ممالك الضواحي.. لماذا تقتل الشرطة الفرنسية أبناء المهاجرين؟
تاريخ النشر: 4th, July 2023 GMT
كان توتر الأجواء باديا في ذلك الصباح المشمس على غير العادة، خرجتُ من المنزل لبدء يومي فاستوقفتني إحدى موظفات طاقم نظافة العمارة لتسألني إن كنت قد سمعت أصوات التفجيرات التي حدثت في الحي المجاور يوم أمس، بعدما أضرم بعض المحتجين النيران في بعض السيارات وأجهزة إطفاء الحرائق وبعض مرافق وسط المدينة احتجاجا على مقتل "نائل" الشاب الفرنسي من أصول جزائرية على يد الشرطة، حدث ذلك رغم أني أقطن على بُعد مئات الكيلومترات من مركز الأحداث في العاصمة باريس.
سيطر الخبر على الأجواء في فرنسا كلها، وكما كان متوقعا، حضرت الواقعة أيضا على منبر الجمعة في المسجد القريب، حيث اختار الخطيب الحديث باللغة الفرنسية فقط على غير العادة حيث يستعمل العربية أولا ثم الفرنسية للترجمة. لم يكن سبب اختيار الفرنسية سرا، فقد كانت رسائل الخطبة موجهة للسلطات الفرنسية، تأكيدا أن المسجد لا يدعم "الفوضى" وعمليات النهب والتخريب التي عمّت أنحاء البلاد، وقد أكد الخطيب هذا التخمين بعد ذلك إثر قوله إنه تلقى اتصالا من ولاية الأمن لحث الناس على الهدوء.
كانت الأحداث في فرنسا قد اشتعلت قبل أيام بشكل يشبه إلى حدٍّ كبير الأفلام السينمائية ويستحضر روح الثورات الشعبية الدامية إثر واقعة مقتل الشاب ذي الأصول العربية في ضاحية نانتير غرب العاصمة باريس الثلاثاء الماضي. وتحت شعار "لا قواعد، ولا قوانين"، اشتعلت الاحتجاجات في مدن فرنسا وأفرغ المحتجون المراكز التجارية من محتوياتها، واستهدفوا مراكز الشرطة المختلفة والبلديات وأشعلوا النار في كل ما تطوله أيديهم، أحرقت نار الغضب كل شيء مُجبِرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على إلغاء بعض أنشطته الخارجية والعودة على وجه السرعة إلى الإيليزيه لمتابعة تطورات الأزمة.
لم يكن السبب في اشتعال الأوضاع هي جريمة القتل نفسها التي لم تكن الأولى من نوعها على كل حال، لكن المختلف هذه المرة أن واقعة قتل الشاب "نائل" صُوِّرت بالصوت والصورة، حيث أظهر الفيديو المُتداول عملية توقيف الشاب البالغ من العمر 17 عاما خلال قيادته لسيارة مستأجرة بدون رخصة سياقة، وبعد توقيف سيارته، أشهر شرطي مسدسه في وجه الشاب السائق فيما يحاول شرطي ثانٍ إخراجه من السيارة. ستتطور الأوضاع بسرعة، وستتحرك السيارة لنسمع في الخلفية صوتا يقول: "أطلق عليه الرصاص"، لتخرج الرصاصة وتتحرك السيارة مصطدمة بالحائط أمتارا بعد ذلك.
رغم المحاولات اليائسة لإسعاف "نائل" فإن الرصاصة أخذت روحه، فأشعلت بذلك الشارع الفرنسي المهمش، طلبا للعدالة بعد سقوط روح أخرى على يد الشرطة. وزادت شرارة النار حِدّة بسبب مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الذي تناقل فيديو الواقعة بغزارة، لتكتب هذه الواقعة صفحة جديدة من صفحات العلاقة المتوترة والعدائية التي تجمع فرنسا بضواحي مدنها المأهولة أساسا بالمهاجرين وأبنائهم، علاقة دامية سنحاول الكشف عن تاريخها وأطرافها، ونحاول الغوص فيها بعمق، بعيدا عن سطوة الأخبار العاجلة.
كهرباء "بونا" ونيران "زياد"قبل أقل من عقدين بقليل، بدا أن فرنسا تعيش على وقع حرب أهلية حقيقية. بدأ كل شيء يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول 2005، حين كان زياد البنا (17 عاما) وبونا تراوتي (15 عاما) ومحيي الدين ألتون (17 عاما) في طريقهم للعودة إلى منازلهم بعد مشاركتهم في مباراة في كرة القدم، وفي طريق عودتهم إلى مدينة "كليشي سو بوا" (ضاحية باريسية) مر الشباب على إحدى ورشات البناء، فكان من أحد الشهود أن اتصل بالشرطة لإخطارهم بوجود محاولة سرقة لبعض المعدات، حسب تقرير المفتشية الفرنسية العام. وعلى إثر هذه الشكاية ستتحرك كتيبة من شرطة مكافحة الإجرام لتصل إلى الموقع خلال دقائق، تمكن رجال الأمن من إيقاف محيي الدين ألتون، فيما فرَّ كلٌّ من زياد وبونا متبوعين برجال الأمن، ليختبئا بجانب محول كهربائي خوفا من إلقاء القبض عليهما، والنتيجة متوقعة، وفاة الشابين بسبب صعقة كهربائية لم تكن لتترك لهما فرصة في النجاة.
مباشرة بعد انتشار خبر وفاة المراهقين من أصول أجنبية، انطلقت أعمال الشغب في مدينة "كليشي سو بوا" ومدينة "مونفرماي" المحاذية، وكانت النتيجة بعد يوم واحد من الاحتجاجات إحراق 23 سيارة. لم تكن الليلة سهلة على الحكومة الفرنسية التي أحست ببداية شيء مختلف هذه المرة، خرج بعدها نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية آنذاك، لتكذيب المعلومات التي تقول إن الشرطة كانت تطارد زياد وبونا، لكن لسوء حظ ساركوزي، لم تكن هذه النسخة الرسمية لتصمد أمام ما حكاه المراهق الناجي محيي الدين، وهو ما زاد من اشتعال الإحساس بالظلم لدى المحتجين والفئات التي ينتمون إليها.
لم تتوقف كرة الثلج عند هذا الحد، فقد تضخم الغضب إثر إطلاق الشرطة الفرنسية لقنبلة غاز مسيل للدموع بالقرب من مسجد "بلال" بمدينة "كيلشي سو بوا"، ما تسبب في اختناق رواد المسجد الذين خرجوا مهرولين، لينفجر "وباء العصيان" في كل مقاطعة "سان سان دوني" شديدة الحساسية، التي تُعَدُّ معقلا للجاليات المهاجرة، ويمتد سريعا إلى جميع أنحاء البلاد، حيث عرفت النار طريقها إلى مئات السيارات والعديد من المرافق العامة. تلذذت وسائل الإعلام بالصور القادمة من الشارع فنشرتها كفيلم خيال علمي واقعي يحدث على الأرض، فيما اختلطت مشاعر المحتجين بين الإحساس بالظلم والشعور بالفخر واللا مبالاة.
عاشت فرنسا على وقع احتراب داخلي محلي طيلة 21 يوما، انتهى يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2005 مُخلِّفا 1500 سيارة محروقة و274 مدينة منكوبة بعد فرض حالة الطوارئ وتقوية الشرطة عبر معدات أكثر تطورا، ليخرج جاك شيراك، الرئيس الفرنسي الراحل، بخطاب في 14 نوفمبر/تشرين الثاني لتحية رجال الأمن والدرك على مجهوداتهم العظيمة، معتبرا أن الشباب الغاضب يعيش أزمة "معنى" وأزمة "معالم"، مؤكدا في الوقت نفسه أنهم كلهم وبلا استثناء أبناء للجمهورية.
إعلاميا، ظهرت الفوارق واضحة في طريقة تناول الواقعة، وهي فوارق تعكس الطريقة التي تنظر بها باريس إلى ذلك النوع من الحوادث. فرغم أن الجرائد الفرنسية قامت بشكل تقريبي برسم القصة نفسها لشابين لقيا حتفهما أثناء الاختفاء بجانب مولد كهربائي مع إشارة سريعة إلى كونهما كانا مطاردين من قِبل رجال الشرطة، فإن مضمون الرسالة الإعلامية اختلف من منبر إلى آخر في مسألة تغطية أعمال الشغب التي تلت هذه الواقعة.
ففي دراسة حول التناول الإعلامي لهذه الواقعة، قارنت الباحثة الفرنسية "إيزابيل غارسان مورو" 4 جرائد هي "ليبراسيون" و"أومانيتي" و"لوموند" ثم أخيرا صحيفة "لاكروا". وبدأت الدراسة بصحيفة "أومانيتي" التي نقلت مصادر سياسية اشتراكية قولها إنه ليس هناك أبدا ما يبرر العنف الذي يقوم به الشباب الغاضب، لكن في الوقت نفسه، هناك مبررات أقل للعنف الذي يتعرضون له من طرف قوات الشرطة. وخلال تغطيتها، ستحاول الجريدة نقل صوت الغاضبين الذين يؤكدون أنهم يعانون من نقص في جودة السكن وفي فرص العمل وفي جودة الحياة نفسها، وأن ما يحدث ما هو إلا رد فعل على كل هذا التهميش.
في السياق نفسه تقريبا ستأتي معالجة صحيفة "ليبراسيون"، التي تابعت الحدث في البداية قبل أن تبدأ في انتقاد تصريحات وزير الداخلية نيكولا ساركوزي التي "سمّمت" الوضع أكثر فأكثر حسب الجريدة. وقالت الصحيفة في إحدى افتتاحياتها إنْ كانت الإشاعات قد غذّت ردة الفعل لدى الشباب الغاضب في الضواحي، فإن تصريحات الحكومة الفرنسية ممثلة في وزيرها الأول ووزير داخليتها تزيد الأمر اشتعالا بسبب التهم غير الحقيقية التي تُكال للمحتجين.
اتفقت الصحيفتان المذكورتان على مسألة التنديد بالعنف الذي تمارسه الشرطة، وعلى الظروف الصعبة والمنغلقة التي يعيش فيها هؤلاء الشباب في أحياء تعزلهم عن الحياة الاجتماعية الحقيقية، التي بدلا من معالجتها اجتماعيا، تُواجَه بطريقة أمنية ترجح كفة المفاسد على أية مصالح حقيقية. ولكن على الجهة المقابلة سنجد تغطية صحيفة "لوموند" الشهيرة أقرب إلى الدفاع عن وجهة النظر الرسمية، فقد قالت الصحيفة في مقالاتها إن أعمال العنف التي وقعت بعد مقتل المراهقين زياد وبونا لا يمكن ربطها مباشرة بالحادث نفسه، وذلك لأنها أخذت بعضا من الوقت قبل الانفجار بشكل كامل، إذ اعتبرت "لوموند" أن ما يحدث هو عبارة عن "عنف حضري" يصعب فهم أبعاده أو تحليله بسرعة.
وفي السياق نفسه ستأتي تغطية صحيفة "لاكروا" التي ستكتفي بفقرتين صغيرتين تتحدثان عن الحادث دون الدخول في أي تفاصيل ولا حتى الإشارة إلى التصريحات الصادرة من الحكومة الفرنسية، مشيرة إلى اندلاع أحداث شغب عقب وفاة مراهقين يقطنان بأحد الأحياء الشعبية، وتكمن أهمية هذه التغطية السلبية في أن المقال الصغير حول الحدث جاء وسط ملف من 4 صفحات يتحدث عن فلسفة العنف الحضري الذي اشتعل في جميع أنحاء فرنسا، وهو ما يُظهِر أن الصحيفة ترى هي الأخرى أن أحداث الشغب والغضب في الشارع لا ترتبط بالضرورة بوفاة زياد وبونا، ولكن بمبدأ العنف الحضري نفسه الذي أصبحت تعاني منه المدن الفرنسية.
أبناء الضواحينادرا ما تعير فرنسا الانتباه إذن إلى المظالم التي يعاني منها المهاجرون من "أبناء الجمهورية" أو العنف "المتأصل" في ممارسات الشرطة ضدهم، بقدر ما تسلط الضوء، بسطحية غالبا، على مشكلات العنف في ضواحي المهاجرين. لكن الحقيقة هي أنه إذا كان "العنف الحضري" قد بات ظاهرة تستدعي معالجة خاصة من وجهة نظر باريس، فإن العنف الأمني ضد أبناء المهاجرين هو ظاهرة لا تقل وضوحا، ودليلنا في ذلك الأرقام التي لا تكذب، ففي الفترة ما بين مارس/آذار 2017 وأكتوبر/تشرين الأول 2022 قتلت الشرطة الفرنسية 25 شخصا، مقابل 4 فقط تم الإجهاز عليهم في الفترة ما بين يوليو/تموز 2011 وفبراير/شباط 2017، ويرجع السبب في هذه الزيادة الواضحة إلى قانون عام 2017 الذي يمنح الشرطة الحق في التعامل مع أي شخص يرى رجال الأمن أنه "ربما" يهدد حياتهم أو حياة آخرين، بكل أريحية.
ورغم كثرة الحكايات في هذا الصدد، فإن هناك حكاية بعينها تفرض نفسها كلما فُتح هذا الملف، وهي قادمة من ضواحي باريس كالعادة، لكن بطلها يحمل اسما آخر، هو "أداما تراوري"، وهو شاب من أصول أفريقية فارق الحياة إثر مطاردة بوليسية استمرت لساعتين من الزمان في أحد أيام الصيف الحارة عام 2016، تحديدا في يوم 22 يوليو/تموز من ذلك العام.
يومها، كان "أداما تراوري" يستقل دراجته متجولا في أزقة مدينة "بومون سور واز" شمالي العاصمة الفرنسية باريس، باحثا عن أخيه "باغي تراوري"، لكن أداما لسوء حظه لم يكن هو الوحيد الذي يبحث عن أخيه، بل إن الشرطة أيضا كانت تقتفي أثره، لذلك ما إن لمح أداما رجال الشرطة، فرَّ هاربا فيما لم يسعف الحظ -أو لعله كان أكثر حظا وفقا لمسار الأحداث فيما بعد- الأخ الأصغر الذي تمكن من الفرار، لتبدأ بذلك مطاردة انطلقت في الساعة 5:05 مساء وانتهت في الساعة 7:05 مساء معلنة وفاة أداما تراوري، في يوم عيد ميلاده الرابع والعشرين.
بعد هروب أداما من الشرطة، تمكن أفراد الأمن من إيقافه بعد دقائق، ولكن أثناء اقتياده لمخفر الشرطة، لقي صديقا له بملامح "أوروبية" ساعده على الفرار من الشرطة بعد تدخله جسديا لتحريره من قبضة الأمن، حينها بدأ أداما الركض في الشوارع باحثا عن مكان يختبئ فيه من الأمن، فاختار منزلا قريبا دخله باحثا عن قسط من الراحة ومسحة من الأمان.
بيد أنه أثناء دخوله إلى هذا المنزل صادف صاحب السكن الذي أرعبه مشهد اقتحام رجل مقيد لسكنه الخاص، فنادى على رجال الشرطة الذين أسرعوا للقبض على الشاب الفار من قبضتهم، وبعد إعادة تقييده بعد أن كان قد فك أصفاد الشرطة، واقتياده إلى المخفر، فارق أداما تراوري الحياة في ظروف غامضة لم يُكشَف عنها حتى الآن، حيث تؤكد الشرطة الفرنسية مستعينة ببعض التقارير الطبية أن الحالة الصحية لأداما ومعاناته من بعض الأمراض بجانب الإعياء الناتج عن الجري هو الذي أودى بحياته، فيما تقول أسرة الشاب من أصول أفريقية مستعينة بتقارير طبية مختلفة إن صعود رجال الشرطة فوق صدر الضحية لتقييده، ورفض فك أصفاده وتقديم الإسعافات الأولية هو الذي تسبب في هذه النهاية المأساوية، وتزيد شهادات الشهود المتضاربة والمختلفة بمرور السنوات من الملف تعقيدا، فيما ما زالت المظاهرات تنزل إلى يومنا هذا إلى الشارع في كل مناسبة للمطالبة بـ"العدالة لأداما" الذي فارق الحياة قبل سنوات.
رغم الصخب الواسع الذي أثارته، فإن حادثة مقتل أداما لم تكن الأخيرة في مسلسل العنف الشرطي الفرنسي ضد أبناء المهاجرين، الذي ظل يطفو إلى السطح بشكل متكرر، وإن لم ينل نصيبه المُستحق من الضوء. فقبل أسبوعين فقط من وفاة الشاب "نائل" على يد الشرطة، عرفت فرنسا حادثة مماثلة، لم تلقَ كل ذلك الزخم الإعلامي لأنها ببساطة حدثت بعيدا عن عدسات الهواتف ومنصات التواصل. يروي موقع "ميديا بارت" تفاصيل الواقعة التي راح ضحيتها شاب من أصول أفريقية يدعى "الحسين" يوم 14 يونيو/حزيران الماضي خلال ذهابه للعمل نحو الساعة الرابعة والنصف صباحا في مدينة أنغوليم بمنطقة بواتو شارنت جنوب غربي فرنسا.
يبدأ "ميديا بارت" حكايته بالإشارة إلى الرواية الرسمية التي خرجت من مطبخ الشرطة وجاء فيها: "يعيش زملاؤنا على وقع صدمة قوية بسبب تدخلهم الذي انتهى بطريقة دراماتيكية، أحد الزملاء يخضع حاليا للرعاية الطبية بسبب إصابة على مستوى الفخذ. هذا التدخل الذي عرف عنفا استثنائيا جاء بسبب قيام الجانح بصدم شرطي عبر سيارته ومحاولته قتل الزملاء الآخرين"، كانت هذه النسخة الرسمية "القصيرة" من الرواية، أما الرواية الكاملة حسب "ميديا بارت" فتختلف في بعض التفاصيل.
يؤكد الموقع الفرنسي أن الشاب "الحسين" خرج في الساعة الرابعة والنصف صباحا مثل كل يوم، وذلك للتوجه إلى عمله الذي يبعد نحو 20 كيلومترا عن مكان سكنه، ورغم أن التقارير الشرطية تقول إن التدخل جاء بسبب قيادة الشاب لسيارته بطريقة غير مستقيمة، فإن الفحص الطبي نفى تعاطي السائق لأي مخدرات أو كحوليات من شأنها التأثير على سلوكه سائقا، كما كان الحسين يحمل جميع أوراقه الثبوتية ورخصة سياقته ورخصة التأمين، وهو ما يعني أنه لم يكن يملك أي دافع حقيقي للهرب من الشرطة.
بجانب كل هذا، هناك تفصيلتان مهمتان، ذكرهما تقرير "ميديا بارت"، جعلتا النيابة العامة الفرنسية تعيد التفكير في الموضوع والتهم الموجهة، النقطة الأولى هي أن مزاعم الشرطي الذي أطلق النار متحججا بأن السائق كاد يدعسه أثناء محاولة الهرب بسيارته تبدو غريبة، لأن الرصاصة لم تخترق الزجاج الأمامي للسيارة، بل دخلت من جهة السائق مباشرة، أما النقطة الثانية فهي أن الشاب الغيني الأصل الذي ركب البحر مرورا بالمغرب وصولا إلى فرنسا بحثا عن فرصة حياة أفضل كان مثاليا للغاية في سلوكه بشهادة مركز الإيواء الذي حط فيه الرحال، وهو ما يعني أن "الحسين" لم يكن مجرد شاب مجرم جانح، بل كان شابا عاديا، علما أن السير بالسيارة في خط غير مستقيم حسب القوانين المحلية في فرنسا، بل والدولية، لم تكن يوما عقوبته الإعدام رميا بالرصاص حسب ما يقول متابعون.
في ضوء هذه الوقائع المتكررة، والسياسة الأمنية الفرنسية التي تتعامل مع المهاجرين بوصفهم مجرمين أو مشتبها بهم إلى أن يثبت العكس، تزيد عزلة هؤلاء الشباب داخل الأحياء التي بنتها الحكومة الفرنسية ذات يوم لآبائهم من المهاجرين الذين قدموا إلى البلاد لبنائها بعد حربين عالميتين سوّتاها أرضا، صُمِّمت هذه الأحياء لتكون مؤقتة ينتهي وجودها مع نهاية وجود هؤلاء المهاجرين الذين قدموا لجني بعض المال ثم العودة إلى بلدانهم، لكن لأن الأمور لا تسير أحيانا كما أُريد لها، أضحت هذه الأحياء قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في وجه الجميع، وفي أي وقت. وجدت الأجيال التي أتت بعد ذلك في هذه الضواحي، التي صارت مرتعا للفقر والبطالة، مكانا آمنا منغلقا، يمنعها من سطوة باقي المجتمع الذي لا يقبل اختلافها معه في اللون أو العِرق أو حتى في الدين على ما يبدو.
طوَّر هؤلاء الشباب بسبب الخوف والتخوف من عدم التقبل إحساسا بالفصل الذاتي لأنفسهم عن المجتمع، فحوَّلوا هذه الأحياء إلى "غيتوهات" هي الداء والدواء في الوقت نفسه، فهو الذي يحميهم من الآخر وهو الذي يمنعهم في الوقت نفسه من عيش حياة حقيقية ومتوازنة، يحققون من خلالها أهدافهم الاجتماعية والاقتصادية، وتزيد كل هذه الأمور صعوبة الظروف الحياتية التي تمنحهم فرصا أقل بكثير من أقرانهم من الذين يحملون أسماء فرنسية ويسيطر البياض على بشرتهم. وبذلك تتحول هذه الضواحي بمرور الوقت إلى سجن مرعب، يحكم البقاء فيه على الشاب من أصول عربية أو أفريقية بالعيش على الهامش، ثم الموت والرحيل إلى غياهب النسيان.
الشرطة.. يمينية وانتحارونظرا إلى أن لكل حكاية طرفين في أدنى الأحوال، فلا يمكننا بحال أن نمر مرور الكرام على الطرف الثاني في هذه الحكاية، وهو الدولة الفرنسية ممثلة في عصاها القانونية الساهرة على رعاية الأمن الفرنسي. يخبرنا "ماتيو ريغوست" الباحث في العلوم الاجتماعية أن أولى مهام الشرطة في الغرب كانت القبض على الأجساد التي كانت تُعَدُّ "غير طبيعية"، مثل السحرة والمثليين والمومسات والمجانين، بعد ذلك استُعملت الشرطة لأغراض سياسية أكثر مثل السيطرة على الجماعات التي تخرج عن أطر الدولة وقمع الثورات الاجتماعية.
لم تكن مؤسسة الشرطة الغربية إذن مجرد جهاز يسهر على حماية أمن البلدان كما هو "المفروض" الآن، بل كانت تُعَدُّ ميليشا استعمارية، تطارد العبيد الفارين من العمل في المزارع وتعمل على مراقبتهم يوميا حتى لا يثوروا ضد أسيادهم. وبعد أن حطَّت الدول الغربية رحالها في مستعمراتها، بدأت العقيدة الأمنية للشرطة تتشكّل بطريقة أوضح، فبدأت تستعمل تقنيات عسكرية تهدف إلى استهداف المدنيين ومطاردتهم واعتقالهم وإكراههم على الاعتراف مع التشويه والإذلال والقتل في بعض الأحيان.
سرعان ما استلهمت الدول الغربية هذه التجارب الشرطية في مستعمراتها لتطبيقها داخل أراضيها، ففي فرنسا مثلا، حيث يدور حديثنا اليوم، عُيِّن مدير الشرطة "موريس بابون"، الذي سهر على ترحيل يهود مدينة بوردو خلال الاحتلال الألماني لفرنسا، مسؤولا عن المديرية الفرعية الجزائرية بوزارة الداخلية ابتداء من عام 1945، ثم في عام 1958 عُيِّن الشخص نفسه مديرا للشرطة في باريس، وتمكن "بابون" من نقل خبراته التي اكتسبها في الجزائر لبسط نفوذ الشرطة على العاصمة الفرنسية، فقد واجه مظاهرات 17 أكتوبر/تشرين الأول لعام 1961 تماما كما سبق أن قمع مظاهرات ديسمبر/كانون الأول 1960 في الجزائر، وظل المسؤول الفرنسي في منصبه حتى عام 1967.
لن يسعفنا الوقت للحديث عن النماذج الكاملة للشرطة التي نُقِلت من أراضي المستعمرات إلى الدول الأوروبية نفسها، لكن هذه الاستمرارية ستُختزل بدقة جراحية مذهلة من طرف عميد فرنسي كان يخاطب قواته أثناء عملية تأمين أحد الأحياء المشتعلة بعد حادثة زياد وبونا في عام 2005 قائلا: "لقد خسرنا الحرب في الجزائر. قبل أربعين عاما، أسقطنا سراويلنا. لكنّا لن نخفضها مرة أخرى اليوم. لا سجين اليوم، لا شيء غير الهراوة". وقبل ذلك في عام 1974، وأثناء محاكمة 12 شرطيا قاموا بنهب منزل جزائري بالعاصمة باريس، تبين أن المتهمين هددوا الضحية بالقول إن حرب الجزائر لم تنتهِ، وإنهم سيقتادونه إلى إحدى الغابات لإطلاق النار عليه.
تؤكد الداخلية الفرنسية أن هذه الأفكار التي يمكن وصفها بدون تحرج بالعنصرية تُعَدُّ نادرة واستثنائية، لكن دلائل متعددة تشير إلى غير ذلك، وتؤكد أن العنصريين البيض في أجهزة الشرطة الفرنسية يحظون بالحماية في أدنى الأحوال. ويوفر تحقيق نشره موقع "ميديا بارت" بالشراكة مع قناة "ARTE" حول انتشار الأفكار العنصرية والعِرقية وسط مجموعة من رجال الشرطة الفرنسية نافذة حول مدى توغل هذه الأفكار وخطورتها.
تعود وقائع التحقيق إلى اطلاع أحد رجال الشرطة الفرنسيين من ذوي البشرة السوداء مصادفة على محادثات خاصة كان يتبادلها عدد من زملائه على مجموعة خاصة على تطبيق واتساب، وتُظهر تفاخر أعضاء المجموعة بتخزين الأسلحة لاقتناعهم بقرب اندلاع حرب أهلية عِرقية سيجد البيض فيها أنفسهم مطالبين بالدفاع عن أنفسهم ضد باقي الأعراق الأخرى وعلى رأسها العرب واليهود والمسلمون.
أظهر التحقيق استخدام أعضاء المجموعة لمصطلحات بالغة العنصرية والتحقير لوصف السود واليهود والمسلمين والعرب والنساء (حتى من الشرطيات) واليساريين وجميع مَن يختلف مع الأيديولوجيا البيضاء، مع الهجوم على الفرنسيات اللواتي يفضلن الزواج من العرب أو من السود كونهن يخنّ بذلك "العِرق الآري". وتنبأ المتفاعلون في المجموعة بأن الحرب الأهلية قريبة في فرنسا، مقترحين ترك الطوائف والأعراق المختلفة للاقتتال الداخلي بسبب الخلافات العِرقية والعقدية بين هذه المجموعات، لتنتهي هذه المجازر بإجهاز الرجل الأبيض على المنتصر المنهك.
ورغم كل هذه الدلائل بالصوت والصورة التي قدمها الشرطي من أصل أفريقي إلى "شرطة الشرطة"، فإنه لم يحدث شيء، وظل المتهمون يمارسون عملهم بشكل عادي بعد نقلهم جزئيا من مراكزهم، لكن دون تحرك حقيقي قبل أن تنفجر القنبلة بتحقيق صحفي وسَّع من نطاق القضية. ترتبط هذه الظواهر (العنف ضد المهاجرين وأفكار التفوق الأبيض) بملفات أخرى لا تقل خطورة وأهمها ظاهرة الانتحار في وسط رجال الشرطة، فخلال 20 عاما الأخيرة، سُجِّل معدل 43 حالة انتحار سنوية لرجال الشرطة بسبب ظروف العمل الصعبة والنقص في المعدات، وحالة العداء التي أصبح الشرطي يحس بها تجاهه وهو يواجه الغاضبين في كل مكان، دون نسيان التنمر والسخرية التي قد يتعرض لها أي رجل في الشرطة (أو امرأة) سمح للخوف والقلق أن يظهرا على محياه، ليكون بذلك عُرضة للاستهزاء من باقي زملائه الذين يرون في الخوف ضعفا لا يليق أن تتلبس به شخصية رجل الأمن.
في غضون ذلك، تحاول فرنسا تعويض النقص الحاد في رجال الشرطة بسبب التقاعد والمغادرة ثم الانتحار باستقطاب أكبر عدد ممكن من المتحمسين للخدمة، وهو ما ينعكس سلبا على جودة الشرطي المنتدب كما يقول المسؤولون الأمنيون أنفسهم، الذين يرون أن الحاجة الملحة إلى عدد كبير من رجال الأمن يعني غياب التدقيق الكافي في خلفيات المرشحين، وهو ما يعني ظهور مشكلات مستقبلية أكيدة خصوصا مع اتباع إستراتيجية تقليص مدة التكوين وتعويضها بالخبرات على الأرض، وهو ما يجعل الشرطي الجديد يخرج لمواجهة الحياة الصعبة برصاصة في القدم.
ختاما، لا يمكن إيجاد إجابة واضحة شافية كافية عن أسئلة معقدة ومركبة تتناول قضايا شديدة الحساسية كما هو الحال الآن في فرنسا، لكن يمكن البدء في البحث عن الإجابة من وسط رماد الاحتجاجات، التي تخبرنا بأن الفروقات الاجتماعية والاقتصادية والإثنية قد تُشكِّل مشكلات حقيقية لتماسك أي مجتمع، وإذا كانت بعض الدول تعيش بمبدأ كنس التراب تحت السجاد، فإن هذه الإستراتيجية قد لا تنجح في جميع الأحيان، خصوصا إذا كان المكنوس هو لغم موقوت وليس مجرد حفنة من الغبار.
_______________________________________
المصادر:
Macron annule sa visite d’État en Allemagne « La mort de Nahel, c’est l’étincelle » : les raisons de la colère France : ce que l’on sait sur la mort de Nahel tué par un policier Qu’est-ce qui avait déclenché les émeutes de 2005 et comment ont-elles pris fin ? Des « jeunes » et des « banlieues » dans la presse de l’automne 2005 : entre compréhension et relégation Adama Traoré : les zones d’ombre d’une affaire devenue un symbole Mort de Nahel : à l’Assemblée, la loi de 2017 sur l’usage des armes à feu par les policiers au centre des critiques mort-de-nahel-chronique-d-un-drame-annonce Les adolescents et leur cité, dans les « quartiers » الجذور الاستعمارية لعنف الشرطة الفرنسية «Bougnoules», «nègres», «fils de pute de juifs»: quand des policiers racistes se lâchent Ancien policier ne supportant plus la violence de ses collègues, il témoigne Migrants : violences policières quotidiennes La police recrute-t-elle moins bien qu’avant ? Dans la police, pendant les réformes, le malaise persisteالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الشرطة الفرنسیة فی فرنسا ن الشرطة بعد ذلک التی ت کانت ت فی هذه
إقرأ أيضاً:
مدن الملاذ الآمن تقاوم خطة ترامب لترحيل المهاجرين
بات المهاجرون غير النظاميين في الولايات المتحدة الأميركية الذين يواجهون خطر الترحيل يحسبون تحركاتهم بدقة في المدن التي يقيمون فيها، خاصة تلك التي تحد من تعاونها مع السلطات الفدرالية في تنفيذ القوانين المتعلقة بالهجرة.
وقرر بعضهم البقاء في المنزل وغلق الأبواب بإحكام، ومنع بعضهم أطفاله من الذهاب إلى المدارس خوفا من مداهمة غير متوقعة من عملاء وكالة الهجرة والجمارك الأميركية (ICE) قد تؤدى إلى اعتقالهم.
وقد اتخذ هؤلاء من سجنهم الاختياري ملاذا لا يستطيعون مغادرته خوفا من أن يجدوا أنفسهم داخل طائرة متجهة إلى خليج غوانتانامو كما وعد الرئيس دونالد ترامب.
يعلم المستهدفون بالترحيل أن إدارة ترامب هذه المرة أكثر جدية وصرامة في مواقفها تجاههم مقارنة بإدارته الأولى، فالرئيس الأميركي منذ يوم التنصيب لم يتوقف عن إصدار القرارات التنفيذية والقوانين التي تعزز من قدرة سلطات الهجرة على ترحيل أكبر عدد ممكن من المهاجرين غير النظاميين في البلاد.
وكان آخرها، توقيع ترامب على مذكرة توجه وزارة الدفاع ووزارة الأمن الداخلي لبناء منشأة تستوعب 30 ألف مهاجر غير نظامي في قاعدة خليج غوانتانامو البحرية في كوبا، المكان الذي "يصعب الخروج منه"، بحسب وصف ترامب.
إعلانوسبقت المذكرة التوقيع على قانون "ليكن رايلي"، الذي يعد أول تشريع يحصل على توقيع ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض، ويمنح السلطات الفدرالية سلطة أوسع لترحيل المهاجرين غير النظاميين المتهمين بارتكاب جرائم في جميع الولايات، وبالأخص "مدن الملاذ الآمن" التي تحمي المهاجرين من الترحيل والإجراءات القسرية.
صار من الملاحظ انتشار أفراد وكالة الهجرة والجمارك في شوارع المدن الأميركية، خاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية من المهاجرين، يرتدون ملابس مدنية أو سترات تحمل شعار الوكالة، ويعملون في مجموعات صغيرة أو ضمن فرق متخصصة لتنفيذ عمليات الاعتقال والمداهمات دون سابق إنذار في أماكن تواجد المهاجرين غير النظاميين أو مواقع عملهم، مما يؤدي إلى اعتقالات جماعية أحيانا.
وتختص وكالة الهجرة والجمارك الأميركية، وهي وكالة فدرالية تابعة لوزارة الأمن الداخلي، بتطبيق قوانين الهجرة ومكافحة الجرائم العابرة للحدود مثل تهريب البشر، وتهريب المخدرات، والجرائم الإلكترونية.
وتعمل الوكالة من خلال قسمين رئيسيين، قسم عمليات التنفيذ والترحيل (ERO)، المسؤول عن الاحتجاز والترحيل، وقسم تحقيقات الأمن الداخلي (HSI)، الذي يركز على التحقيقات الجنائية.
وفي ولاية ترامب الأولى، أصبحت عمليات الوكالة أكثر صرامة، وارتفعت نسبة الاعتقالات في أوائل عام 2017 مقارنة بعام 2016، كما تم تعزيز التعاون مع وكالات إنفاذ القانون المحلية، مع التركيز على المدن التي تُعرف بـ"الملاذات الآمنة".
وخططت الإدارة لترحيل أكبر عدد من المهاجرين، لكن عقبات لوجستية وقانونية حالت وقتها دون تنفيذ عمليات الترحيل بشكل موسع.
إعلانولتذليل تلك العقبات، أصدر ترامب بعد تنصيبه في 20 يناير/كانون الثاني 2025، أوامرا تنفيذية لتعزيز إجراءات إنفاذ قوانين الهجرة، وألغى سياسات سابقة كانت تحد من الأماكن التي يمكن أن تحدث فيها هذه الاعتقالات منحت بموجبها أفراد الوكالة صلاحية تنفيذ العمليات في أماكن مثل المستشفيات، وأماكن العبادة، والمدارس، وغيرها من المواقع.
كما سعت الإدارة الأميركية لتعزيز التعاون بين ضباط الهجرة الفدراليين والسلطات المحلية، لرصد الأفراد غير المسجلين في دوائر الهجرة واعتقالهم.
وضعت هذه التسهيلات مدن "الملاذ الآمن" التي رفضت سابقا التعاون مع السلطات الفدرالية، في خط المواجهة مع وكالة الهجرة والجمارك من ضمنها شيكاغو، ونيويورك، وميامي، ودنفر، ولوس أنجلوس.
هذه التسهيلات لم تمنع المواجهة بين إدارة ترامب والمسؤولين في المدن التي تتبع سياسات الملاذ الآمن فيما يتعلق بتنفيذ قوانين الهجرة، بل عمقت الانقسام السياسي في الولايات المتحدة، وترى وكالة الهجرة والجمارك الأميركية أن سياستها أمر ضروري لضمان تنفيذ قوانين الهجرة والحفاظ على سيادة القانون، واتهمت الولايات ذات الأغلبية الديمقراطية بعرقلة عمليات المداهمة.
على الجانب الآخر، اشتكى سياسيون ديمقراطيون من ممارسات ضباط الوكالة في تنفيذ القانون، وقالوا إن الوكالة تمثل رمزا للسياسات القاسية في تنفيذ عمليات الترحيل التي تؤدي إلى تفكيك العائلات المهاجرة، وأن مراكز الاحتجاز تفتقر إلى الظروف الإنسانية المناسبة، ودعوا إلى إصلاح الوكالة بشكل جذري.
وأصدرت وزارة العدل مذكرة حديثة تؤكد ضرورة أن يلتزم أعضاء فرق مكافحة الإرهاب المشتركة، بما في ذلك الشرطة المحلية والولائية، بتوجيهات إدارة ترامب فيما يتعلق بسياسات الهجرة.
إعلانكما تطرقت المذكرة إلى إمكانية توجيه تهم ضد المسؤولين المحليين بتهمة إيواء مهاجرين غير شرعيين، بالإضافة إلى إمكانية مقاضاة المدن والمقاطعات التي تقف عائقا أمام التعاون مع سلطات الهجرة الفدرالية.
وكانت لجنة الرقابة والإصلاح الحكومي في مجلس النواب الأميركي أعلنت عن فتح تحقيق في تأثير المدن التي تتبنى سياسات الملاذ الآمن على السلامة العامة وإنفاذ قوانين الهجرة الفدرالية.
وفي وقت سابق، انتقد رئيس اللجنة النائب الجمهوري جيمس كومر، سياسات الملاذ الآمن، معتبرا أنها "تعيق قدرة سلطات إنفاذ القانون الفدرالية على اعتقال وترحيل المجرمين الخطرين، مما يعرض السلامة العامة للخطر"، وأضاف أن هذه المدن ترفض التعاون الكامل مع سلطات الهجرة الفدرالية، مما يزيد من تعقيد الوضع.
واستدعت اللجنة عمدة نيويورك، إريك آدامز، للإدلاء بشهادته في 11 فبراير/شباط الجاري بشأن سياسات المدينة تجاه المهاجرين.
وشمل الاستدعاء أيضا عُمد المدن التي تتبع سياسات مماثلة من ضمنها عمدة شيكاغو التي تقع في ولاية إيلينوي. ويعتبر حاكم الولاية، جي بي بريتزكر، من المعارضين لسياسات الترحيل، وتعهد "بالوقوف في وجه" القوانين التي تستهدف المهاجرين.
ووسط هذا الجدل، شاركت وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم، في عمليات اعتقال في مدينة نيويورك، ونشرت صورا لها على موقع إكس وهي ترتدي سترة مكتوبا عليها (ICE)، وقالت إن إدارة ترامب "تجعل شوارعنا آمنة".
من جهتها، نقلت وكالة رويترز أن كبار المسؤولين في إدارة ترامب حضروا عمليات اعتقال قام بها منفذو قوانين الهجرة في مدينة نيويورك وفي مدن أخرى.
رحلة الترحيل للمهاجرين تسير وفق خطوات تبدأ بالاعتقال والذي يكون بعمليات مداهمة عشوائية تشمل جميع المرافق التي يتوقع أن يتواجد فيها المخالفون لقوانين الهجرة من ضمنها أماكن العمل، أو توقيف يستهدف من لديهم سوابق جنائية. حتى الطرق السريعة أصبحت من ضمن الأماكن التي تخضع للتفتيش.
إعلانيلي ذلك، الاحتجاز حيث يُنقل المهاجرون إلى منشأة تابعة لهيئة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك، تضم أكثر من 100 منشأة في الولايات المتحدة تسع لما يقارب 41 ألف شخص.
وبحسب وكالة أسوشيتد برس، تحتجز إدارة الهجرة والجمارك الأميركية حاليا المهاجرين في مراكز تابعة لها وفي مرافق احتجاز التي تديرها شركات خاصة، إلى جانب السجون والمعتقلات المحلية، ولا توجد للإدارة أي مرافق مخصصة لاحتجاز أسر المهاجرين، الذين يشكلون ما يقرب من ثلث الوافدين إلى الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
بعد ذلك تبدأ الإجراءات القانونية والمثول أمام قاض يقيم الوضع ويحدد بعدها مصير كل مهاجر، وإذا أمر القاضي بالترحيل، يُصدر "أمر الإبعاد النهائي". هؤلاء الذين دخلوا خلال العامين الماضيين في بعض الأحيان يكونون عرضة للترحيل السريع دون المثول أمام قاض.
وسريعا تأتي الخطوة الأخيرة، وهي الترحيل الذي يتم في الغالب جوا عبر طائرات تجارية في مواقع التجمع على الحدود الجنوبية الغربية في ولايات أريزونا، لويزيانا وتكساس. بالطبع، تسبق الرحلات تفاصيل لوجستية مع الدول التي ستستقبل مواطنيها، تشمل تصاريح الهبوط ومعلومات المرحلين وغيرها من التفاصيل.
كل هذه الخطوات تبدو سهلة التنفيذ، لكنها تصطدم بعقبات تتعلق بالتكلفة المالية لتنفيذها، على سبيل المثال للتغلب على التكلفة العالية لتأجير الطائرات الخاصة، ولتسريع عمليات الترحيل الجماعي، سمحت الإدارة الأميركية باستخدام الطائرات العسكرية لنقل المُرحَّلين.
ويقدر عدد الأشخاص الذين يعيشون في الولايات المتحدة بشكل غير قانوني بنحو 11.7 مليون شخص، ولدى إدارة الهجرة والجمارك حاليا الميزانية الكافية لاحتجاز نحو 41 ألف شخص فقط.
مخاوف حقوقيةوتشير التقارير الحقوقية إلى أن هذه التوجيهات المتعلقة بترحيل المهاجرين ليست قرارات عابرة، بل تأتي في إطار نهج أشمل يهدف إلى إعادة تشكيل سياسات الهجرة في الولايات المتحدة، وهو ما جعل المواجهة بين إدارة ترامب والمنظمات الحقوقية تمتد إلى قاعات المحاكم للدفاع عن حقوق المهاجرين.
إعلانيُعد الاتحاد الأميركي للحريات المدنية (ACLU) من أبرز الأصوات المعارضة لهذه السياسات، إذ عبر عن قلقه العميق من إمكانية تنفيذ عمليات ترحيل جماعية قد تنتهك الإجراءات القانونية.
كما حذر الاتحاد من خطورة إشراك قوات إنفاذ القانون المحلية في تنفيذ قوانين الهجرة الفدرالية، وهو ما قد يسهم في تفاقم التمييز العنصري وتقويض الثقة بين المجتمعات المهاجرة والجهات الأمنية.
وكمنظمة حقوقية ذات تاريخ طويل في الدفاع عن الحريات المدنية، أكد الاتحاد الأميركي للحريات المدنية التزامه بالتصدي لهذه القرارات. وأصدر بيانا حذر فيه من أن هذه السياسات "تحظى بدعم بعض الأطراف في الكونغرس، مما قد يحول التهديدات إلى واقع"، لكنه شدد على أنه مستعد لمواجهتها قضائيا وميدانيا.
وأطلقت مجموعة من المنظمات المدافعة عن حقوق المهاجرين، مبادرة تضامن تدعو إلى معارضة خطط الترحيل الجماعي وشددت على أهمية العمل الجماعي لحماية المجتمعات المهاجرة والحفاظ على وحدة العائلات في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
وتتفق المنظمات الحقوقية المناهضة لممارسات الترحيل الخاصة بالإدارة الجديدة في أن القرار ينتهك حقوق الإجراءات القانونية حيث يؤدي تسريع إجراءات الترحيل غالبا إلى تقويض حقوق الأفراد في المحاكمات العادلة والحصول على تمثيل قانوني، كما أن الترحيلات تتسبب في فصل العائلات، مما يسبب معاناة نفسية واقتصادية كبيرة. بالإضافة إلى ظروف الاحتجاز غير الإنسانية فالمنظمات رصدت قلة الرعاية الطبية، والاكتظاظ، وسوء الصرف الصحي في مراكز الاحتجاز.
وفي السياق ذاته، أشار أكاديميون إلى تأثير هذه السياسات على المهاجرين وإلى تداعياتها على المستوى الدولي، وعلق فيليز غاريب، أستاذ علم الاجتماع والشؤون العامة في جامعة برينستون، عبر الموقع الإلكتروني للجامعة، قائلا إن هذه الإجراءات أدت إلى حالة من عدم اليقين والخوف بين المهاجرين.
إعلانوأضاف متسائلا: "إذا أغلقت الولايات المتحدة حدودها، وطردت المهاجرين المقيمين بشكل قانوني ورفضت استقبال اللاجئين، مخالفة بذلك التزاماتها القانونية الدولية، فما الذي سيمنع دولًا أخرى من اتخاذ خطوات مماثلة؟".
من جانبه، يرى جوليان زيليزر، أستاذ التاريخ والشؤون العامة في الجامعة، أن قرارات ترامب تمثل "اعتداء على السلطة التنفيذية" وتتماشى مع وعوده الانتخابية المتشددة بشأن الهجرة. وأوضح أن العديد من هذه الإجراءات قد تواجه تحديات قانونية، إلا إنه في حال تمريرها، فستكون بداية لإعادة توجيه السياسة العامة الأميركية في عدة مجالات، بما في ذلك قوانين الهجرة والتعامل مع اللاجئين.
على مر السنوات الماضية، اتخذ العديد من المهاجرين الكنائس ملجأ للهروب من قبضة وكالات الهجرة والجمارك الأميركية، فأتاح هذا الخيار لهم البقاء في مأوى مؤقت، في بعض الأحيان لأيام أو أسابيع، من دون الخوف من القبض عليهم، خاصة عندما كانت القوانين في إدارة الرئيس السابق جو بايدن تمنع تنفيذ عمليات الهجرة فيما يعرف بـ"المناطق المحمية"، والكنائس من ضمنها.
ولكن مع إلغاء هذه القوانين في الآونة الأخيرة، بدأت بعض هذه الكنائس مترددة في توفير المأوى، خشية من اقتحام عملاء الهجرة الفدراليين للكنائس أثناء الصلوات أو الأنشطة الدينية ومن أن تتحول دور العبادة إلى ساحة مواجهة مع سلطات إنفاذ الهجرة.
وكانت وزارة الأمن الداخلي الأميركية أوضحت في بيان أن مداهمات الهجرة تستهدف أولئك المهاجرين غير النظاميين الذين لديهم سجلات إجرامية خطيرة، موضحة أن الإجراءات الجديدة تتيح لوكالة الجمارك وحماية الحدود تنفيذ قوانين الهجرة بشكل أكثر صرامة.
وفي بيانها، أكدت الوزارة أن الهدف هو اعتقال "الأجانب المجرمين" الذين دخلوا الولايات المتحدة بشكل غير قانوني، وأكد البيان على أن المجرمين لن يتمكنوا من الاختباء في المدارس والكنائس الأميركية لتجنب الاعتقال.
إعلانفي مواجهة هذه الإجراءات، تقدمت جمعية الأصدقاء الدينية "الكويكرز" في 27 يناير/كانون الثاني، بدعوى قضائية ضد السلطات الأميركية، مطالبة بمنع وكالات الهجرة من تنفيذ عمليات اعتقال أو تفتيش في الكنائس.
وبحسب ما أوردته وكالة رويترز، فإن الدعوى أشارت إلى أن السياسة الجديدة تنتهك الحقوق الدينية لأتباعها، موضحة أن الخوف الذي تسببه هذه الإجراءات أدى إلى تقليص أو إلغاء بعض الخدمات الدينية.
من جهته، أعرب مؤتمر الأساقفة الكاثوليك الأميركيين عن قلقه، مشيرا إلى أن هذه السياسة قد تحوّل أماكن الرعاية والعبادة إلى "مناطق خوف". وقال تيموثي بروجليو رئيس الأساقفة الكاثوليك في الولايات المتحدة، إن القرارات المتعلقة بالمهاجرين واللاجئين تثير قلقا بالغا لتأثيرها السلبي المحتمل على الفئات الأكثر ضعفا في المجتمع.
وفي المقابل، انتقد نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، تصريحات الكنيسة حيث اعتبر أن قلق الأساقفة نابع من دوافع مالية، متهما الكنيسة بأنها تعتمد بشكل كبير على التمويل الذي تتلقاه لدعم المهاجرين. وأضاف فانس في مقابلة له مع "شبكة سي بي إس نيوز" أن موقف الكنيسة يتأثر بالمساعدات التي تقدمها، والتي قد تكون لها تداعيات على المواقف السياسية.
وسبقت تعليقات رجال الدين مواجهة مباشرة مع الرئيس الأميركي يوم تنصيبه في 20 يناير/كانون الثاني، وأثناء حضوره صلاة في كاتدرائية واشنطن الوطنية، حيث فوجئ ترامب بطلب من الأسقف ماريان إدغار، بمساعدة الأطفال الذين يخشون أن يتم فصلهم عن آبائهم المهاجرين، وأيضا الأشخاص الفارين من مناطق النزاع.
وقالت الأسقف في كلمتها "يعلمنا الرب أن نكون رحماء مع الغرباء". وقد أثارت هذه الكلمة ردود فعل واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، حيث انتشرت تصريحات إدغار بشكل سريع. لكن الرئيس ترامب لم يتوانَ في الرد، منتقدا "الأسلوب الحاد الذي اتخذته الأسقف" بحسب تعبيره.
كشف استطلاع حديث أجرته وكالة الأسوشيتد برس مع مركز "نورك" (NORC) للأبحاث، أن العديد من الأميركيين يدعمون تعزيز الأمن على الحدود الجنوبية وترحيل المهاجرين المدانين بجرائم عنيفة.
إعلانوتشير نتائج الاستطلاع، الذي جرى في الفترة بين 9 و13 يناير/كانون الثاني وشارك فيه 1,147 شخصا، إلى أن التوافق على سياسات الهجرة بصورة عامة لا يزال محدودا، ولكن السياسات الأكثر صرامة قد تواجه مقاومة من الغالبية.
ومن أهم نتائج الاستطلاع:
عمليات الترحيل الجماعي:يؤيد نحو 70% من الأميركيين ترحيل المهاجرين المقيمين بشكل قانوني في الولايات المتحدة إن تمت إدانتهم بجرائم عنيفة، 52% منهم أظهروا دعمهم القوي لهذا الإجراء، في حين يوافق عليه 17% بشكل جزئي. ويظهر الاستطلاع فجوة واضحة بين التوجهات الحزبية، إذ يؤيد 69% من الجمهوريين هذه السياسة بشدة، مقارنة بـ 40% من الديمقراطيين.
الاعتقال في "المناطق المحمية":يعارض أكثر من نصف الأميركيين اعتقال الأطفال في المدارس أو الأفراد في دور العبادة. ويعارض نحو النصف الاعتقالات في المستشفيات. ويمكن الملاحظة في نتيجة الاستطلاع أن الجمهوريين لا يؤيدون تطبيق هذه السياسة في المناطق المحمية.
تعزيز الأمن الحدودي:يعتقد نحو 50% من الأميركيين أن تعزيز الأمن الحدودي ينبغي أن يكون من أولويات الحكومة القصوى، في حين يرى 17% فقط أنه أولوية منخفضة.
وتباينت الآراء بشأن أولوية الحكومة في ترحيل المهاجرين غير النظاميين، إذ يعتبر 33% أن ترحيلهم يجب أن يكون من أولويات الحكومة، بينما يرى 36% أنه ينبغي أن يكون ضمن الاهتمامات المتوسطة، في حين اعتبر 29% أنها مسألة ذات أولوية منخفضة.
وبالنسبة لبرامج توسيع العمالة المؤقتة واستقبال اللاجئين، فلا يبدو أنها تشكل أولوية قصوى لدى معظم الأميركيين، إذ يرى نحو ربعهم فقط أن هذه القضايا تستحق اهتماما حكوميا كبيرا.