منذ بداية حرب الإبادة والتطهير العرقيّ الإسرائيلية/ الغربية المستعرة حاليًا ضد قطاع غزة وأهلها - والتي اتُخذت ذريعة سانحة، واسُتغلّت بأبشع الأساليب دموية وعنفًا منذ عقود، أملًا في محو هذه القضيّة الخالدة لشعب لا يُقهر وتحويل الفلسطينيّين إلى شراذم مبعثرة و«دياسبورا» لا صوت لها، أشبه بالنهاية الحزينة التي بلغتها قبائل الهنود الحمر بعد أن نُكبت بدخول المستعمرين الجدد بمستوطناتهم ومدافعهم وتبشيرهم وأوبئتهم، تزامنت معها حربٌ أخرى لا تقل ضراوة ولا شراسة، وهي الحرب الإعلامية والفكرية والدعائية لكسب معركة العقول والقلوب في فضاء العالم الإلكتروني والافتراضي في مختلف المنصات والمنابر الإعلامية التقليدية والإلكترونية في الغرب الأوروبي والولايات المتحدة.

وقد عملت بلا هوادة على غسل أدمغة المتلقي والمتابع بسردية مشوّهة ومُختلقة وملفقة لتمجيد المعتدي، وإلغاء الضحيّة وشيطنتها وحرمانها من حقها في تقديم الرواية الفلسطينية للعالم.

كما هبّت منصات، مثل الإنستجرام والفيسبوك وغيرها، إلى سحب وحذف وإغلاق الحسابات التي تتعاطف مع القضية الفلسطينية محذرة إياهم من مغبة الاستمرار في نشر أي محتوى «مخالف» لسياسة النشر في تلك المنصات، انسجامًا واستسلامًا لهيمنة اللوبي اليهودي على معاقل الإعلام والصحافة والسينما والتلفزيون في الغرب.

وحتى مع ظهور أصوات لا تتبنى هذا الخط بالشدّة نفسها من التبعية والاستسلام، إلاّ أنه سرعان ما شُنت عليهم حملة الإقصاء والتخوين ومعاداة السامية، وهو ما حدث مع «إيلون ماسك» مالك منصة «إكس/ تويتر»، عندما صرّح عن عزمه تزويد منظّمات الإغاثة الدوليّة بالإنترنت الذي قطعته إسرائيل عن قطاع غزة، لتوارى شناعة فظائعها عن العالم، بل واتهمه الكاتب «جوزف مين» في صحيفة واشنطن بوست في عددها الصادر بتاريخ 8 أكتوبر الماضي بنشر الأكاذيب وبث دعايات مغرضة ضد إسرائيل وتحريض متابعيه المائة والخمسين مليونًا على متابعة حسابات تويترية مثل (WarMonitors@) و (sentdefender@) لمتابعة تطوّرات الحرب.

ويلاحظ التوجّه نفسه في كبريات الصحف الأمريكية مثل «نيويورك تايمز»، والمدهش استخدامها لصيغ إعلامية تقطر خبثًا ومواربة وتجاهلًا للشهداء الفلسطينيين، حيث نشرت في عددها بتاريخ 31 أكتوبر الماضي تغطية كتبها «ماثيو بيج» و«كارين زريك» و«إيما بابولا»، لمجزرة معسكر جباليا شمالي غزة أقتبس منها هذا السطر (وتظهر الصور التي بثتها وكالة رويترز الإخبارية سيارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر في أحد الشوارع، وأكثر من «ثلاثين ملاءة بيضاء» تغطّي على ما يبدو أنها جثث ملقاة على الأرض). وحفلت الأعمدة الصحفيّة وتصريحات المسؤولين الغربيين من كافة الأطياف بذات الخطابات المصطفة مع إسرائيل، ويكاد لا تجد فرقًا بينها وما يصدر من تصريحات أو بيانات إسرائيلية، فيما بلغ السقوط المجلجل في فرنسا وألمانيا بمنع المظاهرات المتعاطفة مع الفلسطينيّين! ومساءلة المواطنين الأمريكيّين لمجرد الدعوة إلى المقاطعة أو الترويج لها. والعجيب أنه حتّى منصات الـذكاء الاصطناعي التوليديّ (ChatGPT) أصبحت «فجأة» تعطي إجابات منحازة لإسرائيل! وتتجاهل المأساة الفلسطينيّة بصياغات غريبة حيث يتم التلاعب بخوارزميات البرنامج لأمر دبر بليل.

وسيكون من ضروب السذاجة اعتبار الغرب كله «واحدًا»، وللإنصاف، فإنه رغم انحياز الموقف الغربي الرسمي إزاء الصراع، إلّا أن شعوبهم أبت أن تُجرّ كالقطعان في هذا الوحل السياسي القذر لإرضاء اللوبي الصهيوني، وسرعان ما اندلعت المظاهرات والمسيرات الرافضة للعدوان الإسرائيلي في معظم العواصم الغربية والمدن الأمريكية، خاصة بعد انتشار مشاهد المجازر وقتل الأطفال والنساء بحجج إسرائيلية لم تعد تنطلي عليهم، وخسارتها للمعركة الأخلاقية في الصراع، بل أستطيع القول إن إسرائيل أصبحت الآن دولة منبوذة أخلاقيًا أمام الرأي العام العالمي، في حين تزايدت الكتابات الغربية لبعض النخب الفكرية التي تطالب الحكومات الغربية بالكف عن التأييد الأعمى لآلة القتل الإسرائيلية.

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى (وفق المتنبي للّه دره) بعضًا ممن نحسبهم في خندق العروبة والإسلام قد أصابتهم العدوى، فتدحرجت القضية الفلسطينية من أولوياتهم إلى أصقاع لا نعرفها، وضلّت طريقها خلسة لمسرح العبث! وهنا لا أملك إلّا أن أعتزّ بالموقف العماني من هذا الصراع الوجودي وتضامنه الأخلاقي والمبدئي والقيمي والديني مع حق الشعب الفلسطيني في مقاومة المحتل واستعادة دولته، وهو ما جسّدته بكل فخر المواقف الرسميّة والشعبيّة العمانيّة، بل إنّ معالي السيّد وزير الخارجيّة العماني، لم يتردّد في الدعوة إلى إجراء تحقيق دولي مستقل حول العدوان الإسرائيلي و«محاكمته» لاستهدافه المدنيين في غزة.

بيد أنّ موقف هذه المؤسسات الإعلامية الغربية الضخمة غير مستغرب من الشعب الفلسطيني والقضايا العربية، فما الذي يجبر «مارك زكربيرج» مالك شركة فيسبوك وإنستجرام مثلًا أن يكون مع الحق الفلسطيني أو «روبرت مردوخ» اليهودي الذي يمتلك كبريات الصحف والقنوات الفضائية الأمريكية والبريطانية والأسترالية أن يتحوّل فجأة إلى قامة أخلاقية وقديسًا في محراب العدل والضمير وحرية الكلمة ومناصرًا لقضايا العرب! ولم عساه أن يفعل ذلك أصلًا؟ إذا لم يشتغل العرب على أنفسهم لانتزاع تأثيرهم ونفوذهم لإيصال صوتهم بعيدًا عن سطوة وأيديولوجيا هذه المؤسسات وحكوماتها عوضًا عن التسابق لشراء الصحف والمنابر الإعلامية العربية للطعن والغمز وتعبئتها ضد دول عربية أخرى!

في سياقات كهذه، حيث يُختطف صوت الضحية الفلسطيني، ويُمجّد المعتدي الإسرائيلي في المنابر والمنصات الغربية التقليدية والإلكترونية، يصبح من الحتمي وجود منصات عربيّة قلبًا وقالبًا، ومن مصلحة الأمة أن يكون لديها تطبيقات ضخمة في شبكات التواصل الاجتماعي لا تقل عن إنستجرام وفيسبوك وإكس وغيرها؛ وبالتالي تمتلك الاستقلاليّة لتقدّم للعالم السردية المنصفة للقضايا العربية وروايتها للتاريخ بعيدًا عن عين الرقيب المتصهينة، وللمقاربة لك أن تتخيّل أيها القارئ الكريم لو لم تكن قناة الجزيرة مثلًا (رغم اختلافنا أو اتفاقنا على مهنيتها وتوجهاتها)، موجودة في تغطية الصراع في قطاع غزة وعموم فلسطين المحتلة، كيف كنا سنشاهد الفظائع الإسرائيلية؟! ولا غرو أن يتحوّل مراسلها وأسرته (رحمة اللّه عليها) إلى هدف حربي في قائمة الأهداف الإسرائيلية.

لقد حان الوقت لمواجهة جدلية حرية التعبير الغربية باشتغال عربي متقدم لإنتاج فضاءاته الافتراضية الخاصة عبر منصات عربية حقيقية ومستقلة عن التبعية الإلكترونية للغرب، ولنكفّ عن جلد ذواتنا، وينبغي علينا كعرب أن نقرأ التجربة الإسرائيلية في هيمنتها على الخطاب الغربي، وكيف نجحت في ذلك ونتعلّم منه، وللتاريخ، فالخوارزميّات (Algorithm) التي تعدّ مهد الثورة الرقمية الحديثة، انطلقت من بغداد منذ القرن التاسع الميلادي، ونحن من قدمناها إلى العالم، ولعلّها ستكون خطوة أولى نحو الانعتاق من هذه المرحلة البائسة، حتى لا نجد كتاباتنا وآراءنا ونداءاتنا قد صودرت بكبسة زرّ، وتبخرت أحرفها، ويُنتقى منها ما يشاؤون تدليسًا وتزويرًا وبهتانًا، ونستطيع أن ننحت فيها كلمات ومفردات جديدة مثل «الفيلوكوست» الّتي يمكن أن تشير إلى المذابح والمجازر التي يرتكبها النازيون الجدد بحق الفلسطينيين واللبنانيين.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

رؤية السلطان وحتمية التنفيذ

 

 

◄ ينبغي علينا في الغرفة السعي لتحسين بيئة الأعمال وتبسيط الإجراءات لتكون أكثر سلاسة وشفافية

 

سهام بنت أحمد الحارثية

harthisa@icloud.com

 

 

قبل أيام، تفضل حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله ورعاه- بلقاء غير عادي مع رجال الأعمال ورواد الأعمال العُمانيين، في جلسة امتدت لأكثر من 3 ساعات، أُتيح للحضور الحديث بحرية عن تحديات القطاع الخاص، واقتراح حلول نابضة بالإبداع والشجاعة، ولعل ما يميز هذا اللقاء التاريخي هو تجاوب جلالته- أعزه الله- بتوجيهات واضحة حول كيفية مواجهة تلك التحديات، وإشارته إلى ضرورة المضي قدمًا في بناء اقتصاد أكثر مرونة وتنوعًا.

اليوم.. يتبادر السؤال الجوهري إلى أذهان الكثيرين حول تنفيذ توجيهات جلالة السلطان على أرض الواقع، وما إذا كان يتعين على غرفة تجارة وصناعة عُمان أن تتولى قيادة هذا التنفيذ؟

غرفة تجارة وصناعة عُمان ليست مجرد كيان اقتصادي؛ إنها حلقة الوصل بين الحكومة والقطاع الخاص، وركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية. وكوني جزءًا من هذا المجتمع الاقتصادي، أرى أن الغرفة عليها أن تتحمل دورًا قياديًا في ترجمة توجيهات جلالته إلى خطوات عملية ملموسة، فنحن أمام مسؤولية تتطلب منا العمل بلا توقف لتعزيز الشراكات الاقتصادية وخلق بيئة تمكِّن رواد الأعمال العُمانيين من تحقيق تطلعاتهم.

وفي عام 2022، ساهم القطاع الخاص العُماني بنسبة تقارب 70% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، وفقًا لبيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، مما يعكس أهميته في بناء اقتصاد متنوع ،ولكي نتمكن من تعزيز هذه النسبة، على الغرفة أن تتبنى دور الوسيط النشط الذي يسعى للتقريب بين رؤية الحكومة وطموحات القطاع الخاص، يشمل ذلك التنسيق مع الجهات الرسمية، وتبسيط الإجراءات، وتطوير التشريعات لتكون مرنة ومتوافقة مع متطلبات السوق، ما يساهم في زيادة مشاركة القطاع الخاص ودعمه لمبادرات التنمية المستدامة.

إضافة إلى ذلك، يجب علينا توجيه اهتمام خاص نحو الشباب، حيث إن أكثر من 40% من سكان عُمان تقل أعمارهم عن 30 عامًا. وتمكين هؤلاء الشباب عبر برامج تدريبية وتوجيهية مبتكرة يعزز مستقبلنا فالاستثمار في الجيل القادم ليس مجرد استثمار في الأفراد؛ إنه استثمار في مستقبل الوطن بأكمله.

أما على صعيد التحديات، فإن البيروقراطية والإجراءات المعقدة تمثل عقبة حقيقية للكثير من المشاريع الصغيرة والمتوسطة. تشير الأرقام إلى أن هذه المشاريع تمثل حوالي 90% من إجمالي الشركات المسجلة في عُمان، ولكن ما زالت تجد صعوبة في الحصول على التمويل والدعم اللازمين للنمو. لهذا، ينبغي علينا في الغرفة السعي لتحسين بيئة الأعمال، وتبسيط الإجراءات لتكون أكثر سلاسة وشفافية؛ مما يعزز الثقة بين المستثمرين والجهات التنظيمية.

كما إنني أرى ضرورة إطلاق حملات توعوية تعزز من إدراك المجتمع بأهمية القطاع الخاص في تحقيق التنمية. النجاح هنا يعتمد على خلق وعي مجتمعي يعرض نجاحات القطاع ويسلط الضوء على مبادرات تُحدث فرقًا حقيقيًا.

وفيما يتعلق بتقييم أثر المبادرات، لا يمكننا الاكتفاء بإطلاق المشاريع دون مراقبة فاعليتها. لذا، أرى أن الغرفة بحاجة إلى تشكيل فرق عمل متخصصة ولجان مراقبة تتولى متابعة التقدم وتقييم أثر كل خطوة. من هنا، نستطيع أن نطور ونحسّن بشكل مستمر ونبني أساسًا قويًا لتحقيق الأهداف.

صحيحٌ أن مسؤوليات الغرفة عديدة ومُعقَّدة، لكنني أؤمن أن التحديات ليست سوى محطات لتقييم قدرتنا على الإنجاز. الدعم السامي الذي وفره جلالة السلطان- نصره الله- يُشجِّعنا جميعًا على مواجهة هذه التحديات بروح التحدي والإصرار، ليس فقط لتحقيق النجاحات الفردية، ولكن لبناء اقتصاد أكثر استدامة وشمولية.

إنَّ الرؤية الواضحة من لدن جلالة السلطان المفدّى، نحو تعزيز دور القطاع الخاص، تتطلب مِنَّا جميعًا العمل بجدية وإصرار وغرفة تجارة وصناعة عُمان، بوجودنا جميعًا، تقف الآن أمام فرصة حقيقية لتحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس؛ مما يُسهم في بناء عُمان التي نحلم بها جميعًا، ويدفعنا نحو مستقبل يُحقق طموحات الأجيال القادمة.

مقالات مشابهة

  • رؤية السلطان وحتمية التنفيذ
  • الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي بلبنان: المبنى المستهدف بالغارة الإسرائيلية لا يوجد فيه مدنيون
  • مقتل شخص وإصابة 3 آخرين في الغارة الإسرائيلية التي استهدفت رأس النبع وسط بيروت
  • الدفاع المدني الفلسطيني: مواصلة الاستهدافات والمجازر الإسرائيلية التي ترتكب بشكل يومي
  • رئيس المجلس الفلسطيني يوجه نداء للمجتمع الدولي للتدخل لوقف المجازر الإسرائيلية بغزة
  • «البرلمان العربي» يحذر من الصمت الدولي تجاه الجرائم الإسرائيلية
  • نادي الأسير الفلسطيني يعلن حصيلة اعتقالات جديدة في الضفة الغربية
  • "العربي للدراسات": إسرائيل تخطط لابتلاع الضفة الغربية في 2025
  • البرلمان العربي في الذكرى الـ36 لإعلان وثيقة الاستقلال الفلسطيني: إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة حق أصيل
  • اليوم.. العرض العربي الأول لفيلم "غزة التي تطل على البحر"