د. نائلة تلس محاجنة نشأتُ من رحم امي الاميّة التي لا تستطيع سوى رسم اسمها حين يطلب منها التوقيع، لكنها كانت تحترق الماً يومياَ وتقص علي قصصها مع حياة الماضي، وكيف ان والدها حرمها من ان تتعلم في المدرسة تعصبا منه بحجة التعلم مع “الذكور” حينها مع بداية الخمسينات من القرن الماضي وفي اول مدرسة في ام الفحم التي أقيمت في العهد البريطاني من العام 1925.
وعلى أثر هذه الحكايات، شهدت امي الابية كيف كانت تتغزل بالكتب والمكتبة في بيتنا، تحملها وتنظفها وتتأمل صفحاتها التي لطالما حلمت في ان تقرأ منها، وهيهات فقد اكتفت بمداعبة صور الاغلفة والصفحات، فزرعت في نفسي قيمة هذه الكتب والروايات والادب برغم عدم قدرتها على فك حروفها، وهذا ما اخترق جوارحي حين كنت بالحادية عشر اقرأ “بين القصرين” وفي بيتنا رجل” وارتبط حبلي السري في مغامرة بين القلب والعقل وحب اللغة والقراءة والكتب. ومع عصر الابتكارات التكنولوجية المتسارعة والسحر البصري لوسائل الإعلام المتعددة، قد يظن البعض أن القراءة قد فقدت بريقها وتلاشت أهميتها في حياتنا المعاصرة. ومع ذلك، إذا ألقينا نظرة عبر التاريخ البشري وثقافاته المتعددة، سنكتشف أن القراءة لم تكن مجرد نافذة إلى
المعرفة بل كانت حجر الزاوية الذي شيدت عليه الحضارات بأكملها. تعد القراءة عبر الحضارات من أبرز العوامل التي ساهمت في تقدم البشرية. فمنذ القدم، استخدم الناس الكتب والمخطوطات لنقل المعرفة والخبرات وتوثيق التاريخ. فقد شهدت العديد من الحضارات العريقة مثل الحضارة الإغريقية والحضارة العربية والإسلامية والحضارة الصينية ازدهاراً ثقافياً كبيراً بفضل القراءة. ومن بين سدود ظلام العصور الماضية، انبثقت الحكمة والعقل من رحم الكتب، حيث أسس المفكرون والفلاسفة قواعدهم الفكرية والأخلاقية بالاستناد إلى النصوص المقدسة والمؤلفات الفلسفية. ومن خلال القراءة المتأملة والتأمل المستنير، تم تشكيل العقول وتغذية الأرواح واكتساب المعرفة العميقة. اذ ان أفلاطون، الطالب المشهور لسقراط، ألف العديد من الأعمال المكتوبة التي تحتوي على مفاهيم فلسفية عميقة. وفي أعماله، أكد على أهمية الدراسة والبحث والتعلم، ووضع القراءة والانغماس في العلوم والفلسفة كطريقة لتحقيق الحقيقة والفهم العميق، اما أرسطو، الفيلسوف اليوناني الآخر وتلميذ أفلاطون، كان يشدد على أهمية القراءة والتعلم المستمر لتطوير القدرات العقلية والمعرفية. وضع نظرياته الفلسفية في مجالات متعددة مثل المنطق والأخلاق والسياسة والعلوم الطبيعية، وعزز فكرة أن القراءة والدراسة هي أدوات أساسية لتحقيق التقدم والتطور. إن الكتب هي كنوز تحتضن أفكار العباقرة وتجارب الشعوب. قد تبدو مجرد ورق وحبر، لكنها تحمل قوة لا تُضاهى في تحويل الأفكار إلى أفعال وتغيير العالم. ففي صفحاتها الملونة، تتجسد الثورات والتغييرات الاجتماعية والاكتشافات العلمية. إنها بوابة الى عوالم مدهشة وأفق مفتوح للإبداع والتخيل. حيث قال الفيلسوف العربي الأندلسي ابن باجة: “الكتب هي أصدق الأصدقاء وأوفى الأوفياء، ففيها تجد العلم والمعرفة والإلهام” ولا شك ان في هذا العالم الرقمي المليء بالتشتت والسرعة، فيه تتحول القراءة إلى وسيلة للتأمل والتركيز. إنها فرصة للانغماس في عوالم مختلفة، وتوسع الأفق الفكري والشبكات الذهنية والمعرفية. وقد أشار الفيلسوف العربي الأندلسي ابن خلدون إلى أهمية القراءة في تنمية الفكر والثقافة قائلاً: “القراءة هي الغذاء الروحي الذي يمد العقل بالحكمة والمعرفة”. وإذا ما امهلنا أنفسنا للحظة وسحبنا أنفاسنا من صخب الحياة اليومية، نجد في الكتب صديقًا مخلصًا ومعلمًا حكيمًا يقودنا نحو الحقائق العميقة والمعرفة الأبدية. فالقراءة هي الرافد الاساسي للتعلم والتنمية الشخصية، وهي المفتاح الذي يفتح لنا أبواب المعرفة والفهم العميق. إنها رحلة استكشافية تأخذنا إلى عوالم جديدة، تفتح أمامنا آفاقاً متعددة وتعزز قدراتنا العقلية والابتكارية. من خلال القراءة، تتشعب مخيلتنا ونزيد من معرفتنا وثقافتنا، ونفتح آفاقاً جديدة تساهم في تشكيل آراءنا وتوسيع آفاقنا التبصرية. تمثل القراءة جسراً ثقافياً بين الأجيال، حيث يتم تمرير المعرفة والقيم من جيل إلى جيل. وهي وسيلة لنقل التراث الثقافي والأدبي، وبفضلها يمكننا الاستفادة من تجارب الآخرين وتعظيم إمكاناتنا الذهنية. إن قراءة الكلاسيكيات الأدبية والفلسفية تساعدنا على فهم التطور الحضاري للبشرية وترسيخ القيم الجمالية والأخلاقية في نفوسنا. بالإضافة إلى ذلك، ترسي وتمتّن القراءة القدرة على التفكير النقدي والتحليل، وتطور مهارات الاستيعاب والتركيز. فعندما نقرأ، نضع أنفسنا في موقف الباحثين والمستكشفين، نتعلم كيفية استيعاب المعلومات وتحليلها وتقييمها. وهذه المهارات العقلية الناتجة عن القراءة تنعكس إيجاباً على ممارسات حياتنا الشخصية والمهنية. دعونا نقر بكل يقين أن القراءة هي مفتاح سرّ العظمة والتفوق، وكنز من خلاله تولّد شعلة الفكر وتغذّي نار التجدد والتبصر. بوصفها أداة القراءة، نرتقي لمستويات أعلى من الوعي والتفهّم، ونكتسب القوّة لتأثير على الواقع وبناء مستقبلٍ يليق بنا. في عالم الكتب، نغوص في رحلة استنباطية لا تعرف حدوداً زمانية أو مكانية. فتاريخ وحضارات تتجلى أمامنا، وأفكار وآراء تخطف الأنفاس تتراوح من الكلاسيكيات العتيقة إلى الأعمال العصرية الجريئة. هذه الرحلة المدهشة هي ما يمنحنا المفتاح الرئيسي لتحقيق النجاح والتميّز في حياتنا. فلنتحدى الحدود ولنرتقي بأنفسنا من خلال صفحات الكتب، ولنتحول إلى روادٍ يتسلحون بسلاح العلم والمعرفة، فحينها سنكون قادرين على التغيير وبناء مستقبلٍ أفضل وأكثر إشراقاً. ولنتذكر ونذكر صغارنا دوماً أن القراءة ليست مجرد هواية تسلية بل هي عبورٌ جريء نحو أفق التعلم والتنور. فهي كنز يمكننا استغلاله بأساليب بليغة وبلاغة فائقة. لنطورِ قدراتنا اللغوية ونتألق بأفكارنا الجريئة، لتصبح الكتب شهوداً على إبداعاتنا ومصدر إلهام للعالم من حولنا. فلنمسك بقلم القراءة بقوة، ولنغوص في بحار الكتب بشغف وشجاعة. ففي دفء الصفحات وأبجديات الأحرف، يتجلى أمامنا استعراض حكمة العصور وجمال الأفكار. وعندما نعيش واقع الكتب ونتنفس هواء أفكارها، سندرك أن القراءة هي السرّ الأعظم للتحكم في مصيرنا وبناء حضارتنا. فبيوتنا التي فقدناها ولم يبقى سوى مفاتيحها يحملها الأجداد فان على الاجيال القادمة ان تحمل بفخر مفتاح القراءة والعلم، لنتحلى بروح المغامر والباحث، ونعيش حياة لا تعرف القيود والتقييدات. لنضع بصمتنا على صفحات التاريخ ونصبح جزءاً لا يتجزأ من حضارتنا، فالقراءة هي النهج الذي يشقّ لنا طريق الى ارتقاء الأوطان. ولنتأهب للمغامرة العظيمة في عوالم القراءة، حيث تكمن حكمة الأجداد وروعة الأفكار الحديثة، ولنستعد لأن نكون استنارة تضيء طريق العالم من حولنا لنشِهد التاريخ على آثارنا. كاتبة فلسطينية
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
هل المعرفة متاحة للجميع في العراق؟
1 فبراير، 2025
بغداد/المسلة: انوار داود الخفاجي
المعرفة هي حجر الأساس في تطور أي مجتمع، فهي تفتح الأبواب أمام الفرص الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والسياسية. في العراق، الذي يمتلك تاريخًا طويلًا من الحضارات العريقة التي أسهمت في إنتاج المعرفة الإنسانية، تظل قضية إتاحة المعرفة للجميع موضع تساؤل. فهل يتمتع جميع العراقيين بإمكانية الوصول إلى المعرفة بشكل متساوٍ؟
يعتبر التعليم الوسيلة الأساسية لنقل المعرفة وتعميمها، لكن في العراق، يواجه النظام التعليمي تحديات كبيرة تعيق وصول الجميع إلى المعرفة. تعاني المدارس والجامعات من ضعف البنية التحتية، ونقص التمويل، وتفاوت جودة التعليم بين المناطق الحضرية والريفية. فبينما يستطيع طلاب بغداد أو أربيل الوصول إلى مدارس وجامعات أفضل نسبيًا، يواجه الطلاب في المناطق النائية أو التي تضررت بسبب النزاعات صعوبات في الحصول على تعليم لائق.
إضافة إلى ذلك، فإن الفجوة الرقمية تلعب دورًا مهمًا في مدى إتاحة المعرفة. فرغم انتشار الإنترنت في المدن الكبرى، إلا أن العديد من المناطق الريفية ما زالت تفتقر إلى اتصال جيد بالشبكة، مما يحرم سكانها من الوصول إلى المصادر التعليمية الإلكترونية والبحث العلمي.
كما لعبت الأوضاع السياسية غير المستقرة والاقتصادية المتدهورة دورًا كبيرًا في تقييد انتشار المعرفة في العراق. فقد أثرت الحروب والصراعات المتكررة على المؤسسات التعليمية والثقافية، وتسببت في هجرة الكفاءات العلمية والأكاديمية، مما أدى إلى تراجع مستوى البحث العلمي والإنتاج المعرفي المحلي.
وايضا التحديات الاقتصادية دفعت العديد من الأسر إلى التركيز على تأمين الاحتياجات الأساسية بدلًا من الاستثمار في التعليم، مما يزيد من معدلات التسرب المدرسي، خاصة بين الفئات الفقيرة. وهذا بدوره يؤثر على قدرة المجتمع على الوصول إلى المعرفة والاستفادة منها.
وبرغم وجود مؤسسات أكاديمية ومراكز بحثية، فإن حرية الوصول إلى المعلومات في العراق ليست مضمونة بالكامل. إذ يواجه الباحثون والصحفيون أحيانًا صعوبات في الوصول إلى مصادر المعرفة بسبب الرقابة أو القيود المفروضة على تداول المعلومات.
إضافة إلى ذلك، تعاني المكتبات العامة من الإهمال، مما يقلل من فرص الأفراد في الوصول إلى الكتب والمواد البحثية. وحتى مع توفر الإنترنت، فإن نقص المحتوى الرقمي المحلي وضعف ثقافة البحث العلمي تحدّ من قدرة العراقيين على الاستفادة الكاملة من المعرفة المتاحة عالميًا.
ورغم التحديات، هناك مبادرات تهدف إلى توسيع نطاق المعرفة في العراق. فقد بدأت بعض المؤسسات التعليمية في تطبيق التعليم الإلكتروني، وهناك جهود لدعم المكتبات الرقمية والمصادر المفتوحة. كما أن المجتمع المدني يلعب دورًا متزايدًا في تعزيز المعرفة من خلال ورش العمل، والمنتديات الثقافية، والمبادرات الشبابية التي تسعى إلى نشر الوعي والتعليم.
في المجمل، لا تزال المعرفة في العراق غير متاحة للجميع بشكل متساوٍ، حيث تؤثر العوامل الاقتصادية، والسياسية، والتكنولوجية، والتعليمية على إمكانية الوصول إليها. ومع ذلك، فإن هناك جهودًا تُبذل لتقليص الفجوة، ويظل الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا والسياسات الداعمة للمعرفة هو الحل الأمثل لضمان وصول الجميع إليها.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author moh moh
See author's posts