في يافا، توجه إلى منزل بن غوريون وفد من الموظفين يشكون من تغير موقف الهاغاناه من يافا؛ إذ تم الاتفاق على تعايش يافا وتل أبيب، وأن الجنود يبطشون بالعرب دون أن يصدر عنهم أي استفزاز ويسرقون العرب ويصادرون الأملاك ويطلقون النار بقصد الإرهاب؛ وكتب بن غوريون في مذكراته أن احتجاجات مماثلة وردته من بيتاح تكفيا وريشون لتسيون ورحوفوت وغيرها. غير أن شهرا واحدا من تلك الممارسات العنفية أعقبه توحيش عام؛ الجميع راحوا يشاركون في ممارسات مماثلة. نفس الموظفين الذين اشتكوا طالبوا "يجب أن نضرب يافا بكل وسيلة ممكنة (ص76).
ويذكر الكاتب أن غولدا مائير قد زارت حيفا بعد تهجير سكانها، "وجدت من الصعب عليها أن تكبت إحساسا بالرعب عندما دخلت البيوت، حيث الطعام المطبوخ ما زال على الطاولات، والألعاب والكتب التي تركها الأطفال على الأرض، وحيث بدت الحياة كأنها تجمدت مرة واحدة... ذكرتها بطفولتها حين هربت عائلتها من روسيا، والقصص التي سمعتها من عائلتها عن الوحشية الروسية ضد اليهود قبل عقود" (ص107).
أكاذيب غوبلز استولت على التفكير الصهيوني. أجل هزمتهم الهتلرية وسيطرت على عقولهم، كما لاحظ أبراهام بورغ في كتابه "لنتحرر من هتلر". وفي جلسة للجنة الاستشارية، هي الوحيدة التي سجل محضر لها حفظ في أرشيف الهاغاناه، اقترح فايتس خطة لترحيل الفلسطينيين من المناطق المنوي احتلالها. وغادر فايتس الجلسة وبيده إذن بإنشاء زمرة تابعة له تحت الاسم ’لجنة الترانسفير، وأتى إلى الاجتماع التالي وبيده خطة تنفيذ الترانسفير (ص73).
استخدمت أسلحة فتاكة وجرى تطوير أسلحة كيماوية وأخرى بيولوجية، والفلسطينيون "غير مدركين لما سيطرأ على حياتهم من تغيرات دراماتيكية وحاسمة، ولم يكن لدى قادتهم أو لدى الصحافة الفلسطينية، أي فكرة عما كان يجري تداوله خلف الأبواب المقفلة في البيت الأحمر" (مبنى الهستدروت، حيث تعقد الجلسات السرية للجنة الاستشارية (ص84).
وتتذكر شولاميت ألوني المجندة حينذاك برتبة ضابط كيف كان المفوضون السياسيون يأتون إلى الجنود ويحرضونهم؛ فيصورون الفلسطينيين شياطين، ويستحضرون الهولوكوست وضرورة العمل على منع تكرارها في إشارة إلى العمليات المتوقعة'". صدرت الأوامر بنسف مباني الشيخ جراح في نيسان / إبريل 1948؛ لكن البريطانيين أوقفوا تنفيذ الأمر. "بيّن الموقف البريطاني كم كان مصير كثير من الفلسطينيين سيختلف لو أن القوات البريطانية تصرفت نفس الشيء في أمكنة أخرى" (ص 110).
فالقوات البريطانية وقفت تتفرج على أعمال القتل الجماعي والتدمير في مدن حيفا ويافا وصفد وطبرية. في الحقيقة، امتنع البريطانيون من القيام بأي تدخل جدي منذ تشرين أول / أكتوبر 1947، ولم يحركوا ساكنا بوجه محاولات القوات اليهودية للسيطرة على المخافر الأمامية، كما لم يحاولوا إيقاف تسلل متطوعين عرب بأعداد قليلة. لقد سمحت بريطانيا بحدوث تطهير عرقي جرى تحت سمع وبصر جنودها وموظفيها... كما أعاقت جهود الأمم المتحدة للتدخل بطريقة كان من الممكن أن تؤدي إلى إنقاذ كثيرين من الفلسطينيين. أما الأمم المتحدة، فلا يمكن تبرئتها من ذنب التخلي بعد 15 أيار عن الشعب الذي قررت تقسيم أرضه وسلمت أرواحه وأرزاقه إلى اليهود، الذين كانوا منذ القرن التاسع عشر يريدون اقتلاعه والحلول مكانه في البلد الذي اعتقدوا أنه ملك لهم (ص138).
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب فلسطين تاريخ فلسطين كتاب تاريخ عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الکیان الصهیونی من الفلسطینیین البیت الأحمر هذا الکتاب بن غوریون
إقرأ أيضاً:
هل يُعاد إنتاج نكبة عام 1948؟
يقينا أن تصريحات ترامب بشأن تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية ليس لحظة جامحة أو شاردة، على طريقة ترامب عندما يضرب في اليمين وفي اليسار، من دون تركيز، بل يمكن اعتبارها نفقا سياسيا له سياقه وله ديناميته وله الآن البوصلة أيضا. المثير في الأمر أنه لم يكمل أسبوعه الأول في البيت الأبيض، وبدأ يخطط لهذا المشروع الذي يبدو واضحا أن فيه مفارقتين، المفارقة الأولى أنه كان من الأجدى به أن يحاول حماية اتفاق الهدنة بين إسرائيل ولبنان وتطبيق القرار 1701، لكنه بدلا من ذلك تجاهل الجبهة الشمالية، وراح يُركّز على قطاع غزة.
أما المفارقة الثانية فهي عندما كان يجري انتقاد حكومة بايدن على اعتبار أنها لم تتحرك باتجاه وقف المجزرة في قطاع غزة، كانت الأنظار تترقب أن أقسى ما سيدفع به ترامب هو التركيز على الرياض، وعواصم خليجية أخرى، من أجل الانضمام إلى ما يسمى (الاتفاقات الإبراهيمية) وتوسيع التطبيع مع إسرائيل.
لكن يبدو هو الآن فقط يريد ان يُظهر لليمين الأمريكي ولليمين الإسرائيلي، بأنه أكثر يمينية من نتنياهو، وأكثر يمينية من بن غفير، بل إن تصريحه بأنه سيضغط على القاهرة لاستقبال الفلسطينيين في سيناء، وعلى الأردن لاستقبال الفلسطينيين من الضفة الغربية، هو إعادة إنتاج نكبة جديدة في القرن الحادي والعشرين، يرميها الآن ويجس بها نبض المعنيين من العرب.
لكنها بالتأكيد ليست لحظة عفوية، بل هي خطة مدروسة منذ عدة أشهر، وقد نجد قرينة عضوية بين موقف ترامب الآن، وما قاله نتنياهو في ديسمبر/ كانون الأول عام 2023، إن هدفه الأول هو إبعاد الفلسطينيين من غزة باتجاه سيناء، أو إركابهم في القوارب من شرق المتوسط نحو أوروبا، إذن السياسة الترامبية تُكمل خطوة نتنياهو التي سمعناها قبل أكثر من عام.
إن ما يلفت الأنظار حقا هو أن ترامب يتحدث عن مصر والأردن، وكأنهما الطرفان الوحيدان في المعادلة الفلسطينية، بينما هناك طرف ثالث وأساسي هو الطرف الفلسطيني، الذي لا يعيره ترامب أي اهتمام، إن كان الفلسطينيون يقبلون أو يرفضون النكبة الجديدة التي يخطط لها. والسبب هو أنه ينطلق في حقيقة الأمر من أن ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، هو بمثابة الإسفين الأخير في نعش القضية الفلسطينية، فلا حديث بعد اليوم عن «أونروا»، ولا عن شعب فلسطيني تحت الاحتلال، ولا عن شرعية دولية.
هو يعتقد أنهم انتهوا بالهدنة الأخيرة في غزة، من كل القضية الفلسطينية، ومن أي صوت يدعو إلى حل الدولتين، أو من يُطالب واشنطن بأن تكون راعية سلام في الشرق الأوسط. وهذا على النقيض تماما من أيام الرئيسين الأسبقين جيمي كارتر وبيل كلينتون، لماذا؟ لأن ترامب يتحدى نفسه شخصيا ويتحدى اليمينيين في الولايات المتحدة، وحتى اليمين في إسرائيل، بأنه يستطيع أن يذهب إلى مسافة أبعد من بن غفير ومن سموتريتش، اللذين يمثلان رأس الحربة في اليمين المتطرف الإسرائيلي، وبذلك نصبح الآن أمام طرح متطرف جدا، كما فعل في ولايته الأولى، حين قام بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس، وبسط يد نتنياهو على كل ما يريد تحقيقه.
السؤال الآن هو كيف سيجبر ترامب القاهرة وعمّان على القبول بهذا الذي يريده الآن؟ والجواب هو أن في السياسة ضغوط، وهناك عمليات ترغيب وترهيب، وربما يُلوّح ترامب بالخطاب نفسه الذي حدث في مؤتمر المنامة قبل عدة سنوات، هل تذكرون عندما كان صهره كوشنر هو سفيره للنوايا السيئة، وأرسله يُروّج للحل الاقتصادي للفلسطينيين، مقابل التخلي عن الأرض والوطن. لكن ما هو الموقف الأردني والموقف المصري؟
بالنسبة للأردن فقد اختصر وزير الخارجية الموقف الرسمي للمملكة بالقول (إن حل القضية الفلسطينية هي في فلسطين، وإن الأردن للأردنيين، وإن فلسطين للفلسطينيين، وإننا كلنا نريد تحقيق الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة). ويبدو أن عمّان لم تتفاجأ بتصريحات ترامب، حيث إن الخطة الدولية حول فلسطين لا يمكن تنفيذها من دون الأردن، وهو يرفض أن يكون وطنا بديلا.
كما أن عمّان تعتقد أن هذا الموضوع اتفاق مسبق وليس تصريحا، وقد حاول جو بايدن الرئيس الأمريكي السابق العمل عليه بصمت، لكنه فشل في تهجير الغزاويين، وإن التصريح به اليوم من قبل ترامب عائد الى شخصيته الصدامية، وما رفعه العقوبات عن المستوطنين، إلا بمثابة الضوء الأخضر لموضوع التهجير من الضفة الغربية. وبالنسبة للأردن فإن موضوع الضفة الغربية مقلق جدا، ومع ذلك يعتقد الأردن أن مضمون تصريح ترامب ليس منطقيا وليس واقعيا، لأنه من خلال الحرب لم ينجحوا في التهجير، فكيف من خلال التهدئة، يمكن أن ينتقل أكثر من مليون إنسان إلى دولة أخرى؟
أما في موضوع الموقف المصري فهم يقولون، إن القاهرة قادرة على استيعاب أي ضغوط تُمارس من قبل الولايات المتحدة عليها، أو حتى من قبل أية قوة دولية أخرى، في ما يخص مسائل تمس مصالحها الوطنية، أو تهديدات لأمنها القومي. ويضربون مثلا على ذلك بالقول، إن القاهرة استطاعت أن تُفشل بشكل ناعم كل الأفكار والدعوات التي انطلقت خلال إدارة ترامب الأولى، على شاكلة صفقة القرن أو الناتو العربي، الذي طُرح لمواجهة إيران، ولم تنظم القاهرة إلى أي منها، رغم قبولها من بعض الدول العربية ثم فشلت ولم يتم تطبيقها.
ومن ذلك الموقف هم ينطلقون للتأكيد على أن مصير الأفكار والمقترحات من جانب ترامب اليوم، سوف تلقى مصير تلك المقترحات نفسه. لكن القاهرة اليوم تتريث كثيرا ولا تريد الدخول في مواجهة أو مناكفة سياسية مع إدارة ترامب، لإنها ترى السياسة هي القدرة على الأخذ والرد، مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يمكن القبول بمسألة تهجير الفلسطينيين، لإن قبول دول الجوار بذلك معناه قبولهم تصفية القضية الفلسطينية.
لكن في التحليل السياسي لا يمكن أن يستقيم ما حدث قبل العشرين من يناير/كانون الثاني في الولايات المتحدة مع ما بعد هذا التاريخ، فكل القرارات ما قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض كانت ضمن أيام ديمقراطية بايدن، أما الآن فالوضع مختلف. فترامب رمى الكُرة في ملعبي القاهرة وعمّان، ثم ستدور المناورات وسيتجه المبعوث الأمريكي، ويتم تحفيز دبلوماسية الهواتف، وربما يسعى إلى تليين موقف القاهرة وعمّان، بحيث إن سكان غزة يُنقلون إلى سيناء المصرية، وسكان الضفة الغربية يُنقلون الى الأردن، وبذلك تتم إعادة إنتاج نكبة عام 1948، حينها سنكون أمام واقعة فيها المُبتدأ والخبر واضحين جدا.
القدس العربي