نعيش جميعًا فترة عصيبة نحصد فيها ثمار الفرقة والتشتت والتهاون والإستهتار، فنرى أبناء دولة شقيقة وهم يسحقون ويبادون بإجرام، وبأبشع أنواع القسوة والوحشية والهمجية، ونحن عاجزون لا نملك صد هذا العدوان السافر عنهم، ولا نملك سوى دموعنا ودعاءنا أمام طغيان كيان غاصب محتل، تدعمه وتسانده دول عظمى وكبرى، والضمير العالمى فى سُبات عميق!.
.لا يوقظه قتل الأطفال، ولا جروحهم وصرخاتهم، ورجفة أجسادهم النحيلة بعد فقدانهم لحضن أمهاتهم وآبائهم!.. نرى كل ذلك ونحن متألمون، نبكى أحيانا وندعو كثيرًا، ولكن لا يمنعنا ذلك الألم من أن نعيش، ونأكل ونشرب ونشترى، ونشكو من غلاء الأسعار،ونغضب لقطع النور، ونمارس حياتنا العادية.. فهذا هو حال الدنيا، تستمر فى كل الأحوال، ويستمر معها محاولة البشر للتعايش أيا كانت الظروف!.. ولكن لا يعلم حال القلوب سوى الله وحده المطلع على الضمائر،والمفترض أن ترقق المصائب قلوب البشر، فيكونوا أكثر رحمة وهم يرجون من الله رحمته، ولكن الغريب أن نرى فى ظل هذه
الظروف قسوة وغلظة وبشاعة فى الأخلاق والتصرفات، والأغرب أن يرتدى هذا كله ثوب الفضيلة، ويدعون أن ذلك الإنحطاطدفاعًا عن الإنسانيةوالمروءة وحسن الخلق!.. كنت أتمنى ألا ننزلق فى ظل هذه الظروف العصيبة التى تمر بأمتنا، فى خلافات لا معنى لها، بدلًا من أن نحاول جميعًا أن نستفيق، ونتعلم من الأخطاء ونحاول تداركها قبل فوات الأوان!.. ولكن ما يحدث فى مجتمعاتنا الإفتراضية على مواقع التواصل الإجتماعى، كالفيسبوك وغيره من تلاسن وتطرف فى الحب والكراهية، وإنسياق فى حروب كلامية تشعل نيران الحقد والغل دون عقل أو منطق، يتطلب أن نقف ونتساءل عن معنى وهدف ما يحدث؟!.. بدأت الحكاية بإعلان فنان محبوب عن إعتذاره عن المشاركة فى مسرحية تعرض فى دولة عربية شقيقة، وهى مشاعر تحترم لا شك، فلكل منا طاقة، وقد لا نحتمل أحيانا أن نخفى مشاعرنا أو نقاوم دموعنا!.. ولكن قوبل هذا الإعتذارمن جماهير التواصل الإجتماعى بإحتفاء مبالغ فيه، وتسبب فى إحراج باقى الفنانينالذين لم يعتذروا عن المشاركة، وخاصة بعد الإستهزاء بهم من كثيرين!.. رغم أننى أرى أن قرار ترك المسرحية ليس بطولة فى حد ذاته، ولا قرار إستكمال العمل المتفق عليه خيانة!.. فقد إعتدنا دائما أن نرى كبار فنانينا يضعون أحزانهم جانبًا، ويستكملون أعمالهم أيًا كانت الظروف، وكم من المرات سمعنا من كبار فنانى الكوميديا أنهم كانوا يدفنون آباءهم أو أمهاتهم ثم يعودون لعرض المسرحية، أو يسمعون بخبر رحيل ذويهم ويكملون العمل وكأن شيئا لم يكن، ثم ينهارون بعد ذلك.. وكنا عادة نحترم موقفهم وننبهر بمدى إلتزامهم!.. ولا أفهم هل أصبح رفض الفنانين لعملهم نوعًا من النضال والوطنية والتعبير عن الحزن؟!.. وهل المطلوب أن يتركوا أشغالهم،وتتوقف معهم أشغال كل العاملين والفنيينكعمال الديكور والصوت والإضاءة والماكياج والملابس وغيره؟!..وهل غلق تلك البيوت المفتوحة سيساعد أشقاءنا فى فلسطين؟!.. ومنذ متى كانت الأعمال الفنية تتوقف؟!.. حتى فى الحروب وفى أحلك الظروف لم يتوقف الفنانونعن العمل، على العكس كانوا يقدمون فنونهم على الجبهة، وكانوا يقدمون مسرحيات للترفيه عن الناس، حتى يمكنهم الصمود والمقاومة!.. فوجئنا بعدها بهجوم ضارٍ وعنيف على فنان آخر، بسبب ما قاله عن إعتذار زميله على المسرح، فى هذا البلد الشقيق، وإعتبره أهان فنه، وتحدث وكأنه يدافع عن نفسه من تهمة الإضحاك!.. لم يكن كلامه موفقًا فى التعبير أو المكان أو الزمان، وربما أراد بكلماته حفظ ماء وجهه هو وزملائه، بعد الهجوم الذى لاحقهم، ولكن كانت النتيجة مروعة!..وكان هو نفسه أول من إستهان بما يقدمه!.. وأصبح النضال على الفيسبوك من خلال سبه وإلغاء متابعته ومقاطعة مطعمه!.. وتعجبت أيضا من فكرة تسفيه بعض كبار الفنانين من أحد أشكال الفن، وإن إختلفنا معه أو إنتقدناه، ولم أفهم إذا كنا نحتقر الآن فكرة الكوميدياوالإضحاك، فماذا قدم كبار نجومنا أمثال الفنان سمير غانم الذى إحتفت به الدولة، وأطلقت إسمه على أحد المحاور الجديدة تقديرا لفنه، رغم أنه لم يقدم لنا سوى الإضحاك والترفيه!.. فحتى الإضحاك لمجرد الترفيه فن وهدفه نبيل، وإلا لم تكن وزارة الثقافة تحتضن السيرك القومى، وفيه فقرة للمهرج أو الأراجوز!.. كفانا مزايدات.. فالحزن ليس بذلك، والله وحده هو الأعلم بالقلوب وبالنوايا،وطبيعة عمل الممثل نفسها تجعله قادراَ على الخروج من حالته النفسية وما يعيشه، ليتقمص شخصية أخرى بمشاعر قد تختلف كليًا عن مشاعره الحقيقية.. والسؤال هنا هل هكذا نناصر القضية الفلسطينية؟! وهل الذين ينكرون على الفنانين ممارسة عملهم فى تقديم مسرحيات كوميدية، ويرون عدم مناسبة ذلك، يجدون أن إبتكار القفشات والصور الكاريكاتيريةالمسيئة يتلاءم مع هول الأحداث التى نعيشها؟!.. غريب أمرنا حين نمنح أنفسنا حق محاكمة غيرنا وإصدار الأحكام!.. كفانا رجمًا لبعضنا البعض، وقبل أن ندخل فى نوايا البشر ونحاكمهم من خلالها، علينا أن نحاسب أنفسنا وندرك أننا جميعا مقصرون فى حقوق هؤلاء المبتلين،فالقضية الفلسطينية ليست وليدة اليوم، وعدم رؤيتنا وإدراكنا لها يعود لغياب وعينا.. فنحن شركاء بالجهل وبالإنصياعلما يُفعل فينا ونحن مغيبون!.
د.رشا يحيي: أستاذة بأكاديمية الفنون
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية:
العدوان السافر
كيان غاصب
إقرأ أيضاً:
عاجل | المبعوث الأممي إلى سوريا: هناك اتفاق واسع النطاق على أن القرار 2254 لا يمكن تطبيقه في ظل الظروف الجديدة
التفاصيل بعد قليل..