سودانايل:
2024-11-15@09:25:36 GMT

العدالة الانتقالية وشراء المستقبل

تاريخ النشر: 9th, November 2023 GMT

في سياق البحث عن "المعادلة الكسبية" التي تحقق السلام والتحول الديمقراطي، لا نستطيع ان نتجاهل كل الدماء التي سالت في هذه البلاد، وننسى كل الجرائم الكبرى التي ارتكبت، وبذات القدر ليس بالإمكان انفاذ عدالة العين بالعين والسن بالسن حرفيا على جميع من أجرموا، ولذلك يحتاج السودان لتصميم "نموذج سوداني للعدالة الانتقالية"، يحقق فكرة "شراء المستقبل" بشرط تصفية الحساب مع الماضي بصورة تحترم عقول الشعب وتضحياته، تفصيل هذا النموذج بكفاءة على الواقع السوداني وعلى ضوء تحدياته هو واجب الخبراء السودانيين في هذا المجال ويجب ان يكون من اهم اولويات قوى السلام والتحول الديمقراطي.


في الوقت الذي نطالب فيه بإيقاف الحرب والكف عن إعاقة جهود بناء السلام والتحول الديمقراطي ليس من الحكمة ان يكون الخطاب الموجه لقيادات الجيش والدعم السريع "يا عسكر مافي حصانة يا المشنقة يا الزنزانة" لأن هذا الشعار سيدفعهم لالتماس الحصانة المستدامة في التمسك بجيوشهم كما هي وبسلطتهم المفروضة بقوة السلاح لانها الوحيدة التي توفر لهم الامان الشخصي، إقناع القوى التي تتقاتل بالكف عن القتال وكف اسلحتها عن عرقلة مساعي الانتقال الى مربع السلام والحكم المدني يتطلب الاستعداد لتحفيزها على ذلك بضمان مخرج آمن بعفو او حصانة او أي صيغة متوافق عليها، بشرط ان يتم كل ذلك في سياق إعادة هيكلة مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والعدلية في اتجاه لايسمح مجددا بانتهاكات حقوق الانسان والافلات من العقاب مستقبلا، وبشرط انفاذ العدالة الجنائية في الحق الخاص الذي لا يسقط بحصانة او عفو او تقادم، اذ يظل من حق الضحايا التقاضي محليا ودوليا عن حقهم الخاص ويجب إصحاح البيئة السياسية والقانونية لمساعدتهم على ذلك، وفي ذات الوقت نحتاج لخطاب سياسي يشجع على إعلاء روح المصالحة والتعافي طوعا واختيارا.
السودان لن يعيد اكتشاف العجلة في مجال العدالة الانتقالية، فالعالم حافل بتجارب لدول يشهد تاريخها وتوثق متاحفها أبشع جرائم القتل والتعذيب والمجازر الجماعية والتطهير العرقي(جنوب أفريقيا ورواندا مثلا)، ولكنها لم تحبس نفسها في الماضي واشترت المستقبل، ليس بنسيان الماضي بالكامل، بل بحسن إدراك الماضي الاليم واستخلاص الدروس الصحيحة منه، وعقد العزم على عدم تكرار مآسيه في المستقبل ، عقد العزم ليس بالكلام بل بحزمة من التدابير السياسية والقانونية والمؤسسية التي تضمن عدم تكرار ما حدث في الماضي مستقبلا، وابتداع آليات لكشف الحقائق والاعتذار والمصالحة وتمكين الضحايا من حق التقاضي بالفعل، وخلق مناخ سياسي وثقافي يشجع على التسامح والعفو.
حتى نظام روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية ، تنص المادة 16 منه على "إرجاء التحقيق او المقاضاة" لمدة اثني عشرة شهرا قابلة للتجديد (دون سقف لعدد المرات) بناء على طلب من مجلس الامن تحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، والمنطق الذي يسند هذه المادة هو ان مقتضيات السلام والاستقرار في بعض الحالات تقتضي تأجيل تنفيذ العدالة الى حين، ليس لأن العدالة ليست مطلوبة ومقدسة، ولكن لأن منطق العدالة نفسه يرتب الاولويات بحيث يجعل من تحقيق السلام الذي يوقف نزيف الدم ويوقف قتل وتشريد واغتصاب وتعذيب المزيد من الضحايا في الحاضر والمستقبل، مقدم على القصاص الفوري لضحايا الماضي. وبكل تأكيد لو كان القصاص الفوري متاحا فلن يتردد احد في تطبيقه، ولكن عندما تكون البلاد تحت وطأة حرب كحربنا هذه، يكون الوضع أشبه بوضع شخص له ابن تم قتله وابن اخر رهينة في قبضة القاتل الذي يهدد بقتل الابن الذي في قبضته لولم يسمح له بالفرار ، في هذه الحالة هل نطالب الاب بان يجعل عقاب المجرم مقدما على انقاذ حياة ابنه الوحيد المتبقي له؟!
الطريق الى لجم المزايدات
اول خطوة لهزيمة الغوغائية هي توطين العقلانية في مناقشة القضايا السياسية، وربط كل فكرة تطرح بنهاياتها المنطقية في سياق الواقع الماثل، فمثلا من يطرح الآن فكرة ان السلام يجب ان يكون مشروطا بالمحاسبة السياسية والجنائية لطرفي الحرب ممثلين في قيادات الدعم السريع والجيش، فيجب ان يسأل عن تصوره العملي لتحقيق ذلك، المحاسبة السياسية والجنائية لقيادات جيوش جرارة كهذه مهما كانت درجة صوابها الاخلاقي فإنها غير متاحة في سياقنا، لأننا لا نملك قوة عسكرية كاسحة كي نراهن عليها في فرض "عدالة المنتصر" وإصدار حكم فوري بحل قوات الدعم السريع وحكم اخر بحل الجيش ومحاكمات فورية تعلق القيادات على المشانق ! والسؤال المهم هل "عدالة المنتصر" دائما تحقق السلام والديمقراطية؟ في العراق مثلا، عندما نفذت الولايات المتحدة الأمريكية قرار حل الجيش العراقي بالقوة وأعدمت صدام حسين وابرز رموز نظامه ، انخرطت عناصر الجيش المحلول في تكوين مليشيات ارهابية احالت حياة العراقيين الى جحيم جعلهم يشتاقون الى ايام صدام حسين!
آفة الخطاب السياسي في السودان بعد الثورة هو استسهال المزايدات الثورية في مجال العدالة وعدم الاستعداد لتفهم تعقيدات الواقع والقفز الى اصدار حكم تجريمي على كل من يتحسس الواقع ويحاول ايجاد حلول معقولة واتهامه بانه يفعل ذلك من باب التواطؤ مع المجرمين ومساعدتهم على الافلات من العقاب، في حين ان هناك تنازلات ومساومات يفرضها الواقع لصالح السلام والاستقرار وكف ايدي المجرمين عن سفك مزيد من الدماء وازهاق مزيد من الارواح.
العامل الحاسم في لجم المزايدات هو الشفافية في إدارة ملف العدالة، وان يكون ثمن أي تنازلات يتم تقديمها للقيادات المسؤولة عن الانتهاكات هو دفع استحقاقات السلام والاصلاحات الجوهرية للدولة بشكل يضمن عدم تكرار الانتهاكات، ورد الاعتبار للضحايا بكشف الحقائق كاملة وارساء نموذج حقيقي للعدالة الانتقالية، بمعنى البعد كل البعد عن تمييع قضية العدالة لأنها من مقتضيات السلام والاستقرار وكذلك البعد عن الخفة والاستسهال لموضوع العدالة وافتراض انها تحقيقها ممكن بين عشية وضحاها، ففي ظل الخراب الشامل في الدولة السودانية ومن اهم المؤسسات التي طالها الخراب وفقدت تأهيلها الفني والاخلاقي هي المؤسسات العدلية من قضاء ونيابة عامة، ودون اعادة بناء لهذه المؤسسات في سياق التأسيس الجديد للدولة السودانية لن يكون بالإمكان انفاذ أي عدالة، وفي ظل واقع كهذا سنجد انفسنا مطالبين ليس فقط بتسليم المطلوبين لمحكمة الجنايات الدولية بل سنحتاج لامحالة كثير من قضايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لهذه المحكمة.
إن الأشواق الثورية النبيلة للعدالة والحرية ، لن تتحقق بمجرد الهتاف والمزايدات المدفوعة بروح المنافسة السياسية أو الأجندة التخريبية التي تهدف لتقسيم صف التغيير على اساس الطهرانية الثورية. بل تحقق بعسر مخاض في الجهد والزمن، لا نملك سوى ضبط بوصلتنا الفكرية والسياسية والاخلاقية في الاتجاه الصحيح ثم نسرع الخطى صوبه ما استطعنا.  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: ان یکون فی سیاق

إقرأ أيضاً:

الخارجية : سورية تؤكد على أن إمعان هذا الكيان الغاصب بالاستهتار المنقطع النظير بالقوانين الدولية، وعدم اكتراثه بكل المطالبات الدولية لوقف عدوانه وانتهاكاته، يأتي جراء عدم اتخاذ مجلس الأمن لموقف حازم وحقيقي لردعه عن جرائمه، التي شملت أيضاً الاعتداء على قوا

2024-11-14SAMERسابق الخارجية : استمرار الكيان الإسرائيلي اليوم في اعتداءاته على سورية يأتي بعد يومين فقط من صدور إدانة واسعة عن القمة العربية – الإسلامية المشتركة في الرياض لعدوانه الغاشم والمتصاعد على الأراضي السورية ،وتحذيرها من خطورة هذا التصعيد الذي يعصف بالمنطقة وما له من تبعات إقليمية ودوليةالتالي وحدة الدفاع الجوي في المقاومة اللبنانية تسقط طائرة مسيّرة للعدو الإسرائيلي من نوع “هرمز 450” في أجواء القطاع الشرقي بصاروخ أرض جو انظر ايضاًفي اليوم العالمي للسكري… أهمية زيادة الوعي وتحسين الوقاية وتعزيز عافية ‏المرضى

‏‏دمشق-سانا ‏ يتيح اليوم العالمي للسكري والذي يحتفل به سنويا في الـ 14 من تشرين

آخر الأخبار 2024-11-14وزارة الخارجية : سورية تدين الجرائم الوحشية التي يرتكبها الكيان الصهيوني والتي سقط ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى من المدنيين 2024-11-14الحرارة أعلى من معدلاتها غداً وأجواء باردة ليلاً ‏ 2024-11-14في معمل زيوت النيرب بحلب… عصر 2700 طن من بذور القطن 2024-11-14الرئيس الأسد يلتقي لاريجاني والمباحثات تتناول التطورات في المنطقة والعلاقات الثنائية 2024-11-14البدء بأعمال صيانة وإصلاح الطرق المتضررة جراء العدوان الإسرائيلي في القصير بريف حمص 2024-11-14نقل طرطوس تبدأ بتركيب لوحات جديدة للمركبات ‏ 2024-11-14الرئيس الأسد يصدر ثلاثة قوانين تسهم في تطوير آليات العمل بالقطاع السياحي 2024-11-14بوريل يقترح تعليق الحوار السياسي بين الاتحاد الأوروبي و”إسرائيل” بسبب استمرار مجازرها في غزة 2024-11-14برعاية الرئيس الأسد… تخريج دفعة جديدة من طلبة الكلية الجوية بمعاهدها الثلاثة 2024-11-14الجلالي خلال لقائه اتحاد غرف الصناعة: القطاع الصناعي الخاص شريك حقيقي في الاقتصاد الوطني

مراسيم وقوانين الرئيس الأسد يصدر ثلاثة قوانين تسهم في تطوير آليات العمل بالقطاع السياحي 2024-11-14 الرئيس الأسد يصدر مرسوماً بتنفيذ عقوبة العزل بحق قاضية في النياية العامة التمييزية 2024-11-02 مرسوم بتحديد الـ 7 من كانون الأول القادم موعداً لإجراء انتخابات تشريعية لمقعدين شاغرين في دائرتي حلب وطرطوس 2024-11-02الأحداث على حقيقتها عدوان إسرائيلي يستهدف جسوراً وطرقات على الحدود مع لبنان بريف حمص 2024-11-13 تدمير عشر طائرات مسيرة للتنظيمات الإرهابية بريفي حلب وإدلب- فيديو 2024-10-30صور من سورية منوعات انبعاثات الكربون العالمية تصل إلى مستوى قياسي خلال العام الجاري 2024-11-13 دعوى قضائية ضد ميتا تتعلق باستحواذها على “إنستغرام” و”واتساب” 2024-11-13فرص عمل الخارجية تعلن عن برنامج تدريب المقبولين للتقدم إلى المرحلة الثالثة من مسابقتها 2024-11-06 التعليم العالي تسمح للجامعات الخاصة فتح التسجيل المباشر لملء الشواغر في كلياتها 2024-11-04الصحافة ما بين المفهوم والهوية.. بقلم: أ. د بثينة شعبان 2024-11-11 أميركا والاستثمار بالإرهاب.. بقلم: شعبان أحمد 2024-11-09حدث في مثل هذا اليوم 2024-11-1414 تشرين الأول 1908- عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين يعلن عن نظرية كمية الضوء 2024-11-1313 تشرين الثاني 1935- اندلاع انتفاضة شعبية في مصر ضد الاحتلال البريطاني والحكومة التي يرأسها محمد توفيق نسيم باشا 2024-11-1212 تشرين الثاني 1847 – الطبيب البريطاني جيمس يانج سيمبسون يستخدم الكلوروفورم في التخدير لأول مرة في التاريخ 2024-11-1111 تشرين الثاني 1918 – انتهاء الحرب العالمية الأولى بالهدنة التي وقعتها ألمانيا مع قوات الحلفاء 2024-11-1010تشرين الأول 1975 – رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات يلقي كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في مقرها بمدينة نيويورك لأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية 2024-11-099 تشرين الثاني 2005- تفجيرات إرهابية تهز فنادق في العاصمة الأردنية عمّان.
مواقع صديقة أسعار العملات رسائل سانا هيئة التحرير اتصل بنا للإعلان على موقعنا
Powered by sana | Designed by team to develop the softwarethemetf © Copyright 2024, All Rights Reserved

مقالات مشابهة

  • الخارجية : سورية تؤكد على أن إمعان هذا الكيان الغاصب بالاستهتار المنقطع النظير بالقوانين الدولية، وعدم اكتراثه بكل المطالبات الدولية لوقف عدوانه وانتهاكاته، يأتي جراء عدم اتخاذ مجلس الأمن لموقف حازم وحقيقي لردعه عن جرائمه، التي شملت أيضاً الاعتداء على قوا
  • باحث في العلاقات الدولية لـ«الأسبوع»: «مايك هاكابي» ينفذ الأجندة الأمريكية التي تخدم إسرائيل
  • تقارب مصري تركي حول ليبيا: مشاورات لتعزيز السلام ودعم العملية السياسية
  • رئيس محلية «النواب»: يجب أن يكون هناك حد أدنى للقيمة الإيجارية لكي تتحقق العدالة
  • طرح 8521 قطعة أرض سكنية في 20 مدينة جديدة.. طريقة التقديم وشراء كراسات الشروط
  • ماعدد المنازل التي بيعت في أكتوبر الماضي بتركيا؟
  • أكثر حزب يثق الأتراك في قدرته على حل المشكلات السياسية
  • السهلي: ستختفي مراكز التحكيم في المستقبل واتصالات العقود التي توقع في الملعب .. فيديو
  • ما الذي نعرفه عن المقاتلات الأمريكية التي تقصف الحوثيين لأول مرة؟
  • ورشة تدريبية حول مفاهيم العدالة الانتقالية بحافظة مأرب