لجريدة عمان:
2024-11-24@03:39:53 GMT

عن النفاق وأشكاله

تاريخ النشر: 7th, November 2023 GMT

حينما كنت أقوم بتدريس مقرر «فلسفة القيم والأخلاق» منذ عشرين سنة بجامعة الإمارات، كنت أتناول أشكال القيم المختلفة، ومنها القيم الفنية والجمالية (وهما ليسا شيئًا واحدًا)، والقيم الحيوية (كالصحة والسعادة)، فضلًا عن القيم الأخلاقية المتعددة، وغير ذلك من القيم. وفي إحدى محاضراتي فاجأتني طالبة بالسؤال التالي: وما القيمة الأخلاقية -أستاذي- التي تظنها القيمة الأخلاقية العليا؟ تأملت الأمر بعمق، وأجبتها بعد طول تدبر بأن «العدالة» هي القيمة الأخلاقية العليا؛ لأنها القيمة التي من دونها لا يمكننا أن نتحدث عن أية قيمة أخلاقية أخرى: فمن دون العدالة لا يمكننا أن نتحدث عن الحق والمساواة والأمن والسلام والسماحة والقدرة على تقبل الآخر أو التعايش معه.

ولهذا فإن الفيلسوف العظيم أفلاطون قد جعل «العدالة» قيمة كبرى تعبّر عنها فلسفته، سواء على مستوى الحُكم والدولة الذي يقوم على التوازن بين قوى الدولة بحيث تقوم كل جماعة أو مؤسسة بالوظيفة التي تليق بها، أو على مستوى سلوك الإنسان الذي ينبغي أن يتحقق فيه التوازن بين القوى العقلانية والقوى الغضبية (أو الشعور والانفعال)، والقوى الحسية الشهوانية.

وبطبيعة الحال فإن كل الخصال المضادة للقيم، هي خصال لا يمكن أن ننسب إليها أية قيمة؛ ومن ثم فإنها تقع خارج منظومة الأخلاق، فهي تنتمي إلى منظومة لاأخلاقية، وعلى رأس هذه المنظومة يأتي «الظلم» باعتباره الفعل المضاد لقيمة العدالة. ولو تساءلنا الآن عن وضع «النفاق» من هذه المنظومة اللاأخلاقية، لقلنا إنها تلي الظلم مباشرة؛ فهي تقع في أسفل سلم السلوك المضاد للأخلاق؛ ولهذا نجد أن القرآن الحكيم -في سورة البقرة- يضع مصير المنافقين في الدرك الأسفل من النار:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (البقرة، آية 10).

ويقول المولى في سورة المنافقين: «إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون» (آية 1). كما يذكر المولى خصال المنافقين في كثير من سور القرآن الأخرى مثل: سورتي التوبة وآل عمران. وبوجه عام يمكن القول: إن القرآن حريص على تأكيد سوءات المنافقين باعتبارهم الأشد كفرًا؛ لأنهم أضافوا إلى الكفر الكذب والخديعة، وهم بوجه عام يظهرون غير ما يبطنون. ولعل بني إسرائيل -ومن يناصرهم- هم أشد الناس ظلمًا ونفاقًا، ومن ثم أشدهم قدرة على الكذب والخداع، وآية ذلك هو ما يجري منهم الآن وعلى ألسنتهم فيما يتعلق بمجازرهم في غزة؛ وإن كان هذا لا يصدق على كل اليهود المتدينين حقًّا الذين رأينا رفضهم واستنكارهم لظلم وعدوان بني جلدتهم من الصهاينة.

غير أن النفاق له أشكال عديدة، يستحق كل منها أن نتوقف عنده قليلًا. ولعل النفاق الاجتماعي هو أهم أشكال النفاق وأكثرها انتشارًا بين البشر، فهو أمر سائد بين أكثر البشر، فكثيرًا ما نجد الناس ينافقون بعضهم بعضًا. ومن ذلك ما نراه شائعًا حينما نجد الموظف ينافق رئيسه في العمل مهما كان من وضاعة هذا الرئيس، فهو يزجي إليه أعظم آيات الشكر والتقدير المبالغ فيه، ونحن نرى هذا الموظف يسلك هذا المسلك نفسه مع رئيسه التالي أيًّا كان. ومن ذلك أيضًا ما نراه من سلوك المنافقين إزاء الناس في تعاملاتهم اليومية، إذ نجد الكذب والغش والخداع للآخرين بحلو الكلام الذي يتجاوز المجاملة، ويُظهِر غير ما يَبطُن في نفس المنافق الذي قد يكون ألد الخصام والكراهية من باب الحسد والغيرة ممن ينافقه، وكل هذا من أجل تحقيق مصلحة أو غرض ما.

ومن أشكال النفاق الشائعة في حياتنا ما يُسمى بالنفاق السياسي، وهو يتمثل بوجه خاص في النُّظم السياسية المتخلفة لدى أكثر الأحزاب السياسية والمشتغلين بالسياسة، فضلًا عن المشتغلين بالإعلام من المذيعين والصحفيين وغيرهم ممن يمارسون النفاق السياسي على مواقع شبكة المعلومات. هؤلاء هم نتاج للحكومات القمعية التي تقوم باستغلال ضعف وهشاشة بعض النفوس البشرية وتوظيفها من أجل الترويج لها والتسبيح بحمدها من أجل حفنة دولارات يمكن أن تصل إلى أرقام هائلة بحسب قدرة الشخص على صنع النفاق. عرفنا هذا في كل مكان، ورأينا نماذج من هؤلاء الذين يمارسون النفاق السياسي في كل العصور، ولسان حالهم يقول: «مات الملك، عاش الملك»! ومن المدهش أن الحكام لا يدركون أن هؤلاء المنافقين ينتقدونهم في جلساتهم الخاصة؛ ولذلك فإنهم ليس ظهيرًا حقيقيًّا مخلصًا وناصحًا لهم.

غير أن أخطر أشكال النفاق هي النفاق الديني أو النفاق باسم الدين، وهذه حالة شائعة في عالمنا العربي؛ بسبب حالة تغييب الوعي الديني: فالدين يُستخدم باعتباره ممارسة للشعائر الدينية كالصلاة وصيام رمضان وحج البيت، فتجد كثيرًا من الناس يحرصون على أداء الشعائر الدينية، لا عن إيمان حقيقي، وإنما بهدف استغلال الصورة الزائفة التي يصطنعوها لتدينهم في خداع الناس وممارسة كل الموبقات الأخلاقية بما في ذلك النصب والاحتيال. عرفت من خلال الخبرة نماذجَ من هؤلاء بشكل مباشر، ولكنهم لا يَعبأون بأن تعرفهم أو تتعرف على سوءاتهم؛ لأنهم سوف يمارسون النصب والاحتيال على غيرك، بل إن بعضهم يكون على قناعة بأنهم المؤمنون المصلحون، ولسان حالهم يقول: من الحج إلى الحج، ومن العُمرة إلى العُمرة، ومن رمضان إلى رمضان، ومن الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما! ومعنى ذلك أنهم يظنون أن مجرد أداء الشعائر يجعلهم مؤمنين، وعلينا أن نتعامل معهم على هذا الأساس.

لكننا لا ينبغي أن نتناسى في النهاية أن هذه الأشكال من النفاق مترابطة بحيث إن من يمتلك إحداها يمتلك أيضًا غيرها.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

حقيقة الاتصالات التحذيرية ورسائل التهديد على هواتف اللبنانيين

بيروت- في تمام الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل، بدأت التحذيرات تتوالى على هواتف سكان مدينة صيدا، الذين تلقوا مكالمات صوتية استمرت حوالي 30 ثانية، تطالبهم فيها بمغادرة منازلهم فورا بسبب "وجودهم في مناطق تعرض حياتهم للخطر".

وفي حديثه للجزيرة نت، يروي إبراهيم الحاج تجربته قائلا "في البداية، ظننا أن التهديد يقتصر على بنايتين في منطقة سيروب بمدينة صيدا جنوبي لبنان، لكن مع مرور الوقت، اكتشفنا أن التحذيرات شملت مناطق أخرى في المدينة"، مضيفا أنهم انتقلوا من منطقة إلى أخرى وسط تزايد القلق، بينما استمرت محاولات البحث عن مكان آمن، واستمر الوضع على هذا النحو لساعات".

ويؤكد إبراهيم أن أكثر من 100 منزل تلقت نفس المكالمة الصوتية، التي كانت تبدو كالتسجيلات الآلية، حيث تكرر النص نفسه بشكل دقيق، وسرعان ما عمّت حالة من الذعر، وبدأ سكان المنطقة يتحركون بشكل عاجل، مغادرين منازلهم وركضوا نحو سياراتهم، مبتعدين عن المكان".

ولم تكن هذه الحادثة حالة استثنائية، إذ تكررت مشاهد مشابهة في العديد من المناطق اللبنانية خلال الآونة الأخيرة، فبينما كانت التحذيرات تركز في البداية على المناطق الجنوبية والضاحية الجنوبية لبيروت، اتسعت رقعتها لتشمل مناطق أخرى في بيروت وخارجها، ما يعكس التصعيد العسكري في مختلف أنحاء البلاد.

الاتصالات كانت تبدو كالتسجيلات الآلية وتكرر النص نفسه بشكل دقيق (الجزيرة) ارتباك أمني

أكد الخبير العسكري والإستراتيجي حسن جوني أن مسألة الاتصالات الخادعة باتت تتكرر بشكل ملحوظ، مشيرا إلى أن بعض الأفراد يلجؤون لاستخدامها كوسيلة لتصفية الحسابات الشخصية أو لإرباك أطراف معينة، وهذا قد يؤدي إلى حالة من الخوف والارتباك تصل في بعض الأحيان إلى نزوح مؤقت قبل التحقق من صحتها، لكنها في أحيان أخرى تكون ذات أبعاد أمنية واضحة.

وأشار جوني في حديثه للجزيرة نت إلى أن بعض هذه الاتصالات تستهدف أشخاصا استنادا إلى أماكن سكنهم السابقة قبل نزوحهم، وليس إلى أماكنهم الحالية، ما يجعل التهديد جديا أحيانا، لكنه يستهدف مواقع غير دقيقة.

واعتبر أن هذا يزيد من الضغط النفسي على النازحين، الذين يعانون بالفعل من النزوح المتكرر والتهديدات المتواصلة، إلى جانب القصف والغارات، كما رأى أن هذه الظاهرة تؤثر سلبًا على الأمن والاستقرار، خاصة في المناطق التي تُعتبر بيئة داعمة للمقاومة.

وعن مواجهة هذه الظاهرة، لفت جوني إلى التحديات الكبيرة التي تواجهها الأجهزة الأمنية، موضحا أنها تبذل جهودا كبيرة في تتبع هذه الاتصالات والتحقق من حقيقتها، وتشكل ضغطا كبيرا عليها وتستغرق وقتا، وهذا يزيد من حالة القلق بين المواطنين، موضحا أن التعامل مع مثل هذه الحالات يتطلب أخذ كل اتصال على محمل الجد بسبب ارتباطه بحياة الناس.

أما عن ارتباط الاتصالات بالجانب الإسرائيلي، فاعتبر جوني أن تهديداته غالبا ما تكون عشوائية وتعتمد على معلومات غير دقيقة أو قواعد بيانات خاطئة، وأشار إلى أن "العدو لا يهتم بدقة المعلومات بقدر ما يعتمد على الوحشية في التعامل مع التهديدات، ما يجعل الوضع أكثر خطورة وتعقيدا".

شائعات أم حقيقة؟

ويوضح الخبير في الأمن السيبراني والتحول الرقمي رولان أبي نجم، للجزيرة نت، أن الأرقام التي تتصل بالناس لا تحمل رمز 07 المخصص للهاتف الأرضي في لبنان، بل هي أرقام لرموز دولية تستخدم عبر الإنترنت، ولا تتبع أي دولة معينة.

ويشرح أبي نجم أن الإسرائيليين يعتمدون على وسائل أخرى، مثل النشر على تطبيق "إكس" أو تصريحات الناطقين الرسميين، لنقل رسائلهم التحذيرية، بينما الاتصالات الهاتفية المباشرة نادرة جدا، حيث إنه من غير المنطقي أن يتصلوا بشخص بعينه لتحذيره شخصيا، وأي شخص يتابع السياق العام يدرك ذلك".

ويشدد أبي نجم على أن النقطة الأهم في نظره هي أن "الإسرائيليين لا يقومون بالاتصال بالناس مباشرة عبر الهاتف لإبلاغهم بإخلاء المباني، لكن هناك من يستغل هذا الواقع والفوضى الحالية لتحقيق أغراض مختلفة، مثل إثارة البلبلة بين الناس من خلال اتصالات أو رسائل تهديد وتحذير زائفة، تهدف في بعض الأحيان إلى السرقة أو العبث غير المسؤول".

ويشدد أبي نجم بالتأكيد على أهمية توضيح أن الإسرائيليين حتى الآن لم يقوموا بأي اتصالات مباشرة لتحذير الناس، وأن هذه الأخبار تفتقر للمنطق والدقة.

حرب نفسية

ويشرح الطبيب النفسي الدكتور أحمد عياش للجزيرة نت، أن القلق الذي يعيشه الناس حالة طبيعية وغير مرضية، إذ يعكس استجابتهم لأحداث واقعية، ويقول "يشعر الناس كأن الريح تحت أقدامهم والموت يطرق الأبواب، فهم يرون بأعينهم أهوال غزة ودمار الضاحية الجنوبية، والخوف هنا ليس وهميا، بل هو نتيجة لتجارب حقيقية عاشها البعض أو حدثت لأقربائهم، حيث لا تزال الدماء حاضرة في الساحات".

من ناحية أخرى، يشير الدكتور عياش إلى أن التعامل غير الجاد مع بعض المعلومات قد أدى إلى مآسٍ في الماضي، وهذا دفع الناس إلى الميل لتصديق الأخبار بدلا من إنكارها، ويوضح أن هذه الحالة نابعة من حرص الناس على حماية أنفسهم من أخطار محتملة، رغم غموض بعض المعلومات.

ويضيف الدكتور عياش: "الحرب النفسية تلعب دورا مركزيا في نشر الخوف بين الناس، حيث إنها أداة تهدف إلى خلق ضغط نفسي على مستويات عدة، تبدأ بالمقاتلين ثم القيادات، وصولا إلى عامة الناس، خاصة الذين لا يعتبرون أنفسهم معنيين مباشرة بالحرب، لحثهم على معارضة الأطراف الداعمة لغزة".

ويوضح الدكتور عياش أن "الناس بدؤوا يدركون أن الاتصالات تواجه بإجراءات مضادة من الجهات الأمنية والجيش تهدف إلى استجلاء الحقائق وتقييم التهديدات الأمنية"، ويشير إلى أن التعليمات الأمنية غالبا ما تتلخص في دعوة المواطنين لأخذ الحيطة والابتعاد لمدة 24 ساعة، حتى تتضح الصورة الأمنية وطبيعة المخاطر.

مقالات مشابهة

  • محمد العدل يكشف عن سبب وفاة محمد رحيم (صورة)
  • أمين الأعلى للشئون الإسلامية: تعزيز التعاون الدولي ضرورة لمواجهة تحديات القيم الأخلاقية
  • الصحة تنعى علام: عرف بقربه من الناس وخسارة كبيرة
  • حقيقة الاتصالات التحذيرية ورسائل التهديد على هواتف اللبنانيين
  • الحيرة القاتلة
  • وجه شبه بين حميدتي وأوليائه من المدنيّين
  • فلسطين تعرّي المفاهيم الأخلاقية للمجتمع الدولي
  • روابط وعرى وثيقة تجمع السودانيين من الفاشر حتى بورتسودان
  • (نص + فيديو) كلمة السيد القائد .. 21 نوفمبر 2024
  • عمرو سعد: أرفض مصطلح الأخلاقية في مشاهدة الأفلام