على ثلاثة مسارات متقاطعة أو متوازية تمضى الصيدلانية خبيرة الإدارة الصناعية والجودة، ناهد يوسف، فى كتابها «دواء وعلل.. قصتى مع صناعة الأدوية من الازدهار إلى الأزمة»، إصدار دار الطنانى للنشر.. المسار الأول هو صناعة الدواء وأهميتها الاقتصادية والاجتماعية والحضارية للدولة والفرد، وما الذى حدث مع هذه الصناعة قبل وبعد التأميم، وصولا إلى زمن الانفتاح ثم الخصخصة.

أخبار متعلقة

د. أسامة أبو طالب يكتب: «الكُحكُح».. رواية العزم على مغالبة الزمن

نجلاء أحمد حسن تكتب: زيف المجتمع فى رواية «تدريبات على القسوة»

د. صادق السلمى يكتب: في رواية الغربى عمران «بر الدناكل» المبدع شيطان لا يهدأ إلا بالرجم

والثانى هو العمل العام للمؤلفة وسط الصناع والمهنيين وعاملات وعمال مصانع الأدوية، وفى أوساط نخبة العلم والإدارة من أهل اليسار وغيرهم. والمسار الثالث هو حياة الزوجة والأم والعناية بالقراءة والثقافة والفن والأصدقاء والأهل داخل الأسرة وخارجها، ويظل كل ذلك احتفاءً عارمًا بالصعود الصناعى ومشاركتها فيه من بداية حياتها العملية تحت مظلة قيادات فذة مدنية وعسكرية، وأسى مرير على ما آلت إليه الأوضاع.. لكنها أبدا لا تقدم لنا مرثية.

انتهت ناهد يوسف من كتابها فى أكتوبر ٢٠١٧، ورحلت أبريل الماضى، لكن كتابها سيظل يؤثر لعقود، فى تقديرى، فى كل من يقرؤه، ويسم بدن البعض من اتباع مدرسة التوكيلات واستيراد كل شىء.

الكتاب مكتوب بلغة هادئة وعلمية عميقة، ليقول لنا إن البلد الذى وصل إلى تحقيق اكتفاء ذاتى حقيقى من الدواء بلغ ٨٥ % بنهاية الخطة الخمسية الأولى؛ أى فى ١٩٦٥، وأصبح الآن إنتاجه من الدواء المصرى الأصل يكاد يكون صفرا.. هذا البلد يملك قدرات وكفاءات وكوادر، لو تم توظيفها بشكل صحيح لاستعاد مكانته فى وقت قصير.

مبكرًا، تركت زيارة مدرسية لمصانع ياسين فى التلميذة ناهد يوسف، ورؤيتها للعمال وهم يشكلون الزجاج إلى منتجات مختلفة مبدعة، أثرا لم ينمحِ من حياتها. رسخ من الأثر تلقيها العلوم الصيدلية على أيدى علماء عظماء عملوا بشرف وأمانة ونزاهة بلا حدود، منهم الدكتور محمد الشحات الذى كان يناهض الاستعمار وهيمنة الشركات الأجنبية على سوق الدواء المصرية، هو ومن معه ممن سمتهم هى «رد سجون الملك فاروق» الذين قادوا مع ثورة يوليو نهضة صناعة الدواء بشكل شامل ووفق أعلى معايير عالمية.

فازت ناهد بلقب الطالبة المثالية ١٩٥٥، وصافحت عبدالناصر شخصيا بفستان من تصميمها وحياكتها هى، وتكلف وقتها واحد جنيه فقط. بعد التخرج ١٩٦٥، عملت بأشهر صيدلية وأقسمت بعدها ألا تفتح صيدلية بعد أن رأت استغلال الفقراء سعريا وعدم قدرتهم على شراء الأدوية. عملت فى مصنع أدوية يملكه يهودى، ثم جاء التأميم، وكان من بين أسبابه تواطؤ شركات الدواء الأجنبية لإحراج النظام وحالات فساد ورشى واستغلال بلا عدد. التحقت بشركة النيل للأدوية وعملت فيها بمنطق صاحبة البالطو الأبيض تارة والأزرق تارة أخرى؛ إذ كانت تحرص على أن تتجول بين العمال والفنيين فى المصانع للتشجيع والمتابعة والتعلم.. وخلافا لممارسات الحقبة السابقة، حدثت قفزة فى ظروف وشروط العمل مع نشأة المؤسسة الاقتصادية، وفى شركة النيل تم تشكيل لجنة علمية من شباب وكبار أساتذة علوم وطب وصيدلية وهندسة، وجرى ابتكار تصميمات ومنتجات جديدة، وتضاعف الإنتاج.

ومن اللفتات العجيبة إشارتها إلى أن تطبيق نشرات الأدوية كان يقوم به مكفوفون. وثمة قصص عن أعمال لا تصدق بسبب الحماس، ووجود القدرات العلمية وكيف تم تصنيع أنواع من الأدوية والمستحضرات والكيماويات والعبوات والمحاليل والقطرات وتطوير التحاليل وطرق العمل.. وطال الابتكار أعمال الورش.. وهنا تشير إلى أن مدير الورشة جميل طوسون كان سليل العائلة الملكية، وقدم أعمالا مجيدة كعاشق للميكانيكا.. ولا يقل أهمية انفتاح العهد على كل ما هو جديد فى أمريكا وبريطانيا وغيرهما وإيفاد بعثات باستمرار، وقيام المبعوث- ومنهم المؤلفة- بجهد مهموم لنقل كل الخبرات المحصلة إلى شركات بلده.

تحتفى ناهد بدورها وزملائها فى كيفية إنشاء حضانة وتعيين أول مسئولة شؤون عامة بالشركة، وكانت سيدة من عائلة رومانوف (زوجة أستاذ مصرى، وكيف حصلت على أجر مثل أجر رئيس مجلس الإدارة، ولكنها أبدعت فى تقديم الوجبات وتوفير زى العاملات والعناية بالحدائق).. وهكذا، أينما حلت ناهد يوسف عنيت بإقامة مكتبة علمية وتزويدها بأحدث المراجع، وأن يقرأ الجميع الصحف ويتابعوا ما يجرى فى العالم.

تحكى قصص إنشاء باقى شركات الأدوية العامة فى العهد الناصرى، والتى قام معظمها ارتكازا على مصانع صغيرة مؤممة، ثم حدوث نقلة كبرى فيها. بعد ١٩٧٣ تبنت الجامعة العربية مشروعا متكاملا لصناعة دواء عربية قوية، لكن كامب ديفيد أوقفت المسار.. وإن كنا ربحنا من التجربة قيام الشركة العربية للأدوية.

بالكتاب إشارات مؤلمة عن تدخلات أمنية من وقت إلى آخر، لكنها تطورت فى السبعينيات إلى أعمال فجة، خاصة فى ظل تحالف الأمن مع أعضاء الحزب الوطنى فى المصانع والدور السيئ لقيادات الإخوان التى ظهرت فى المشهد باستثناءات نادرة.

تحدثت عن دور جمال غالى، الذى رحل منذ عام، فى إدخال صناعات مرتبطة بالدواء لم تكن موجودة، وعصرنة صناعة التعبئة والتغليف وإضافة لمسات جمالية لتصميم العبوات وتحسين وتمصير خاماتها. تروى كيف قاومت الشركات الغربية إنشاء شركة النصر للكيماويات الدوائية، فتمت الاستعانة بالخبرة الفنية السوفيتية ومراكز بحوث مصرية، وكيف بزغ مركز بحوث الدواء على يدى العالم الكبير الدكتور عصام جلال، والأعمال الكبرى للهيئة العليا للأدوية بقيادة المايسترو عزيز بندارى ومساعده القدير مصطفى السماع. ورصدت أن من علامات التحول الفجة فى عهد السادات خلع بندارى من صناعة الدواء؛ برفعه إلى أعلى وتعيينه رئيس جهاز تنظيم الأسرة. جرت طوال فترة الازدهار معارك صغيرة وحاسمة، فى كل يوم تقريبا للدفاع عن الصناعة المصرية الدوائية.

ذكرت أن «النيل» أنتجت دواء كبد، فقامت شركة أجنبية منافسة بشراء كل المنتج ولوثته، لتشويه سمعتنا، وتم اكتشاف الملعوب وكانت فضيحة لهم. بعد ٦٧ تمت الموافقة على ٣ مصانع أجنبية، أولها سويسرى، واكتشفنا أنه جلب ماكينات قديمة، ورفضنا أن يصنّعواأى دواء إلا بكيماويات مستوردها شركة مصرية متخصصة. وأكدت أن مناضلًا سوريًا قال لها إن ناصر كان يرى صناعة الدواء أهم من البترول. بعد ١٩٧٣ بدأ وضع خطة عمليات شاملة لتشويه التجربة، والتشكيك فى الدواء المصرى بالباطل، ومنع الاستثمارات الجديدة، وقد هرب الكوادر مع الجو الخانق والعروض المغرية، ومَن تمسك كوطنى بالبقاء إيمانا بالقطاع العام، واجه مشكلات وتعقيدات ليرحل ويبق فقط المنافقون والمتربحون. أقرت الحكومة بمبدأ إبرام اتفاقيات تصنيع بالقطاع العام لحساب الأجنبى بشروط ليست فى مصلحتنا، وتم فتح الإنفاق على الدعاية للأجنبى، ما فتح مجالا لإفساد أطباء وصيادلة. شكت ناهد يوسف لعبده سلام وزير الصحة وقتذاك من ممارسات الأجانب وكونهم لم يفتحوا مصانع جديدة ولم يقيموا خطوط توسعات، ولا سجلوا براءات، ولم يضيفوا عمالة، ولم يدخلوا مجالا ينقصنا مثل أدوية السرطان وألبان الأطفال.. فلم يعلق الوزير وغيّر الموضوع. وكشفت أنه يتم اليوم إنتاج ٤٠ % من الأدوية بتراخيص لأدوية انتهت مدة حمايتها أصلا.

بعد «النيل»، عملت «ناهد» فى النصر للزجاج بمسطرد بعد أن استدعاها رئيسها الجديد هى والدكتور جمال غالى، وقدم غالى خطة لتطوير مصانع الزجاج، وقدمت هى خطة لتطوير مصنع الأمبولات.. ومن ثقة جمال غالى فى خطته تعهد بأن يدفع ثمن القوالب التى سيتم استيرادها من جيبه لو فشلت خطته. قبلت العمل فى الشركة بشروط موضوعية وبدأت بإثارة غيرة وحماس العمال، وأبرمنا عقدا مع اليابان لاستيراد الزجاج المتعادل اللازم للأمبولات بنصف الثمن الأوروبى، لكن الشركة اليابانية لم تتقدم بعد ذلك لأى مناقصة!.

عنيت ناهد يوسف بالتدريب دائما، وتم تشكيل لجنة استشارية للأمبولات. تحدثت فى أكثر من موضع عن جهد وكفاءة وقدرة محمد هلال الذى قفز بالمواصفات القياسية المصرية لترتقى إلى المستوى العالمى، وكيف أن اسمه أزيل من أى ترشيح كوزير للصناعة، حيث الجهات التى تختار لم تكن تفضل صاحب الرأى والمكانة والاستقلالية، تم تصنيع قطع غيار بالتعاون مع القوات المسلحة وورش عامة وخاصة بـ ١٠ % من تكلفة المستورد.

ذكرت حالات تمييز بغيضة ضد أقباط كان لهم عطاء نادر. أسست نظاما متكاملا لمراقبة الجودة فى مسطرد، وساعدها بقوة المهندس عادل عبدالكريم، أكفأ من ترأس النصر للزجاج. عاشت عمرها وإيقاعها منسجم بالسليقة مع إيقاع الصناعة.. لذا كان يصعب عليها أن تستكين إلى المعاش، فعملت بعده مستشارة تصدير لعادل عبدالكريم حين تولى القابضة للحراريات.. وقد أبعدوه بعد فترة لأنه كان يطور القطاع العام.. وهذا لم يكن مطلوبا.

وعملت مع جمال غالى فى الجمعية المصرية للتعبئة والتغليف. بكت يوم الإعلان عن بيع مصانع مسطرد للأمبولات والزجاج للقطاع الخاص.. وبطلب من السفير محمد إسماعيل (ابن المشير أحمد إسماعيل)، رئيس الشركة بعد خصخصتها، عملت مستشارة لفترة لإصلاح ما جرى من تدهور، لكن تبين أن المشترى لم يكن همّه أبدا الصناعة بل حلب أقصى ربح وبأى وسيلة، واستغلال العمال بقسوة تفوق ما كان فى العصر الملكى، واستقالت هى وأخرى. رفضت العمل فى مصنع يصدر ضمن الكويز. تمنت قبل أن تموت تعميم التأمين الصحى الشامل وإنتاج أدوية مصرية للسرطان.

ناهد يوسف زوجة الكاتب الصحفى الراحل عادل حسين ووالدة الزميلة سلمى حسين.

ثقافة سور الأزبكية ناهد يوسف

المصدر: المصري اليوم

كلمات دلالية: ثقافة

إقرأ أيضاً:

قيام إمبراطورية روسيا الإفريقية

في الوقت الذي يسعى فيه الرئيس دونالد ترامب إلى تحقيق فتح مع بوتين في ما يتعلق بأوكرانيا، نرى الكرملين لا يتحرك، مكتفيا بتحقيق مكاسب على أصعدة أخرى. وفي حين تبقى واشنطن مستنزفة في أوروبا الشرقية، توسع موسكو نطاق نفوذها في إفريقيا متقدمة باطراد إلى ساحل الأطلنطي. وفيما تعمل في الخفاء، تقيم روسيا مواقع عسكرية، وتؤمِّن اتفاقيات دفاع، وتحول توازن القوى الإقليمي من البحر الأحمر إلى غرب إفريقيا.

وفي حال عجز إدارة ترامب عن الاستجابة، فإن الكرملين سوف يقيم معقلا استراتيجيا آخر على حد الناتو الجنوبي. ولن يكون وحده في ذلك: فروسيا تعمق التنسيق مع الصين وإيران، مشكلة محورا معاديا عازما على تحدي السيادة الغربية في مسارح عديدة: أرضية وبحرية وجوية، وأثيرية.

يمثل انسحاب الولايات المتحدة من النيجر ـ في أعقاب طرد فرنسا من السنغال ومالي وبوركينا فاسو ـ انهيارا للمعاقل الغربية في منطقة الساحل. ومع انسحاب الغرب، تسارع روسيا إلى ملء الفراغ، غارسة نفسها في البنى الأمنية وموسِّعة نفوذها خارج حدودها. وما هو بالنفوذ السياسي وحسب، فروسيا هي مورِّد الأسلحة الأكبر لإفريقيا، حيث تمثل نحو 40 % من واردات القارة من الأسلحة.

وليست هذه انتهازية محضة، إنما هي تفعيل لنهج الحرب غير المتكافئة الذي يتبعه بوتين. فبتسليح مجالس الحكم العسكرية، واستغلال الفوضى، تستولي موسكو على فراغات السلطة الناجمة بسبب الغرب. وفي قمة سوتشي في نوفمبرالماضي تعهد بوتين قائلا «إن بلدنا سوف يستمر في توفير الدعم الكامل لأصدقائنا الأفارقة».

يشير تنامي نفوذ موسكو في بوركينا فاسو ومالي والنيجر ـ أي تحالف دول الساحل (AES) حديث التكوين ـ إلى مسار واضح. ففي ما بين عامي 2020 و2023، استولت مجالس عسكرية على الحكم في تلك البلاد من خلال انقلابات مدعومة من روسيا، وأنهت العلاقات العسكرية والدبلوماسية مع حلفاء إقليميين ومع فرنسا والولايات المتحدة. وهي الآن تعمق التعاون الأمني بإرشاد من موسكو. فسوف تنتشر قوة أمنية مشتركة قوامها خمسة آلاف فرد من النيجر وبوركينا فاسو ومالي في وسط الساحل، مرسخة النفوذ الروسي مع تهميش البنى الأمنية المدعومة من الغرب.

ولكن روسيا لا تكتفي بدعم هذه الأنظمة الحاكمة، وإنما تعيد تشكيل بنية الأمن في إفريقيا من خلال شركة المرتزقة الغامضة التابعة لها أي شركة فاجنر [Wagner PMC]. وشركة فاجنر أكبر من محض جماعة شبه عسكرية، فهي سلاح استراتيجي للاندماج في قوات الأمن وإعادة صياغة توازن القوى في المنطقة. وبتوفير الدعم العسكري والغطاء الدبلوماسي، تجعل موسكو من نفسها العمود الفقري لبقاء هذه الأنظمة الحاكمة ضامنة السيطرة بعيدة المدى على مستقبل المنطقة.

توسع موسكو حاليا استراتيجيتها متجاوزة منطقة الساحل إلى الساحل الأطلنطي. ففي موريتانيا كانت زيارة وزير الخارجية سيرجي لافروف في عام 2023 جزءا من توجه دبلوماسي روسي أعم. وفي الوقت الذي جددت فيه حكومة موريتانيا التزامها بالقانون الدولي، عبرت أيضا عن «تفهمها» لمخاوف روسيا الأمنية، في دليل على أن السردية الموسكوفية تكتسب زخما.

وفي غينيا الاستوائية، تبنت روسيا نهجا أكثر مباشرة. إذ أشارت تقارير ترجع إلى نوفمبر 2024 إلى قيام موسكو بنشر قوة من مائتي فرد من أجل حماية نظام الرئيس تيودورو أوبيانج نجيما مباسوجو. ويستقيم هذا مع أسلوب روسيا المعتاد: وهو توفير الحماية لنظام حاكم في مقابل الحصول على نفوذ في المدى البعيد. وتوفر غينيا الاستوائية بما لديها من ثروة نفطية وموقع استراتيجي على خليج غينيا لروسيا معقلا في منطقة خضعت تاريخيا للقوة الغربية.

تستفيد روسيا من هذه التحولات في ثلاثة أوجه. أولا، أنها ترغم الدول المجاورة من قبيل تشاد وبنين وغانا وكوتدفوار ـ التي كانت ذات يوم من شركاء الغرب المضمونين ـ على التعاون مع موسكو، شاءت ذلك أم أبت. وفي ضوء أن مالي وبوركينا فاسو والنيجر تشكل منطقة عازلة متحالفة مع روسيا، تقوم القوات المدعومة من روسيا بالعمل في دول الساحل، فتواجه حكومات المنطقة أحد خيارين، إما تغيير شراكاتها الأمنية أو المخاطرة باللجوء إلى المناورة في بيئة خاضعة لهيمنة موسكو.

ثانيا، يتجاوز تحالف دول الساحل (AES) كلا من الاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا [ECOWAS] بما يضعف من المؤسستين اللتين كانتا ذات يوم تنسقان الأمن الإقليمي. وبتآكل هذه الأطر تضمن موسكو أن تصاغ أي استجابة لعدم الاستقرار بحسب شروطها. وليس من قبيل المصادفة أن تسعى توجو ـ وقد رأت هذا التحول في ديناميات القوة ـ إلى الانضمام لتحالف دول الساحل (AES).

ثالثا، تعوق هذه الاستراتيجية العمليات الأمنية المدعومة من الولايات المتحدة والناتو. فمع انقطاع الصلة بين القوات الغربية والمراكز الأساسية في منطقة الساحل، تنزاح جهود مكافحة الإرهاب بعيدا في الجنوب إلى الدول الساحلية الهشة. ويؤدي هذا التمزق إلى تعطيل تبادل المعلومات ويرغم القوى الغربية على اتخاذ وضع رد الفعل على نحو متزايد. ويكون هذا هو الميدان الحربي الذي تزدهر فيه روسيا، حيث تتسم التدخلات الغربية بالبطء، بينما تطرح موسكو نفسها بوصفها الضامن الجديد للأمن.

لكن طموحات موسكو في إفريقيا تتجاوز القارة كثيرا، فهي تنظر إليها بوصفها خطوة حاسمة في بنية نفوذ عالمية جديدة. وبحلول عام 2026، تخطط موسكو لافتتاح سفارات في جامبيا وليبريا وجزر القمر والنيجر وسيراليون وتوجو وجنوب السودان مرسخة نفوذها في مناطق يتلاشى فيها النفوذ الغربي.

يعزز هذا التحول كتلة روسيا الاستراتيجية، إذ حصلت إيران على اليورانيوم من النيجر بعد انقلاب مدعوم من الكرملين، في حين توسع الصين سيطرتها في الوقت الذي تنال فيه موسكو من النفوذ الغربي. وتصوغ موسكو وطهران وبكين معا محورا يتحدى مصالح الولايات المتحدة في العالم كله تحديا مباشرا.والآن، تتركز أنظار موسكو على الأطلنطي. ففي حين لم يتم الإعلان عن قاعدة بحرية في ساحل غرب إفريقيا، فليس ذلك إلا مسألة وقت في ضوء تعميق الروابط مع غينيا وموريتانيا وغينيا الاستوائية. وما يبدأ في حدود مركز لوجيستي اليوم قد يصبح في غد موقعا عسكريا، يتيح لموسكو موطئ قدم استراتيجيا لتحدي هيمنة الناتو وربما لقطع خطوط الإمداد الغربية.

وقبل أن تستجيب واشنطن، لا بد أن تدرك نطاق الطموحات الروسية. فإفريقيا لم تعد منطقة هامشية، إنما هي تتحول إلى منصة مركزية بالنسبة لاستراتيجية موسكو العالمية. وفي حال استمراركم في التغافل عنها، فإن روسيا وإيران والصين سوف تصوغ المنطقة دونما أن تصادف أي صعوبات. ومع تأمين موسكو ممرات أساسية وصياغتها ترتيبات أمنية جديدة، قد تتصدع سلاسل التوريد الغربية، وقد يتفكك الردع، وقد تجد أوروبا نفسها مكشوفة. وبحلول الوقت الذي يتخذ فيه الغرب رد فعل، سيكون توازن القوى قد تشكل وانتهى الأمر.

زينب ريبوا زميلة باحثة ومديرة برامج في مركز السلام والأمن في الشرق الأوسط بمعهد هدسون. وهي متخصصة في التدخل الصيني والروسي بالشرق الأوسط، ومنطقة الساحل، وشمال إفريقيا، وتنافس القوى العظمى في المنطقة، والعلاقات العربية الإسرائيلية. قبل انضمامها إلى معهد هدسون، عملت مساعدة باحثة في مركز الحضارة اليهودية بجامعة جورج تاون. نشرت مقالاتها وتعليقاتها في صحف وول ستريت جورنال، وفورين بوليسي، وناشيونال إنترست، وجيروزاليم بوست، وتابلت، وغيرها.

عن ذي ناشونال إنتريست

مقالات مشابهة

  • صعوبات أمام عودة مصانع الغزل والنسيج للعمل في سوريا
  • هيئة الدواء تطلق إصدارها الخامس من دستور الأدوية المصري
  • استطلاع أمريكي: ترامب يواجه معارضة متزايدة وتراجعًا في شعبيته
  • الأدوية المقلدة في أفغانستان.. أزمة صحية وفوضى التهريب
  • كجوك: مصر حققت2.5%فائضًا من الناتج المحلى وتراجع العجز الكلى إلى 6.3%
  • قيام إمبراطورية روسيا الإفريقية
  • شعبة الأدوية: انفراجة في سوق الدواء واتجاه نحو تعزيز الإنتاج المحلي
  • الغرفة التجارية: عودة الثقة لصيدليات مصر وتحسن ملحوظ في توفر الأدوية الأساسية
  • 97 % من الأدوية متوفرة في السوق المصرية .. شعبة الأدوية تطمئن المواطنين
  • على عوف لـ صدى البلد: الدولة تسعى لتوطين صناعة الأدوية بشكل كامل