جدليّة حرية التعبير في الغرب وحتمية البديل العربي
تاريخ النشر: 8th, November 2023 GMT
منذ بداية حرب الإبادة والتطهير العرقيّ الإسرائيلية/ الغربية المستعرة حاليًا ضد قطاع غزة وأهلها - والتي اتُخذت ذريعة سانحة، واسُتغلّت بأبشع الأساليب دموية وعنفًا منذ عقود، أملًا في محو هذه القضيّة الخالدة لشعب لا يُقهر وتحويل الفلسطينيّين إلى شراذم مبعثرة و«دياسبورا» لا صوت لها، أشبه بالنهاية الحزينة التي بلغتها قبائل الهنود الحمر بعد أن نُكبت بدخول المستعمرين الجدد بمستوطناتهم ومدافعهم وتبشيرهم وأوبئتهم، تزامنت معها حربٌ أخرى لا تقل ضراوة ولا شراسة، وهي الحرب الإعلامية والفكرية والدعائية لكسب معركة العقول والقلوب في فضاء العالم الإلكتروني والافتراضي في مختلف المنصات والمنابر الإعلامية التقليدية والإلكترونية في الغرب الأوروبي والولايات المتحدة.
كما هبّت منصات، مثل الإنستجرام والفيسبوك وغيرها، إلى سحب وحذف وإغلاق الحسابات التي تتعاطف مع القضية الفلسطينية محذرة إياهم من مغبة الاستمرار في نشر أي محتوى «مخالف» لسياسة النشر في تلك المنصات، انسجامًا واستسلامًا لهيمنة اللوبي اليهودي على معاقل الإعلام والصحافة والسينما والتلفزيون في الغرب.
وحتى مع ظهور أصوات لا تتبنى هذا الخط بالشدّة نفسها من التبعية والاستسلام، إلاّ أنه سرعان ما شُنت عليهم حملة الإقصاء والتخوين ومعاداة السامية، وهو ما حدث مع «إيلون ماسك» مالك منصة «إكس/ تويتر»، عندما صرّح عن عزمه تزويد منظّمات الإغاثة الدوليّة بالإنترنت الذي قطعته إسرائيل عن قطاع غزة، لتوارى شناعة فظائعها عن العالم، بل واتهمه الكاتب «جوزف مين» في صحيفة واشنطن بوست في عددها الصادر بتاريخ 8 أكتوبر الماضي بنشر الأكاذيب وبث دعايات مغرضة ضد إسرائيل وتحريض متابعيه المائة والخمسين مليونًا على متابعة حسابات تويترية مثل (WarMonitors@) و (sentdefender@) لمتابعة تطوّرات الحرب.
ويلاحظ التوجّه نفسه في كبريات الصحف الأمريكية مثل «نيويورك تايمز»، والمدهش استخدامها لصيغ إعلامية تقطر خبثًا ومواربة وتجاهلًا للشهداء الفلسطينيين، حيث نشرت في عددها بتاريخ 31 أكتوبر الماضي تغطية كتبها «ماثيو بيج» و«كارين زريك» و«إيما بابولا»، لمجزرة معسكر جباليا شمالي غزة أقتبس منها هذا السطر (وتظهر الصور التي بثتها وكالة رويترز الإخبارية سيارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر في أحد الشوارع، وأكثر من «ثلاثين ملاءة بيضاء» تغطّي على ما يبدو أنها جثث ملقاة على الأرض). وحفلت الأعمدة الصحفيّة وتصريحات المسؤولين الغربيين من كافة الأطياف بذات الخطابات المصطفة مع إسرائيل، ويكاد لا تجد فرقًا بينها وما يصدر من تصريحات أو بيانات إسرائيلية، فيما بلغ السقوط المجلجل في فرنسا وألمانيا بمنع المظاهرات المتعاطفة مع الفلسطينيّين! ومساءلة المواطنين الأمريكيّين لمجرد الدعوة إلى المقاطعة أو الترويج لها. والعجيب أنه حتّى منصات الـذكاء الاصطناعي التوليديّ (ChatGPT) أصبحت «فجأة» تعطي إجابات منحازة لإسرائيل! وتتجاهل المأساة الفلسطينيّة بصياغات غريبة حيث يتم التلاعب بخوارزميات البرنامج لأمر دبر بليل.
وسيكون من ضروب السذاجة اعتبار الغرب كله «واحدًا»، وللإنصاف، فإنه رغم انحياز الموقف الغربي الرسمي إزاء الصراع، إلّا أن شعوبهم أبت أن تُجرّ كالقطعان في هذا الوحل السياسي القذر لإرضاء اللوبي الصهيوني، وسرعان ما اندلعت المظاهرات والمسيرات الرافضة للعدوان الإسرائيلي في معظم العواصم الغربية والمدن الأمريكية، خاصة بعد انتشار مشاهد المجازر وقتل الأطفال والنساء بحجج إسرائيلية لم تعد تنطلي عليهم، وخسارتها للمعركة الأخلاقية في الصراع، بل أستطيع القول إن إسرائيل أصبحت الآن دولة منبوذة أخلاقيًا أمام الرأي العام العالمي، في حين تزايدت الكتابات الغربية لبعض النخب الفكرية التي تطالب الحكومات الغربية بالكف عن التأييد الأعمى لآلة القتل الإسرائيلية.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى (وفق المتنبي للّه دره) بعضًا ممن نحسبهم في خندق العروبة والإسلام قد أصابتهم العدوى، فتدحرجت القضية الفلسطينية من أولوياتهم إلى أصقاع لا نعرفها، وضلّت طريقها خلسة لمسرح العبث! وهنا لا أملك إلّا أن أعتزّ بالموقف العماني من هذا الصراع الوجودي وتضامنه الأخلاقي والمبدئي والقيمي والديني مع حق الشعب الفلسطيني في مقاومة المحتل واستعادة دولته، وهو ما جسّدته بكل فخر المواقف الرسميّة والشعبيّة العمانيّة، بل إنّ معالي السيّد وزير الخارجيّة العماني، لم يتردّد في الدعوة إلى إجراء تحقيق دولي مستقل حول العدوان الإسرائيلي و«محاكمته» لاستهدافه المدنيين في غزة.
بيد أنّ موقف هذه المؤسسات الإعلامية الغربية الضخمة غير مستغرب من الشعب الفلسطيني والقضايا العربية، فما الذي يجبر «مارك زكربيرج» مالك شركة فيسبوك وإنستجرام مثلًا أن يكون مع الحق الفلسطيني أو «روبرت مردوخ» اليهودي الذي يمتلك كبريات الصحف والقنوات الفضائية الأمريكية والبريطانية والأسترالية أن يتحوّل فجأة إلى قامة أخلاقية وقديسًا في محراب العدل والضمير وحرية الكلمة ومناصرًا لقضايا العرب! ولم عساه أن يفعل ذلك أصلًا؟ إذا لم يشتغل العرب على أنفسهم لانتزاع تأثيرهم ونفوذهم لإيصال صوتهم بعيدًا عن سطوة وأيديولوجيا هذه المؤسسات وحكوماتها عوضًا عن التسابق لشراء الصحف والمنابر الإعلامية العربية للطعن والغمز وتعبئتها ضد دول عربية أخرى!
في سياقات كهذه، حيث يُختطف صوت الضحية الفلسطيني، ويُمجّد المعتدي الإسرائيلي في المنابر والمنصات الغربية التقليدية والإلكترونية، يصبح من الحتمي وجود منصات عربيّة قلبًا وقالبًا، ومن مصلحة الأمة أن يكون لديها تطبيقات ضخمة في شبكات التواصل الاجتماعي لا تقل عن إنستجرام وفيسبوك وإكس وغيرها؛ وبالتالي تمتلك الاستقلاليّة لتقدّم للعالم السردية المنصفة للقضايا العربية وروايتها للتاريخ بعيدًا عن عين الرقيب المتصهينة، وللمقاربة لك أن تتخيّل أيها القارئ الكريم لو لم تكن قناة الجزيرة مثلًا (رغم اختلافنا أو اتفاقنا على مهنيتها وتوجهاتها)، موجودة في تغطية الصراع في قطاع غزة وعموم فلسطين المحتلة، كيف كنا سنشاهد الفظائع الإسرائيلية؟! ولا غرو أن يتحوّل مراسلها وأسرته (رحمة اللّه عليها) إلى هدف حربي في قائمة الأهداف الإسرائيلية.
لقد حان الوقت لمواجهة جدلية حرية التعبير الغربية باشتغال عربي متقدم لإنتاج فضاءاته الافتراضية الخاصة عبر منصات عربية حقيقية ومستقلة عن التبعية الإلكترونية للغرب، ولنكفّ عن جلد ذواتنا، وينبغي علينا كعرب أن نقرأ التجربة الإسرائيلية في هيمنتها على الخطاب الغربي، وكيف نجحت في ذلك ونتعلّم منه، وللتاريخ، فالخوارزميّات (Algorithm) التي تعدّ مهد الثورة الرقمية الحديثة، انطلقت من بغداد منذ القرن التاسع الميلادي، ونحن من قدمناها إلى العالم، ولعلّها ستكون خطوة أولى نحو الانعتاق من هذه المرحلة البائسة، حتى لا نجد كتاباتنا وآراءنا ونداءاتنا قد صودرت بكبسة زرّ، وتبخرت أحرفها، ويُنتقى منها ما يشاؤون تدليسًا وتزويرًا وبهتانًا، ونستطيع أن ننحت فيها كلمات ومفردات جديدة مثل «الفيلوكوست» الّتي يمكن أن تشير إلى المذابح والمجازر التي يرتكبها النازيون الجدد بحق الفلسطينيين واللبنانيين.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
عبيدات يكتب .. بين حرية الإنسان ، وحرية الأوطان
#سواليف
بين #حرية_الإنسان ، و #حرية_الأوطان
كتب .. المحامي #لؤي_عبيدات
لا اعتقد ان الموضوع يحتاج إلى كل هذا الجدل وليس هناك اي تعقيد فيه ، إلا على من تستعصي عقولهم بسبب داء (( العماء الإيديولوجي )) ، وبإيجاز شديد فإن الإنسان هو الثابت الوحيد ، وهو القيمة الأسمى على وجه هذه المجموعة الشمسية ، اما الاوطان فهي متغيرة متبدلة فحيث تكون حريتي وتصان كرامتي فذاك هو وطني ، ولسنا معنيين بجغرافيا لا تصان فيها كرامتنا وتحفظ فيها حقوقنا كبشر ويمارس علينا فيها الظلم بكل صنوفه وتجلياته.
مقالات ذات صلة 30 شاغرًا وظيفيًا لذوي المصابين العسكريين .. تفاصيل 2024/12/18وعلى ذلك اما ان نناضل لتغيير هذا الواقع الاستبدادي السقيم لنصنع من اوطاننا واحات للحرية والعدل والتي تستنبت فيها فسائل الكرامة والانصاف والصفح وتهبط على ترابها شموس الازدهار والتطور ،، واما ان نبحث لانفسنا عن اوطان اخرى تكتنز بكل هذه القيم والمعاني والإنجازات .