أنا أوكرانية وأرفض التنافس على جذب انتباهكم
تاريخ النشر: 8th, November 2023 GMT
في اليوم الذي هاجمت فيه حماس إسرائيل، التقيت على غير انتظار بأعز أصدقائي في كييف.
منذ الحرب الروسية في فبراير من العام الماضي، لم تتقاطع مساراتي إلا لماما فأنا بوصفي محاضرة وباحثة ومتطوعة، كنت أتنقل بين أوكرانيا وبريطانيا، في حين أن صديقي كان يسافر في أرجاء أوكرانيا بوصفه منتجا محليا يعمل مع الصحفيين الذين يقومون بتغطية الحرب وكان ذلك عملا مهما.
قال لي صديقي حينما التقينا في مكاننا المعهود في كييف «إنهم يغادرون أوكرانيا لأن الحركة بطيئة على الجبهة، لكن سيرجع الصحفيون فورا إذا ما حررنا أي قطعة ذات شأن من الأرض».
قلت لنفسي، تحرير قطعة أخرى ذات شأن من الأرض واكتشاف مقبرة جماعية أخرى. من شأن ذلك أن ينعش، لأيام قليلة، ذاكرة العالم تجاه ما تواجهه أوكرانيا، وقلت إن دزينة من الدبابات الإضافية قد تعقب ذلك، بجانب تجدُّد الحديث شيئا ما عن الالتزام. لكن على أن تكون الأسلحة كافية لمواصلة القتال دون أن تكون كافية لتحقيق النصر، وتبقى أوكرانيا في طريق مسدود مثلما قال الجنرال فاليري زالوجني أخيرا، ويبقى لزاما على من ليسوا في الخنادق منا أن يبيعوا المقاومة الأوكرانية للعالم، فيحكون قصصنا على أمل تلقِّي الدعم.
على مدار عشرين شهرا وأنا أدبج المقالات في الأسباب التي تدعو العالم إلى تركيز اهتمامه على أوكرانيا، فكتبت من ملجأ في لفيف للاختبار من القنابل، وفي قطار يغص باللاجئين في بولندا، وفي مرحاض خلال غارة جوية في كييف، وفي المقعد الخلفي بسيارة راجعة من بلدات قريبة من الجبهة، والآن وأنا مستريحة في مكتبة بلندن أحاول مرة أخرى أن أقنع القراء بألا يشيحوا بأنظارهم بعيدا عن نضال بلدي من أجل النجاة والبقاء، حتى حينما يندلع عنف غير مسبوق في مكان آخر من العالم.
ولكن الكلمات لا تطاوعني، أرفض التنافس على الاهتمام.
من أجل جذب الانتباه الدولي، وهو متقلب لكنه منقذ للحياة، يصور الأوكرانيون مقاطع فيديو في تيك توك، يصورونها في الخنادق، ويصورون أفلاما وثائقية تفوز بجوائز في المواقع التي تشهد جرائم حرب في لحظة يظهرون بسالة تنحبس لها الأنفاس، وفي التالية يظهرون جراحهم. وسواء في قمم الناتو أم في فعاليات تيد، يستعمل الأوكرانيون كل المنصات المتاحة لحكي حكاية المستضعفين بأصوات لا حصر لها ليبقى العالم مشغولا بمعركتنا الوجودية.
ومع ذلك، فإن رواية هذه الحكايات الخطيرة تظهر الأوكرانيين بمظهر الأطفال، بل تحيلنا أطفالا ينافسون على لفت أنظار الكبار. وحلفاؤنا يلعبون دور من يسهل تشتتهم، دور المتفرجين دائمي التبرم الذين لا يمكن أن يواجهوا حقيقة الغزو غير المزينة. غير أن الحقيقة ماثلة ملء العين في مركز الصورة مثول الجمجمة الشائهة في لوحة هانز هولباين العظيمة المرسومة سنة 1533 وعنوانها «السفيران».
مستغلة إقامتي المؤقتة في لندن، ذهبت أخيرا إلى الجاليري الوطني لأشاهد صورة الرجلين المثقفين وهما يرتديان أبهى حللهما الفرائية المخملية. في ما بينهما، ولسبب غير معلوم، ثمة شكل غريب مرتفع عن الأرض، يشبه الرخويات إلى حد ما، عند النظر إليه من الزاوية اليمنى، يتكشف الشكل الرمادي الشائه عن جمجمة. هي إشارة إلى تفاهة شأن الفراء والمخمل، والزخارف اللغوية، والرقص على حافة الهاوية. يمزق هولبين صورة الثراء والسعي الدنيوي بحقيقة نهائية هي الموت.
بعد عشرين شهرا من كتابة نعي أصدقائنا ومشاهدة بلداتنا تتحول إلى ركام تحت نيران العدو، بات الأوكرانيون يألفون كثيرا مفهوم العنف والموت المفاجئ، صرنا نتبادل قوائم موسيقية لجنائزنا ونشكو من اضطرارنا إلى ارتداء ملابس أنيقة للنوم خشية أن نغتال في نومنا خلال زيارة ليلية أخرى تقوم بها الطائرات المسيرة الإيرانية أو الصواريخ الروسية.
لكن خطر الإبادة لم يزدنا استعدادا للاستسلام، فوفقا لاستطلاع رأي حديث، لا يزال 80% من الأوكرانيين يعارضون التنازل عن أرض لروسيا، حتى لو أن هذا يعني نهاية الحرب. ومثلما تقولها غرف التعذيب والمقابر الجماعية في المناطق المحررة من كييف وخاركيف وخيرسون صارخة، فإن الاحتلال الروسي لا يخيرنا نحن الأوكرانيين بين الحياة والحرية، وإنما تأخذ روسيا كلتيهما، ثم تأخذ ما هو أكثر.
برغم كل حكينا للحكايات، يبدو أن ما أخفقنا في تعريف حلفائنا به هو أن الإبادة الموعودة لنا من قبل روسيا ليست مدخرة للأوكرانيين وحدهم. فبزرع الألغام في حقول أوكرانية وبقصف للبنية الأساسية الزراعية، تعد روسيا بتجويع أجزاء من آسيا وأفريقيا تعتمد على صادرات الغذاء الأوكرانية، وباستعمال الطاقة سلاحا، تغذي روسيا رد الفعل اليميني في أوروبا، إذ يستغل الساسة الشعبويون السخط الاجتماعي. وباحتلال محطة زابوريجيا للطاقة النووية، والانسحاب من معاهدة حظر التجارب النووية، والتلويح بسيفها النووي، تعمل روسيا على أن تجعل الابتزاز النووي من طبائع الأمور.
وذلك ببساطة لن يوقف أوكرانيا. كل بضعة أيام، يقوم الدعائيون في التلفزيون الروسي الرسمي بتخيل غزو بولندا أو دول البلطيق أو فنلندا، ولقد كان العجز عن معاقبة روسيا عقابا مقنعا بسبب غزوها الأولي لأوكرانيا قبل قرابة العقد هو الذي أدى إلى تصعيد عام 2022 وألهم آخرين بعدم احترام القانون الدولي، ومنهم النشطون حاليا في الشرق الأوسط. وبديل المعاقبة هو عالم ما بعد الديمقراطية المتشظي الذي بات متزايد الاحتمال، العالم الذي يترك المناضلين من أجل الحرية وحدهم.
إن الأوكرانيين يقاتلون وهم على معرفة كاملة بأنه ما لتسوية مع الشر أن تقضي على الشر. هذه هي الحقيقة التي يجب أن يتأملها حلفاؤنا ويستوعبوها ويتصرفوا بناء عليها، دونما اضطرار إلى تذكيرهم بها المرة تلو المرة وإلى الأبد.
ساشا دوفجيك أمينة المشاريع الخاصة في المعهد الأوكراني في لندن. عملها في أوكرانيا مدعوم من معهد العلوم الإنسانية في فيينا.
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هل تسترد روسيا أوكرانيا (١).. !!
* بعد ثورة "البلاشفة" سنة ١٩١٧م، قام "فلاديمير لينين" بتأسيس دولة أوكرانيا سنة ١٩٢٢م، على أرض روسية، وفي ١٩٥٤ ضَمَّها "نيكيتا خروشوف"- الأوكراني الأصل- إلى الاتحاد السوفييتي، فتعتبر أوكرانيا أولى مناطق القومية الروسية، وعاصمتها (كييف)، ثم (سانتبيتربورج)، وأخيرًا أصبحت "موسكو" العاصمة.
* يتحدث ثلث سكان أوكرانيا اللغة الروسية، وربما يدفعهم ذلك (كما يزعم البعض)، لعودتهم لروسيا (الدولة الأم).
* تمتلك أوكرانيا معادن هامة، ونادرة كاليورانيوم والتيتانيوم والأباتيت وغيرها.. كما كانت مصدر الغذاء الأهم للاتحاد السوفييتي لخصوبة أرضها، وتعتبر "الدوبناس" الأوكرانية هي المنطقة الصناعية الرئيسية للاتحاد السوفييتي بعد انهياره على يد "جورباتشوف" في ١٩٩١م، وبها تُصنَع محركات الصواريخ.
بعد اكتشاف الغاز في أوكرانيا اتفقت معها أمريكا على استخراجه، وبيعه لأوروبا كبديل للغاز الروسي.
* ورثت "روسيا" عن الاتحاد السوفييتي برنامجًا متقدمًا لصناعة الصواريخ الفوق صوتية، وأنتجت مؤخرًا نوعًا تفوق سرعته سرعة الصوت ٢٥ مرة، وهذا النوع لا تملكه أي دولة حتى أمريكا مما يَجْعَلها قادرة على تدمير حاملات الطائرات الأمريكية الإحدى عشرة بضرباتٍ صاروخية خاطفة.
* لا تتردد روسيا خلال هذه الحرب في تضحيتها بمليون جندي لتَمْنَع انضمام أوكرانيا إلى حِلف الناتو فتهدد أراضيها صواريخ الغرب.
* فمنذ أعلنت الحرب على أوكرانيا ٢٤ فبراير ٢٠٢٢م، تُقدِّم أمريكا وحلف الناتو مساعدات لأوكرانيا عسكرية، وإمدادات طبية وغذائية، كي لا يحقق "بوتين" هدفه من هذه الحرب، وهو إضعاف حلف الناتو، وتفكيكه.
* كما صَرَّح "جيك سوليفان" مستشار الأمن القومي الأمريكي (السابق) بأن أمريكا ستُوفِّر الذخائر العنقودية لأوكرانيا بعد أن تتعهَّد أوكرانيا بعدم استخدامها خارج أراضيها لخطورتها على المدنيين.
* وكان الرئيس الأمريكي السابق "جو بايدن" قد صرَّح: "بأن "بوتين" أخطأ عندما ظن أن بإمكانه استدراج الحِلف إلى حرب فنحن حريصون على جاهزية الدفاع عن أي عضو من أعضائه، وإننا نأمل فى انتهاء الحرب المُخالِفة لمواثيق الأمم المتحدة التي انتهكتها روسيا بهجومِها على أوكرانيا".
ورغم اعتراف (الناتو) بتدريبهم للجيش الأوكراني منذ عام ٢٠١٤م، إلا أنهم يرون أن أي حرب برية مع روسيا ستكون أوكرانيا هي الخاسرة، كما حذَّر نائب سكرتير مجلس الأمن الروسي "ديمتري ميدفيديف" من أن مساعدات (الناتو) العسكرية لأوكرانيا في حربها بالوكالة لصالح أمريكا لكسر هيبة روسيا كقوةٍ عُظْمى لن تمنع روسيا من تحقيق أهدافها في أوكرانيا، وقد تُشْعِل مساعداتهم حربًا عالمية ثالثة.
فماذا بعد مهزلة البيت الأبيض، وإهانة الرئيس الأمريكي "ترامب" لنظيره الأوكراني "زيلنسكي"؟
نُكمل لاحقًا..