مؤخرا وافقت «أوكسيدنتال» وهي شركة نفط أمريكية كبرى على شراء الشركة الكندية المختصة باحتجاز الكربون «كاربون إنجنيرنج» مقابل 1.6 بليون دولار. تؤكد الصفقة على تزايد اهتمام شركات النفط الكبرى بتقنيات احتجاز الكربون التي تلتقط ثاني أكسيد الكربون من الهواء. السؤال: ماذا يعني ذلك للمناخ؟

لنفترض أن شاحنة أفرغت شحنة من الروث على عشب الحديقة الأمامية لبيتك ثم طلبت منك رسما مقابل نقله، شركات النفط الكبرى تنتج الوقود الذي يطهو كوكبنا؛ لذلك فكرة أنها ربما تربح من تنظيفه تصدم العديدين.

يقول نقاد هذا التوجه إن شركات النفط الكبرى توظف إزالة الكربون لحماية نشاطها الأساسي. فإزالة الكربون كما تراه فيكي هولوب الرئيس التنفيذي لشركة أوكسيدنتال يعني «نحن لسنا بحاجة إلى وقف استخدام النفط». ويقول المدافعون عنه يمكن لشركات النفط الكبرى المساعدة في تحقيق المطالب الاجتماعية بالتخلص من الكربون وفي الوقت ذاته جلب الخبرة الفنية لأسواق خفض الكربون الجديدة (الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية وأنظمة تسعير وتداول الكربون الخ....)

هل هذا غسيل أخضر أم تحويل السيوف إلى محاريث؟ (بمعنى هل عمل شركات النفط الكبرى في مجال احتجاز الكربون تظاهر خادع منها بحماية المناخ أم تحول حقيقي لخدمة قضية المناخ - المترجم).

أعتقد بناء على خبرتي كأكاديمي مشغول بقضايا المناخ وكمؤسس لشركة كاربون إنجنيرنج التي لا أزال عضوا في مجلس إدارتها أن شركات النفط الكبرى لن تنجح فيهما كليهما، فالتظاهر بخدمة المناخ لن يحميها، كما لن تتحول بسلاسة من إمدادات النفط إلى إزالة الكربون.

مع ذلك قد تحقق لعبة احتجاز الكربون التي تلعبها شركات النفط بعض الفوائد المهمة جزئيا لأنه من المستبعد أن تمضي على النحو الذي تأمل فيه، ستثير شركات النفط الكبرى ضجيجا حول إنجازاتها المناخية سواء الحقيقية أو المتخيلة، وهذا سيقلل من استياء الرأي العام ويساعد على توظيف المواهب لكن من الصعب تصور الكيفية التي تقلل بها مثل هذه الإنجازات من حجم التهديد الذي يواجه نشاطها الأساسي (إنتاج النفط) وهو التهديد الذي تحركه السياسات المناخية المتسارعة والتكلفة المتقلصة للسيارات الكهربائية.

إزالة الكربون على نطاق واسع تعني أن أسعار الكربون ستكون مرتفعة بما يكفي وسياسات التخلص من الكربون متشددة بما يكفي لخفض الطلب على النفط بشكل حاد، فمن المرجح أن تكلف الإزالة الدائمة للكربون أكثر من 150 دولارا للطن على الأقل لفترة عقد أو عقدين، وهذا يماثل فرض غرامة تصل إلى ما يقرب من 70 دولارا لبرميل النفط.

وعلى الرغم من أن نشاط شركة النفط في مجال إزالة الكربون يضفي عليها «هالة خضراء» إلا أنه مهما كان ناجحا لن يحمي نشاطها التقليدي في مجال النفط من ارتفاع أسعار الكربون والتشدد في سياساته.

ترتكز جدوى «تحويل السيوف إلى محاريث» على فرضية نقل الخبرة من قطاع النفط والغاز إلى إزالة الكربون أو حتى لأبعد من ذلك إلى الطاقة الشمسية والتقنيات النظيفة الأخرى.

لكن على الرغم من أن المهارات الهندسية يمكن نقلها إلى مجال آخر إلا أن إمكانية الانتقال إلى مجال عمل آخر أقل احتمالا. وثقافة الإدارة التي يُستهدَف بها النجاح في الرهانات الخطرة كالاستثمار الكبير في الهيدروكربونات (في حقول النفط البحرية الفائقة العمق مثلا) مختلفة عن ثقافة الإدارة المطلوبة للنجاح في الطاقة النظيفة أو إزالة الكربون.

عندما تنشئ شركات النفط وحدات ناجحة لإزالة الكربون ستتناقض مصالح هذه الوحدات مع النشاط التقليدي لهذه الشركات نفسها في مجال النفط، فمن مصلحة قطاعها التقليدي انخفاض أسعار الكربون وارتفاع أسعار النفط، أما وحدات احتجاز الكربون فسترغب في العكس.

ويفضل كبار المستثمرين كصناديق التقاعد الاستثمار في الشركات التي تركز على مجال واحد؛ لذلك ستضغط لفصل نشاط إزالة الكربون عن إنتاج النفط، وتاريخيا نادرا ما تصمد الشركات القائمة عندما يحدث تحول جذري في نشاطها. لقد كانت شركة «آي ب ام» استثناء في ذلك لكنها الآن «تقزَّمت» أمام شركتي آبل ومايكروسوفت.،وفوائد الجمع بين نشاطين أساسيين تقليدي وجديد عادة ما تفوقها صعوبات وتكاليف الحفاظ على النشاط التقليدي.

لذلك حتى عندما تنجح شركات النفط الكبرى في مجال إزالة الكربون فإن النتيجة الأكثر احتمالا هي قيام شركات تقنية نظيفة مستقلة إلى جانب شركات النفط التقليدية وليس نشوء مجموعات شركات متكاملة وناجحة.

وهكذا يمكن لأنصار حماية البيئة الترحيب بتحول شركات النفط الكبرى إلى إزالة الكربون بسبب المهارات التي تأتي بها مع التفاؤل الحذر بأن تحويل «السيوف إلى محاريث» لن يفعل الكثير لحماية نشاطها النفطي التقليدي من التحديات التي تواجهه.

كل المهارات مطلوبة بشدة، فتشييد مصانع لإنتاج البطاريات وإقامة بنية أساسية للهيدروجين أو منشآت لالتقاط الكربون من الهواء ببلايين الدولارات يتطلب مهارات هندسية وإدارية تتركز في مجالات مثل صناعات النفط والسلع الكيماوية.

شركة أوكسيدنتال على سبيل المثال تخطط لتشييد مصانع يمكنها إزالة وتخزين ما يصل إلى 30 مليون طن من الكربون في العام في كنج رانش بولاية تكساس الأمريكية، وهذه الكمية تماثل احتجاز ما بين 30 مليونا إلى 60 مليون طن من الكربون الذي تطلقه الطائرات العابرة للمحيط الأطلسي سنويا.

على الرغم من أن أوكسيدنتال لم تشيّد أبدا منشأة لاحتجاز الكربون المباشر من الهواء إلا أن تقنية شركة كاربون إنجنيرنج توحِّد بين العمليات الصناعية الحالية لتحقيق الهدف الجديد لإزالة الكربون. كما لدى أوكسيدنتال خبرة بكل المكونات (تقريبا) اللازمة لالتقاط الكربون مباشرة من الهواء وتخزينه بما في ذلك هيدروكسيد البوتاسيوم وهو مركب كيماوي يُستخدم في هذه العملية، ولا يمكن لشركة ناشئة بناء مصانع بقدرات إنتاجية تصل إلى عشرات بلايين الأطنان دون مهارات لشركة سبق لها أن شيدت منشآت صناعية ضخمة.

يجب الاحتفاء بتحول شركات النفط الكبرى إلى تنظيف الهواء واعتباره مؤشر قوة وليس علامة ضعف لدعوة حماية البيئة. ففي الواقع، هذه الاستثمارات لم تتحقق ببساطة لأن شركات النفط استيقظت فجأة وشعرت بالحاجة إلى حماية المناخ. لقد كانت السياسات المناخية هي القوة التي تقف وراءها واليوم أهم محرك لها هو حوافز الطاقة النظيفة التي استحدثها جو بايدن. لكن هذه الحوافز لم تظهر فقط لأن الرئيس الأمريكي شعر فجأة بأهمية الطاقة الخضراء، إنها ثمرة عقود من الدعوة إلى حماية المناخ.

«الغسيل الأخضر» خطِر ولأنصار حماية البيئة الحق في الشعور بالقلق منه، فشركات النفط الكبرى ستحاول استخدام إزالة الكربون من الهواء للدفاع عن الوضع الحالي لكن هنالك جانب سياسي إيجابي؛ لذلك فاقتصار نشاط شركات النفط الكبرى على إنتاج النفط والغاز في عالم يتجه إلى تنقية الهواء من الكربون يعني أنها بلا مستقبل، وستحارب التقدم وظهرها إلى الحائط لكن إذا عملت أيضا في مجال احتجاز الكربون ستتضارب مصالحها فيما بينها (ومصالح المجتمعات التي تعتمد عليها). فوحداتها التي تعمل في صناعة خفض الكربون ستؤيد بشدة تبني سياسة مناخية متشددة. لكن وحداتها النفطية التقليدية ستعارض هذه السياسات. أملي أن ييسِّر هذا الالتباس في المصالح المساوماتِ السياسية المطلوبة لتسريع التقدم في حماية المناخ.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: احتجاز الکربون إزالة الکربون حمایة المناخ من الکربون من الهواء

إقرأ أيضاً:

ضيف ثقيل!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

إنه الصيف يا سادة، ثقيل بشدة حرارته بعد أن أصبح التغير المناخي يجلب طقسًا أكثر تطرّفٍ في كل موسم جديد. 

إن موجات الحر تشكل خطرا متزايدا على صحة الإنسان والحيوان والطبيعة وأصبحت أكثر تواترًا وشدةً وأطول مدةً، وستستمر على هذا النحو في جميع السيناريوهات المناخية المحتملة وفقًا للدوائر العلمية المعنية بالمناخ والطقس، منها خدمة كوبرنيكوس لتغير المناخ التابعة للاتحاد الأوروبي.

 وقد سبق أن أشارت "كوبرنيكوس" إلى أن عام 2023 كان العام الأكثر سخونة على الإطلاق خلال الفترة الممتدة من عام 1850 حتى 2023، حيث اقتربت درجات الحرارة من الارتفاع الحرج بمقدار 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، وتوقعت استمرار هذا الارتفاع أيضا خلال الصيف الحالي والأعوام المقبلة. وحذرت من وقوع أضرار لا يمكن إصلاحها على كوكب الأرض.

للأسف التحذيرات متكررة ومن جهات عديدة لكن لا حياة لمن تنادي، وقادة الكوكب هم أنفسهم مدمرو الكوكب، بينما تستمر هذه التحديات المناخية في فرض ضغوط بشكل متزايد على السكان والاقتصاد والطبيعة ناهيك عن الصحة، حيث ظهور أمراض مرتبطة بتغيرات الطقس مثل الحساسية والفيروسات والفطريات والحمى، إضافة إلى عودة محتملة لأمراض حسبناها قد انقرضت. 

الأمر جدي وأصبح في منتهى الخطورة وقد تتجاوز أيام الحرارة الشديدة 60 يومًا صيفيًا وتكون خلالها الأجواء مهددة لصحة الإنسان؛ وهذا يعني ارتفاعًا محتملًا في حالات المرضى ودخول المستشفيات، نتيجة الجفاف أو ضربة الشمس، خاصة بين كبار السن والأطفال وأصحاب الأمراض المزمنة، ما لم يتم اتخاذ تدابير كافية للحماية. ولعل مرضى القلب والضغط والأوعية الدموية والجهاز التنفسي هم الأكثر عرضة لمخاطر شدة الحرارة ولمسنا ذلك واقعيًا خلال موسم حج 2024.

كل هذه الحالات غير الاعتيادية تحتاج إلى مزيد من الإحاطات الإعلامية مزودة بنصائح الخبراء والأطباء، وما يمكن أن نتوقعه في المستقبل من تبني سياسات للتكيف المناخي وفقًا للتوجيهات العلمية، خاصة وأننا لسنا مستعدين بعدُ للتعامل مع هذه التحديات، ونحتاج على وجه السرعة للتعرف على أفضل الممارسات من جميع أنحاء العالم لرفع مستوى الوعي بين كافة شرائح المجتمع وصناع القرار بكيفية التصدي لتغير المناخ ودعم الجهود لوضع أفضل التدابير للتخفيف من الآثار الناجمة عن الاحتباس الحراري، وتحسين جودة الحياة في ظل هذه الظروف التي تحتاج أن نواجهها ونتأقلمَ معها بحرص ووعي بأبعاد القضية. 

وقد لاحظ كل من غطى مؤتمرات المناخ السابقة، خاصة الأخيريْن في شرم الشيخ والإمارات، كيف كان الصراع محتدًا بين الدول النامية والمنظمات البيئية من جهة والدول الكبرى من جهة أخرى والتي تتقاعس وتتلكأ عن تخصيص تمويلات لصندوق مجابهة الأضرار. 

ورغم كون معظم الدول الكبرى لديها سياسات خاصة بها للتكيف واستراتيجيات صحية وطنية لمواجهة تأثيرات الحرارة على مجتمعاتها، إلا أن الدول النامية والفقيرة، ومعظمها ضحايا لعدة عقود جراء صناعات الدول الكبرى والانبعاثات الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري، لم تستفد حتى الآن من الدعم المطلوب للتكيف المناخي.

ولا حلول الآن إلا المزيد من الضغط الدولي على هذه الدول الكبرى حتى تفي بوعودها تجاه الكرة الأرضية التي عانت طويلا من استغلالها وتدميرها ومن طرف الدول الكبرى قبل غيرها؛ وهي بذلك إذا استجابت وتدخلت فسوف تنقذ شعوبها قبل الشعوب الأخرى التي لا يقام لها حساب يذكر!

وحتى يتحقق ذلك، مطلوب الآن جهد إضافي من غرف الرصد المبكّر المحلية حتى تعطي توجيهات مسبقة ليتم اتخاذ الإجراءات الوقائية والحد من الأضرار والخسائر. 

وفي مجال الزراعة التي تؤمّنُ غذاء الناس فهناك حاجة ماسة للتكيف، ويمكن للمزارعين الحد من الآثار الضارة الناجمة عن المخاطر المتعلقة بدرجات الحرارة والجفاف من خلال تكييف أصناف المحاصيل وتغيير مواعيد الزراعة وتغيير أنماط الري. وبدون مزيد من التكيف، من المتوقع أن تنخفض المحاصيل وعائداتها على الفلاح في المستقبل، الذي يعد أضعف حلقة في هذه الكوارث.

أما وقد أصبحت شدة الحرارة أمرًا ليس بشاذٍّ وجزءا من اتجاه طويل المدى، فإن علينا كدولة ومجتمع أن نستعد أكثر فأكثر وأن يكون هذا الملف على قائمة أولوياتنا خلال السنوات العشر المقبلة، وأن نعتمد على ذاتنا في ظل التمويل الدولي الشحيح. ولا أدري هل نحن في مستوى هذه التحديات الجسيمة، وسط تراكم الملفات الساخنة بسبب الصراع المحتدم في المنطقة؛ فأينما نولي وجوهنا هناك خطر داهم يهدد الحياة ويغلق أبواب الأمل! 

مقالات مشابهة

  • "أدنوك" تحصل على أول تمويل أخضر بقيمة 3 مليارات دولار
  • مستقبل الاقتصاد المصرى منح لا محنة
  • حل الأزمات أولوية الحكومة الجديدة.. أفكار واعدة تلبي طموحات المصريين في أول تصريحات للوزراء بعد حلف اليمين.. الأمن الغذائي ووصول الدعم لمستحقيه وإنعاش السياحة والاستثمار في المقدمة
  • «كاوست» تحقق تقدماً بحثياً في تسريع إزالة خصائص ثاني أكسيد الكربون لخدمة المزايا البيئية والإنشائية
  • “كاوست” تحقق تقدماً بحثياً في تسريع إزالة خصائص ثاني أكسيد الكربون لخدمة المزايا البيئية والإنشائية
  • حل لغز انقراض الحيوانات العملاقة.. ماذا فعل الإنسان قبل ملايين السنين؟
  • علماء يتوصلون لسبب انقراض الحيوانات الضخمة قبل 50 ألف سنة
  • حل لغز سبب انقراض الحيوانات الضخمة قبل 50 ألف سنة!
  • الكرز المغربي.. هل يختفي بسبب تغيّر المناخ؟
  • ضيف ثقيل!