اندلعت الحرب بين الإسرائيليين والفلسطينيين في قطاع غزة، فنسفت مصداقية ومشروعية السياسة الخارجية الليبرالية التي تتبناها الدول الغربية.

فبعد عقود من حديث النظم الغربية عن "السياسة الخارجية القائمة على القيم"، و"التدخل الإنساني في شؤون الدول الأخرى"، و"المسؤولية عن الحماية"، و"النظام القائم على القوانين"، وغير ذلك من الشعارات المثيرة، يشعر أنصار هذه الشعارات في الغرب بنفاق السياسات الخارجية لحكوماتهم.

فهذه الحكومات تدعم ما يوصف بالأنظمة المستبدة الموالية لها في منطقة، لكنها تعادي مثل هذه الأنظمة في مناطق أخرى، وتتحدث عن احترام الحدود الدولية، هنا وتتجاهله هناك، وتدافع عن المدنيين هنا وتتجاهل قتلهم هناك، وهكذا.

"Both the legitimacy and credibility of liberal foreign policy are the new victims in this war," writes Mladen Mrdalj. https://t.co/ZxRC5KnAtX

— National Interest (@TheNatlInterest) November 9, 2023

وفي تحليل نشرت "ناشونال إنتريست" الأمريكية، يقول مالدين مردالج أستاذ العلوم السياسية في جامعة وينشو كيان الصينية إن، الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل عام، وبين إسرائيل وحركة حماس بشكل خاص ، يمثل تحدياً هائلاً لمشروعية مفهوم التدخل الليبرالي: فعلى الغرب حماية قيم مثل حق إسرائيل في الوجود، وأيضاً حماية قيم حقوق الإنسان الفلسطيني والقانون الدولي الذي يحتم إقامة دولة فلسطينية.

والحقيقة أن تنفيذ كل هذه الالتزامات أمر مشكوك فيه تماماً، في كل مرة يتحدث فيها المسؤولون الغربيون عن "حل الدولتين" للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

والمؤسف أن صدى هذه الكلمات يتردد مثل "تعويذة" دبلوماسية، لتجنب إجراءات حقيقية للوفاء بما تفرضه قيم السياسة الخارجية الليبرالية. فما يحدث على الأرض في الضفة الغربية وقطاع غزة، يعني تفريغ "حل الدولتين" من مضمونه تماماً كما أفرغ من مضمونه "حق العودة" للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، التي غادروها في 1948 والتي أصبحت الآن جزءاً من إسرائيل.

ويقول مردالج الحاصل على الدكتوراه من جامعة نورث إيسترن الأمريكية، إن "تكرار عبارة حل الدولتين هو تظاهر من الدول الغربية بالسعي لتسوية سلمية للصراع، في حين أنها تترك القوي يفعل ما يريده والضعيف يعاني على حد قول المؤرخ الإغريقي ثوقيديدس صاحب كتاب تاريخ الحرب البيلوبونيسية منذ 2500 عام. ولا يملك المرء إلا أن يتساءل إذا كان استحضار المسؤولين الغربيين الآن لعبارة حل الدولتين، محاولة لإخفاء عجز مبدأ التدخل الليبرالي الأساسي المتمثل في المطالبة باستخدام القوة لمنع الفظائع الجماعية في حرب غزة".

ويقول ألكسي جيه. بيلامي أحد أقوى مؤيدي مبدأ "مسؤولية الحماية" في مقال عن حرب غزة في 2014 التي أطلقت عليها إسرائيل اسم "الجرف الصامد" وحركة حماس "العصف المأكول"، إن "الأمر سيبدو من وجهة نظر البعض مثيراً للجدل، للدرجة التي أشير فيها إلى سلطة مجلس الأمن الدولي في استخدام القوة لاستعادة السلام والأمن، في غزة".

ومع إدراك أن تعارض المصالح بين الأعضاء في مجلس الأمن، سيمنع  أي تحرك لوقف الفظائع، عاد بيلامي للمطالبة بتسوية سلمية للصراع وفقاً للخطوط التي حددتها الجمعية العامة للأمم المتحدة وأقرتها اتفاقيات أوسلو منذ سنوات، ولكن هذا يذكرنا بالحاجة لحشد الموارد المتاحة لحماية السكان من الجرائم الفظيعة.

ويضيف مردالج أن "النفاق الليبرالي السائد حول القدرة على احترام حقوق الإنسان للإسرائيليين والفلسطينيين يميل ناحية إسرائيل. وقبل ذلك والأكثر أهمية، أن المصالح المتعارضة تتجه ناحية مصلحة إسرائيل وإن كان بصعوبة، مثل استقطاب العرب بعيداً عن روسيا، والصين، وتقليص الغضب العالمي المؤيد للفلسطينيين، واحترام الترسانة النووية الإسرائيلية، وأخيراً تقليص النفوذ الإيراني".

وهنا ترى إدارة الرئيس الأمريكي جو بادين، نفسها موزعة بين خيارين كلاهما صعب، الأول منح إسرائيل الدعم الاستراتيجي والمعنوي لسحق غزة، والثاني الحد من الاجتياح الإسرائيلي للقطاع قبل أن تنفجر الأنظمة العربية المؤيدة لواشنطن، تحت ضغط شعوبها، وتندفع إلى مواجهة ضد إسرائيل.

وفي الوقت نفسه تحقق إيران مكاسب على المدى القصير بطريقة أو بأخرى، إذ فشلت محاولات بايدن للضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لقبول هدن إنسانية. ومع ذلك من غير الواضح إذا كان الهدف الأساسي للتحركات الأمريكية من أجل هدنة إنسانية هو  رئيس وزراء إسرائيل بالفعل، أم وقف تدهور صورة بادين لدى دوائر الناخبين الأمريكيين المؤيدين للفلسطينيين، واليسار الليبرالي الأوروبي، والكثير من شعوب الجنوب العالمي، التي تعارض الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

#واشنطن تتحدث عن سيناريوهات "مستقبل #غزة" بعد وقف الحرب https://t.co/0RzPC5ODJh

— 24.ae (@20fourMedia) November 10, 2023

وفي الوقت نفسه، فإن "حل الدولتين" يصطدم برفض التنازل الأساسي من إسرائيل، والانسحاب الفعلي من أراض تحتلها ومواقع تمثل أهمية استراتيجية لها، في حين أن التنازل الفلسطيني يتمثل في التزام لفظي بالسلام.

فما الذي يجعل لهذا الالتزام مصداقية؟ فالفلسطينيون يمكن أن يغيروا رأيهم بعد ذلك، فيهاجمون إسرائيل عندما يقتنعون بقدرتهم على ذلك. ولا يمكن أن يكون الردع النووي الإسرائيلي بديلاً لعمق جغرافي استراتيجي لإسرائيل التي تعتمد بالفعل على ذلك، لآن المسافة القريبة مع الجانب الفلسطيني تجعل  استخدام إسرائيل الردع النووي، عملية انتحارية حسب مردالج.

ولذلك عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة انطلاقاً من هذه الرؤية على الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأراضي العربية لضمان هذا العمق الاستراتيجي في حروب 1948، و1956، و1967، و1982، ثم استسملت لمصر وانسحبت من أراضيها المحتلة بموجب اتفاق السلام مع القاهرة في 1979، لكسر الوحدة العربية، وتخلت عن أجزاء من الأراضي الفلسطينية في اتفاقات أوسلو للسيطرة على الخسائر التي تكبدتها بعد سوء التعامل مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وانسحبت من غزة من جانب واحد في 2005 لتكسر وحدة الفلسطينيين في القطاع، والضفة الغربية.

وطوال هذه الحلقات وفي ظل كل الحكومات، احتفظت إسرائيل بالأراضي المحتلة، وتوسعت في الاستيطان في الضفة الغربية، لتحدي السيطرة الديموغرافية للفلسطينيين فيها. ولأن استمرار مشكلة "الالتزام الموثوق" في أي عملية سلام، تعتبر إسرائيل أن تجريد أي دولة فلسطينية منتظرة من السلاح ليس كافياً، وتصر على استمرار وجودها العسكري فيه للرقابة والسيطرة. ويتضمن هذا وجود بعض الممرات والمناطق الاستراتيجية في إسرائيل والمستوطنات الكبرى. معنى هذا أن أمن إسرائيل ووجود دولة فلسطينية ذات سيادة، لا يتوافقان.

ورغم اعتراضات إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما المستمرة، واصلت إسرائيل التوسع الاستيطاني. في الوقت نفسه أدى تزايد الخلاف بين إيران ودول الخليج العربية إلى تقارب تلك الدول مع إسرائيل، ما تجسد فيما عرف باسم اتفاقيات السلام الإبراهيمي، لكن همشت الحقوق الفلسطينية مع هذه التطورات. .

ويعتبر قرار حماس شن هجومها على المستوطنات والبلدات الإسرائيلية في غلاف القطاع في  7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أخلاقياً من وجهة نظر مؤيديها خاصة الذين يعيشون في مأمن من الرد العسكري الإسرائيلي على الهجمات. كما أن استمرار الكفاح المسلح ضد قوة الاحتلال الاستعماري المتفوقة، أمر يثير الإعجاب. ومع ذلك فإن عقلانية قرار حماس تظل محل تساؤل. فاستفزاز إسرائيل يدفعها إلى طحن الشعب الفلسطيني حتى تتغير موازين القوة لصالح الفلسطينيين أو يفنى المجتمع الفلسطيني.

ولأن حماس رأت أن التطورات الجيوساسية الإقليمية والدولية جعلت فناء المجتمع الفلسطيني وتصفية قضيته مسألة وقت، اتخذت قرارها بالهجوم وهدم المعبد على الجميع.

والآن، ومع استخدام إسرائيللقوتها العسكرية الكاملة ضد غزة رغم اعتراضات الكثيرين من الليبراليين في الغرب، فإن المأساة الأخلاقية حاضرة، لكنها مخيفة لدرجة يصعب معها الاعتراف بها، وهي أن طرفي الصراع متمسكان بلعبة انعدام الثقة الصفرية، وكأن كل طرف يتوقع فناء الآخر، ليقبل بسلام ذي مصداقية. الأسوأ من ذلك هو أنه لا قوة خارجية ترغب أو تقدر على فرض بديل مستدام للصراع المميت.

وتعتبر المعاناة الإنسانية الناجمة عن لعبة انعدام الثقة الصفرية  مأساة في حد ذتها. ورغم ذلك فإن المأساة الأعمق  للكثير من الليبراليين الغربيين، وخاصة المؤمنين بحق التدخل الإنساني، هي رؤية تغطية عالمية حية لانهيار مبدأهم، فعليهم إما المراقبة بصمت، أو الموافقة على تدمير إسرائيل لحماس، على حساب حماية المدنيين الفلسطينيين. والخياران خيانة للنزعة الليبرالية. أما الإنكار  لما يحدث فلن يؤدي  إلا إلى تفاقم المعاناة الأخلاقية واتهامهم بالنفاق وإثارة الاستياء في العالم الجنوبي.

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة غزة وإسرائيل حل الدولتین

إقرأ أيضاً:

رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس يعلق على سياسة بايدن تجاه السودان والعقوبات ضد البرهان

متابعات ــ وكالات ــ تاق برس – وصف رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي “الكونغرس” سياسة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن تجاه الحرب فى السودان بأنها “فاشلة” .

 

 

وقال السيناتور جيم ريش (جمهوري من ولاية أيداهو)، إنه في حين أن المبادرات نفسها ضرورية للغاية، فإن الإسراع بإصدارها قبل مغادرة المنصب مباشرة أمر سيئ.

 

وقال في بيان لصحيفة “ناتسيك ديلي”: “من العار أن تنتظر إدارة بايدن اتخاذ هذا الإجراء حتى اليوم قبل الأخير من عملها في السلطة. هذا الإجراء هو مجرد حاشية لسياسة فاشلة تمامًا تجاه السودان”.

 

 

وقال متحدث باسم وزارة الخارجية إن الولايات المتحدة ملتزمة بمحاسبة المسؤولين عن الصراع في السودان، وأضاف أن قرار فرض العقوبات اتخذ بعد عملية مدروسة بعناية .

 

 

وفرضت إدارة بايدن عقوبات على رئيس مجلس السيادة الانتقالي ــ القائد العام لجيش السوداني عبد الفتاح البرهان ، في أحد قراراتها الأخيرة في السياسة الخارجية قبل مغادرة منصبها.

 

وقد ناقش مسؤولون في الإدارة الأميركية في اجتماعات داخلية تقارير تفيد بأن الجيش السوداني استخدم أسلحة كيميائية أثناء الحرب الأهلية الدائرة في السودان، وفقاً لثلاثة مسؤولين مطلعين على الأمر.

 

 

ورفض متحدث باسم وزارة الخارجية السودانية التعليق على هذا الأمر، كما فعلت السفارة السودانية في واشنطن.

 

 

وتأتي العقوبات بعد أسبوع واحد فقط من اتهام إدارة بايدن لجماعة شبه عسكرية سودانية، قوات الدعم السريع، بارتكاب إبادة جماعية في السودان في حربها ضد القوات الحكومية.

العقوبات ضد البرهانالكونغرسبايدن

مقالات مشابهة

  • فشل الغرب في الحرب التي شغلت العالم
  • سياسة متزنة.. وزير الخارجية: لدينا شراكة استراتيجية مع الفاعلين الدوليين الرئيسيين
  • وزير الخارجية يبحث مع نظيره النيجيري محاربة الإرهاب في منطقة الغرب الأفريقي
  • وزير الخارجية: السنغال بوابة عبور مصر إلى الغرب الإفريقي
  • ليس بينهم البرغوثي..إسرائيل تنشر قائمة بـ700 سجين فلسطيني ستطلقهم
  • رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس يعلق على سياسة بايدن تجاه السودان والعقوبات ضد البرهان
  • أستاذ علاقات دولية: هدف إسرائيل في غزة كان نشر سياسة اليأس
  • وزير الخارجية يلتقي بالقائمة بأعمال البعثة الأممية إلى ليبيا
  • وزير الخارجية والهجرة يلتقي مع القائمة بأعمال البعثة الأممية إلى ليبيا
  • وزير الخارجية والهجرة يلتقي القائمة بأعمال البعثة الأممية إلى ليبيا