تُعتبر فرنسا موطناً لأكبر الجاليات العربية والإسلامية واليهودية في أوروبا، وهو ما يشكل ثروة ثقافية في نظر الكثيرين تعكس تاريخها الممتد لقرون عديدة كأرض للترحيب والهجرة، لكنها تمثل كذلك خطراً في نظر آخرين يتمثل هذه الأيام في رؤية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي ينتقل إلى البلاد.
والخطر ليس جديداً بالتأكيد، لكنه ازداد حدّة على نحو غير مسبوق منذ يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، بعد هجوم حركة حماس المُفاجئ في محيط قطاع غزة.
وانقسمت الأغلبية الرئاسية بسبب الصراع الدائر في الشرق الأوسط، إذ وبينما تحرص السلطة التنفيذية على الحفاظ على خط التوازن بين دعم إسرائيل والدعوة إلى هدنة إنسانية، يسعى المسؤولون المنتخبون من معسكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تحرير أنفسهم من الموقف الرسمي، وسط مخاوف من أن تؤدي هذه الاختلافات إلى اضطرابات داخلية، وذلك بينما تبدو الدبلوماسية الفرنسية منزعجة من خيارات ماكرون بشأن الشرق الأوسط.
وتُشير الكاتبة الفرنسية ناتالي سيغونيس، إلى أن ماكرون وحرصاً منه على عدم استيراد الحرب بين إسرائيل وحماس إلى بلاده، يحذر من أن الصراع في غزة قد يمزق معسكره.. وفي حين سعى رئيس الدولة إلى الحفاظ على موقف متوازن بين التضامن مع إسرائيل والمساعدات الإنسانية لسكان غزة، فقد كانت فرنسا من بين دول الغرب القليلة التي وافقت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 أكتوبر (تشرين الأول) الذي قدمته المجموعة العربية ويدعو إلى وقف إطلاق النار، مواصلاً دعوته إلى هدنة إنسانية فورية بين حماس وإسرائيل، وذلك مقابل عدم رضا من بعض الفاعلين في الأغلبية الرئاسية الذي يُريدون الدعم المستمر لإسرائيل، فيما الدبلوماسية الفرنسية ووزارة الخارجية لا يتم استشارتها في كثير من قرارات الرئيس الفرنسي.
تزعزع الوحدة الوطنيةمن جهته يحذر فيليب برنارد، الكاتب والمحلل السياسي في صحيفة "لو موند"، من خطر رؤية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ينتقل إلى دولة مجزأة بالفعل، ما قد يؤدي إلى زيادة تأجيج معاداة السامية وتنامي مشاعر العنصرية في فرنسا.. وبنظره فإن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 في الولايات المتحدة، ثم الصراعات في العراق وسوريا، نجم عنهما تفاقم الإحباط والاستياء إلى حد نشوء الجهادية الفرنسية.
ويرى برنارد أن استبدال الهويات الدينية بالمرجعيات الاجتماعية، وصعود الإسلاموية، وبالتوازي مع معاداة السامية التي تم إنكارها منذ فترة طويلة، وغموض معاداة الصهيونية في سياق العزلة الحضرية والفشل الجزئي للوعد الجمهوري بالمساواة، كل ذلك أدى إلى تفاقم المشكلة، وإلى تأجيج أزمة العلمانية وتفكك الأحزاب اليسارية والجمعيات المناهضة للعنصرية.. وعلى خلفية التوترات المدرسية والحضرية، أثارت السلسلة التي لا نهاية لها من الهجمات الأيديولوجية الجهادية، التي استهدف بعضها اليهود في فرنسا، انعكاساً لتزعزع الوحدة الوطنية، وأدت إلى تفاقم الانقسامات والمخاوف.
وعلى هذا تبدو فرنسا المتسامحة اليوم مجزأة ومكشوفة، وهي تواجه منذ أسابيع صدمة الهجوم غير المسبوق الذي شنته حماس على إسرائيل.. وبالنسبة ليهود فرنسا، فإن الصدمة ذات شقين: فهي لا تؤدي فقط إلى إيقاظ المنطق العنصري للمحرقة وتهز مكانة إسرائيل كدولة ملجأ آمن، ولكنها تثير اندلاع أعمال معادية للسامية.. وأما بالنسبة للعرب في فرنسا، فإن طوفان صور ضحايا القصف الإسرائيلي على غزة لا يمكن إلا أن يثير القلق والغضب الشديدين.
حرب #غزة تحرم 300 ألف طفل من التعليم https://t.co/o4nkUC8gd3 pic.twitter.com/YP4YjH2u9E
— 24.ae (@20fourMedia) November 8, 2023بدورها تنقل "اللو موند" عن يهود فرنسا تأكيدهم أنهم ليسوا مسؤولين عن السياسة الإسرائيلية وعن الانتهاكات التي ترتكبها حكومة يمينية في إسرائيل، أكثر من مسؤولية عرب فرنسا عن هجوم حماس.. مشيرة إلى وجوب إدانة هجوم حركة حماس والقصف الإسرائيلي على حد سواء من قبل رجال الدين والفكر والمثقفين من الجانبين العربي واليهودي في فرنسا على حد سواء، والتعبير عن مشاعرهم تجاه القتلى من كافة الأطراف.
وفي هذا الصدد يدعو برنارد إلى عدم حبس الجميع في آلامهم الخاصة، والتقليل في الوقت ذاته من آلام الآخرين، الأمر الذي يشجع بالتالي على استيراد الصراع إلى فرنسا وتجاهل تنوع الهويات الدينية أو الثقافية الفردية ووجهات النظر العامة والمحايدة.
صورة فرنسا ومكانتها!وبينما يرفض زعيم اليسار الفرنسي والمرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلينشون، الاعتراف بما يتم وصفه من قبل اليمين بالجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، ويحشد حوله غالبية مسلمي فرنسا، فإنه بالتالي بنظر المحللين السياسيين يمنح المصداقية للشكوك حول التعاطف المعمم مع الإرهاب والارتباط الميكانيكي بين الهجرة والإسلاموية.
ولكن بالمقابل فإن ما تفعله مارين لوبان زعيمة اليمين الفرنسي ضمناً هو العمل تحت غطاء الدفاع غير المشروط عن إسرائيل، وهو ما يفاقم كذلك جذوة العنصرية المعادية للعرب.
وللآن فإن التوترات والانقسامات الداخلية في فرنسا على المستوى الحكومي تبدو سرية، ولم يتم التعبير عنها بشكل علني، ولكنها حقيقية جداً.. ويثير موقف ماكرون في الحرب بين إسرائيل وحماس الانزعاج، بل وحتى التحفظات القوية داخل الجهاز الدبلوماسي الفرنسي.
#ماكرون يحذّر إسرائيل من عملية برية "واسعة" في #غزة https://t.co/z2TSxkaFAj
— 24.ae (@20fourMedia) October 25, 2023ومن بين هؤلاء الأكثر أهمية فريق مديرية شمال إفريقيا والشرق الأوسط في وزارة الخارجية، وهم الأكثر تواصلاً مع دول المنطقة، وغالباً ما يطلق عليهم لقب "الشارع العربي" داخل الحكومة، ويزداد إحباطهم حدة لأن الصراع يغذي داخلياً الانقسام التقليدي مع أنصار الخط الغربي المؤيد لإسرائيل.. ويشعر العشرات من الدبلوماسيين بالقلق إزاء الدعم غير المشروط لإسرائيل، وهم يخشون من التأثير العميق على صورة فرنسا وأمنها في السنوات القادمة، محذرين من أن ما يحدث الآن سوف يصب في مصلحة روسيا وتركيا.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة غزة وإسرائيل فرنسا معاداة السامية الإسلاموفوبيا فی فرنسا
إقرأ أيضاً:
صحيفة تركية: فطاني التايلندية ساحة الحرب التي لا يراها أحد
سلط كاتب في مقال بصحيفة ستار التركية الأضواء على التمييز العنصري، والاضطهاد، والفقر والمحاكمات الجائرة والتذويب الثقافي الذي يعاني منه مسلمو جنوب تايلند.
ويقول الكاتب إسماعيل شاهين في المقال إن المحاولات القسرية لانتزاع الهوية القومية لأقلية عرقية ودينية عادة ما يكون لها صدى في المحافل الدولية وتحركات دبلوماسية للحد منها، غير أن الوضع في إقليم فطاني المسلم جنوب تايلند بالكاد يشق طريقه إلى مسامع المجتمع الدولي والرأي العام.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2إعلام إسرائيلي: إعلان حماس بشأن الاتفاق نتيجة مباشرة لسلوك نتنياهوlist 2 of 2تلغراف: قادة إيرانيون يطالبون خامنئي بإلغاء فتواه ضد الأسلحة النوويةend of listويرى شاهين أن ما يحصل في إقليم فطاني ليس مسألة أمنية فقط، بل هو قضية هوية وتمثيل سياسي والمطالبة بحكم ذاتي، غير أن أحداث الشرق الأوسط في هذا الوقت تحول دون تسليط الأضواء الكافية على هذا الإقليم بالإعلام العالمي.
ويوضح الكاتب أن ولايات فطاني ويالا وناراتيوات بجنوب تايلند تعاني من صراع مستمر منذ سنوات. كما أن غياب التنافس الدولي المباشر في تلك الدولة وصورة الأزمة كقضية داخلية يسهم في بقائها خارج الأضواء الإعلامية.
المنطقة الواقعة في شمال ماليزيا وجنوب تايلند، والتي كانت تُعرف سابقا بسلطنة فطاني، تشمل اليوم ولايات فطاني ويالا وناراتيوات، وتتميز بهوية ثقافية ملايوية مختلفة عن باقي تايلند بسبب طابعها العرقي والديني.
إعلانكما أن أكثر من مليون مسلم من سكانها هاجروا إلى دول عدة، خصوصا ماليزيا، نتيجة العنف والاضطهاد والفقر والمحاكمات الجائرة وسياسات التذويب الثقافي.
ويسرد الكاتب شيئا من تاريخ الصراع قائلا إن سلطنة فطاني، التي كانت في السابق كيانا مستقلا، أُلحقت قسرا بسيام (الاسم السابق لتايلند) عام 1906، دون منحها أي شكل من أشكال الحكم الذاتي. ونتيجة لذلك، تحول المسلمون في المنطقة من أغلبية إلى أقلية على أراضيهم.
ومنذ ذلك الحين، تبنت سيام سياسة تهدف إلى تذويب هوية المنطقة ضمن هويتها الوطنية، حيث تم حظر اللغة الملايوية-الفطانية، وتقييد المؤسسات التعليمية الإسلامية، وفرض سياسات قمعية تهدف إلى دمج المنطقة قسرا في الثقافة التايلندية. إلا أن هذه السياسات لم تؤدِّ إلى النتائج المرجوة، بل عززت وعي سكان فطاني بهويتهم.
ويشير الكاتب إلى أن تايلند، التي أصبحت منذ عام 1932 ملكية دستورية، تبنت الأنظمة العسكرية فيها نموذجا للدولة الموحدة والمركزية قائما على "الأمة، الملكية والدين".
وقد تم تعريف "الأمة" بالأغلبية التايلندية، و"الملكية" بسلالة تشاكري، و"الدين" بالبوذية التيرافادية. وشكلت هذه العناصر الثلاثة أساس الهوية الوطنية التي اعتمدتها الدولة لضمان ولاء الشعب للنظام والنخب الحاكمة.
توحيد قسريوفرضت الأنظمة التي توالت على حكم تايلند سياسات تهدف إلى توحيد الدولة عرقيا وثقافيا، حيث أُجبر السكان على استخدام اللغة التايلندية، وتم التركيز على التعاليم البوذية في النظام التعليمي، وأُقر مبدأ قداسة الملك دستوريا.
ولجأت الحكومات إلى إعلان الأحكام العرفية، وتقييد حرية التعبير، وقمع المعارضة للحفاظ على شرعية الملكية. ومن أبرز أدواتها قانون "العيب في الذات الملكية"، الذي كان وسيلة لتعزيز حصانة المؤسسة الملكية ومنع أي انتقاد لها.
إعلانويرى الكاتب أن مسلمي الملايو في جنوب تايلند، خاصة في مناطق فطاني ويالا وناراتيوات، تضرروا بشكل كبير من سياسات الدولة التايلندية التي رفضت الاعتراف بلغتهم ودينهم وفرضت المناهج البوذية في المدارس.
وفي رد فعل على هذه السياسات، ظهرت حركات مسلحة تطالب بالحكم الذاتي أو الاستقلال، مثل "منظمة تحرير فطاني المتحدة" (PULO) و"جبهة الثورة الوطنية" (BRN).
ويؤكد الكاتب أن هذه الحركات كانت تركز على الحفاظ على الهوية المحلية ولم ترتبط بالجماعات الجهادية العالمية. وعلى الرغم من تصنيفها منظمات إرهابية من قبل الدولة التايلندية، فإن المجتمع الدولي يتعامل معها كصراع عرقي وديني محلي.
وعلى الرغم من أن حركات المقاومة في فطاني فقدت تأثيرها في التسعينيات بسبب ضغوط الأمن التايلندي، وسياسات الاندماج، والانقسامات الداخلية في المنظمات، أعادت بعض الجماعات مثل "جبهة الثورة الوطنية" إحياء النضال المسلح في 2004 ضد قوات الأمن التايلندية.
ويشير الكاتب إلى أن سياسات الاندماج تحت حكم رئيس الوزراء تاكسين شيناواترا في 2001 زادت بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، حيث اعتُبرت المدارس الإسلامية في فطاني مراكز للتطرف، مما أدى إلى تصعيد القمع. وأسفرت الفترة بين 2004 و2019 عن مقتل أكثر من 7 آلاف شخص في هجمات عنيفة بمناطق يالا وفطاني وناراتيوات.
حرب باردةويقول الكاتب إن الوضع في فطاني اليوم يشبه الحرب الباردة، حيث تزايدت الضغوط الأمنية التي تفرضها الدولة ما أدى إلى تفاقم التوترات بين الشعب الذي يسعى للحفاظ على هويته الملايوية الإسلامية والسياسات التايلندية الهادفة إلى الاندماج الثقافي، وسط عدم اهتمام دولي وغض الطرف عن الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، والنظر إلى تايلند عادة على أنها "قوة مستقرة".
إعلانويضيف الكاتب أن ماليزيا قد بدأت منذ 2013 في استضافة المحادثات بين الفصائل الفطانية والحكومة التايلندية، حيث تمكّنت المحادثات في 2020 من الحصول على طابع رسمي. ورغم أن الطريق لا يزال صعبا، فإن هناك رغبة من الطرفين في التوصل إلى اتفاق.
ويرى الكاتب أن اعتذار رئيس الوزراء التايلندي في أكتوبر/تشرين الأول 2024 عن مذبحة "تاك باي" التي راح ضحيتها 78 مسلما يعد خطوة مشجعة نحو تحقيق السلام. وقد تشير الموافقة على خطة "السلام الشامل" إلى تقدم مهم نحو التوصل إلى حلول سياسية وتقليص العنف.