اقتلوا ولكن على غير مَرأى من الصحافة
تاريخ النشر: 9th, November 2023 GMT
لم يصطبر مديرُ مكتب المندوبية السامية لحقوق الإنسان التابع للأمم، بنيويورك السيد كريك موخيبر Craig Mokhiber على ما يجري في غزّة وقدّم استقالته لِما اعتبره إبادة جماعيَّة تجري أمام الأعين، للتهاون الذي أبدته المنظومة الدوليّة والمجموعة الدولية في وقف العدوان وحماية المدنيين، وشفع الاستقالة برسالة إلى المندوب السامي لحقوق الإنسان تُوضّح حقيقة الوضع وسبب المشكل:
"يظهر جليًا، مع ما يطبع ذلك من أسى، أننا تخلّفنا عما يلزم وما يفرضه الواجب لتجنب فظائع جماعيّة، وعن واجبنا في حماية الأشخاص في وضعيّة هشّة، وإلى الواجب المرتّب عن ذلك في عرض من اقترفوا تلك الجرائم أن يكونوا محاسَبين على أفعالهم.
وليضيف:
"إنَّ المجزرة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني- والتي تستند إلى أيديولوجية استعمارية، وإثنية قومية، بعد عقود من الاضطهاد والتطهير المنهجي، على أساس وضعيتهم بصفتهم عربًا، مع إعلان عن تلك النوايا بشكل جلي، من قِبل زعماء الحكومة الإسرائيلية، وجيشها- لا تترك مجالًا للشكّ ولا للحوار".
ويسترسل :
"في غزة تُقصف المساكن والمدارس والكنائس والمساجد والمؤسسات الطبية، من غير سبب، ويُقتل آلاف المدنيين. وفي الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة، تتم مصادرة بيوت أصحابها، وتُمنح للأغيار، استنادًا لعِرقهم. يرافق المستوطنين- الذين يرتكبون بوغرومات (مجازر)- وحداتٌ عسكرية إسرائيلية. تسود شِرعة الأبارتيد البلد كله.
ندخل إلى صنف جديد من الإبادة (..) القضاء بشكل سريع على بقايا الحياة الفلسطينية الأهلية في تلك الأراضي".
لنصل إلى بيت القصيد :
"حكومات كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وجزء كبير من أوروبا مشاركون في هذه الهجمة المريعة. إنهم لا يكتفون بالامتناع عن الاضطلاع بواجبهم بالنظر لاحترام معاهدات جنيف، ولكنهم يمدُّون إسرائيل بالسلاح والمعلومات ويغطون سياسيًا ودبلوماسيًا على الفظائع التي ترتكبها".
أتوقف هنا، لأنَّه ليس هناك تحليل أدقّ عن جذور المأساة، والتي تعود إلى فجر الأمم المتحدة، أو عقبها مباشرة، وإلى جوهر المشكل، وهو واقع الاحتلال والأبارتيد، والقتل والاضطهاد، وإلى التطور الذي حصل في مسار النزاع- مع الانتقال إلى فصل جديد في الإبادة، إلى إبادة نهائيّة، والإشارة إلى المسؤولين عمّا يجري- وهو مشاركة الغرب، وليس فقط تواطؤُه، مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والغرب، عسكريًا ولوجيستيكيًا، ثم تغطية أعمال إسرائيل سياسيًا ودبلوماسيًا.
أهمية التحليل هو أنه يأتي من شخص ليس فلسطينيًا ولا عربيًا ولا مسلمًا، ولا ناشطًا سياسيًا، ولكنه مسؤولٌ عن ملفّ حقوق الإنسان، في منظمة أممية، وهو ما يضفي عليه الموضوعية.
هناك مسؤولية دولية عن الإبادة الجماعية التي تجري في غزة، ومشاركة غربية، فعلية أو ضمنية، ولا يمكن لأحد منذ الآن، أن يتذرع بأنه لم يكن يعرف.
ما تزعمه الولايات من حقّ "إسرائيل في الدفاع عن نفسها" بل "واجبها"- حسب الرئيس الأميركي بايدن- يعني عمليًا قتل شعب وإبادته، وعدم التحرج من التطهير العِرقي.
هذا ما يقوله مسؤولوها في إسرائيل، جهارًا، ويرسمون خطط الإبادة في الاجتماعات التي يعقدونها مع القيادة العسكرية الإسرائيلية سرًّا.
المؤذي ليس هو اصطفاف الولايات المتحدة إلى جانب القوة، والعنف والتقتيل، والدمار، والتشريد، والزيف والتضليل، وتقديم أدوات التقتيل؛ إذ ليس في الأمر جديد، ولكن تقديم خدمة الشفاه، كما يقال في اللغة الإنجليزية، أو الضحك على الذقون باللغة العربية؛ لأنّ أميركا تزعم أنها تُعنى بحَيَوات المدنيين، وتقديم المساعدات لهم، وفتح "الممرات الإنسانية"، وهي التي حملت في أول مُكوكها خيار "الترانسفير".
بلينيكن، الذي يمثل جيلًا جديدًا من ساكنة فوغي باتوم (مقر كتابة الدولة الأميركية)، يُغلفون خطابهم ببعض المراهم. اقتلوا ولكن لا تغلوا في القتل، واقتلوا ولكن على غير مرأى من الصحافة. اقتلوا، وأعطوا ضحاياكم مهلة، كي تستردوا قوتكم.. ويسترجعوا أنفاسهم.
لا شيء يمكن انتظاره من الولايات المتحدة، "الوسيط النزيه"، الذي روّج الأداة السحرية، في الحديث إلى العالم العربي، من خلال توظيف تناقضات مكوناته، ولغة خدمة الشفاه.
الحديث ينبغي أن يجري مع التاريخ. وما يقع هو إبادة جماعية، وهو تطهير عِرقيّ، غير مسبوق مما تعرض له الفلسطينيون منذ النكبة. ينبغي حفظ كل ما يجري وتوثيقه لتحديد مسؤولية الجناة، ومسؤولية المشاركين والمتواطئين، للتاريخ.
نحن أمام تطهير عِرقيّ وإبادة جماعيَّة، ونكبة جديدة، ولكن في حجم أكبر من الأولى. فلم يعرف الفلسطينيون تقتيلًا كهذا الذي يجري الآن- وفي برودة دم- يفوق دير ياسين، وكفر قاسم، وجنين، وغزة 2009، وغزة 2014.
ولكن التاريخ لا يعيد نفسه، وإن تكرّر. يأخذ شكلًا تراجيديًا أول الأمر، ولكنه يأخذ شكلًا مغايرًا بعدها. لن تكون حرب "استقلال" ثانية، كما زعم نتنياهو، ولكن بداية منعرج في العلاقات الدولية لن يكون أبدًا -من منظور التاريخ- في مصلحة إسرائيل، ولا الغرب، ولا الدول المتمسّكة بتلابيه، والمستظلّة بحمايته.
ما يقع هو تحول جذريّ ليس فقط على مستوى الصراع العربي- الإسرائيلي، ولكنه على مستوى العالم، ستبلغ فرقعاته مجتمعات العالم العربي، يحجبه عنا اليوم نقْعُ المواجهة.. نعم الثمن غالٍ، ذلك الذي أدّاه الفلسطينيون ويؤدّونه، ولكن التحوّل لن يكون في صالح من ارتكنوا للقوَّة، وخنقوا الحقيقة.
الانتصار العسكري ليس بالضرورة صنو الانتصار السياسي، والقوة ليست مرادفًا للحق والعدل. والموضوعية تقتضي النظر إلى الصورة كاملة، إلى سياق ما قبل "طوفان الأقصى"، إلى الحصار المضروب على غزّة والتضييق والتقتيل والاستهتار الذي يطال الفلسطينيين.
ونتحمل مسؤوليتنا فيما يجري؛ لأننا حرمنا الفلسطينيين من جدارٍ يسندون إليه ظهورهم حين المواجهة، وعمقٍ يلوذون به، ليضمّدوا جراحهم، ويستردوا أنفاسهم.
حينما كان مسلمو الأندلس يواجهون وحدهم عمليات الإبادة بعد مجزرة معارك البوشارات (1568) بعث فقيهٌ رسالة إلى علماء تلمسان والأزهر حول ما كان يتعرض له مسلمو الأندلس من تقتيل وانتهاك حرمات ذويهم، وشفع أن ما يؤذيه ليس ما يتعرضون له، فذلك أهون عليهم من الفُرقة التي عليها أبناء جلدتهم وإخوانهم في الدين، فذلكم يؤذيهم أكثر مما يؤذيهم ما كان العدو يفعله بهم.
وستبقى مسؤوليتنا قائمة ما أبقينا على الفُرقة بيننا والنزاعات الهامشية، ولم نستخلص العِبرة مما يجري، ونقبل أن نكون كما الأيتام على مائدة اللئام.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الولایات المتحدة ما یجری ا یجری
إقرأ أيضاً:
أونروا: المساعدات التي تدخل غزة عند أدنى مستوياتها منذ أشهر
اعتبرت وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي قررت إسرائيل حظر أنشطتها في البلاد، أن وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة "غير كاف" في مواجهة الوضع "الكارثي" في القطاع الفلسطيني.
وبالتزامن مع هذا الإعلان تقريباً، أشار الجيش الإسرائيلي إلى فتح معبر جديد في كيسوفيم لإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، عشية الموعد النهائي الذي حددته الولايات المتحدة للسلطات الإسرائيلية للسماح بزيادة المساعدات للفلسطينيين.ورداً على سؤال حول التحذير الأمريكي خلال مؤتمر صحافي للأمم المتحدة، رفضت المسؤولة في الأونروا لويز ووتردج التعليق، لكنها شددت على أن "الوضع في قطاع غزة هو ببساطة كارثي". إسرائيل تعرقل 85% من قوافل المساعدات إلى شمال غزة - موقع 24قالت الأمم المتحدة إن 85% من محاولاتها لتنسيق قوافل المساعدات والزيارات الإنسانية إلى شمال قطاع غزة، حيث ينتشر الجوع الشديد وتنفذ إسرائيل هجوماً كبيراً، تم رفضها أو عرقلتها من قبل السلطات الإسرائيلية الشهر الماضي. وأشارت من غزة إلى أن "المساعدات التي تدخل قطاع غزة وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ أشهر. وبلغ المتوسط لشهر أكتوبر (تشرين الأول) 37 شاحنة يومياً عبر قطاع غزة بأكمله".
وشددت على أن "37 شاحنة يومياً لسكان يبلغ عددهم 2,2 مليون نسمة يحتاجون إلى كل شيء، هذا ليس كافياً البتة".
يشترط القانون الأمريكي على متلقّي المساعدات العسكرية الأمريكية عدم رفض أو عرقلة تسليم المساعدات الإنسانية الأمريكية "بشكل تعسفي".
وذكّرت ووتردج بأنّ تقريراً صادراً عن إطار التصنيف المتكامل للأمن الغذائي Integrated Food Security Phase Classification حذّر قبل بضعة أيام من "احتمال وشيك وكبير لحدوث مجاعة" في شمال غزة.
وقالت: "بينما نتلقى شهادات لأشخاص على الأرض يستجدون فتات الخبز أو الماء، لا تزال الأمم المتحدة ممنوعة من الوصول إلى هذه المنطقة".
ألمانيا تنتقد الوضع المأساوي في غزة وتطالب بفتح جميع المعابر - موقع 24وصفت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، الوضع الإنساني في قطاع غزة بالـمأساوي، في الوقت الذي دعت فيه إسرائيل إلى فتح جميع المعابر الحدودية إلى القطاع الساحلي للسماح بإيصال المساعدات الإنسانية. وأضافت ووتردج: "لم يُسمح بدخول أي طعام لمدة شهر كامل إلى المنطقة المحاصرة في شمال غزة. وقد رُفضت جميع الطلبات التي قدمتها الأمم المتحدة للوصول إلى هذه المنطقة".
وأشارت إلى أن "محاولات" جرت مذاك، ونفذت منظمة الصحة العالمية عمليات إجلاء طبي محدودة، مضيفة "لكن يمكنني أن أخبركم أنه حتى هذا الأسبوع، كان من المفترض أن أقوم بمهمتين في الشمال" وقد "رُفضتا".
وأعربت بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الأراضي الفلسطينية المحتلة عن قلقها أيضاً، وكتبت عبر منصة إكس "مع تدهور الوضع في شمال غزة، لا يزال عدم الحصول على الرعاية الطبية المناسبة يؤثر على المدنيين".