الدكتور محمود الطويسي: إشكالية الترجمة في سياق قوة المعرفة
تاريخ النشر: 4th, July 2023 GMT
الدكتور محمود الطويسي
اللغة وعاء ثقافة الأمة، وهي أهم مكون من مكونات هويتها الحضارية، لذا فإن القوة الحضارية والعلمية للأمة هي التي تفرض مدى انتشار واستعمال لغتها، وهذا يبرر مدى الحاجة للترجمة منها وإليها، فالأمة المتحضرة بالمعنى الواسع للتحضر تملك لغة غنية بالآداب والعلوم والمعرفة التي وصلت بها لهذا المستوى من التحضر، مما يجعل الترجمة من هذه اللغة للغات الأخرى أكثر بكثير من الترجمة من اللغات الأخرى إليها.
والترجمة بصفة عامة ليست نقلا يحقق المعنى بصورته الدقيقة، إنما هي مقاربة لغوية لنقل المعنى دون المبنى، لذلك تعتبر ترجمة الشعر أسوأ ممارسة يتعرض لها النص الشعري، لأن الشعر لا يعول على نقل المعنى بقدر ما يعول على نقل الطريقة التي يعبر بها عن المعنى من خلال جماليات اللغة، وطاقاتها التعبيرية، والايحائية التي لا تستطيع الترجمة نقلها بصورة أمينة، فإن أدهشنا نص شعري مترجم نعلم حينئذ أن جزءا كبيرا من إبداعية النص يعود للترجمة ليس للنص فحسب، لأن النص الأصلي يستمد طاقته التعبيرية وقوته الجمالية من لغته الأصلية، فحين ترجم سامي الدروبي كافة أعمال دوستويفسكي لم يترجمها عن الروسية بل عن الفرنسية، وهذا يعني أنها ترجمت للروسية ثم مرة أخرى إلى العربية، وهذا يعني أن جزءا كبيرا من الطاقة التعبيرية والايحائية للنص قد ضاعت بسبب انتقال النص من الروسية للفرنسية، ثم من الفرنسية إلى العربية، فإن حدث ذلك وكان مقبولا في الرواية إلا أنه لن يكون مقبولا في الشعر لأن النص سيفقد انتماءه لمؤلفه بسبب ضياع جزء من ابداعيته في الترجمة الأولى وضياع الباقي في الترجمة الثانية.
وإذا كانت الترجمة ترتبط بمدى حاجة الأمة إليها، فإن مدى الحاجة إليها مرتبط بتشخيص الحالة الحضارية للأمة، فاللغة تكون قوية بقوة الأمة، وتكون ضعيفة هزيلة بضعفها، ويدلل على ذلك علاقة الأمة العربية بلغتها، فالنظام اللغوي للغة العربية قبل الإسلام كان بسيطا بسبب شفاهية العرب، وعدم اعتمادهم على الكتابة، أضف إلى أن العرب كانوا تارة خاضعين للسيطرة الفارسية، وتارة للسيطرة الرومانية، مما أثر في مدى قوتهم الحضارية، وبالتالي في طبيعة لغتهم.
في صدر الإسلام لم تنل اللغة العربية اهتماما كبيرا إلا بالقدر الذي يحتاجه الدين، رغم أن التفسير لم يكن نشطا بالحد الكافي نظرا لنزول القرآن بلهجة قريش وقرب اللغة ومدلولاتها منهم، ولم تكن الأمة قد قويت شوكتها وسيطرتها بالحد الذي يضيف مزيدا من القوة للغتها.
في منتصف فترة الدولة الأموية وبعد توسع الدولة الإسلامية، تعرضت اللغة للحن بسبب دخول غير العرب في الإسلام، لذلك فقد بدأت جهود تقنين اللغة ووضع قواعدها في النحو والصرف والبلاغة، وبدأت اللغة في الانتعاش في العصر العباسي مترافقا ذلك مع انتصارات الأمة والتوسع الاسلامي الذي أحرزه المسلمون طوال فترة الدولة الأموية والعباسية، واتساع نفوذهم السياسي، فاتصفت اللغة في هذه الفترة بالشيوع واتساع نفوذها، ونشطت الترجمة منها وإليها، واغتنت اللغة بمفردات ومفاهيم جديدة، وأصبحت لغة المثقفين والعلماء، وأصبحت لغة العلم والفلسفة، وكانت معيارا حضاريا لمن يتعلمها من غير ابنائها، وذلك بسبب ما راكمته الأمة من أدوات النهضة منذ صدر الإسلام حتى العصر العباسي.
في فترة الدولة المملوكية والعثمانية ضعفت الأمة وعادت اللغة للانحدار، ويمكن ملاحظة ذلك في النتاج الأدبي لتلك الفترة، وهذا يعني ان مصير اللغة ارتبط بمصير الأمة العربية، ففي العصر العباسي حازت اللغة العربية منزلة رفيعة، حيث كانت تكتب بها العلوم المختلفة كالطب والرياضيات والفلك، لأن العرب كانوا منتجين للمعرفة ومن الهام جدا أن يتم قراءة العلم باللغة التي انتجته، فللعلم مصطلحاته ومفاهيمه التي لا تفيها لغة حقها المعرفي قدرما تفعل اللغة التي انشئ بها ذلك العلم.
حيث أن انتاج لغة العلم يترافق مع انتاج المفاهيم الخاصة بذلك العلم،
وتأسيسا على ذلك فإن الأمة التي تنتج المعرفة تملك حقا أخلاقيا وحضاريا بأن يدرس العلم الذي أنتجته بلغتها، فقد أنتجت العلم ومصطلحاته الإجرائية التي تلبي المفهوم الدقيق لذلك العلم، وهذا يعني أن تدريس العلم بلغة غير اللغة التي أنتج بها هو استلاب حضاري للأمة التي أنتجت ذلك العلم، لأن العلم هو أحد أدوات القوة لتلك الأمة.
ومن جهة أخرى تؤثر ترجمة العلم في طبيعة العلم نفسه، حيث يتطلب الأمر استحداث مفاهيم ومصطلحات جديدة، وفرض استخدامها، مما يؤثر في تداول العلم بين الثقافات المختلفة، وستقف اللغات حائلا دون الأخذ والرد والحوار حول محتوى العلم، وسيؤثر ذلك في تظافر الجهود عالميا للتطوير عليه وبناء مصطلحاته، وسينشأ عن ذلك أن دارسي العلم باللغة المترجمة سيعيشون في جزيرة معزولة عن اللغة الأم لذلك العلم، حيث تكمن مستجدات ذلك العلم في المؤتمرات والندوات والدوريات المحكمة والبحث العلمي الذي يستخدم اللغة التي أنتج بها ذلك العلم.
لهذه الأسباب وغيرها لا يجري تدريس الطب حاليا باللغة العربية، لأن العرب لم يعودوا منتجين للطب، حيث توقف انتاج الطب العربي عند اكتشاف الدورة الدموية الصغرى، لذا فقد استطاع الناطقون باللغة الإنجليزية المنتجون لعلم الطب فرضه على العالم بلغتهم، ومصطلحاتهم، وأدواتهم ومفاهيمهم، وندواتهم، ومؤتمراتهم، ودورياتهم الطبية، وأبحاثهم وتجاربهم، فالعلم أضاف لهم أداة هامة من أدوات القوة.
ولأن الطب قد أصبح منتج علمي عالمي فالاطلاع على مستجداته يتطلب أن يكون بلغة الطب، ويتطلب التعامل مع أدواته وأدويته وتجهيزاته باللغة العالمية المعروفة التي كتب بها الطب.
إن أدوات قوة أي لغة في العالم تعود لمنظومة معقدة من المسوغات الاقتصادية والسياسية والحضارية، واللغة هي في الغالب تابعة لهذه المنظومة، وبهذا فقد ابتعدت اللغة العربية عن العلوم ليس بسبب طبيعة اللغة نفسها، بل لأن العرب ببساطة ليسوا منتجين لتلك العلوم، ولأنهم ليسوا بالمستوى الحضاري والعلمي الذي يضيف للغتهم مزيدا من القوة، حيث ضعف فيها الجانب العلمي لضعف ابنائها من هذا الجانب، وهذا لا يعني أن ترجمة العلوم غير مجدية بالمطلق، إنما نحن بحاجة إلى انتاج المعرفة التي نفرض اللغة من خلالها، كما أن تأهيل اللغة العربية لتكون لغة علوم لا يكون بإنتاج وترجمة المصطلحات العلمية من خلال مجامع اللغة العربية التي تنتج مصطلحات لا يستخدمها أحد، بل بتأهيل الأمة لبناء نظام حضارى يكون منتجا لتلك العلوم.
من جهة أخرى فإن اللغة المنتجة للعلوم تستحق أن تعطى الأولوية لتدريس العلم الذي أنتجته بها، لقد أنتجت اللغة العربية الكثير من المفاهيم والمصطلحات العلمية التي تدرس إلى يومنا هذا بلفظها العربي في كافة اللغات في العالم يما فيها اللغة الانجليزية مثل : مصطلح الجبر Algebra والكحول alcohol والكيمياء Chenistry و Soda الصودا، وغيرها، لكننا توقفنا عن انتاج تلك المصطلحات لأننا توقفنا عن انتاج العلم، لذلك لم تضف اللغة العربية أي مصطلحات تذكر للعلوم منذ مئات السنين.
إلى جانب ذلك كله فإن إضافة مزيد من القوة للغة العربية يحتاج إلى ثقافة تتقبل الآخر وتعترف به، فقد آن لنا أن نقبل بتأثر اللغة العربية باللغات الأخرى، فلغات مثل الأمهرية والشاطئية والباكستانية والاوردو والتركية والاسبانية وحتى الانجليزية تحتوي على كم كبير من المفردات العربية، فإذا كانت اللغة كائن حي فإن الكائن الحي ينمو ويتطور، ويؤثر في غيره ويتأثر به، فلا ضير إن تأثرت اللغة باللغات الأخرى، فقد احتوى القرآن الكريم على عشرات الألفاظ من لغات أخرى، ومع ذلك فقد قال تعالى: ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا ) فوجود ألفاظ غير عربية لم تغير من صفة كون القرآن عربي، وهذا يعني تسويغا لتأثر اللغة بالغات الأخرى، حيث أن القبول بمبدأ التأثر والتأثير في اللغة يجعل اللغة منخرطة في البيئة العالمية، ويضيف لها مزيدا من أدوات القوة، لكنه التأثر المدروس والمدار من خلال مجامع اللغة العربية والمؤسسات المعنية.
وبناء على ذلك فإن ترجمة العلوم إلى اللغة العربية ليس خيارا مجديا بالحد الذي تحتاجه تلك العلوم ليس ضعفا في اللغة نفسها، إنما ضعفا في نظامنا الحضاري لأن المعرفة بحد ذاتها قوة، ونحن لا نمتلك تلك القوة، فالأمة التي تنتج المعرفة تفرض أدوات القوة التي من ضمنها اللغة.
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
أزهر الغربية: ختام تصفيات مسابقة "رواد اللغة العربية في الإعراب"
اختتمت اليوم فعاليات التصفيات النهائية لمسابقة "رواد اللغة العربية في الاعراب" وذلك تحت رعاية فضيلة الشيخ عبداللطيف حسن طلحة، رئيس الإدارة المركزية ومدير عام منطقة الغربية الأزهرية .
وقد أقيمت المسابقة على مستوى إدارات المنطقة الأزهرية بالمركز العشر والتي تستهدف الحفاظ على هوية اللغة العربية، وتعزيز إتقان الطلاب لمهارات الإعراب، وتشجيعهم على التمسك بالقواعد النحوية.
وحضر تصفيات المسابقة النهائية الدكتور محمد النشرتي، مدير عام العلوم الثقافية ورعاية الطلاب، وموجهي اللغة العربية، ومنسقي المبادرة بالإدارات التعليمية
وأوضح الدكتور عماد علام منسق عام المبادرة، أن المسابقة تم تنفيذها على مدار ثلاثة أيام، للمراحل التعليمية ( الإبتدائية، الإعدادية والثانوية).
وتم تكريم الطلاب المشاركين وأعضاء لجنة التحكيم فى ختام تصفيات المرحلة الثانوية وسيتم تصعيد الطلاب الفائزين على مستوى الجمهورية.
تقام المسابقة سنوياً والتي تبدأ من المعاهد الأزهرية المنتشرة بقري ومراكز المحافظة ثم تصعيد المتفوقين الي الإدارات الأزهرية التابعة ثم التصعيد من خلال الإدارات ليكون الختام بالمنطقة الأزهرية وتهدف المسابقة اثقال المواهب في اللغة العربية والاعرب.