خطيب المسجد الحرام: الدنيا لعب لا ثمرة فيه إلا التعب
تاريخ النشر: 10th, November 2023 GMT
قال الشيخ الدكتور عبدالله بن عواد الجهني، إمام وخطيب المسجد الحرام، إن الله عزوجل وصف حقيقة الدنيا وما هي عليه، وبين غايتها وغاية أهلها، وبين قصر مدتها، وانقضاء لذتها، بأنها لعب لا ثمرة فيه إلا التعب، ولهو يشغل صاحبه عن آخرته.
وصف حقيقة الدنياوأوضح " الجهني" خلال خطبة الجمعة اليوم من المسجد الحرام بمكة المكرمة، أن هذا مصداقه ما هو موجود وواقع من أبناء الدنيا، فإنك تجدهم قد قطعوا أوقات أعمارهم بلهو القلوب، والغفلة عن ذكر الله وعما أمامهم من الوعد والوعيد، وتراهم قد اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، بخلاف أهل اليقظة وعمال الآخرة، فإن قلوبهم معمورة بذكر الله ، وبمعرفته ومحبته ، وقد أشغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقربهم إلى الله عزوجل، من النفع القاصر والمتعدي .
واستشهد بما قال تعالى :( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) الآية 20 من سورة الحديد.
وأشار إلى أن الدنيا والآخرة ضرتان، إن أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى، ومن عرف الدنيا ومآلها، وعرف الآخرة ودوامها، أعطى كل واحدة حقها، منوهًا بأنه أنه لا تلذذ للمرء من نعيم دنياه إلا بمسكن يظله، وبكساء يستره، وبطعام يتقوى به على أداء مهمته في هذه الحياة الدنيا، وهي عبادة الله سبحانه وتعالى وحده حتى يبلغ منتهاه.
وأضاف: وما زاد عن ذلك فإنما هو لمن بعده، للوارث غنمه وعلى المورث حسابه وغرمه، فأيكم مال وارثه أحب إليه من ماله، في الصحيحين عن أنس بن مالك رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يتبع الميت ثلاثةٌ : أهله وماله وعمله ، فيرجع اثنان ويبقى واحد ، يرجع أهله وماله ويبقى عمله.
دار ابتلاء واختبارونبه إلى أن الله قد جعل الدنيا دار ابتلاء واختبار، والعاقل من تزود منها لآخرته، وقد حث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً على ملازمة التقوى، وعدم الانشغال بظواهر الدنيا وزينتها، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً: إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا ، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ ؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ .
وتابع: وفي روايةٍ : لِيَنْظُرَ كيفَ تَعْمَلُونَ، رواه مسلم في صحيحه، وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً أعرف الناس بالدنيا، وأكثرهم زهداً وقناعة بها، فقد كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس إرشادا للتواضع وترك الكبر، وكان قُوتُه خشناً لم يأكل خبزاً مرققاً حتى مات ، وما شبع من خبز الشعير حتى مات صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً، وما رأى النقي من الحَبِّ منذ بعثته حتى قبضه ربه عزوجل، وما ترك بعد موته ديناراً ولا درهماً ولاعبداً ولا أمة ، ولا شيئاً إلا بغلته التي كان يركبها وسلاحه وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة.
ولفت إلى أن المسلِم الحَقُّ يَسعى في حياتِه إلى تَحصيلِ تَقوى اللهِ عزوجل ورِضاه، ويأخُذَ مِن الدُّنيا اليَسيرَ بقدْرِ ما يوصِلُه إلى ربِّه ، دونَ أن يَنشَغِلَ عنه بأمورِ الدُّنيا، قال أحد السلف: الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة فيها تكثر الهم والحزن، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: ومما يعين على الزهد أن يتأمل الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وأنها دار ممر، وليست دار مقر، وأنها لم تبق لأحد من قبلك، وما لم يبق لأحد من قبلك فلا يبقى لك.
ودلل بما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾، يعني لن يخلد أحد في هذه الدنيا، وكذلك ليعلم أن هذه الدنيا دار تنقيص وكدر، ما يسر بها إنسان يوماً إلا ساء وكدر في اليوم الثاني، فإذا علم حقيقة الدنيا فإنه بعقله وإيمانه سوف يزهد بها ولا يؤثرها على الآخرة قال الله تعالى ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا۞وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى۞إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى۞صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾.
يعتبرها قنطرةوأفاد بأن الإسلام لم يبغض الدنيا في هذا الوجود، ولكنه يعتبرها قنطرة يمر بها العاقل إلى دار البقاء والخلود، معتمداً عليها في زمان محدد، ليصلح بها ذلكم المسكن المؤبد، ولهذا وذاك فإن المرء محتاج في الدنيا إلى الضروريات التي هي المطعم والملبس والمال والأثاث والمنكح والمسكن والجاه.
واستند لما ورد عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله ، وأحبني الناس ، فقال رسول الله إزهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك) رواه ابن ماجة.
وبين أن معنى الحديث أن تفضل أمر الله على أمر الناس أجمعين ، وأن تفضل الآخرة على الدنيا بعمل صالح مع صبر ويقين والمهم أن تكون الدنيا في يدك لا في قلبك ، وأن تملكها ولا تملكك ، وبعبارة أخرى ، فإن حب الله يكمن في الخوف والرجاء ، وعدم الاغترار بالدنيا لأنها للفناء، وإن حب الناس هو القناعة بما رزقت من الأشياء ، وترك الحقد والعداوة والبغضاء، وكيف لا يفوز المتقي بهذين الحبين الجليلين، وهو قد فضل الآخرة على الدنيا مشتغلاً بالحلال ، راضياً بما قسم الله له فاستحق الإكرام والإجلال.
وأكد أن الابتلاء في هذه الحياة الدنيا من سنن الله تعالى وهو مرتبط بالتمكين ارتباطاً وثيقاً ، فلقد ابتلى الله تعالى أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام ، فأُوذوا وصبروا ، فمكن الله لهم في الأرض ونصرهم على الأعداء قال تعالى : ( وَلَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰٓ أَتَىٰهُمۡ نَصۡرُنَاۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ وَلَقَدۡ جَآءَكَ مِن نَّبَإِيْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ )، ومنذ فجر الإسلام شاء الله تبارك وتعالى أن يبتلي المؤمنين ويختبرهم ليمحص إيمانهم، وليقوم بنيانهم بعد ذلك على أسس متينة راسخة ، ثم يكون لهم التمكين والانتصار ، وهذا الابتلاء من الله عزوجل على المؤمنين ابتلاء رحمة لا ابتلاء غضب .
المؤمن مأموروأوضح أن ما يقع على المسلمين اليوم من محن وابتلاءات لا ينبغي أن يكون ذلك سبباً لضعف نفوسهم وخور عزائمهم بل لابد أن يكون ذلك دافعاً لهم لتقوية إيمانهم بالله عزوجل والعزم الصادق والصبر الجميل، ولن يكون الخلاص والنجاة إلا بالتمسك بكتاب الله عزوجل ، وسنة رسوله الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً ، والبراءة من الشرك وأهله ، ولزوم جماعة المسلمين، لأن الجماعة قوة لا تقهر، والحذر من التفرق في الدين والتحزب.
واستدل بما قالت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها: إلا أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب، وتلت قول الله تعالى: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون )، ويجب على المؤمن أن يكون على ثقة ويقين بنصر الله القريب وإن كثر الأعداء وتكالبوا وعظمت قوتهم ، فإن الله سينصر دينه والمؤمنين ، قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُحَى مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بأسنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ وقال تعالى: ﴿وَلَا تَيأَسُوا مِن رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا ييأْسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَفِرُونَ ﴾ وقال سبحانه: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سوءُ الدَّارِ ).
ونوه بأن المؤمن مأمور بأن ينصر دينه، ومأمور بأن ينصر أخوانه، ومن هذا المنطلق جاء التوجيه الكريم من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء - حفظهما الله - بحملة وطنية لجمع التبرعات عبر منصات مخصصة لذلك، لنصرة أشقائنا في غزة، وأن من الواجب على المسلمين أن يسارعوا بالبذل والعطاء، والقيام بحق الأخوة وتلبية النداء، استجابة لأمر ربهم عز وجل حيث يقول : ﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾، وتأتي هذه الحملة المباركة - بإذن الله - امتداداً لمواقف المملكة العربية السعودية التاريخية والمشرفة في الوقوف مع القضية الفلسطينية ودعم الشعب الفلسطيني.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: إمام و خطيب المسجد الحرام خطيب المسجد الحرام الجهني خطبة الجمعة من المسجد الحرام الله تعالى قال تعالى رسول الله الله عنه فی هذه
إقرأ أيضاً:
حكم صلاة المنفرد خلف الصف في المسجد .. دار الإفتاء تجيب
ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال عن صلاة المنفرد، وهل يجوز لمن أتى خلف الصف أن يجذب أحد المصلين ليصلي معه؟
وقالت دار الإفتاء إن صلاة المنفرد خلف الصف إذا كانت لعذر -كأن لم يجد من يصف معه- صحيحةٌ ولا حرج عليه، فإذا انتفى العذر تكون صحيحة مع الكراهة، وعلى المنفرد إذا أراد أن يجذب رجلًا من الصف أمامه أن يراعي موافقة المجرور على ذلك مسبقًا، وإلا فلا يجذبه.
وأشار إلى أن صلاة المنفرد إمَّا أن ترد مطلقة أو مقيدة، فإن وردت مطلقة فإنها تكون في مقابلة صلاة الجماعة كما قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ -أي: المنفرد- بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أما إذا أريد بها ما ذُكر بالسؤال فإنها تُقيَّد به، فيقال: صلاة المنفرد خلف الصف.
وأوضحت أن صلاة المنفرد خلف الصف إذا كانت لعذر -كأن لم يجد من يصف معه- صحيحة، فإذا انتفى العذر، فإنها تكون صحيحة مع الكراهة، وذلك لما روى البخاري عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَهْوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «زَادَكَ اللهُ حِرْصًا، وَلا تَعُدْ»، فأخذ الفقهاء من ذلك عدم لزوم الإعادة، وأن الأمر الذي ورد في حديث وَابِصَةَ بن معبد رضي الله عنه عند الطبراني من "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلاةَ" إنما هو على سبيل الاستحباب؛ جمعًا بين الدليلين.
أما الحنابلة فأبطلوا صلاة من صلى خلف الصف وحده ركعة كاملة دون عذرٍ، حملًا للأمر في حديث وابصة رضي الله عنه على الوجوب.
وأوردت دار الإفتاء مذاهب الفقهاء في صلاة المنفرد إذا لم يجد فرجة ولا سعة في الصف، فعند المالكية وأحد قولي الشافعية -وهو ما نصَّ عليه الإمام الشافعي في "البويطي" واختاره القاضي أبو الطيب- أنه يقف منفردًا خلف الصف، ولا يجذب أحدًا لئلا يحرم غيره فضيلة الصف السابق، بل زاد المالكية أنه إن جذب أحدًا فلا يطعه المجذوب، وهذا رأي الكمال بن الهمام من الحنفية.
أما عند الحنفية والصحيح عند الشافعية فإنه يستحب أن يجذب إليه شخصًا من الصف ليصطف معه، لكن مع مراعاة أن المجرور سيوافقه، وإلا فلا يجر أحدًا منعًا للفتنة.
وعند الحنابلة يقف عن يمين الإمام إن أمكنه ذلك؛ لأنه موقف الواحد، فإن لم يمكنه ذلك فله أن ينبه رجلًا من الصف ليقف معه، وإلا صلى وحده خلف الصف، ويكره تنبيهه بجذبه، واستقبحه أحمد وإسحاق؛ لما فيه من التصرف بغير إذنه.