ركام غزة يبتلع خاتم فرحٍ وصاحبيه ميسرا ولورا
تاريخ النشر: 8th, November 2023 GMT
يبدأ صباحه فور استيقاظه المبكر، ويده تحمل هاتفه المحمول ليسابق تسرب النعاس من عينيه، بسماع صوتها، فيأتيه ندى الحنجرة من رنة نبرتها المخملية ليغسل الصحوة عن نوم خفيف، يعتدل بعدها بهمة تشحنه، ورغبة جامحة ليدخل يوم عمله بثقة مفرطة، أما التعب كأنّه ذبابة حطت على جبينه فهش عليها بطرف أصبعه، وهكذا دارت أيامه بنشاط معهود، وأمل طافح بالسعادة منذ أن عقد قرانه على مخطوبته، وهي أيام سعيه، وكده من أجل أن يجمع تكاليف عرسه، ومقدرات عيشه تحقيقًا للحظة العمر الذهبية التي يكون فيها معطرًا بكل حدائق الفرح مع عروسه لورا حايك؛ ابنة العشرين عامًا، التي قضت آخر سنة منها كفراشة تطير لتلتقط رسائل خطيبها ميسرا الريس الذي يكبرها سنة وشهرين لا أكثر.
بدأت الحكاية بنظرة منها بينما كانت تقف أمامه وهو موظف في إحدى الدوائر العاملة بمجال الأعمال الحرة، وما كانت منه غير شباك لطيفة تصطاد نظرتها الأولى، التي تكررت وتكرر بعدها الصيد العاطفي ليتحول إلى مشاعر وأحاسيس بينهما، كان ذلك في الشهر الأول من عام 2022، الذي مر بلهفة عاشقين، واشتياق لقاء، وعبارات مرسلة، وأختها مستقبلة بوميض الأزرق التكنولوجي، في ليالي سهر تطوي الأمنية البيضاء، وترسم لهما الغدوات المشتركة، حتى قررا الارتباط لعمر يدوم، وأسرة مرجوة، وأحلام تتطاير من نبض قلبيهما في شهر نوفمبر بذات عام تعارفهما.
مرت الأيام بورديتِها وزهوها بينهما، خاصة بعد الخطوبة، وأصبح الحلم قيد واقعهما بصدق المشاعر، حتى دخل الشهر الحادي عشر للخطوبة السعيدة، جاء أكتوبر الحرب لعام 2023، وانقلبت حياتهما رأسًا على عقب، تبدلت رسائل الحب برسائل الرعب، وتغيرت صياغات الجمل بعبارات الأدعية من أجل الخلاص، وكف يد الموت عنهما، زادت عليهما ضغوط النفس، وشعرا بتحالف البغض، والحقد، والترصد بهما لإفشال فرحتهما، وتدمير حلمهما، هو يصبّرها بالرجاء، وهي تحفزه على البقاء قربها، وتستغيث به كلما سمعت طائرة فوق عمارتهم السكنية، عابرة كانت أم قاذفة بصواريخها في الجوار، حتى ليلة الثامنة والعشرين للعدوان على قطاع غزة، طلبت منه أن يحضر إليها ليكونا معًا، حاول أن يقنعها أن تأتي هي وأهلها لعمارتهم في الحي المقابل كون منطقته أقل خطرًا، في حي الرمال، رفضت لتعسر إقناع والدها المريض، وجدتها وما تردده الأخبار عن تدمير كلي للحي، فقبل طلبها على خوف ورعب من أجلها؛ تاركًا لبعض الساعات أهله، ومنزله، بعد رجاء اشتد منه لوالدته أن تدعو له ولمخطوبته لورا بالنجاة.
في ليلة غير مكتملة سار ميسرا في طرقات مقتولة تمامًا يرتطم بحجارة محطمة، وأسياخ العمارات الناهدة، وأعمدة الأسمنت الساقطة، وقدماه تحملان الرعب في مفاصلهما، لا يتبدد أمامه مشهد المرأة الشهيدة، بنصفها العلوي الذي خسر الجزء السلفي، وغاب تحت الركام، حاول إنقاذها أو معرفة حالها كما قال لأحد الناجين في ما بعد، لكنه وقع في فخ شهادة استشهادها عندما خرجت من بين يديه بنصف جسد، صابه هلع لم يعشه من قبل، ليمر بعدها خائر القوى على طفلة تئن وعلى صدرها لوح خشبي انفرط عقده من خزانة ملابس، وفوق اللوح حجارة وأغبرة وثياب مقطعة، تعسسها الشاب ليرفعها عن الطفلة وأنجز مهمته بتحليق عدد من الجيران الرجال، والشباب لينجحوا أخيرًا في عملية إنقاذ عدد من الجرحى، والمصابين الذين أخرجوهم من تحت ركام عمارة قصفت كانت قبل نصف ساعة واقفة بكل سلامتها في بطن الشفق تلوح للشمس بعد غروبها البحري، لكنها أصبحت الآن لليل لا يعترف بالواقفين.
أكمل ميسرا طريقه الصعب بعسر ومشقة، ليعيش العجب العجاب في مسافة لا تتعدى الكيلومتر المربع بين منزله وعمارة مخطوبته، رأى الموت الكاسح، والركام العالي، وسمع صرخات النساء، وأنين الأطفال، وطلبات النجدة ولم ير سيارة إسعاف واحدة رغم قرب العمارة المقصوفة من مستشفى الشفاء غرب مدينة غزة، ليس من سوء إدارة أو تخاذل بل بسبب إنقطاع شبكة الاتصالات بشكل كامل عن كامل القطاع، وغزارة القصف في المدينة، وزحمة الموت في المكان، ومن سوء ما شاهد وعاش، زاد قلقه على مخطوبته وأهلها الذين يعيشون في ذات المربع السكني المستهدف بالقصف، فتغافل عن كثير مدمى هنا، وأخذ يركض كيمامة فزعة من صيادها باتجاه عمارة لورا.
فازت ساقاه بحمله إلى لورا، فوجدها شاحبة الوجه، قاطبة الحاجبين، والخوف يغزل خيوطه بين الجفن والعين، ولسانها أثقل من جبلٍ أعجز متسلقيه، ما إن رأته أمامها حتى انفجرت بالبكاء:" ح نموت سوا يا ميسرا.." وهو يقترب منها متجاوزًا بما اجتاحه القلق فيه معايير الأصول والأدب مع عائلتها فلم يلق السلام عليهم، ولم يعط بالاً لافراد عائلة مخطوبته، بسرعة البرق بعد أن لمحاها حاطها بيديه، وقال لها:"سنعيش سوا لا تخافي.."، فأخذ يجمع عنها حبات الخوف كجامع ثمار اللوز البكر عن شجرته، حينها هدأت، وسكنت بحضنه، انتبه للمتواجدين فأبدى اعتذاره وأخذ يتفقد كل فرد منهم بالسؤال عن حاله.
لم تكتمل الساعة بوجوده مع لورا، رغم نجاحه بقطف ابتسامة من وجهها الذي استعاد شيئًا من بشاشته، حتى عادت المحاربات الجوية بقصف أهدافها العشوائية في ذات المربع، قصف أعاد لورا لرعب غير مسبوق، وما كان تخفيفه بحضن خطيبها لينجح هذه المرة، فالقصف اشتد بشكل جنوني، أشد من ضمة صدر ميسرا للورا، أثقل على النفوس من اللغات كلها، وأختم عليهم بالموت الغليظ في لحظة كان ميسرا يضم رأسه لرأس لورا حينها كانت القذائف قد بلعت العمارة بأسرها، وحده الناجي القريب من النافذة الغربية طار عن الطابق الثاني الذي كان فيه مع عائلة لورا ليقول:" ماتوا كلهم.. ماتت عيلة خالي.."
مات ميسرا وماتت لورا بلحظة أقل ما يقال فيها أنها الفارقة، فرقت بين عروسين في الحياة، ودخلت بهما إلى عدم مجهول بطريقة لم يكن وصفها.
مع سقوط العمارة السكنية ذات الطوابق السبعة، وتراكم سقوفها على بعضها البعض، واختلاط جدرانها، وتفتت حجارتها، ودخولها جملة واحدة في الحفرة العميقة التي حفرتها القذائف الهائلة، ضاعت أو تلاشت أجسام من كان فيها، كلهم طحنوا أو انصهروا ولم يعثر حتى كتابة هذا التقرير على خاتم الخطيبين ولا حتى على صاحبيهما ميسرا ولورا، فذاع الناشطون الأحياء مناشدات تطالب بإخراج من قضوا تحت الأنقاض، وما تحت الأنقاض غير زغرودة من وجع كثيف سيسمعها كل صاحب ضمير حي في هذا الوجود، ليكتب عن عروسين مالم تكتبه أشعار هوميروس في الإلياذة.
• ناصر عطاالله شاعر وصحفي من فلسطين-غزة
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هاريس تتصل بترامب بعد الخسارة بالانتخابات.. فكم كانت مدة المكالمة؟
(CNN) -- اعترفت نائب الرئيس كامالا هاريس رسميًا بخسارة انتخابات عام 2024، واتصلت بالرئيس السابق دونالد ترامب لتهنئته الأربعاء.
وقال أحد كبار مساعدي هاريس إنها "اتصلت بالرئيس المنتخب ترامب لتهنئته بفوزه في الانتخابات الرئاسية لعام 2024. وناقشت أهمية الانتقال السلمي للسلطة وأن يكون رئيسا لجميع الأمريكيين”.