خبير استراتيجي: تأثير حرب غزة عالمي وإن لم تتسع إقليميا
تاريخ النشر: 10th, November 2023 GMT
سلط أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، ستيفن والت، الضوء على تداعيات العدوان الحرب في غزة الجيوسياسية بعيدة المدى، مشيرا إلى أن الأحداث في جزء صغير من العالم لا تؤدي عادة إلى إحداث تأثيرات واسعة النطاق في مناطق أخرى، لكن هذه القاعدة ليست على إطلاقها، فلكل قاعدة استثناءات، وربما تكون الحرب الحالية في غزة واحدة منها.
وذكر والت، في مقال نشره في مجلة "فورين بوليسي" وترجمه "الخليج الجديد"، أنه لا يعتقد أننا على شفا الحرب العالمية الثالثة، ولا يرجح حتى امتداد الحرب إلى نطاق إقليمي، لكنه لا يستبعده تمامًا.
وأضاف أن أيًا من الدول أو الجماعات الموجودة على هامش الحرب، مثل إيران وحزب الله وروسيا وتركيا، ليست حريصة على الانخراط في الحرب بشكل مباشر، فيما يحاول المسؤولون الأمريكيون إبقاء الصراع في نطاق غزة فقط، لأن تكلفة الصراع الإقليمي الأكبر ستكون خطرة، ومع ذلك تظل الحرب ذات تداعيات على "جميع أنحاء العالم" حسب تقديره.
وتابع: "لكي نرى هذه العواقب الأوسع نطاقاً، فمن المهم أن نتذكر الحالة العامة للجغرافيا السياسية قبل أن تشن حماس هجومها المفاجئ في السابع من أكتوبر/تشرين الأول".
فقبل هجوم حماس، كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) يشنون حربًا بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا، وكان هدفهم هو مساعدة أوكرانيا على طرد روسيا من الأراضي التي استولت عليها بعد فبراير/شباط 2022.
ولكن الحرب لم تسر على ما يرام، إذ توقف الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا في الصيف، وبدا أن ميزان القوة العسكرية يتحول تدريجياً نحو موسكو، وتلاشت الآمال في أن تتمكن كييف من استعادة أراضيها المفقودة إما بقوة السلاح أو من خلال المفاوضات.
وكانت الولايات المتحدة تشن آنذاك حربًا اقتصادية فعلية ضد الصين، بهدف منع بكين من السيطرة على إنتاج أشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، وغيرها من مجالات التكنولوجيا الفائقة.
وبحسب الرؤية الأمريكية فإن الصين هي المنافس الأساسي على المدى الطويل، ولذا كانت إدارة الرئيس، جو بايدن، تعتزم تركيز المزيد من الاهتمام على هذا التحدي.
ووصف مسؤولو الإدارة الأمريكية القيود الاقتصادية المفروضة على الصين بأنها مركزة بإحكام، أي أن ساحتها صغيرة وسياجها مرتفع، وأصروا على أنهم كانوا حريصين على أشكال أخرى من التعاون مع الصين.
اقرأ أيضاً
جنرال أمريكي بارز: هدف إسرائيل تدمير حماس أمرٌ كبير جداً
ومع ذلك، استمرت الساحة الصغيرة في التوسع، على الرغم من الشكوك المتزايدة حول ما إذا كان السياج العالي سيكون قادرًا على منع الصين من تحقيق مكاسب في بعض المجالات المهمة من التكنولوجيا على الأقل.
وفي الشرق الأوسط، كانت إدارة بايدن تحاول تنفيذ خطة دبلوماسية معقدة: فقد سعت إلى ثني المملكة العربية السعودية عن التقرب من الصين من خلال تقديم نوع من الضمانات الأمنية الرسمية للرياض وربما السماح لها بالوصول إلى التكنولوجيا النووية الحساسة، مقابل تطبيع السعوديين للعلاقات مع إسرائيل.
ومع ذلك، لم يكن من الواضح ما إذا كانت الصفقة ستتم، وحذر المنتقدون من أن تجاهل القضية الفلسطينية وغض الطرف عن الإجراءات القاسية المتزايدة التي تتخذها الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية يهدد بانفجار في نهاية المطاف.
وقف التطبيع
ثم جاء يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وقُتل أكثر من 1400 إسرائيلي، واندلعت حرب غزة، التي وضعت عقبة أمام جهود التطبيع السعودية الإسرائيلية التي تقودها الولايات المتحدة، بحسب والت، الذي يرى أن وقف هذه الجهود كان أحد أهداف حماس المؤكدة من عملية "طوفان الأقصى".
فمن الواضح أن العقبات التي تعترض التوصل إلى اتفاق للتطبيع بين السعودية وإسرائيل قد زادت، وستستمر في التصاعد كلما ارتفع عدد الضحايا في غزة.
كما أن الحرب تتعارض مع الجهود الأمريكية الرامية إلى قضاء وقت واهتمام أقل في الشرق الأوسط وتحويل المزيد من الاهتمام والجهد نحو الشرق في آسيا.
وفي مقالة نشرها مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، بمجلة "فورين أفيرز"، ذكر أن النهج "المنضبط" الذي تتبعه الإدارة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط من شأنه "تحرير الموارد لـأولويات عالمية أخرى وتقليل مخاطر نشوب صراعات جديدة في الشرق الأوسط". وكما أظهر الشهر الماضي، لم تكن الأمور على هذا النحو بالضبط.
ويرى والت أن الأزمة الأخيرة في الشرق الأوسط تعني تضاؤل القدرة الدبلوماسية والعسكرية المتاحة أمريكيا لآسيا في الأمدين القصير والمتوسط.
ولذا فإن حرب غزة لا تمثل خبراً ساراً بالنسبة لتايوان، أو اليابان، أو الفلبين، أو أي دولة أخرى تواجه ضغوطاً متزايدة من جانب الصين.
فالمشاكل الاقتصادية التي تواجهها بكين لم توقف إجراءاتها الحازمة ضد تايوان أو في بحر الصين الجنوبي، وهو ما نقلته تقارير بشأن تحليق طائرة اعتراضية صينية على بعد 10 أقدام من قاذفة قنابل أمريكية من طراز B-52.
ومع نشر حاملتي طائرات في شرق البحر الأبيض المتوسط واهتمام واشنطن المنصب هناك، فإن القدرة على الاستجابة بفعالية في حالة تدهور الأمور في آسيا ستضعف حتماً، حسبما يرى والت، مشيرا إلى أن تقديره هذا بفرض أن الحرب في غزة لن تتوسع لتشمل لبنان أو إيران، لكن هكذا توسع من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة وآخرين إلى وضع جديد وأكثر فتكاً ويستنزف المزيد من الوقت والاهتمام والموارد.
ومن زاوية أخرى، يشير والت إلى أن الحرب في غزة تمثل كارثة بالنسبة لأوكرانيا، إذ تهيمن على التغطية الصحفية والإعلامية، وتزيد من صعوبة حشد التأييد لحزمة المساعدات الأمريكية الجديدة، التي يرفضها الجمهوريون في مجلس النواب بالفعل.
وأظهر استطلاع للرأي، أجرته مؤسسة جالوب في الفترة من 4 إلى 16 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن 41% من الأمريكيين يعتقدون أن الولايات المتحدة تقدم لأوكرانيا قدراً أكبر مما ينبغي من الدعم، مقارنة بـ 29% فقط في يونيو/حزيران.
فالصراع في أوكرانيا أصبح حرب استنزاف طاحنة، ما يعني أن المدفعية تلعب دوراً مركزياً في ساحة المعركة، ومع ذلك، لم تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من إنتاج ما يكفي من الذخائر لتلبية احتياجات أوكرانيا، ما أجبر واشنطن على السحب من المخزونات الموجودة في كوريا الجنوبية وإسرائيل لإبقاء كييف في حالة استعداد قتالي.
والآن، بعد أن أصبحت إسرائيل في حالة حرب، فإنها ستحصل على بعض قذائف المدفعية أو غيرها من الأسلحة التي كانت ستذهب إلى أوكرانيا.
اقرأ أيضاً
كيف أخطأت الاستخبارات الإسرائيلية في قراءة حماس؟.. فايننشال تايمز ترصد 3 أسباب
وهنا يتساءل والت: ما الذي من المفترض أن يفعله بايدن إذا بدأت أوكرانيا في خسارة المزيد من الأراضي، أو إذا بدأ جيشها في الانهيار؟ معتبرا أن إجابة هذا السؤال تؤكد في المجمل أن ما يحدث في غزة ليس جيداً لكييف ويمثل أخبارا سيئة للاتحاد الأوروبي أيضا.
فقد كان الغزو الروسي لأوكرانيا سبباً في تعزيز الوحدة الأوروبية، خاصة بعد الإطاحة بحزب القانون والعدالة الاستبدادي في الانتخابات البولندية الأخيرة، لكن الحرب في غزة كانت سبباً في إشعال الانقسامات الأوروبية من جديد، حيث تدعم بعض الدول إسرائيل بلا تحفظ، في حين أبدت دول أخرى قدراً أعظم من التعاطف مع الفلسطينيين.
كما ظهر خلاف خطير بين رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، وكبير الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، وورد أن حوالي 800 موظف في الاتحاد الأوروبي وقعوا على رسالة تنتقد، فون دير لاين، لكونها منحازة للغاية تجاه إسرائيل.
وكلما طال أمد الحرب، كلما اتسعت هذه الشقوق، ما يسلط الضوء على الضعف الدبلوماسي الذي تعاني منه أوروبا، ويقوض الهدف الأوسع المتمثل في توحيد ديمقراطيات العالم في تحالف قوي وفعّال.
وإذا كانت تلك التطورات أنباء سيئة بالنسبة للغرب، فهي أخبار طيبة للغاية بالنسبة لروسيا والصين، فمن زاوية نظرهما: أي شيء يصرف انتباه الولايات المتحدة عن أوكرانيا أو شرق آسيا أمر مرغوب فيه.
فالحرب في غزة تمنح موسكو وبكين حجة سهلة أخرى للنظام العالمي متعدد الأقطاب الذي طالما دافعا عنه في مقابل النظام الذي تقوده الولايات المتحدة.
كل ما تحتاج إليه موسكو وبكين هو أن يوضحا للآخرين أن الولايات المتحدة كانت القوة العظمى الأساسية التي تدير الشرق الأوسط على مدى الثلاثين عامًا الماضية، والنتائج هي حرب كارثية في العراق، وقدرة نووية إيرانية كامنة، وظهور تنظيم الدولة، وكارثة إنسانية في اليمن، وفوضى في ليبيا، وفشل عملية أوسلو للسلام.
حجر الرحى
وبالنظر إلى المستقبل، يرى والت الحرب في غزة ورد فعل أمريكا عليها ستكون بمثابة "حجر الرحى حول أعناق الدبلوماسيين الأمريكيين لبعض الوقت في المستقبل"، مشيرا إلى فجوة كبيرة بين وجهات النظر الأمريكية والغربية بشأن الأزمة الأوكرانية ومواقف الكثيرين في الجنوب العالمي، حيث لم يدعم زعماء دول الجنوب الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنهم كانوا غاضبين مما اعتبروه معايير مزدوجة واهتمامًا انتقائيًا من جانب الولايات المتحدة فيما يخص حرب غزة.
وكان الرد الإسرائيلي على "طوفان الأقصى" ومقتل آلاف المدنيين سببا في التعاطف مع المحنة التي يعيشها الفلسطينيون في بقية أنحاء العالم، بدرجة أكبر كثيراً من التعاطف في الولايات المتحدة أو أوروبا، بحسب والت، الذي أشار إلى أن هذا التعاطف سيزداد كلما طال أمد الحرب وكلما زاد عدد القتلى من المدنيين الفلسطينيين، خاصة عندما تميل الحكومة الأمريكية وبعض السياسيين الأوروبيين البارزين بشدة إلى تأييد إسرائيل.
وكما قال أحد كبار دبلوماسيي مجموعة السبع لصحيفة فايننشال تايمز في الشهر الماضي: "لقد خسرنا المعركة في الجنوب العالمي بكل تأكيد. لقد ضاع كل العمل الذي قمنا به مع الجنوب العالمي انسَ القواعد.. انسَ النظام العالمي. لن يستمعوا إلينا مرة أخرى". ويرى والت أن تصريح الدبلوماسي "قد يكون مبالغا فيه، لكنه ليس خطأ"، خاصة أن أحداث غزة غطت إعلاميا على مآس أخرى حدثت في الجنوب ولم يهتم بها الغرب.
ففي نفس الأسبوع الذي اندلعت فيه حرب غزة، أفادت الأمم المتحدة أن ما يقرب من 7 ملايين شخص نزحوا حاليا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، معظمهم نتيجة للعنف هناك، وهو خبر أحدث بالكاد صدى ضئيل في الإعلام الغربي، على الرغم من أن عدد ضحاياه من البشر أكبر كثيرا من مقارنة بعدد الضحايا في إسرائيل أو غزة.
ولذا يتوقع والت أن لا يكون التعامل الغربي مع دول الجنوب العالمي سهلا في المستقبل، وأن لا يعير مسؤولو هذه الدول إلا قدراً ضئيلاً من الاهتمام لكل "الثرثرة حول الأعراف والقواعد وحقوق الإنسان" حسب تعبيره، مشيرا إلى أنه لن يتفاجأ إذا بدأت المزيد من الدول في رؤية الصين كثقل موازن لواشنطن.
وأخيرا، يرى والت أن حرب غزة لا تصب في صالح سمعة الولايات المتحدة فيما يتصل بكفاءة سياستها الخارجية، ففشل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في حماية إسرائيل قد يلطخ سمعته إلى الأبد، لكن مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية لم تتوقع حدوث هذا النزيف أيضاً، ولم يساعدها ردها حتى الآن.
وإذا كان هذا الفشل مصحوباً بنتيجة غير سعيدة في أوكرانيا، فإن الدول الأخرى لن تشكك في مصداقية الولايات المتحدة فقط، بل في حكمها أيضا، بحسب والت.
اقرأ أيضاً
الأردن: حماس فكرة لا تنتهي.. والسلطة الفلسطينية لن تدير غزة على ظهر دبابة إسرائيلية
المصدر | ستيفن والت/فورين بوليسي - الخليج الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: إسرائيل حماس غزة حزب الله إيران تركيا الولایات المتحدة فی الشرق الأوسط الجنوب العالمی الحرب فی غزة مشیرا إلى المزید من ومع ذلک حرب غزة إذا کان إلى أن
إقرأ أيضاً:
الشاهد جيل ثورة ديسمبر الذي هزم انقلاب 25 أكتوبر 2021 بلا انحناء
فاطمة غزالي
نعيش في دوحة المبادئ السامية والقيم العليا التي غرستها ثورة ديسمبر المجيدة، لا تزال المنقوشة على جدران الوطن وتحتل أعماق الوجدان السوداني رغم الابتلاء بالحرب فالثورة حاضرة في أذهان الشرفاء والإيمان باستمرارها مسيطر على أفئدة وعقول جيلها من الشابات والشباب الذين قدموا أعظم نماذج التضحيات فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ما بدلوا تبديلا.ديسمبرثورة جيل وثقت شجاعته بنادق القناصة، وسياط الجلادين، وأدوات التعذيب لم يتراجع ظل صامداً كالأجيال السابقة في درب النضال السلمي من أجل الحرية والسلام والعدالة في أكتوبر وأبريل وجميع ثورات التحرر من الظلم والقهر. ثورة ديسمبر المجيدة ليست لحظة عابرة في حياة الشعب السوداني ولن تكون فعل ماضي نتباكى عليه بل هي فعل مستمر تختلف الأساليب والآليات والأدوات مع اختلاف الظروف لأن الالتزام بتحقيق مبادئها عهد قطعته القوى المدنية والسياسية المؤمنة بالسلام والحرية والعدالة. الشاهد جيل ثورة ديسمبر هزم انقلاب 25 أكتوبر2021، وفشل الإنقلابيون في إعادة النظام البائد إلى السلطة بسبب الحراك الثوري والمليونيات التي أكدت تمسك الشعب بالحكم المدني الديمقراطي، ومارس جيل ثورة ديسمبر شعائر ثورته بقداسة السلمية، وهو مؤمن بأنها الطريق إلى الخلاص من طغيان الحركة الإسلامية السودانية التي وظفت المؤسسة العسكرية لمصلحة مشروعها، ونفذت عبرها انقلاب 30 يونيو 1989م، وانقلاب 25 أكتوبر2021م إلا أنها أي الحركة الإسلامية حينما فشلت بعد ألانقلاب الأخير في السيطرة التامة على مقاليد الحكم وإعادة إنتاج مشروعها بتشكيل حكومة إسلاسية كاملة الدسم استحضرت منهجها لأيديولوجي الشيطاني القائم على إراقة الدماء في إدارة صراعاتها مع القُوَى السياسية والشاهد على تنفيذ الشعار استباحة الدماء في سبيل الوصول إلى السلطة بدعوى أنها الحارس لدين الله في الأرض (فليعُد للدين مجده أو تُرق منا الدماء… أو تُرق منهم دماء.أو تُرق كل الدماء). فكرة حرب 15 أبريل 2023 م لم تأت من فراغ بل هي تنفيذ للشعار (أو تُرق كل الدماء) حينما أدرك الإسلاميون أنهم خارج منظومة إدارة السودان بعد تجربة الثلاثين عاماً من الدمار. معلوم لدى الكثيرين أن تراجيديا الحرب الكارثية سيناريو كتبته الحركة إسلامية الخبيثة استخدمت الجيش والدعم السريع لتنفيذه من أجل القضاء على ثورة ديسمبر ووئد أي محاولة للعودة بالبلاد إلى الحكم المدني الديمقراطي وإن كان الثمن إبادة كل الشعب السوداني (أو تُرق كل الدماء) وهي الحقيقة التي يحاول البعض غض البصر عنها (لشيء في نفس يُوسُف).
لا شك في أن قيادات الحركة الإسلامية المدنية والعسكرية التي مسيطرة على القرارات داخل مؤسسة الجيش ولا يريدون السلام لأنه يعني عودة جيل الثورة إلى الميادين من أجل تحقيق شعار ثورة ديسمبر (حرية وسلام وعدالة). الإسلاميون يعلمون أن جبروت الحرب لم يفلح في نزع الثورية من نفوس الثوار أو كسر إرادتهم في التغيير بالرغم من محاولات شق صف لجان المقاومة بالاستنفار واستهداف بعضهم بالاعتقالات واتهامهم بالعمالة. الثوار الشرفاء جددوا عهدهم وتمسكوا بثوريتهم فغيروا مؤشر الحراك الثوري من الميادين والطرقات التي سيطرت عليها القوى العسكرية إلى معسكرات النزوح والتكاياعبر لجان الطواري ووجهوا طاقاتهم وإمكانيتهم لخدمة المدنيين الأبرياء والسعي إلى تلبية احتياجاتهم في معسكرات النزوح ومراكز الإيواء والتكايا بالتعاون مع المنظمات والمؤسسات العاملة في مجال العمل الإنساني وأهل الخير من أجل اطعام الجِياع وسقاية العطشى وعلاج المرضى… يعملون ليل نهار لإنقاذ أرواح المدنيين الذين أصبحوا بين مطرقة الجيش وسندان الدعم السريع.
شعار (فليعُد للدين مجده أو تُرق منا… أو تُرق منهم دماء… أو تُرق كل الدماء) يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن أهل السودان لن ولم يكونوا بخير وفي أمن و سلام ما لم تُقبر الحركة الإسلامية السودانية لأنها محور الشر، أس وأساس المعاناة، مصدر العذاب والقهر ومنبع العنف والدمار. تجربة قيادات الحركة الإسلامية في الحكم لمدة ثلاثين عاماً قضتها في تصفية الحسابات مع معارضيها من القوى السياسية والمدنية بجانب الفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي والإبادة الجماعية دارفور التي تسببت في ملاحقة الرئيس المخلوع جنائياً عمر البشير عبر المحكمة الجنائية الدولية، ولم تسلم العديد من مناطق السودان من الحروب كل هذه السياسات الديكتاتورية تؤكد أن جُرم الحرب جُرمهم وأن مسؤوليتها الكبرى تقع على قياداتها التي حرضت وتوعدت بالحرب الذي فتح أبواب الحجيم على الكل فكانت الممارسات السادية الإجرامية في التي مورست ومازال تمارس على الأبرياء من قبل طرفي الحرب. فلول النظام البائد يتلذذون بعذاب الشعب الذي يواجه القتل والتشريد والمعاناة في رحلة النزوح واللجوء والرعب في ميدان المعارك حيث تدور وَسْط الأحياء السكنية وفي قلب القرى والمدن والفرقان والكارثة الأعظم هي إغلاق منافذ السلام الذي يتشوق إليه المدنيين من أجل استعادة كرامتهم المسلوبة وطنهم المفقود.المؤسف أن تطلعات الشعب إلى السلام تصطدم بالعقبة الكؤود الذي وضعتها مليشيات الكيزان(كتائب البراء) في طريق السلام بدعوى حرب الكرامة وهي كلمة الحق الذي اريد به باطل. كرامة الشعب هي أن يشعر بالأمن والسلام والاستقرار، كرامة السودانيين ستعود إليهم عندما تتحقق آمالهم التي تعبر عنها كلمات الشاعر طارق الأمين:-
( كل آمالي نا..
السلام يملاها.. يطلع من هنا..
والحمام يتشابى
تقدل طفلة حلوة وبين إيديها كتابا
وحبوبة تمسح بالحنين أكوابا
والقمرية تصدح.. تستريح دبابة)
لاشك أن المعاني الجميلة للسلام الذي يعبر عن الحياة السودانية الجميلة التي وردت في كلمات الشاعر طارق الأمين تتناسب تناسباً عكسياً مع أهداف الإسلاميين وقياداتهم في الجيش والدليل على ذلك تصريحات الفريق عبد الفتاح البرهان قائد الجيش الذي يتمسك بخيار الحرب بالرغم من أهوال الحرب الذي يشيب لها الولدان وفي ذات الطريق يسير ياسرالعطا وهو يصرخ ويهدد ويتوعد ويغلق الباب أمام السلام ويؤكد عدم رغبة الإسلاميين في السلام ومقولته الشهيرة “لا سلام ولا هدنة وإن استمرت الحرب لمائة عام “… مئة عام تُراق فيها كل الدماء يا هذا؟ كم تعشقون الدماء! أولم يكفيكم إفساد حياة السودانيين بالحرب الذي دمر الوطن وشعبه وببنيته التحتية ومؤسساته الخدمية والمدنية وليس فحسب بل أفعالكم التي تغذي تقسيم المجتمع السوداني الذي وحدته ثورة ديسمبر بشعاراتها (سلمية… سلمية ضد الحرامية، حرية سلام وعدالة، يا عنصري يا مغرور كل البلد دارفور).
الإسلاميون عشاق الانفصال يسعون إلى تقسيم البلاد ولكن هيهات لَمَّا يخططوا. لسان حال قيادات النظام البائد كأنه يقول إن الشعب السوداني رهينة في أيديهم ولا قرار له وعليه أن يخضع لسياساتهم المدمرة كما خضع لإرادتهم في تجربة فصل الجَنُوب مع اختلاف المعطيات والظروف إلا أن النتيجة التي يسعى إليها الإسلاميين واحدة هي تفكيك البلاد إلى دويلات. قصدوا في تجربة الجنوب ألّا تكون الوحدة جاذبة وعملوا لتحقيق ذلك الانفصالين من الجنوب حتى تكون النتيجة لمصلحة الانفصال. بشأن الحديث المتداول عن التقسيم القائم على إرادة قوة الحرب هناك تساؤلات كثيرة تطرح نفسها هل محاولة شيطنة القوى السياسية والهجوم على(تقدم وقحت) محاولة لعزل القوى السياسية والمدنية لتنفيذ مخطط التقسيم كما حدث في اتفاقية نيفاشا وقعوا على تقرير المصير مع الحركة الشعبية إنابة عن الشماليين دون تفويض من الشعب؟ … نعم دون تفويض من الشعب ومعلوم أن الإنقاذ سرقت الديمقراطية و فرضت نفسها على الشعب السوداني بقوة الدبابة ولم تشهد البلاد انتخابات حرة ونزيهة في عهدها البائد. على أي أساس يتم فصل غرب السودان من بقية أطراف على أساس جهوي أم قبلي وإثني؟ وماهي الحدود الجغرافية التي يتم على أساسها التقسيم، هل يكون هناك استفتاء لولايتي الجزيرة والنيل بشأن تقرير مصيرهم هل يذهبون مع كردفان ودارفور أم إلى الشمال الجديد الذي يرسم البرهان وحاضنته السياسية (الكيزان) خريطته؟ .لا يختلف اثنان في أن الإسلاميين فصلوا الجَنُوب لأسباب دينية وعنصرية، هل الآن يحاولون إعادة ذات السيناريو بزج البلاد في دوامة التشظي لأسباب عنصرية؟ هل يريدون أن يدفع كل السودان فاتورة صراعاتهم مع الدعم السريع من أجل السلطة؟ وماهي القوى الإقليمية التي تغذي الانقسام لتحقيق مصالحها؟ هل يظل الشعب السوداني أسير لأمزجة القوة التي تحمل السلاح (الجيش والدعم السريع) وتسيطر على الأرض والإعلام والفعل السياسي؟ ماهو مصير المشتركة التي تقاتل بجانب الجيش؟ حتى متى تظل القُوَى السياسية والمدنية بعيدة عن مسرح الأحداث التي خلقت قُوَى الحرب واقعها، وهل يسمح الشعب السوداني بأن يكون تقسيم السودان بقوة السلاح؟ وماذا عن علاقات المصاهرة واالأخوة والصداقات العميقة بين الأسر السودانية؟ هل فكر الانفصاليون في ماذا يعني التقسيم؟ … حقيقة لسنا بحاجة إلى فلم جديد بعنوان(وداعاً عائشة أو مريم أو فاطمة) تكفينا جراحات فيلم (وداعاً جوليا)..
بالرغم من الحملات العنصرية التي تديرها الغرف الإعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لقوى الحرب التي تستغل حالة الغبن الشعبي من الانتهاكات والفظائع ضد المدنيين بلا استثناء ومازال تحدث نتيجة للحرب ،إلا أن العلاقات التي تربط بين السودانيين أقوى من أن تعصف بها تفاهات العنصريين التي تتعاطى معها سلطة الأمر الواقع في بورتسودان) قانون الوجوه الغربية) الذي يستهدف المواطنين بدوافع جهوية وقبلية وسياسية مثلاً لهذه العنصرية وحملة الاتهامات والاعتقالات والقتل والتعذيب الذي يتعرض له بعض المواطنين من قبل طرفي الحرب (الجيش والدعم السريع) لأسباب جهوية وقبيلة وسياسة أيضاً جميعها ممارسات ترفع درجة حرارة الغبن في النفوس وتزيد رصيد العنصريين ما لم تقف القوى المدنية والشرفاء من الكنداكات والثوار وقفة إنسان واحد لمواجهة التحديات الكبيرة التي تتعلق بمصير ما تبقى من السودان المهدد كيانه ووحدته. السودانيون يمرون بتجربة قاسية وامتحان صعب بيد أنهم قادرون على تجاوز الصعاب شريطة أن تشَكَّل القوى السياسية والمدنية الديمقراطية رافعة قوية بأفعال تخرج السودانيين من حالة الاصطفاف الجهوي والقبلي وهذا لا يتحقق إلا بالسمو فوق الخلافات والعمل بالحد ألأدنى من التلاقي والتنسيق حتى لا يترك مصير السودان للقوى الذي يحمل السلاح فقط.السودان بالرغم من تنوعه القبيلي والجهوي والديني والثقافي فإن الرابطة الإنسانية والوطنية بين السودانيين أقوى من يجرفها طوفان الحرب الذي أخرج عقارب وثعابين العنصرية التي تنفث سمها في الموطنيين الأبرياء في مناطق الحرب والسلم .قطعاً طول أمد الحرب ليس في صالح النسيج الاجتماعي الذي تعبث به أيادي الانفصاليين إلا أن الأمل كبير في جيل ثورة ديسمبر الذي مازال رافعاً رايتها لتضميد جراحات الوطن الذي أنهكته الحرب.ألم يأن للسودانيين أن يعيشوا في سلام؟.
لا للحرب… نعم للسلام