زين العابدين صالح عبد الرحمن

تناولت في المقال الأول جسارة الفكرة، عند الأستاذة رشا عوض باعتبار أن عملية وقف الحرب مجردة لا يكون لها مفعولا وسط الشعب الداعم للقوات المسلحة، و لكن الفكرة التي جاءت بها الأستاذة رشا و تتخلص في مصطلح ” العدالة الكسبية” تحمل مضامين يمكن التفاعل معها من خلال ربط مصالح الجميع بعملية إنهاء الحرب، و تهيئة البيئة من أجل السلام و الاستقرار السياسي و الاجتماعي.

و بمعنى أخر؛ ربط مصالح الجميع بعملية السلام. و لكن هذه تحتاج لثقافة أخرى غير المنتشر الآن في التعامل السياسي الذي جعل القوى المدنية في حالة تشظي، و و أيضا جعلها غير قادرة أن تخلق توازن القوة في المجتمع. أن فكرة ” المعادلة الكسبية” لا أعتقد أن هناك قوى سياسية يمكن أن ترفضها، إذا التزم الجميع بأن لا توضع أي شروط تجعل منها هيكلية تراتبية للقوى السياسية. أن أهم عامل كان قد أثر سلبا على ” الإتفاق الإطاري” هو الهيكلية التراتبية التي صنعتها قحت ” المركزي” فالقوى السياسية مهما كانت صغيرة لا تقبل أن تستغل ككمبارس. و كان على قيادات الحرية ان تعي هذه القضية ،و تضع قضية الوصول للتوافق من أجل الدولة الديمقراطية في قمة الأجندة، لأنها أكثر أهمية من السعي لاحتكار السلطة وفق مفهوم التراتبية الهيكلية التي أصرت عليها قيادات قحت.
أن مقال ” العلاقة بين الديمقراطيين و الإسلاميين” يمكن أن تكون حرب ضروس بين الجانبين، و أيضا يمكن أن تتحول إلي توافق يضع أساس للدولة الديمقراطية، و كنت قد أشرت إليها كثيرا في العديد من المقالات. المؤكد أن مشروع الحركة الإسلامية قد فشل و أسقطته الجماهير، و ليس أمام عنصر الإنقاذ إلا أن يستوعبوا الذي حدث، و يقدموا نقدا على التجربة مع إجراء مراجعة لمرجعيتهم الفكرية، و يجعلوها تتلاءم مع قضية الديمقراطية، و ليس وحدهم؛ أيضا كل القوى الأيديولوجية في السودان هي في حاجة لإجراء مراجعات فكرية تتلاءم مع التحول الديمقراطي. و كنت قد أكدت تكرارا أن الفكر هو الأداة الناجع للتغيير، و ليس الشعار. خاصة أن أغلبية القوى السياسية تفتقد للعناصر الذين يشتغلون بالفكر، لذلك تجدهميكثرون من طرح الشعار لملء الفراغات. و يمكن أن يكون الشعار سلبي كما أشارت رشا ” كل كوز ندوسو دوس” هذا شعار أصبح فزاعة للتخويف حتى لا يقول الناس أرائهم في الموضوعات المطروحة. و هو مناهض للعملية الديمقراطية.
تقول الأستاذة رشا في المقال (يجب صياغة مشروع السلام والديمقراطية بصورة مطمئنة للقواعد العريضة المساندة لأطراف الحرب سواء في المؤسسات العسكرية كالجيش والدعم السريع او “الحركة الإسلامية” لأن تحفيز هذه القواعد على قبول خيار السلام بخطاب متوازن سوف يضغط جديا على قياداتها) أن صياغة مشروع يجعل الوطن على قمة الأجندات، سوف يجد الدعم من قطاع واسع من الشعب السوداني. و ربما يجد الرفض و المواجهة مع كل دعاة الإقصاء. أن فكرة ” العدالة الكسبية” قائمة على المشاركة في الفعل الإيجابي، و لا اعتقد هناك قوى سياسية ديمقراطية ترفضها، لأنها تهيء فرصة جديدة لإعادة بناء الوطن بأيادي الكل، و أفكار الجميع، المتسقة مع دعوات التحول الديمقراطي، و هي تحتاج لسند جمعي من قبائل الديمقراطيين الممارسين للديمقراطية و منتجين لثقافتها. أن الأفكار هي وحدها القادرة على أحداث تغييرات إيجابية في المجتمعات المتحولة من الشمولية إلي الديمقراطية.
تقول رشا في المقال (المنهج الذي يحكم مناقشتي لهذه القضية هو منهج “التغيير السلمي” الذي لا تملك القوى المدنية الديمقراطية بديلا له، منطق التغيير السلمي يحتم الحلول التفاوضية مع القوى التي تحمل السلاح والمثابرة على محاصرتها بالضغوط الشعبية لانتزاع التنازلات لصالح أهداف الثورة ممثلة في التحول الديمقراطي ، إذ لا مجال للاستئصال الكامل والسريع للخصوم في اجندة المناضلين السلميين، وعندما يتبنى المناضل السلمي خيارا استئصاليا لخصومه المدججين بالسلاح فهذا معناه انه يراهن على احدى القوى المسلحة الموجودة في معادلة الصراع، وهذا خيار بائس،) اتفق مع الأستاذة رشا أن منهج ” التغيير السلمي” هو منهج القوى الديمقراطية و لا خلاف عليه لأن أدواته تنحصر في التفاوض و الحوار، لكن هل كل القوى التي ترفع شعار الديمقراطية مؤمنة بهذا المنهج، و كيف تتم الضغوط الشعبية في ظل الانقسامات الحادة في المجتمع، و الشروط التعجيزية المنثورة على صفحات البيانات. و معلوم عندما تأني دعوات الإقصاء لا يستطيع المرء يتنبأ بنوعية الأدوات التي يمكن أن تستخدم حتى لا تطبق هذه الدعوات، و هذه الحديث كررناه منذ الحكومة الأولى الانتقالية. و القاعدة السياسية كلما توسعت موائد الحوار بين القوى السياسية منعت بروز أدوات العنف. لكن هل كل المدنيين مقتنعين بذلك؟
عن الاستئصال تقول رشا ( أن الاصرار على الخيارات الاستئصالية في ظل معطيات الواقع السوداني ستقود الى تقسيم البلاد إذ من الصعب ان لم يكن من المستحيل ان تنتهي الحرب بسيطرة عسكرية حاسمة لطرفي النزاع على كامل تراب الوطن الواحد) هذا حديث منطقي، لكن القوى المدنية لا تعيره انتباها.. و دلالة على ذلك بيانها في أديس أبابا الذي جرد قاعدة اجتماعية عريضة حقها في أي مشاركة. و هذا لا يؤدي إلا لتصعيد الحرب و استخدام أدوات العنف لإثبات وجود. كان المتوقع من القوى الديمقراطية التركيز على المشتركات التي تسرع بوقف الحرب، و الشروع في عملية التحول الديمقراطي، و إعادة الإعمار، لكن أتضح أن الكل ينظر إلي الوطن بمنظار السلطة و كيفية الوصول إليها بأي ثمن كان و باي رافعات كانت.
تنتقل رشا بروح مترعة بالتسامح و تقول ( أن استنهاض الإرادة الوطنية للوقوف ضد الحرب والاغتسال من أدرانها وخبائثها، يستوجب تغييرا في المناخ النفسي والمعنوي ببث روح جديدة متسامحة ومتسامية تستلهم معنى الاية الكريمة ” لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لأقتلك اني اخاف الله رب العالمين(. هذا ما أشرت إليه أن ضخ الأفكار للحل وحدها هي التي تغير طريقة التفكير و تنقل الناس إلي مربعات جديدة لذلك فكرة ” المعادلة الكسبية” فكرة ذات حمولات إيجابية ثقيلة، إذا نظر اليها من ناحية الفعل التسامحي لأنه شعار جيد لتغيير السلوك و رواثب الماضي. و في ذات الوقت تنتقل رشا إلي براءة الموقف حينما تتهم البعض القوى بأنهم وراء شعال الحرب و تبرئ أخرين. هذه التبرئة كان الأفضل أن يكون لها مقال أخر لأنها ذات حمولات خلافية، و لا اريد الخوض فيها لأنني أيضا أتهم أخرين. ختاما التحية للأستاذة على هذه الجسارة الفكرية المطلوبة. نسال الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: التحول الدیمقراطی یمکن أن

إقرأ أيضاً:

من تجليات “اللطف الخفي” في حرب السودان

 

الجميل الفاضل 

من تجليات “اللطف الخفي” في حرب السودان

 

بإختصار شديد أتصور، أنه لولا قيام ثورة ديسمبر المباركة، لما أندلعت أصلا شرارة حرب أبريل اللعينة، بل وأستطيع أن أقول بثقة ويقين: إنه لولا نشوب ھذه الحرب علي مرارتھا وقساوتھا، لما أتمت ثورة ديسمبر في الأفق المستقبلي المنظور، إنتصارھا الذي إتخذ طابعا شكليا محضا بادي ذي بدء، في العام (2019).

إذ ھو في الحقيقة كان إنتصارا زائفا إكتفي بنزع وإزاحة قشرة وغلاف نظام “الإخوان المسلمين” الخارجي، فيما عرف بمسرحية عزل رمز سلطة النظام “عمر البشير”، والتحفظ عليه في مكان آمن.

وفي ظني كذلك أن مھمة إستكمال أھداف ھذه الثورة، ما كان يمكن أن تتحقق بغير ھذا الطريق المُمِض والشَاق والمُكِلف للغاية.. “طريق الحرب”.

وھو طريق بطبيعة حاله وعَرٌ ومُتعِبٌ وبَغيضٌ، إضُطرت لِولوجهِ مُرغمةٌ كل ثورات العالم، التي أحدثت تغييرا كبيرا في حياة شعوبھا.

من لدن الثورة الفرنسية التي صارت مضربا للمثل، في أكل الثورات لبنيھا الذين خرجوا من رحمھا.

بيد أنه في ثورة السودان “السلمية”، العظيمة التي بھرت العالم بسلميتھا الرائعة، قد جرت الأمور علي غير منوال وعادة الثورات التي عرفناھا، فإن لُطفا كَريما سخيا، جَنَّبَ ھؤلاء الشباب، “عَظمْ الثورة، وعمادھا الفقري”، الإنزالق الي مستنقعات العنف، برغم محاولات “الإخوان” المتكررة بشتي السُبلِ والحِيّل، لجرھم الي ھذا العنف جرا.

بل والي أكثر من ذلك، أعتقد أن من آيات ودلائل تلطف “اللطيف الخبير” بشعب السودان أنه قد فدي سبحانه “قوي ثورته”، بإحالته مغبة الحرب التي كان لابد منھا.. فاتورة وضريبة، الي عاتق “قوي الثورة المضادة” وحدها.

وبالتالي فإني أنظر لھذه الحرب بحسبان أنھا مرحلة من مراحل الثورة نفسھا، رغم أنھا جاءت بالطبع مختلفة الطبيعة والأدوات.

إذ ھي حرب تأكل حاليا بنيرانھا أعداء الثورة أولا، ثم الذين تسلقوھا بغير وجه حق، وأولئك الذين أندسوا بين صفوفھا كأحصنة طروادة، بغية إختراقھا للقعود بھا تماما عن أھدافھا، أو لإبطاء سيرھا نحو تلك الأھداف علي الأقل.

يجري كل ذلك فضلا عما ستحدثه “مصيدة الحرب” التي أسقطت بلا استثناء، كل تلك القوي المُتَوحشةُ التي نفذت مجتمعة وبإشتراك جنائي لا يخفي، مجزرة فض إعتصام القيادة العامة، وإنقلاب الخامس والعشرين من اكتوبر (2021)، وما تبعه من سقوط أكثر من مائة شاب وشابة من الثوار في المظاھرات المناھضة لذات الإنقلاب.

فقد بدا لي الآن،

وكأن كل تلك القوي التي كانت قد عملت بكل ما أوتيت من قوة لإجهاض ھذه الثورة المباركة، قد قدمتھا يد القدرة ھي نفسھا اليوم قربانا لنصر قريب يُعيدُ أُمورُ الثورة الي نِصابِھا من جديد.

فقد إستدرج العلي القدير ھذه الجماعة بشيء من “غرور الغافلين”، الذي أستبد بھا أيما إستبداد، ليوردھا موارد الھلاك بغفلة ورعونة، من حيث لا تحتسب ولا تدري، من خلال زجھا في محرقة ھذه الحرب، التي أضحت ھي ذاتھا أقصر طريق، لتحصيل أھداف الثورة الكبري، ولبلوغ غاياتھا العظمي، التي كان “الاخوان” خاصة، ومن شايعھم بعلم أو بجھل، لا يرغبون أو حتي لا يحتملون بكل تأكيد، رؤيتھا تتحقق علي أرض الواقع.

فإن سيناريو ھذه الحرب أتصور أنه يمثل بصدق، ضربا من ضروب إرتداد الكيد الي النحر، وصورة لكيف يمكن أن يحيق المكر السيء بأھله؟.

أو لكيف يمكن أن يجعل الله تدبير قوم ھو في تدميرھم؟.

إذ أن مجريات ھذه الحرب برمتھا تعكس نموذجا مثاليا لمعني من معاني ضرب الظالمين بالظالمين.

وبطبيعة الحال فإن الذين تجمعُهم المصالحُ والنفاقُ، يُسلِّطُ اللهُ بعضَهم على بعض، حيث قيل في الأثر: “مَنْ أَعَانَ ظَالِماً سَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِ”،

وهي حكمةٌ مصداقُها في القرآن قوله تعالى: “وكَذَلِكَ نُوَلِي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ”.

الوسومالثورة الفرنسية الجميل الفاضل اللطف الخفي حرب السودان

مقالات مشابهة

  • الجديد: لا يمكن استبدال دعم المحروقات في ظل نظام الدفع التقليدي “الدفع الكاش”
  • “خوري” تطّلع على عمليات “إيريني” والتحديات التي تواجهها
  • هل يمكن تفجير الهواتف المحمولة مثل “البيجر”؟.. خبير “تكنولوجيا” يجيب
  • كاتب صحفي: إسرائيل تحاول نقل الحرب من غزة وجعلها مفتوحة
  • الجديد: لا يمكن استبدال دعم المحروقات في ظل “الدفع الكاش”
  • توم بيرييلو: القوى التي لا تريد ذهاب الجيش للمفاوضات تتبع لحزب المؤتمر الوطني
  • “هل يمكن التعافي من مرض السكري.. وما هو المستوى الطبيعي لسكر الدم؟”.. مختص يوضح
  • من تجليات “اللطف الخفي” في حرب السودان
  • ما الدلالات والرسائل التي حملها صاروخ  “فلسطين2” فرط صوتي؟
  • سحب ناجح للسفينة “سونيون” التي هاجمها الحوثيون