يمانيون – متابعات
في الوقت الذي تركزت فيه الأنظار على التداعيات العسكرية والسياسية والأمنية لعملية “طوفان الأقصى”، التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية “حماس” ضد مواقع عسكرية ومستوطنات كيان العدو الإسرائيلي في محيط قطاع غزة، في السابع من أكتوبر 2023، وما تبعها من عدوان على غزة، تتعاظم آثار الحرب الاقتصادية، خصوصًا بالنسبة للكيان الإسرائيلي.

على الرغم من القوة البنيوية لاقتصاد كيان العدو من جهة، والدعم الكبير الذي تلقاه كيان العدو من المعسكر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين من جهة الا أن هذان العاملين بعد ضربة السابع من أكتوبر المنصرم، لم يمنعَا وكالات التصنيف الائتماني العالمية من تعديل النظرة المستقبلية إلى اقتصاد كيان العدو الإسرائيلي من “مستقر” إلى “سلبي”، فيما توقعت وكالة “ستاندرد آند بورز غلوبال” انكماش الاقتصاد الإسرائيلي بنحو خمس نقاط مئوية في الربع الأخير من هذا العام.

وأعلنت كل من وكالتي “موديز” و”فيتش” عن وضع التصنيف الائتماني المحلي والعالمي لكيان العدو الإسرائيلي تحت المراجعة المفضية إلى التخفيض مع التأكيد على أن كل هذه المراجعات لا تمثل سوى استشراف أولي لأثر الصدمة التي وجهتها عملية طوفان الأقصى إلى اقتصاد الكيان

ويرى العديد من المتابعين والخبراء بأن التقييمات الأولية لاقتصاد كيان العدو قد تعقبها تقييمات سلبية أكثر حدةً وخاصة في حال استمرت حالة التوتر على الجبهة الشمالية، وتصاعدت إلى مواجهات عسكرية أشد قوةً. أما إذا ازداد توسع المواجهة وتحولت إلى مواجهة إقليمية، فإن النتائج ستكون حتمًا كارثية بالنسبة إلى الاقتصاد كيان العدو الإسرائيلي.

على صعيد المصالح التجارية المتوسطة والصغيرة فان الوقائع والأرقام تكشف عن تكبد مصالح كيان العدو الإسرائيلي التجارية خسائر كبيرة وغير مسبوقة. إذ تظهر استطلاع دائرة الإحصاء المركزية بعد مرور ثلاثة أسابيع على عملية طوفان الأقصى أن تقديرات 51% من المصالح التجارية خسرت أكثر من نصف ارباحها، فيما تظهر تقارير مديري المصالح التجارية حالة التوظيف والأضرار التي لحقت بشركاتهم ومصالحهم التجارية خلال الحرب، موضحين أن 37% من إجمالي الشركات والمصالح في الكيان الإسرائيلي وصلت الى الحد الأدنى من التوظيف والتشغيل.

وسجلت الخسائر بخصوص تأثير الحرب على سوق العمالة والضرر الأكبر في المنطقة الجنوبية، حيث أبلغ حوالي 59% من الشركات والمصالح عن الحد الأدنى من التوظيف، وتنشط 62% من الشركات التي تعمل في العقارات والبناء بالحد الأدنى من نطاق التوظيف.

وتلفت التقارير إلى أن الأمر لا يقتصر على قيمة الأضرار والخسائر المباشرة التي لحقت وستلحق بهذه القطاعات، إنما بالخسائر غير المباشرة المتمثلة بفوات المنفعة الاقتصادية على المدى القريب والبعيد، والتي كان يمكن تحقيقها فيما لو لم تحدث عملية “طوفان الأقصى”.

على الصعيد الاجتماعي، كشفت وقائع الأحداث عن خسائر كبيرة في الأرواح البشرية، التي ربما تكون الأثقل بالنسبة لكيان العدو منذ نهاية التسعينيات، ذلك أن مجتمع كيان العدو الإسرائيلي سيكون في مواجهة تبعات خطرة للمؤشرات التالية:

أولا: الارتفاع في معدلات البطالة نتيجة توقف المنشآت الصناعية والسياحية والخدمية وخروج بعضها عن العمل جزئياً أو بشكل تام.

ثانيا: زيادة أعداد المستوطنين المحتاجين إلى الدعم والمساعدة بغية تلبية احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والدواء وغير ذلك.

ثالثا: نشوء ظاهرة النزوح الداخلي للمستوطنين الهاربين من مناطق غلاف غزة وما ينجم عنها من آثار اقتصادية واجتماعية ونفسية في شريحة واسعة من المستوطنين الصهاينة.

رابعا: ارتفاع ظاهرة الإصابة بالصدمات والأمراض النفسية بين عموم الصهاينة، وغالباً ما تستمر هذه الإصابات لفترات زمنية ليست قصيرة.

خامسا: انهيار مؤشرات الرأسمال الاجتماعي من حيث فقدان الشعور بالأمان والثقة، والتي تضاف إلى جملة ما يعانيه المجتمع الإسرائيلي من انقسام وتشرذم وفقدان للثقة.

سادسا: التوقعات بزيادة معدلات الجريمة والانتحار والإحباط واليأس في ضوء ما خلفه الفشل الأمني العسكري الإسرائيلي من انعدام للثقة والأمان داخل المجتمع الصهيوني.

على الصعيد المالي لم تكن تأثيرات الحرب في السوق المالية لكيان العدو الإسرائيلي أقل سوءًا؛ إذ فقدت سوق الأسهم نحو 9 في المئة من قيمتها الاسمية خلال الأسبوع الأول من عملية طوفان الأقصى، وهي أكبر خسارة أسبوعية يُمنى بها المؤشر على مدار السنوات العشر الماضية.

وتواصلت خسارات السوق في الأسابيع اللاحقة لتصل إلى أكثر من 22 في المئة، مدفوعةً بقيام المستثمرين الأجانب ببيع أسهمهم، وخاصة أسهم قطاع البنوك؛ إذ تراجعت أسعار أسهم أكبر خمسة بنوك بنسبة 20 في المئة، وهي أكبر نسبة تراجع منذ جائحة كورونا، وبذلك، تُقدر خسائر رأس المال في سوق البورصة منذ اندلاع المواجهات في غزة بأكثر من 20 مليار دولار.

وجاءت هذه الخسائر مدفوعة بارتفاع حدة المخاطر المستقبلية المحتملة وتنامي حالة عدم اليقين المرتبطة بالأوضاع الأمنية والاقتصادية في كيان العدو الإسرائيل.

نفقات وخسائر يومية غير مسبوقة

على صعيد نفقات وتكاليف الحرب أعلنت وزارة المالية في كيان العدو الإسرائيلي، أن الحرب بأول 3 أسابيع كلفت الميزانية العامة لكيان العدو 30 مليار شيكل (7.5 مليارات دولار) وهي لا تشمل خسائر المصالح التجارية الصغيرة والمتوسطة، والأضرار المباشرة وغير المباشرة التي تكبدها النشاط الاقتصادي.

ونقلت صحيفة “كلكليست العبرية” عن رئيس شعبة الموازنة بالمالية يوغيف غيردوس، قوله في مؤتمر صحفي أن تقديرات وزارة مالية الكيان بشأن الأضرار الهائلة التي خلفتها هذه الحرب أعلى من موازنة “دولة” كيان العدو.

وبين غير دوس أنه -في الأسابيع الثلاثة للحرب- بلغت الأضرار التي لحقت بالموازنة 30 مليار دولار موزعة على الشكل التالي: 20 مليار شيكل (5 مليارات دولار) تكلفة السلاح والحرب، 10 مليارات شيكل (2.5 مليار دولار) لتمويل إخلاء السكان ودعم السلطات المحلية.

وأشار إلى أن هذه التكلفة لا تشمل الأضرار المباشرة التي يتكبدها اقتصاد الكيان الإسرائيلي بعد عملية “طوفان الأقصى”.

ولفت رئيس شعبة الموازنة المالية في كيان العدو يوغيف غير دوس، إلى ان نفقات القتال في اليوم الواحد تكلف نحو مليار شيكل (250 مليون دولار).

وأوضح بأنه من المتوقع أن يزداد الإنفاق الإجمالي مع استمرار القتال، فيما ستزداد الأضرار التي لحقت بالناتج المحلي الإجمالي لاقتصاد الكيان لتصل إلى نحو 10 مليارات شيكل شهريا من القتال (2.5 مليارات دولار) وهذا يعني أن النمو الاقتصادي في كيان العدو الإسرائيلي سوف يتباطأ بشكل ملحوظ فيما تبقى من العام.

ولفت غيردوس إلى أن تكاليف الحرب الحالية على غزة هائلة مقارنة بالجولات القتالية السابقة وأنه في حال استمرت الحرب لفترة طويلة فان الكيان الاسرائيلي سيتلقى ضربة مالية واقتصادية كارثية.

وبحسب صحيفة “دى ماركر” الاقتصادية فإن وزير مالية كيان العدو الاسرائيلي بتسلئيل سموتريتش رفع عجز الموازنة للعام الجاري إلى 4% بدلا من 1.5%، وبنسبة 5% عام 2025م، مردفا بالقول مؤكدا أنه مع استمرار الحرب سيكون العجز أكبر.

وتم استدعاء ما يقرب من 350 ألف جندي احتياطي بعد الهجوم الصاروخي للمقاومة الفلسطينية على الأراضي المحتلة، على المستوطنات والمدن الفلسطينية المحتلة ـ وهو العدد الأكبر في تاريخ كيان العدو الإسرائيلي”، والذي يمثل أكثر من 5% من قوة العمل في كيان العدو.

ويوجد اليوم مئات الآلاف من قوات العدو الإسرائيلي في الخدمة للعدوان على الشعب الفلسطيني في مختلف مناطق المواجهات بينما يعيش الكثير من الناس في الملاجئ. الامر الذي أرغم العديد من الشركات على إغلاق أبوابها.

على ذات الصعيد كشفت جمعية المنتجين في كيان العدو عن حوالي 10 بالمئة من العمال يبقون في منازلهم خلال الحروب الصراعات الا انه بعد عملية طوفان الاقصى وما ترتب عليها من مواجهات ارتفعت نسبة غياب العمال عن أعمالهم طوعا أو قسرا بشكل غير مسبوق.

ماذا عن وضع شركات الكيان الصهيوني؟

توقفت الرافعات التي كانت تملأ أفق تل أبيب المزدهر عن الحركة ووفقا لتقرير الصناعة بأن عدم النشاط في القطاع وحده يكلف الاقتصاد حوالي 150 مليون شيكل (37 مليون دولار) يوميا.

وكشفت المجموعة الصناعية الرئيسية في كيان العدو بأن الشركات في الكيان خسرت 1.2 مليار شيكل (368 مليون دولار) خلال حرب سابقة مع المقاومة الفلسطينية، استمرت 11 يومًا فقط.

وقالت جمعية المصنعين في كيان العدو “، التي تمثل حوالي 1500 شركة و400 ألف عامل بإن الخسائر ترجع في معظمها إلى بقاء الموظفين في منازلهم، مشيرة الى أن إطلاق الصواريخ الفلسطينية دون توقف على مختلف المستوطنات والمدن الفلسطينية المحتلة ارغمت نحو نصف العمال في جنوب فلسطين المحتلة ” على التغيب من العمل، ما أدى إلى انخفاض كبير في إنتاج الشركات الصناعية وانخفاض المبيعات وإلحاق أضرار مباشرة بالدخول”.

وأضافت أن 50 مصنعاً في كيان العدو، تكبد ملايين الأضرار المباشرة جراء إطلاق الصواريخ فضلا عن الأضرار الغير مباشرة مثل الطلبات الملغاة، فيما أوضح راؤول ساروغو، رئيس جمعية المصنعين في كيان العدو أن “هذه ليست خسارة للمقاولين أو الحرفيين فحسب، بل هي خسائر كل أسرة في كيان العدو الإسرائيلي.

ويؤكد مسؤولو وخبراء اقتصاديون في كيان العدو أن اقتصاد الكيان الإسرائيلي ينكمش بنسبة 11% مع تصاعد تداعيات عملية طوفان الأقصى، فيما تراجعت قيمة عملة العدو، بشكل أكبر ومتسارع منذ بداية عملية طوفان الأقصى، لتصل اليوم إلى أدنى مستوى لها منذ ثماني سنوات.

وبينما انخفض الرقم إلى أضعف مستوى له منذ عام 2012، انخفض مؤشر الأسهم الرئيسي في تل أبيب أيضًا بنسبة 11% منذ 7 أكتوبر.

ويقول المحللون إن قياس تأثير الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي لا يزال صعباً، وذلك بسبب عدم اليقين الهائل بشأن حجم ومدة الصراع وبسبب نقص البيانات عالية التكرار – البيانات التي تم جمعها على مدى فترة طويلة من الزمن.

وينوه تقرير البنك المركزي لكيان العدو الإسرائيلي: الى ان الحرب على غزة ستؤثر على اقتصاد كيان العدو الإسرائيلي، فيما يواجه البنك معضلة، هل سيخفض أسعار الفائدة للمساعدة في دعم الاقتصاد في زمن الحرب أو يرفعها لدعم الشيكل وقد اختار البنك المركزي الخيار الأخير، حيث أبقى أسعار الفائدة دون تغيير.

وقال البنك في تقريره إن سياسته تركز على “استقرار الأسواق والحد من عدم اليقين” إلا أنه من الرغم عن كل ذلك فإن المتوقع أن يرتفع حجم الإنفاق اليومي نتيجة استمرار الحرب.

وأعلن البنك المركزي في كيان العدو عن توقعه انخفاض عائدات الضرائب مع تضرر اقتصاد الكيان ودعوة الناس للقتال، مؤكد أن ما ترتب على عملية طوفان الأقصى من حرب مستمرة ستؤدي بشكل مفاجئ إلى تقليص اقتصاد الكيان الإسرائيلي هذا العام والعام المقبل ومن ثم سيزداد، عجز الميزانية العامة للكيان.

وشدد البنك المركزي في كيان العدو على أنه في حال استمرت الحرب على الجبهة الجنوبية فإن النمو الاقتصادي سيتباطأ إلى معدل سنوي قدره 2.3 بالمئة هذا العام و2.8 بالمئة في 2024 مشيرا إلى حدوث انخفاض النشاط في قطاعات البناء والزراعة والسياحة.

في النتيجة أثبتت كل الوقائع والشواهد أن الضربة العسكرية والأمنية التي وجهتها عملية طوفان الأقصى لكيان العدو الإسرائيلي قد ألحقت ضررا كبيرا وعميقا بكل مقومات وشركات ومؤسسات المجال الاقتصادي والمالي لكيان العدو ولا يبدو أن الكيان الهش، المتهاوي سيتمكن بعد ذلك من الوقوف على قدميه كما كان في السابق فعملية طوفان الأقصى بتداعياتها أحدثت ولا تزال تحدث تصدعات بنيوية عميقة في كيان العدو الإسرائيلي لا يمكن ترميمها.

محمد فايع- المسيرة نت

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: فی کیان العدو الإسرائیلی عملیة طوفان الأقصى الکیان الإسرائیلی البنک المرکزی ملیار شیکل الحرب على التی لحقت أکثر من

إقرأ أيضاً:

كيف نزع ترامب القناع عن عملية التغليف التي يقوم بها الغرب في غزة؟

عندما تقرِّر الأنظمة "الديمقراطية الحرّة" المكلّلة بالشعارات القيمية المجيدة أن تدعم سياسات جائرة أو وحشية تُمارَس بحقّ آخرين في مكان ما؛ فإنها تتخيّر تغليف مسلكها الشائن هذا قيميًا وأخلاقيًا إنْ عجزت عن توريته عن أنظار شعوبها والعالم.

هذا ما جرى على وجه التعيين مع حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي استهدفت الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. أعلنت عواصم غربية مع بدء الحرب دعمها الاستباقي الصريح لحملة الاحتلال الإسرائيلي على القطاع؛ رغم نوايا قادة الاحتلال المعلنة لممارسة إبادة جماعية وتهجير قسري واقتراف جرائم حرب.

لم تتورّع بعض تلك العواصم عن تقديم إسناد سياسي ودبلوماسي وعسكري واقتصادي ودعائي جادت به بسخاء على قيادة الاحتلال الفاشية في حربها تلك، المبثوثة مباشرة إلى العالم أجمع.

تبيّن في الشقّ الدعائي تحديدًا أنّ الخطابات الرسمية الغربية إيّاها اغترفت من مراوغات صريحة وإيحائية تصم الضحية الفلسطيني باللؤم وتحمله مسؤولية ما يُصبّ عليه من ألوان العذاب، وتصور المحتلّ المعتدي في رداء الحِملان وتستدر بكائية مديدة عليه تسوِّغ له ضمنًا الإتيان بموبقات العصر دون مساءلة أو تأنيب، وتوفير ذرائع نمطية لجرائم الحرب التي يقترفها جيشه، وإن تراجعت وتيرة ذلك نسبيًا مع تدفقات الإحصائيات الصادمة والمشاهد المروِّعة من الميدان الغزِّي.

إعلان

ليس خافيًا أنّ المنصّات السياسية الرسمية في عواصم النفوذ الغربي تداولت مقولات نمطية محبوكة، موظّفة أساسًا لشرعنة الإبادة الجماعية ومن شأنها تسويغ كلّ الأساليب الوحشية التي تشتمل عليها؛ قصفًا وقتلًا وتدميرًا وترويعًا وتشريدًا وتجويعًا وإفقارًا.

تبدو هذه المقولات، كما يتبيّن عند تمحيصها، مؤهّلة لتبرير سياسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب في أي مكان على ظهر الكوكب، لكنّ التقاليد الرسمية الغربية في هذا الشأن حافظت على ديباجات إنسانوية وأخلاقوية ظلّت تأتي بها لتغليف سياساتها ومواقفها الراعية للوحشية أو الداعمة لها.

من حِيَل التغليف الإنساني إظهار الانشغال المتواصل بالأوضاع الإنسانية في قطاع غزة مع الامتناع عن تحميل الاحتلال الإسرائيلي أيّ مسؤولية صريحة عن سياسة القتل الجماعي والحصار الخانق التي يتّبعها.

علاوة على إبداء حرص شكلي على "ضمان دخول المساعدات الإنسانية" وتمكين المؤسسات الإغاثية الدولية من العمل، وربّما افتعال مشاهد مصوّرة مع شحنات إنسانية يُفترض أنها تستعدّ لدخول القطاع المُحاصر، كما فعل وزير الخارجية الأميركي حينها أنتوني بلينكن أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو مثل الحال التي ظهر فيها مسؤولون غربيون لدى إعلانهم في مارس/ آذار 2024 من قبرص عن مشروعهم الواعد المتمثِّل بالممرّ البحري إلى غزة، الذي تبيّن لاحقًا أنه كان فقاعة دعائية لا أكثر.

كان حديث العواصم الداعمة للإبادة عن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة وإبداء الحرص على إدخال المساعدات تغليفًا مثاليًا لسياساتهم الداعمة في جوهرها لفظائع الإبادة والحصار الوحشي، فقد ابتغت من هذه الحيلة التنصّل من صورة الضلوع في جرائم حرب مشهودة، وإظهار رفعة أخلاقية مزيّفة يطلبها سياسيون وسياسيات حرصوا على الظهور الأنيق على منصّات الحديث في هيئة إنسانية مُرهَفة الحسّ تلائم السردية القيمية التي تعتمدها أممهم بصفة مجرّدة عن الواقع أحيانًا.

إعلان

جرى ذلك خلال موسم الإبادة المديد في عواصم واقعة على جانبَي الأطلسي، عندما كان جو بايدن هو رئيس الولايات المتحدة. ثمّ خرج بايدن في نهاية ولايته من البيت الأبيض ولعنات المتظاهرين تطارده بصفة "جو الإبادة" التي ظلّ في مقدِّمة رعاتها ولم يَقُم بكبْحها رغم مراوغات إدارته اللفظية.

ثمّ برز دونالد ترامب في المشهد من جديد ليطيح بتقاليد المواقف والخطابات المعتمدة حتى مع حلفاء الولايات المتحدة المقرَّبين.

تقوم إطلالات ترامب على منطق آخر تمامًا، فالرئيس الآتي من خارج الجوقة السياسية التقليدية يطيب له الحديث المباشر المسدّد نحو وجهته دون مراوغات لفظية، ويتصرّف كحامل هراوة غليظة يهدِّد بها الخصوم والحلفاء، وينجح في إثارة ذهول العالم ودهشته خلال إطلالاته الإعلامية اليومية.

قد لا يبدو لبعضهم أنّ ترامب يكترث بانتقاء مفرداته، رغم أنّه يحرص كلّ الحرص على الظهور في هيئة خشنة شكلًا ومضمونًا لأجل ترهيب الأصدقاء قبل الأعداء وكي "يجعل أميركا عظيمة مجدّدًا"!.

مع إدارة دونالد ترامب، تراجع الالتزام بالأعراف الدبلوماسية والاتفاقات الدولية، إذ فضّلت الإدارة الأميركية آنذاك اعتماد خطاب مباشر وصدامي، واتباع نهج يتجاوز التقاليد السياسية المتّبعة حتى مع الحلفاء المقرّبين. وقد تجلّى هذا التحوّل في التعامل مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي كان حتى وقت قريب يحظى بدعم واسع في واشنطن والعواصم الغربية، قبل أن تنقلب المعادلة، ويظهر خروجه من البيت الأبيض في مشهد حمل دلالات رمزية على تغيّر السياسة الأميركية تجاه شركائها.

اختار ترامب خطاب القوة الصريحة، مع إظهار التفوّق الأميركي بوصفه أداة ضغط على الخصوم والحلفاء على حد سواء، ما عكس توجّهًا جديدًا في السياسة الخارجية يقوم على فرض الإملاءات بدل التفاهمات، وإعادة تعريف العلاقات الدولية من منظور أحادي الجانب.

إعلان

إنّها قيادة جديدة للولايات المتحدة، قائدة القاطرة الغربية، تحرص كلّ الحرص على إظهار السطوة ولا تُلقي بالًا للقوّة الناعمة ومسعى "كسب العقول والقلوب" الذي استثمرت فيه واشنطن أموالًا طائلة وجهودًا مضنية وكرّست له مشروعات وبرامج ومبادرات وخبرات وحملات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

انتفت الحاجة مع النهج الأميركي الجديد إلى ذلك التغليف الإنساني النمطي للسياسات الجائرة والوحشية، حتى إنّ متحدِّثي المنصّات الرسمية الجُدُد في واشنطن العاصمة ما عادوا يتكلّفون مثل سابقيهم إقحام قيَم نبيلة ومبادئ سامية في مرافعات دعم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزة. وبرز من الصياغات الجديدة المعتمدة، مثلًا، ذلك التهديد العلني المُتكرِّر بـ"فتح أبواب الجحيم".

على عكس الحذر البالغ الذي أبدته إدارة بايدن في أن تظهر في هيئة داعمة علنًا لنوايا تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة خلال حملة التطهير العرقي التي مارسها الاحتلال في سياق حرب الإبادة؛ فإنّ ترامب عَقَد ألسنة العالم دهشة وعجبًا وهو يروِّج لذلك التطهير العرقي ويزيد عليه من رشفة الأحلام الاستعمارية البائدة؛ بأن يصير قطاع غزة ملكية أميركية مكرّسة لمشروعات عقارية وسياحية أخّاذة ستجعل منه ريفيرا مجرّدة من الشعب الفلسطيني، و"كَمْ يبدو ذلك رائعًا" كما كان يقول!.

لم تتغيّر السياسة الأميركية تقريبًا في فحواها المجرّد رغم بعض الفوارق الملحوظة التي يمكن رصدها، فما تغيّر أساسًا هو التغليف الذي نزعته إدارة ترامب لأنّها تفضِّل إظهار سياساتها ومواقفها ونواياها في هيئة خشنة.

ما حاجة القيادة الأميركية الجديدة بأن تتذرّع بقيم ومبادئ ومواثيق وهي التي تتباهى بإسقاط القانون الدولي حرفيًا والإجهاز على تقاليد العلاقات بين الأمم وتتبنّى نهجًا توسعيًا غريباً مع الحلفاء المقرّبين في الجغرافيا بإعلان الرغبة في ضمّ بلادهم إلى الولايات المتحدة طوعًا أو كرهًا أو الاستحواذ على ثرواتهم الدفينة ومعادنهم النادرة؟!

إعلان

أسقطت إدارة ترامب في زمن قياسي التزام واشنطن بمعاهدات ومواثيق دولية وإقليمية، وأعلنت حربًا على هيئات ووكالات تابعة لها، وخنقت هيئة المعونة الأميركية "يو إس إيد" التي تُعدّ من أذرع نفوذها وحضورها في العالم، ودأبت على الإيحاء بأنّها قد تلجأ إلى خيارات تصعيدية لم يتخيّلها أصدقاء أميركا قبل أعدائها.

قد يكون العالم مدينًا لترامب بأنّه تحديدًا من أقدم على إنهاء الحفل الخيري المزعوم ونزَع الغلاف الإنسانوي والأخلاقوي الزاهي عن سياسات جائرة ووحشية وغير إنسانية؛ يتجلّى مثالها الأوضح للعيان في حملة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وسياسات التجويع والتعطيش الفظيعة التي تستهدف الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

ذلك أنّ حبكة ترامب في فرض الإملاءات تقتضي الظهور في هيئة مستعدّة للضغط السياسي على مَن لا يرضخون له، بصرف النظر عن نيّته الحقيقية المُضمَرة، على نحو يقتضي التخلِّي عن كلّ أشكال اللباقة والتذاكي التي التزمها القادة والمتحدثون الرسميون في الولايات المتحدة ودول غربية دعمت الاحتلال والإبادة وجرائم الحرب.

أقضّت أميركا الجديدة مضاجع حلفائها وشركائها الغربيين وأربكت خطاباتهم، ولا يبدو أنّ معظم العواصم الأوروبية والغربية مستعدّة للتخلِّي عن الهيئة القيمية التي حرصت عليها في تسويق سياساتها وترويج مواقفها.

يحاول عدد من العواصم الأوروبية إظهار التمايُز عن مسلك أميركا الجديد المُحرِج لسياسات دعم الاحتلال والاستيطان والإبادة والتجويع والتهجير والتوسّع، ما اقتضى إطلاق تصريحات وبلاغات متعدِّدة تبدو حتى حينه أكثر جرأة في نقد سياسات الاحتلال في القتل الجماعي للمدنيين وتشديد الحصار الخانق على قطاع غزة، واستهداف المخيمات في الضفة الغربية وفي توسّع الاحتلال في الجنوب السوري؛ حتى من جانب لندن وبرلين اللتيْن برزتا في صدارة داعمي الإبادة وتبريرها خلال عهد بايدن.

إعلان

لعلّ أحد الاختبارات التي تواجه عواصم القرار الغربي الأخرى هو مدى الجدِّية في مواقفها تلك، المتمايزة عن واشنطن، وهل يتعلّق الأمر بالحرص المعهود على التغليف الذي نزعه ترامب؛ أم أنّ ثمة فحوى جديدة حقًّا قابلة لأن تُحدث فارقًا في السياسات ذات الصلة على المسرح الدولي؟

من المؤكّد على أي حال أنّ غزة التي تكتوي بفظائع الإبادة الوحشية وتتهدّدها نوايا قيادة الاحتلال الفاشية ستكون اختبارًا مرئيًا لتمحيص السياسات ومدى التزامها بالديباجات الأخلاقية والإنسانية التي تتكلّل بها، وأنّ السياسات الجائرة والعدوانية والوحشية صارت مؤهّلة لأن تظهر للعيان في هيئتها الصريحة كما لم يحدث مِن قبْل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الاحتلال ينشر نتائج صادمة للتحقيق في اختراق منطقة إيرز خلال طوفان الأقصى
  • صاروخ يمني يثير الرعب في كيان العدو
  • كيان العدو الصهيوني يدمر 3250 منزلا في جنين
  • أبو حمزة في كلمة سجلها قبل استشهاده: طوفان الأقصى ضرب الاحتلال في مقتل (شاهد)
  • الشهيد أبو حمزة في كلمة مسجّلة لمناسبة يوم القدس العالمي:الإسناد اليمني شكّل علامةً فارقةً في طوفان الأقصى
  • الشهيد أبو حمزة في كلمة مسجّلة لمناسبة يوم القدس: الاسناد اليمني شكّل علامةً فارقةً في طوفان الأقصى
  • كيف نزع ترامب القناع عن عملية التغليف التي يقوم بها الغرب في غزة؟
  • في كلمة مسجلة.. الشـــهيد أبو حــمزة : الحضور اليمني شكل علامة فارقة في معركة ” طـــوفان الأقصى “
  • الشهيد أبو حمزة يوجه التحية لليمن وللسيد القائد
  • الشهيد أبو حمزة يظهر في كلمة مسجلة بمناسبة يوم القدس العالمي / فيديو