ربما لا تمثل الحرب الجارية في السودان الان أعلا درجات العنف المجتمعي والسياسي كما يظن الكثيرون ، فقد شهدت الدولة السودانية حروباً أهلية في الجنوب و دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة ،لقد كانت تلك الحروب أشد عنفاً وضراوة ففي دارفور كان عدد الضحايا يفوق الثلاثمائة الف وفي الجنوب ما يقارب المليونين هذا دعك عن المشردين والنازحين واللاجئين في زمن كانت أخبار الموتي تأتي عبر ساعي البريد بالدواب ولا يوجد هناك لايفاتية ولا بث حي ولا ناشطون فقد كان اللسان الوحيد هو الدولة في أقصي تجليات عنفها وتبريراتها ، ولا عجب فقد عرفت تلك الحرب بانها ضمن موسوعة (الحروب المنسية) ،لم يتم العمل علي فضح عنفها وعبثيتها ووحشيتها مع أنها قد ذهبت بما يقارب نصف البلاد ونصف سكانها ولتصبح هناك دولة أخري وإبادة عرقية وإستمسكنا ب (حكاية جحا) لا يهم طالما أنا بخير، في ذلك الفهم الساذج للمشكل السوداني الذي يتلخص في (من يحكم السودان) وليس (كيف يحكم السودان ).


يري الكثيرون أن أحداث العنف التي تفجرت في العام 1968 بجامعة الخرطوم أثناء ذلك الحفل والذي كانت تزعم الجبهة الديمقراطية الطلابية إقامته إحتفاءً. بالطلاب الجدد، هو شرارة العنف الثقافي ورفض الآخر وتفاصيله الثقافية والاجتماعية ، فأثناء تأدية رقصة العجكو هجم مؤدلجون وسلفيون علي مسرح الحفل تحت صيحات التكبير والتهليل فقد كانوا كما ذكروا في دعوتهم الاحتجاجية أن رقصة العجكو ما هي الا صورة (غرائزية) ودعوة للانحلال والتفسخ وهي تمس قيم وتقاليد ذلك المجتمع المحافظ ،الذي بنوه من خيال أفكارهم المريضة والتي لاتري في السودان وتقاليده أبعد من تلك البيئات التي تربوا فيها أو جرعات المناهج الاحادية التي صاحبت تلك الفترة مثل كتاب( جاهلية القرن العشرين ) لسيد قطب ، أو منشورات وكراسات حسن البنا ، في بذرتها التي نحصد الان ثمارها المرة .
لم يدر بخلد هؤلاء ومعارفهم أن رقصة العجكو هي رقصة تراثية لإحدي بوادي السودان ، وأن الحجيج لبيت الله قد يستقبلون عند عودتهم من المناسك علي تلك الإيقاعات ،هذا عدا الأفراح والمناسبات المختلفة .لقد تقدم العقل البدوي كثيراً علي هؤلاء الذين هيمنت الغرائز علي نظرتهم للفنون الشعبية والتقاليد والتراث .
ومن كلمات تلك الأغنية التي تغنت بها فيما بعد ثنائي النغم ( زينب وخديجة) وغيرها من المطربين
العجكو يمة الليلة منعو
بشوف جمال السودان
في بلدنا كردفان
ديل صبحو ديل غربو
شكو الريش بتن ماجو
والأغنية تقترب من المناحة ،في ذلك الحزن الشفيف علي الفراق ، حينما كان الجند يذهبون في تلك الحروب العبثية ، و يزين قبعاتهم الريش وقد لا يعودون أبداً .
ولكنهم صناع العنف وتلك العقول المنكفئة علي الاحادية والرافضة للتعدد ، لا تري في ذلك سوي مشاهد الجنس وأغلفة (البرونو). لقد كان أولي بهذه العقليات المصحات النفسية وكورسات الاندماج الثقافي الوطني .
لم يقتصر العنف الثقافي الذي انتهجه الحضر قاصراً علي لون ثقافي معين ، فقد سقطت الثقافة وفي تجلياتها المختلفة في عطن ذلك العنف ، وانتشرت (الكوميديا السوداء)، أهل العوض ، كان في أدروب ، واحد شايقي ،مرة في غرباوي ، كان المجتمع الحضري يضحك حتي الثمالة ، وكان يعد المسرح لما يجري الان ، وحتي تكون مقبولاً في المدن الزائفة عليك أن تستبدل ثيابك وأن تعرف كيف تترنح في تلك اللهجة المدينية ،وأن تعاف ذلك الطعام الذي صنعته الأمهات في الأرياف البعيدة وتكتسب الكثير من الخبرات ليمنحك الحضر جواز مرور إلي منتدياتهم وأنفسهم ومراتع حياتهم اليومية والاقتصادية .
كانت عملية التشويه الثقافي تجري ببطء، ولم تستطع آلة الترييف عند أطراف المدن الناعسة أن تقف في وجهها وعطفاًعلي رواية الروائية الجنوبسودانية إستيلا غاتيانو (كل شئ هنا يغلي).
في الخامس عشر من ابريل من العام 2023 فار التنور واندلعت الحرب ، وحينما هرع المدنيون نحو الريف هرباً من ويلات الحرب أكتشف البعض ولأول مرة أن تخوم الخرطوم تفتقر لمياه الشرب دعك عن النقية ، وأن الكهرباء محض خيال ، وأن (الهوطدوج) الذي تبجح به المأفون البشير في أحدي نزواته لم يبارح سنتر الخرطوم ، وعرف الفارون من الويلات أم تكشو، والتركين ، والعصيد ،والقراصة هي وجبات رئيسية في الأرياف البعيدة .
وأن هناك أبناء عمومة قد فاتهم قطار التعليم ، وهناك من نساء بلادي من لا تفك الخط ، وأن التنقل بالدواب أمر في غاية العادية .
جاري الان إعادة إكتشاف أن هناك لهجات في هذا الوطن الممتد لا نفهمها ولا نفك رموزها ، وأن هناك سحنات لا عهد لنا بها ، ولا سبيل سوي إنكارها ونبذها إمعاناً في العنف الحضري .
ربما تتوفر الان عناصر إعادة إكتشاف أنفسنا ، في تكوينات تلك الحمم التي قذفت بها الحرب علي سطح مجتمعنا . وفي منعرجات ودوامة عنف الحضر فقد أودت قذيفة بحياة المطربة شادن محمد حسين البالغة من العمر 35 عاماً وهي داخل منزلها في ام درمان ، كان ذلك يوم السبت 13 مايو 2023.
لقد كانت الراحلة الملقبة ب (الحكامة شادن) تحلم بمشروع فني علي مداميك العجكو .
وتلك مجرد حلقة من عنف رفض الاخر ثقافياً والذي يفضي الي عوامله السياسية والاقتصادية والاجتماعية .

musahak@icloud.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

اعتقال وزير النفط وقادة عسكريين في جنوب السودان.. هل هي نذر حرب أهلية؟

قال متحدث باسم ريك مشار النائب الأول لرئيس جنوب السودان، الأربعاء، إن قوات البلاد اعتقلت وزير النفط وعددا من القادة العسكريين الكبار المتحالفين مع مشار مما يهدد اتفاق السلام الذي أبرم في 2018 وأنهى حربا أهلية.

جاءت الاعتقالات بعد قتال نشب في الأسابيع القليلة الماضية في مدينة الناصر الاستراتيجية في الشمال بين القوات الأمنية وميليشيا الجيش الأبيض المؤلف بالأساس من منتمين لقبيلة النوير وهي قبيلة مشار.

وقاتلت عناصر من الجيش الأبيض مع قوات مشار في الحرب الأهلية بين عامي 2013 و2018 في مواجهة قوات موالية للرئيس سلفا كير من قبيلة الدنكا.



وقال بال ماي دينغ المتحدث باسم مشار إن وزير النفط بوت كانج شول ونائب قائد الجيش جابرييل دوب لام اعتقلا بينما يقبع مسؤولون عسكريون كبار متحالفون مع مشار رهن الإقامة الجبرية.

وتابع قائلا إن قوات أمن انتشرت حول مقر إقامة مشار لكن نائب الرئيس تمكن من التوجه إلى مكتبه صباح الأربعاء.

وأضاف في بيان إن اعتقال الجنرال ديوب "ينتهك" اتفاق تقاسم السلطة الذي أنهى عام 2018 خمس سنوات من الحرب الأهلية.

وقال البيان إن "هذا الإجراء يعرض الاتفاق بأكمله للخطر... نحن أيضًا قلقون جدا بشأن الانتشار الكثيف لقوات الدفاع الشعبي لجنوب السودان حول مقر إقامة (مشار)".

واتهمت قوات الدفاع الشعبي لجنوب السودان، وهو الجيش النظامي المتحالف مع الرئيس سلفا كير، ديوب لام وقواته بالعمل مع المتمردين في تلك المنطقة الذين ينتمون بغالبيتهم إلى قبيلة النوير نفسها.

وحصدت الحرب الأهلية، التي اندلعت في كانون الأول/ ديسمبر 2013 بعد إقالة كير لمشار، أرواح ما يقدر بنحو 400 ألف وأجبرت أكثر من 2.5 مليون على الفرار من منازلهم، وجعلت نصف السكان تقريبا البالغ عددهم 11 مليون نسمة يكافحون من أجل العثور على ما يكفي من الغذاء.

وانخفض أيضا إنتاج النفط، وهو مصدر دخل حيوي للدولة الفقيرة.

وحل السلام في جنوب السودان رسميا منذ أن أنهى اتفاق 2018 صراعا استمر خمس سنوات بين مشار وكير. لكن العنف بين القبائل المتنافسة يندلع بشكل متكرر.

وفي الأسبوع الماضي، دعا الاتحاد الأفريقي وبعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب السودان إلى خفض حدة التصعيد في مدينة الناصر بولاية أعالي النيل وحذرا من مغبة "انتشار العنف على نطاق واسع".



وربط تير مانيانج، رئيس مركز السلام والدعوة ومقره جوبا، الاعتقالات بالقتال في ناصر وقال إنه يخشى على المستقبل.

وقال: "من المرجح أن تنزلق البلاد إلى الحرب ما لم تحسن القيادة العليا للبلاد إدارة الوضع".

وأفادت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان الشهر الماضي عن اشتداد القتال بين الجيش و"شباب مسلحين" في ناصر بولاية أعالي النيل، باستخدام "أسلحة ثقيلة أسفرت، كما ورد، عن مقتل وإصابة مدنيين وأفراد مسلحين".

مقالات مشابهة

  • اعتقال وزير النفط وقادة عسكريين في جنوب السودان.. هل هي نذر حرب أهلية؟
  • محنة الذكريات والصراع السياسي أو “وبسأل الشوق عن وطن”
  • الخطة القادمة اسوأ من الحرب!!
  • حمدوك يطلق "نداء سلام السودان".. ماذا جاء فيه؟
  • تأجيل محاكمة نجل أحمد بهجت وآخرين لاتهامه بتزوير وثيقة طلاقه من لونا المالكى
  • اليونيسف: أطفال رضع بين المتعرضين للاغتصاب في السودان
  • ما هي الدول الأوروبية التي ستشارك في "تحالف الراغبين" من أجل أوكرانيا؟
  • مذكرة من الكُتّاب والأدباء والنشطاء السودانيين إلى الأمين العام للأمم المتحدة تطالب بوقف الحرب في السودان وحماية المدنيين
  • ما هي الأسباب التي تعزز فرص الهجوم الإسرائيلي على إيران؟
  • الأردن يرفض المحاولات التي قد تهدد وحدة السودان عبر الدعوة لتشكيل حكومة موازية