بعد أكثر من شهر من القصف والتدمير والمجازر بحقِّ الفلسطينيِّين، الَّتي أوْدَت بحياة الآلاف أغلبهم من الأطفال والنِّساء، وأصابت أضعاف ذلك العدد وشرَّدت مئات الآلاف، لَمْ يشفِ الاحتلال في فلسطين بانتقامه الوحشي من المَدنيِّين غليل الإذلال العسكري يوم 7 أكتوبر على يَدِ نفَرٍ قليل من مقاتلي فصائل المقاومة الفلسطينيَّة على حدود قِطاع غزَّة.
المثير حقًّا أن نسمعَ في التصريحات العلنيَّة لبعض السِّياسيِّين، من أميركا والغرب، إشارات إلى العمل على «تسوية» ما بعد الحرب أو وضع قِطاع غزَّة بعد تدميره. ذلك في الوقت الَّذي لا يناقش فيه الأميركيون مع مَنْ يتحدَّثون إلَيْهم من العرب سوى اقتراحات نقْلِ الفلسطينيِّين إلى دوَلهم لإخلاء غزَّة، وتخفيف حدَّة الانتقام واستعادة بعض ماء الوَجْه للاحتلال، فضلًا عن أنَّ الفلسطينيِّين الَّذين لَمْ يتركوا أرضهم منذ عقود لَنْ يتركوها أحياء، فإنَّ أحدًا من دوَل الجوار ولا حتَّى الدوَل العربيَّة الأخرى على استعداد لنقْلِ فلسطينيِّين إليه. فهذا التهجير القسري، وعمليَّة التطهير العِرقي المتكاملة ستظلُّ سبَّة في جبَيْنَ البَشَريَّة لا أظنُّ أنَّ أحدًا من العرب يريد أن يلتصقَ اسمُه بها. أمَّا الولايات المُتَّحدة، الَّتي تقوم بِدَوْر «عسكري المراسلة» للاحتلال، فهي في الواقع شريك أساسي في عمليَّة الانتقام الحاليَّة. ليس فقط بالضغط للتهجير القسري والتطهير العِرقي وإنَّما بتعويضها المستمر لجيش الاحتلال عن الأسلحة والذَّخائر الَّتي يستهلكها في قتلِ النِّساء والأطفال والعجَزَة الفلسطينيِّين.
قَدْيمًا كُنَّا نقول إنَّ الدَّعم الأميركي غير المحدود للاحتلال لا يجعلها «وسيطًا» أمينًا في أيِّ مفاوضات سلام بَيْنَ العرب و»إسرائيل». الآن، أميركا شريك مباشر وأصيل في القتل والتدمير وتشجيع الانتقام البربري تحت دعوى «الدِّفاع عن النَّفْس». إنَّها تلك الدَّعوى المزيَّفة الَّتي اتَّخذتها أميركا وبريطانيا ذريعة لتدمير العراق وغزوه واحتلاله وتحويله «إلى ما قَبل العصر الحجري» كما قالوا وفعلوا. وهي الدَّعوى الَّتي تستخدمها أميركا في كُلِّ اعتداءاتها في أيِّ مكان في العالَم، وأكثرها في منطقتنا. لَمْ يَعُدِ الأمْرُ مسألة وسيط غير محايد، بل شريك في الانتقام يتحدث عن تسوية وسلام! أيُّ سلام يُنتظر مع مَنْ تدفَعُه شهوة الانتقام لِيخرجَ كُلَّ ما فيه من عنصريَّة وبربريَّة هي مُكوِّن أساسي فيه. هل هناك من يُمكِن أن يأمنَ أيَّ ضمان أميركي حتَّى مع التَّغاضي عن أنَّ الاحتلال وقادَتَه لا يوثَقُ بهم أصلًا؟ كيف يُمكِن أن يصدقَ أحَد أنَّ أميركا تريد وقف قتلِ الفلسطينيِّين وهي الَّتي قرَّرت مليارات الدوَلارات بشكلٍ عاجل دعمًا للاحتلال، وفتحت مخازن السِّلاح والذَّخيرة من أجل استمرار قتلِ الأطفال والنِّساء في غزَّة. أمَّا دعوى مساعدة الاحتلال في القضاء على حماس، والَّتي تستهوي ـ للأسف ـ بعض العرب، فما هي إلَّا زَيْف آخر مِثل ادِّعاء «الدِّفاع عن النَّفْس» المستخدم ذريعة للعدوان والغزو والاحتلال والقتل والتدمير.
لا فائدة تكرار ما يُقال منذ عقود، وما يبدو كأنَّنا نتحدث إلى أنْفُسنا به بلا جدوى، فليس متوقعًا من الاحتلال وداعميه، وفي مقَدِّمتهم أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها ـ سوى ذلك الانتقام الوحشي تعبيرًا عن القوَّة وفرض الإرادة. المُهمُّ هو ماذا نحن فاعلون في مواجهة ذلك.. بالنسبة للفلسطينيِّين في بلادهم وأرضهم فالأمْرُ محسوم: ليس أمامهم سوى التصدِّي للعدوان بما يملكون من أدوات بسيطة ومبتكرة. وما عادوا يأملون في الكثير من عالَم منافق يشجِّع العنصريَّة والإرهاب. ولَمْ ولَنْ يفوضوا أحَدًا للحديث باسمهم، ولا المتاجرة بدمائهم وأرواحهم. أمَّا دوَل الجوار لفلسطين فهي في وضع غاية في الحرج وبالتَّعبير الشَّعبي البلدي «مزنوقة». فلا هي قادرة على وقف الانتقام البربري الإسرائيلي/الأميركي ولا هي مستعدَّة لقَبول الضَّغط الأميركي كَيْ تساندَ العدوان الإسرائيلي بقَبول تهجير الفلسطينيِّين إلَيْها ولا هي قادرة على تحدِّي القوَّة الغاشمة وتقديم يَدِ العون للمَدنيِّين الأبرياء الَّذي يموتون بجراحهم وجوعهم إذا لَمْ تنسفهم النيران الأميركيَّة الَّتي يطلقها الاحتلال.
بقيَّة دوَل المنطقة، غير دوَل الطَّوق كما يُقال، ربَّما ترَى أنَّ ما يَسعى إليه الاحتلال العنصري وداعمُه الأوُّل في واشنطن من «حلٍّ نهائي» قَدْ يوفِّر سلامًا دائمًا بعد ذلك. وتقَدْيري أنَّ هذا تصوُّر واهِمٌ ِمثل كثير من الاختيارات الخاطئة الَّتي كلَّفتنا جميعًا الكثير من تمويل تشكيل تنظيم القاعدة في الثمانينيَّات إلى بروز تنظيم «داعش» الأشدِّ إرهابا. فلا يُنتظر سلام من انتقام، ولا من دَولة دينيَّة بالقانون (أصبحت إسرائيل كذلك منذ عام 2018). بل إنَّ المهادنة مع ما يجري الآن كفيل ببروز جيل من الفدائيِّين الفلسطينيِّين سيكونون أشدَّ شراسة ممَّا شهدناه في السبعينيَّات والثمانينيَّات. ولَنْ يستطيعَ أن يلومهم أحَد والعالَم كُلُّه يتفرَّج على المَحرقة الَّتي تُودِي بذويهم الآن.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
بنك أهداف أمريكا.. من الفشل إلى الانتقام من المدنيين
محمد صالح حاتم
منذ بداية العدوان الأمريكي على اليمن، يتّضح أن بنك الأهداف الذي اعتمدته واشنطن لم يكن سوى انعكاس لحالة من التخبط والعجز، يتنافى كليا مع مزاعم “الحسم العسكري” و”ضرب القدرات الحوثية”، ويكشف عن فشل استراتيجي ذريع أمام صمود الشعب اليمني وثباته في موقفه الداعم لأبناء غزة.
الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أعلن صراحة أن هدفه هو “القضاء على الحوثيين وتدمير أسلحتهم”، بزعم أنهم يشكلون تهديدا للملاحة الدولية والسلم العالمي. لكن الوقائع على الأرض أثبتت أن الضربات الأمريكية لم تستهدف قدرات عسكرية أو مواقع استراتيجية، ولم تنل من القوة العسكرية التي تمتلكها القوات المسلحة اليمنية، بل طالت منازل المدنيين، والمرافق الخدمية، والمنشآت الاقتصادية، مخلفة آلاف الشهداء والجرحى في صنعاء والحديدة وصعدة ومدن يمنية أخرى.
ومن أبرز الجرائم التي ارتكبها طيران العدوان الأمريكي، قصف حي الجراف السكني، واستهداف منزل المواطن علي السهيلي في مديرية شعوب، والذي راح ضحيته أطفاله الأربعة، والعشرات من الجرحى كما استُهدف ميناء رأس عيسى، ما أسفر عن أكثر من 250 شهيدًا وجريحًا، إضافة إلى قصف حي سكني في سوق فروة بمديرية شعوب، والذي خلّف أكثر من 45 شهيدا وجريحا. ولم تسلم حتى المقابر من صواريخ العدوان، مثل مقبرتي “ماجل الدمة” و”النجيمات” بصنعاء، في سابقة تؤكد أن الأموات أيضا لم يسلموا من الاستهداف الأمريكي.
لقد تحولت الحرب على اليمن إلى حرب اقتصادية شاملة، استخدمت فيها واشنطن كافة أدوات الحصار والتجويع، بدءا من تصنيف أنصار الله كـ”جماعة إرهابية”، وفرض عقوبات على رجال أعمال يمنيين لا علاقة لهم بالسياسة، وصولا إلى منع دخول المشتقات النفطية، وقصف المنشآت الحيوية، كميناء رأس عيسى، الذي يُعد شريانا رئيسيا لوصول الوقود إلى المحافظات.
كما شملت الاستهدافات منشآت اقتصادية وخدمية مدنية بحتة، كمصنع السواري للسيراميك في بني مطر، الذي سبق قصفه في عام 2015، ومؤسسة المياه والصرف الصحي في المنصورية، ومنشآت الاتصالات، والمرافق الصحية كمستشفى السرطان في صعدة، ومركز وشحة الصحي في حجة، فضلًا عن مؤسسات تعليمية في البيضاء ومحافظات أخرى.
ومن إيران إلى الصين، لم تتوقف ماكينة الكذب الأمريكية عن بثّ الاتهامات حول “الدعم الخارجي للحوثيين”، في محاولة لتبرير فشلها المتكرر ميدانيا. إلا أن فشل واشنطن في تقديم أدلة حقيقية، وسرعة تبدل رواياتها الرسمية، فضح هذه الذرائع وأسقطها.
ورغم الحصار والعدوان، تواصلت العمليات الهجومية للقوات المسلحة اليمنية، مستهدفة حاملات الطائرات الأمريكية (ترومان وفينسون) مرارًا، ما أجبرها على التراجع. كما وصلت الصواريخ الباليستية والطيران المسيّر اليمني إلى عمق الأراضي المحتلة، وضربت تل أبيب ويافا، في رسائل عسكرية أربكت العدو الصهيوني، وأجبرت المستوطنين على الفرار إلى الملاجئ. وواصلت الدفاعات اليمنية إسقاط طائرات MQ-9 الأمريكية، حيث تم إسقاط أكثر من 21 طائرة من هذا الطراز، منها ست منذ بداية العدوان الأمريكي في 15 مارس الماضي.
ويبقى السؤال: هل لا يزال ترامب، ومن خلفه من صناع القرار في واشنطن، يراهنون على القوة العسكرية؟ الواقع يقول إن الشعب اليمني، بصموده وثباته ووعيه، استطاع أن يهزم أمريكا بأدواته البسيطة، وأن يحوّل الحصار إلى فرصة للنهوض، والخطر إلى دافع للمواجهة. وكل ذلك بفضل الله، ثم بفضل القيادة الثورية والسياسية الحكيمة، وصبر وجهاد هذا الشعب العظيم.