كان الابداع الشعري فقرة في الفعاليات الوارفة التي تحتفي فيها مدرسة العلوم الإدارية بجامعة الخرطوم بتخريج طلابها كل عام، إلى جانب عدد من الفقرات الثقافية والترفيهية. وتستقبل المدرسة كبار الشعراء يعرضون إبداعاتهم ويلقون جديد أشعارهم وسط جمهور من الطلاب يهتم بالشعر وأهله، حينما كانت الجامعة تتمتع بهامش مناسب من الحرية عقب اتفاقية السلام التي أبرمت مع الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق وأفرزت واقعاً مختلفاً في الحياة السياسية والاجتماعية في السودان.
اجتهدت في الوصول إلى الأستاذ هاشم في منزله بحي بانت بأم درمان، بعد أن حصلت على رقم هاتفه من بعض الزملاء. فاستقبلنا في ديوانه الذي أول ما يطالع الزائر فيه الحب والجدية. ففي جانب منه طاولة عليها آلة طبع ومكتبة ضمت نخبة من الكتب والمراجع، وتذخر جدرانه بعشرات اللوحات التذكارية التي حصل عليها الأستاذ هاشم في مناسبات ثقافية مختلفة اشترك في إحيائها، كما ضم عدداً من إهداءات المعجبين التي تنبي هم عن محبة مكنونة في الصدور. وعرضنا عليه أن يشارك في احتفال تخريج الطلاب، فوافق.
جاء هاشم وأبدع في إلقاء عدد من قصائده الجديدة وتفاعل معها الحضور طلاباً وأساتذة تفاعلاً مميزاً، وكان من بينها قصيدته قرنتية التي أثارت حواراً عريضاً لمضامينها السياسية ونقدها للنظام الحاكم عن بعد وتعرض بسببها لملاحقات الأجهزة الأمنية.
"لا بلعت عديل السوق .
لا نضمت بدون طايوق .
لا كنزت دهب أو ماس .
لا ظلمت بدون احساس .
لا عصرت شباب الناس .
لا كتمت على الانفاس .
لا قطعت عشم بي فاس .
لا داستنا زندية"
حينما انتهت الفعالية سعيت لتسليم الأستاذ هاشم مبلغاً مالياً خصصته له اللجنة المنظمة لحفل التخريج، من المبالغ التي جمعها الطلاب من الشركات الراعية. فقد كانت المدرسة تمتلك رصيداً من العلاقات العامة مع الشركات الاقتصادية نسبة لوجود خريجيها من الإداريين والمحاسبين في مناصب مؤثرة في هذه الشركات. فامتنع هاشم في إباء عن أخذ أي مبلغ نقدي وقال لي " أنا لا أخذ أجراً عن إلقاء شعري للطلاب". وحاولت إقناعه أن هذا المبلغ ليس من ميزانية الجامعة أو من الطلاب، وإنما خصصته الشركات التي تولت رعاية الاحتفال لإقامة الفعاليات. لكنه تمسك بموقفه، وقال إنه يكفيه فقط شهادة تمنحه شعوراً بعلاقته مع الطلاب. فاحترمنا منطقه ومن ثم سعينا إلى إصدار شهادة تقدير له عن مشاركته في احتفالات تخريج طلاب مدرسة العلوم الإدارية، احتلت موقعها بين الشهادات التي يعرضها في ديوانه.
قارنت بين موقفه الزاهد في هذا المقام، والوقفة القوية التي وقفها في سبيل إثبات حقوق الملكية الفكرية للشاعر بما فيها حقوقه الأدبية وحقوقه في الانتفاع المالي بثمرات إبداعه وتفعيل تشريعات الملكية الفكرية التي تقرر الحقوق الأدبية المالية للمؤلف. وهما موقفان لا يعبران عن تناقض وإن بدا الظاهر على هذا النحو، وإنما يدلان على شخصية متماسكة تحتفي بمودة الناس وتعلي من قيمة المشاعر الإنسانية بلا مقابل، لكنها في ذات الوقت يهمها الحق وتكره الظلم وتحب أن ترى الحق مطبقاً في حياة الناس. وقد خاض هاشم في ذلك غمار مواجهات بلغت تحذير أجهزة النشر ومن بينها هيئة الإذاعة والتليفزيون ودور الصحافة بضرورة الانتباه إلى هذه الحقوق، وشملت مواجهته بعض زملائه من المطربين الكبار الذين تغنوا بكلماته، بلغت إصدار إنذارات قانونية لهم بعدم ترديد أشعاره إلا بعد الاتفاق معه حول حقوق الملكية الفكرية. ثم واجه بعض الأجهزة الإعلامية في ساحات المحاكم، وحصل على أحكام قضائية قررت حقه الأدبي وحكمت له بتعويض.
أوضح الأستاذ هاشم صديق موقفه في سبيل تفعيل تشريعات حقوق المؤلف في إفادته للأستاذ أسعد العباسي فذكر (أؤكد بخلاف ما يعتقده البعض أنني لم أجرجر في يوم من الأيام أي مطرب أو فنان إلى ساحات المحاكم إنما كنت من الذين ابتدروا النهوض بحقوق الشعراء وتبصيرهم بهذه الحقوق، وقد كان ذلك أوضح ما يكون في الدعوى التي أقمتها ضد تلفزيون السودان وكسبتها بعد سباق قضائي ماراثوني حتى أضحت هذه الدعوى سابقة قضائية يسير على هديها القانونيون ويستمد منها المؤلفون المعايير التي تكرس حقوقهم ويستلهمون منها ثقافة الحماية والملكية الفكرية. وأقول أيضا أنه ليس صحيحاً ما يشاع بأنني قد سحبت أعمالي من التداول الإعلامي ومنعت تداولها. وحتى يستقيم الفهم في هذا الشأن أقول إنني كنت قد منعت حوالي إثني عشر عملاً من التداول ولم يكن ذلك تعسفاً في استعمال الحق إنما الغرض كان تبصير المؤلفين بحقوقهم التي صانها القانون على أنني عدت ولست سنوات خلت بالإفراج عنها جميعا)
كانت حقوق الملكية الفكرية للمؤلف منظمة بموجب قانون حماية حق المؤلف لسنة 1974، وهو أول تشريع سوداني وضع القواعد العامة لحماية حقوق المؤلفين بمن فيهم الشعراء. ولم يكن يتضمن تفصيلاً وافياً للقواعد التي تحكم حقوق المؤلف، ثم حل محله قانون حماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة لسنة 1996، واشتمل على تفصيل مناسب لحقوق المؤلف بما فيها حقوقه المالية، وبين كيفية تنظيم العلاقة بين الأطراف ذات العلاقة وطبيعة العلاقات التعاقدية التي يتعين إبرامها لوضع الحماية موضع التنفيذ. وقد جاء هذا القانون مسايراً للتطور العملي الذي صاحب الأعمال الفنية حيث انتقلت من مجرد أداة ترفيه من خلال الإذاعة والتلفزيون والحفلات التي يقيمها الفنانون، إلى وسيلةدخل تجاري مقدر من خلال شركات الإنتاج الفني والتي تولت نشر الأعمال الفنية على أسس تجارية وربحية.
كل صور الحرب مؤذية غاية الأذى، إلا أن صورة الأستاذ هاشم صديق أحد مهندسي الوجدان السوداني، وصناع المزاج العام وهو محمول على عربة كارو من منزل اتسم بالجد والمحبة واستعصم به ما استطاع، إلى مكان أكثر أمناً، ستترك في الذاكرة جرحاً عميقاً يعز على النسيان. فالذي حمل على الكارو لم يكن الأستاذ هاشم وحده وتمسكه ببيته وأم درمانه، وإنما قدرٌ من القيم التي ظل المجتمع السوداني يتمتع بها، ويحرص عليها.
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
abuzerbashir@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الملکیة الفکریة حقوق المؤلف هاشم صدیق هاشم فی
إقرأ أيضاً:
الدكتور عبد الله الغنيم يلتقي بجمهور معرض الكويت وحديث عن مسيرته الفكرية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أضاء معرض الكويت الدولي الـ 47 للكتاب على اسهامات وانجازات شخصية المعرض الدكتور عبد الله الغنيم في مجالات البحث العلمي والثقافة.
واستعرض الدكتور الغنيم خلال جلسة حوارية أقيمت في قاعة كبار الزوار ضمن فعاليات النشاط الثقافي المصاحب للمعرض، مسيرته العلمية ومحطات من حياته كان لها الأثر الكبير في تشكيل رؤيته الثقافية والفكرية بحضور نخبة من المثقفين والمهتمين وزملائه وأقربائه.
وأدار الجلسة الدكتور يوسف البدر الذي استعرض مساهمات الدكتور الغنيم لا سيما إسهاماته في رئاسة مركز البحوث والدراسات الكويتية حيث قاد العديد من المبادرات التي تهدف إلى توثيق تاريخ الكويت وتراثها الثقافي والحضاري.
وتحدث الدكتور الغنيم عن مسيرته الحافلة في مجالات البحث العلمي والتأليف إضافة إلى إسهاماته في توثيق التراث الكويتي وتعزيز الهوية الثقافية، مؤكدا أهمية الكتاب والمعرفة في بناء المجتمعات.
وقال الدكتور الغنيم، إن بحوثه ودراساته تندرج في ثلاث مسارات رئيسية يربط بينهما جميعا التراث العربي بعناصره الموسوعية المختلفة.
وقال، إن المسار الأول هو “جغرافية شبه الجزيرة العربية” والثاني “التراث الجغرافي العربي بوجه عام والجانب الطبيعي بوجه خاص” والثالث “المخطوطات الجغرافية العربية فهرسة وتحليلا وتحقيقا”.
وأكد أن الجزيرة العربية بتنوع اشكال سطحها وطبوغرافيتها استهوته منذ أن كان في العاشرة من عمره وفي رحلاته الى الحج مع والده حيث كانت الأولى سنة 1957 والثانية في السنة التي تلتها مبينا انه كان ينظر في الطريق الى رمال الدهناء وجالات نجد وحرات الحجاز.
وقال أنه جمع في تلك الفترة كل ما يمكن الحصول عليه من معلومات حول تلك الأرض وزاد ذلك بعد ان أنهى دراسته الثانوية وانتقل للدراسة الجامعية في القاهرة.
واشار الى أول بحث ينشر له وحمل عنوان “الدحلان في شبه الجزيرة العربية” وقد نشر في مجلة رابطة الأدباء بالكويت عام 1969 وهو العام الذي تخرج فيه من الجامعة.
واشار الى رسالته الماجستير التي كان موضوعها “الجغرافي العربي ابو عبيد البكري مع تحقيق الجزء المتعلق بالجزيرة العربية من كتابه المسالك والممالك” مبينا انه قرأ من أجل تلك الدراسة معظم ما كتبه القدماء والمحدثون عن جزيرة العرب او عن المملكة العربية السعودية.
وقال ان عمله في الماجستير أثمر عدة كتب منها كتاب “مصادر البكري ومنهجه الجغرافي” ويشتمل الكتاب على دراسات تفصيلية تتعلق بالجزيرة العربية كما جاءت في كتابي “المسالك والممالك” و"معجم ما استعجم للبكري".
وعن دراسته للدكتوراة قال انه هدف الى هدفين رئيسين أولهما “دراسة اشكال سطح الأرض في شبه الجزيرة العربية بالاعتماد على التراث العربي القديم ومعالجة ذلك وفق منظور عصري” وثانيهما “جمع المصطلحات الجغرافية العربية في هذا الشأن واقتراح ما يمكن استخدامه في كتاباتنا الحديثة”.
وأشار الدكتور الغنيم الى دراساته الميدانية والإقامة في العديد من الدول من اجل البحث العلمي والاطلاع على أحدث المصادر الجيومرفولوجية ذات العلاقة بالصحاري والمناطق الجافة.
وقال انه كان يبحث عن العلاقات السببية بين نشأة شبه الجزيرة العربية من الناحية الجيولوجية والأشكال الأرضية الماثلة أمامنا الآن ويحاول الربط أيضا بين تلك الاشكال والنشاط البشري.
وأشار الدكتور الغنيم الى العديد من الأسماء الذين كان لهم الفضل في مسيرته وتتلمذ على يدهم منهم "علامة الجزيرة العربية" الشيخ حمد الجاسر رحمه الله والعلامة المحقق محمود شاكر رحمه الله والمرحوم محمد عبدالمطلب احد اعلام معهد المخطوطات العربية.
وحظيت المحاضرة بتفاعل كبير من الحضور الذين أعربوا عن تقديرهم للدور الكبير الذي لعبه الدكتور الغنيم في إثراء المشهد الثقافي الكويتي والعربي.
كما تطرق الدكتور الغنيم الى مركز البحوث والدراسات الكويتية وعن الوثائق التاريخية واهميتها مشيرا الى فترة الغزو العراقي على الكويت وجمع عدد كبير من الوثائق في تلك الفترة التي توصلوا من خلالها الى العديد من الحقائق، مبينا ان هناك العديد من الكتب التي صدرت بناء على تلك الوثائق.
ويأتي اختيار الدكتور عبدالله الغنيم شخصية المعرض في دورته الـ47 تقديرا لعطاءاته الثقافية والعلمية الممتدة على مدار عقود ودوره في إثراء المكتبة الكويتية والعربية بمؤلفاته القيمة.
يذكر ان الأستاذ الدكتور عبدالله الغنيم محاضر وباحث مميز في مجال الفكر الجغرافي العربي وجيومرفولوجية شبه الجزيرة العربية وقد درس في هذين الموضوعين سنوات عدة تسنم خلالها مناصب مختلفة.
وشغل الدكتور الغنيم العديد من المناصب سابقا فكان رئيسا لقسم الجغرافيا ثم عميدا لكلية الآداب بجامعة الكويت وترأس تحرير مجلة دراسات الجزيرة العربية والخليج التي تصدرها جامعة الكويت وعمل مديرا لمعهد المخطوطات العربية ووزيرا للتربية ووزيرا للتعليم العالي.
وغاص الدكتور الغنيم في أعماق تاريخ الكويت وتراثها الحضاري بعد توليه رئاسة مركز البحوث والدراسات الكويتية منذ عام 1992 حتى الآن.