في يوم السبت الموافق الرابع من يوليو 1953.. ومع تمام الساعة السادسة مساء.. انطلقت إذاعة «صوت العرب» من القاهرة، بادئة بثها بمذاق عروبى بنشيد «أمجاد يا عرب أمجاد/ في بلادنا كرام أسياد».. مبشرة ببدء مرحلة إعلامية فارقة في تاريخ الإذاعة العربية، مع انطلاق إذاعة «صوت العرب» ليحلق صوتها في أثير الوطن، وكانت «صوت العرب» قد استهلت عيد ميلادها الأول بإذاعة خطاب جمال عبدالناصر، الذي قال فيه: «أطلقت مصر (صوت العرب) من القاهرة قلب العروبة النابض حربًا على المستعمرين، ليعلن للعالم أجمع أن العرب قد عرفوا أنفسهم، وأدركوا ذواتهم، واستظهروا قوتهم أمة واحدة لا تفصلها الحدود، ولا تمزقها الشهوات، ولا يقف بينها وبين الحرية تآمر الاستعمار.

ولم يمض على صوتكم الحر (صوت العرب) عام واحد إلا والعرب جميعًا ملتفون حوله، فهو من العرب وبالعرب وللعرب».

أخبار متعلقة

«زي النهارده».. أول بث لإذاعة صوت العرب 4 يوليو 1953

«زي النهارده».. إذاعة صوت العرب 4 يوليو 1953

«زي النهارده».. جمال عبدالناصر ينشئ إذاعة صوت العرب 4 يوليو 1953

فتحى الديب

مع قيام ثورة 23 يوليو لم يكن هنالك بدٌ من تخصيص خدمة إذاعية، تصل واضحة إلى الدول العربية. وبعد أكثر من شهر من الدراسة تقرر أن يبدأ بث الإذاعة الجديدة في الساعة السادسة من مساء السبت في 4 يوليو 1953، لمدة نصف ساعة فقط في البداية، ووصلت إلى ساعة كاملة.. «صوت العرب» لم يكن قد مضى سوى ثلاثة أشهر على افتتاحها. وأصبح إرسالها ساعة كل يوم في يناير 1954، ثم زاد حتى أصبح 22 ساعة يوميًا. زادت قوة أجهزة الإرسال التي ربطت بين أجزاء الوطن العربى من الخليج إلى المحيط؟ ومن خلال السطور التالية نتناول أجواء وملابسات وأحداث تأسيس وانطلاق إذاعة «صوت العرب».

غلاف الكتاب

ليس هناك أوثق وأدق مما جاء في كتاب «عبدالناصر وتحرير المشرق العربى» لمايسترو تأسيس «صوت العرب»، وهو ضابط المخابرات فتحى الديب، الذي ارتبط اسمه بمعظم الثورات وحركات التحرر العربية، حيث كان المهندس الفعلى للدعم المصرى لثورة الجزائر، وتولى مسؤولية إمدادها بالمال والسلاح، وظل مطلعًا على أدق التفاصيل التي ساعدت على نجاح الثورة، وأتاح التدريب العسكرى لعناصر من الثورة الجزائرية.. إذ ذكر في كتابه: حيث ظل يبحث بعد موافقة عبدالناصر، وبدأنا نعد للبرنامج وكان مطلوبًا من قبل عبدالناصر أن يتم تأسيس «صوت العرب» بأسرع ما يمكن وكان يستعجلنا على أن يستمر البث نصف ساعة يوميًا والإذاعة المفترض أنها تتبع هيئة الإذاعة التي كان يشرف عليها الوزير المسؤول عن الإذاعة، وكان آنذاك هو الصاغ صلاح سالم، وزير الإرشاد القومى. وتم عقد اجتماع بين زكريا محيى الدين وصلاح سالم واتفقا على أن يكون لفتحى الديب صلاحيات التحرك في الإذاعة وصلاحيات اختيار الكوادر والإشراف، وبدأ عرض الأسماء على الديب لاختيار الكوادر التي ستعمل معه مصحوبة بتقرير أمنى وسياسى مفصل عن كل كادر مرشح، وقد قرأت لاحقًا التقارير المقدمة عنى (وكان جايب قرارى وكل ما خفى عنى)، المدهش أنه لم يتم ترشيحى إلا في آخر المطاف لأن الديب- مع احترامى لكل زملائى- لم يجد أحدًا صالحًا للمهمة كما يريدها، ويكون ذراعه اليمنى سواى وقد اختارنى بناء على دراسته للتقارير المقدمة عنى، وكان الذي رشحنى وتحمس لترشيحى اثنان هما عبدالحميد يونس الذي كان مراقبًا للبرامج، والشاعر الجميل صالح جودت مراقب البرامج الثقافية والأركان الإذاعية، الذي تقرر أن تتبعه إذاعة «صوت العرب».

أحمد سعيد

كما ذكر مايسترو تأسيس «صوت العرب» في كتاب آخر له بعنوان «ناصر وحركة التحرر اليمنى» إذ أكد: بدأت «صوت العرب» معركتها الهجومية الأولى ضد الاستعمار الفرنسى بعد نفى الملك محمد الخامس خارج المغرب في 20 أغسطس 1953، الأمر الذي كانت له آثاره في تجاوب الجماهير العربية والتفاهم حوله سواء في المشرق أو المغرب العربى. وكان لدوره الفعال على مساحة المغرب العربى الكبير واهتمام الجميع بموالاة الاستماع إليه ومتابعة برامجه بصورة منتظمة، الأمر الذي انعكس أثره على المشرق العربى وإحساس جماهير الأمة العربية، بما يمكن أن يحققه هذا الصوت من مكاسب لهم بعد ظهور أثره الخطيرة في تحطيم أعصاب المسؤولين الفرنسيين لمجرد قيامه بفضح أعمال الإرهاب التي تمارسها السلطة الفرنسية وتمجيد الأعمال البطولية التي يقوم بها الفدائيون المغاربة.

كما يعد من أدق وأوثق المصادر ما جاء في حوار «المصرى اليوم» مع الساعد الأيمن للديب في هذا المشروع، وهو الإذاعى أحمد سعيد «صوت ثورة يوليو»، والذى عاد بالذاكرة لأجواء التأسيس، وملابسات هذا التأسيس ودوره فيه، حيث قال: كان مايسترو تأسيس «صوت العرب» هو ضابط المخابرات فتحى الديب، وكان مسؤولًا عن الفرع العربى والشؤون العربية ووضع خطة عمل أولى، كان البند الأول فيها إنشاء برنامج إذاعى يُخصص للشأن العربى والمواطن العربى، ووضع لهذا البرنامج شروطًا تأسيسية، وما حدث أنه وضع بندًا لافتًا كان هو سر نجاح البرنامج الذي أسسه «صوت العرب» وربما لا يصدقه البعض وهو البند الذي يقول إن من حق هذا البرنامج أن يهاجم أو يعارض سياسات وتصرفات جميع الحكومات العربية الخاطئة التي لا تتفق مع مصالح الشعوب، بما فيها حكومة الثورة في مصر، حتى يثق بها المواطن العربى، وهناك مذكرة سرية عُرضت على زكريا محيى الدين، فاستدعى فتحى الديب ليناقشه في البند الذي يتعلق بمهاجمة السياسات الخاطئة وقال له زكريا محيى الدين سنرسلها لجمال عبدالناصر، وتم استدعاء الديب لمقابلة الرئيس عبدالناصر وناقشه في تفاصيل المذكرة التأسيسية وتوقف معه عند البند إياه، فقال الديب إن هذا يكفل المصداقية ويحقق ثقة المواطن العربى في الإذاعة ووافق عبدالناصر، وذهب لما هو أبعد من هذا، حيث قال ناصر في خطبة في مجلس الأمة: «عندكم مذيع اسمه أحمد سعيد يذيع في رمضان في الفجر أحاديث أنا غير راضٍ عنها لكن هذا رأيى وما قلتش لحاتم (يقصد عبدالقادر حاتم)، ولو قفلت على سعيد ستموت صوت العرب»، وكانت هناك قاعدة تأسيسية أخرى وضعها فتحى الديب، وهى: «لا تُحاسب صوت العرب على ما تقول وإنما تُحاسب على نتائج ما تقول». كان صاحب أول صوت تبثه الإذاعة هو صوت كبير الإذاعيين حسنى الحديدى، وكان صوته حلوًا ومعبرًا، وقال: هذا صوت العرب يأتيكم من قلب الأمة العربية، القاهرة، يدعوكم إلى كذا وإلى كذا، وأتى بعده التتر الغنائى الشهير «أمجاد يا عرب أمجاد».

وأخذ أحمد سعيد يسترجع ذكرياته ويقول: بدأ البث بالضبط في «صوت العرب»، وكنا ثلاثة فقط، أنا ونادية توفيق تحت إشراف الشاعر صالح جودت كمراقب أركان والبرامج الثقافية، وصدر لاحقًا قرار بتعيين صالح جودت مديرًا لـ«صوت العرب»، واحتج فتحى الديب، وحدثت أزمة لأن صالح جودت كانت طريقة أدائه ناعمة لا تتماشى مع الحس الثورى، وكان أول بث يوم السبت 4 يوليو 1953، وافتتح بكلمة من محمد نجيب، رئيس الجمهورية، وكلمة افتتاح بصوت عبدالخالق حسونة، أمين الجامعة العربية، وبرنامج غنائى بصوت عبدالوهاب عن دور الأغنية في خدمة القضية الوطنية.

وقد تناولت بعض الأقلام إذاعة «صوت العرب»، وأشارت إلى أهميتها.. كما جاء في كتاب «إذاعة صوت العرب: النشأة.. فترات التطور الثلاث» للدكتور يحيى الشاعر، ففى جريدة «لوموند» الفرنسية مثلًا، قدم الصحفى المختص بشؤون الشرق الأوسط سلسلة من المقالات عن القومية العربية، قال في أحدها: أنا لا أعرف مطلقًا مقهى واحدًا في أي بقعة من العالم العربى لا يقدم لزبائنه البرامج التي تُبث من مصر، بأعلى درجة ممكنة من الصوت، في أثناء لعب الطاولة أو تدخين النرجيلة. كذلك فإن مؤشرات الراديو في سيارات الأجرة، في بغداد كما في دمشق وفى المدن العربية الأخرى، مثبتة على الصوت القادم من صوت العرب من القاهرة، الذي يديره أحمد سعيد. وقد يبلغ الانفعال لدى السائق أو الركاب إلى الحد الذي يهدد حياة المشاة في الشارع بالخطر، مشيرًا بذلك إلى تأثير «صوت العرب».

وعن تأثير هذه الإذاعة، ذكرت الدوائر المطلعة في بيروت مثلًا، أن هجوم إذاعة «صوت العرب» على الأردن وأمريكا، كان السبب المباشر لمحاولة نسف السفارة الأردنية، ومكاتب الاستعلامات الأمريكية. بل رأى بعضهم أن «صوت العرب» كانت وراء كل الحركات التحررية، التي كانت تثور في مناطق عديدة على مستوى العالم العربى. وكانت بريطانيا قد حاولت إنشاء إذاعة منافسة لـ«صوت العرب»، تحت اسم «ركن العرب»، ولكن محاولاتها فشلت في هذا الصدد. واعترف أعداء «صوت العرب» لها بالانتصار. فقد ذكرت صحيفة «تايمز»، مثلًا، أن على بريطانيا أن تتوقع عددًا من المتاعب في الشرق الأوسط، بسبب الدعايات المستمرة من راديو القاهرة ودمشق و«صوت العرب»، وقالت إن إنشاء محطات إذاعة بريطانية جديدة لا يكفى. أما مجلة «نيوزويك» الأمريكية فقد نشرت أن إذاعة «صوت العرب» من القاهرة أصبحت أقوى مما كانت عليه في أي وقت مضى، وأن الولايات المتحدة هي الهدف الرئيسى لها، وأن البرامج التي توجهها هذه الإذاعة إلى المناطق التي يسيطر عليها الاستعمار الإنجليزى والفرنسى، في شرق إفريقيا ووسطها، أكثر من برامج الدعاية، التي توجهها فرنسا وبريطانيا مجتمعتين إلى هذه المناطق.

كما سرد الإعلامى عباس متولى في كتابه «صوت العرب.. الإذاعة التي قوضت أركان الاستعمار» الكثير من الحكايات وبدايات التأسيس، موضحًا أن «صوت العرب» اتخذت شعارًا لها أنشودة «أمجاد يا عرب أمجاد»، التي كتبها عبدالفتاح مصطفى، ولحنها أحمد صدقى، وغناها كارم محمود.. أما الافتتاحية فقد بدأت بصوت الإذاعى القدير حسنى الحيدى الذي كان كبيرًا للمذيعين بالإذاعة المصرية وقت إنشاء إذاعة «صوت العرب»: «هذا صوت العرب.. الناطق بلسانكم.. المعبر عن وحدتكم.. يأتيكم من قلب العروبة النابض.. من القاهرة». وأوضح ريادة «صوت العرب» في أول من أوفد مراسلين للخارج نقلوا معارك الثوار في شمال إفريقيا والخليج، من أشهرهم أمين بسيونى وصلاح عويس، وكان لهما دور قوى في الإنتاج الغنائى القومى الذي لايزال يتردد حتى الآن، مثل: «دعاء الشرق»، و«الروابى الخضر» لعبدالوهاب، و«بلدى أحببتك يا بلدى»، و«النشيد القومى الجزائرى».

ومن المواقف الطريفة أن سعد زغلول نصار معروف عنه أثناء نوبته في استوديو الهواء بـ«صوت العرب» التي تمتد أربع ساعات أنه يشغل نفسه بترجمة بعض الروايات والمسرحيات. وحدث أن جاء دوره لتقديم أغنية شادية «آه بحبه» وكان منغمسًا في الترجمة فإذا به يقول: «إليكم شادية في أغنية (51 بحبه)»!! وكانت «صوت العرب»، بصفتها الإذاعة القومية للعرب، تضم بين مذيعيها جنسيات عربية متعددة، كان في غرفة الأخبار السورى «صفوح أقبيق»، وكانت زوجته «نجاح النعنى» تعمل في نفس الغرفة. وطلب مدير «صوت العرب» من نجاح أن تستضيف أنيس منصور لتجرى معه حوارًا، فاتصلت به هاتفيًا، واتفقا على الموعد. لكن «أنيس»، على غير عادته، لم يحضر التسجيل. وحينما اتصل به سعد زغلول قال له إنه ظن أن هذا مقلب دبره واحد من أصدقائه الظرفاء، لأنه من غير المعقول أن تكون هناك مذيعة اسمها «نجاح النعنى أقبيق».

ثقافة إذاعة صوت العرب

المصدر: المصري اليوم

إقرأ أيضاً:

إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي: معارك غزة ولبنان لا تقود إلا لمقتل مزيد من جنودنا

أفادت قناة «القاهرة الإخبارية»، في نبأ عاجل، عن «إذاعة جيش الاحتلال» عن رئيس مجلس الأمن القومي السابق جيورا آيلاند، أن معارك غزة ولبنان لا تقود إلا لمقتل مزيد من جنودنا.

مقالات مشابهة

  • خير كتير| مشروع يجعل مصر مركزاً للتجارة العالمية..إيه الحكاية؟
  • محلل سياسي : لا حل للخروج من الأزمات فى المنطقة إلا بالتكامل العربى
  • إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي: 40 قذيفة صاروخية أطلقت من لبنان تجاه الشمال
  • البرلمان العربى يطالب بدعم دولى لحماية حقوق الفلسطينيين
  • أبوبكر الديب يكتب: جنون "بتكوين" يطفئ بريق الذهب
  • منصة صينية تعرض صورا لاستهداف ابراهام .. الجيش اليمني لم يعد ذلك الذي يرتدي النعال
  • أبوبكر الديب يكتب: "فريق ترامب" يكشف ملامح الإقتصاد والهجرة والأمن والدبلوماسية
  • إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي: معارك غزة ولبنان لا تقود إلا لمقتل مزيد من جنودنا
  • توكسيك.. يوري مرقدي يكشف سر اسم أغنيته الجديدة
  • انطلاق أعمال الدورة 37 لمجلس وزراء النقل العرب بالأكاديمية العربية بالإسكندرية برئاسة فلسطين