حينما كنت أقوم بتدريس مقرر «فلسفة القيم والأخلاق» منذ عشرين سنة بجامعة الإمارات، كنت أتناول أشكال القيم المختلفة، ومنها القيم الفنية والجمالية (وهما ليسا شيئًا واحدًا)، والقيم الحيوية (كالصحة والسعادة)، فضلًا عن القيم الأخلاقية المتعددة، وغير ذلك من القيم. وفي إحدى محاضراتي فاجأتني طالبة بالسؤال التالي: وما القيمة الأخلاقية -أستاذي- التي تظنها القيمة الأخلاقية العليا؟ تأملت الأمر بعمق، وأجبتها بعد طول تدبر بأن «العدالة» هي القيمة الأخلاقية العليا؛ لأنها القيمة التي من دونها لا يمكننا أن نتحدث عن أية قيمة أخلاقية أخرى: فمن دون العدالة لا يمكننا أن نتحدث عن الحق والمساواة والأمن والسلام والسماحة والقدرة على تقبل الآخر أو التعايش معه.
وبطبيعة الحال فإن كل الخصال المضادة للقيم، هي خصال لا يمكن أن ننسب إليها أية قيمة؛ ومن ثم فإنها تقع خارج منظومة الأخلاق، فهي تنتمي إلى منظومة لاأخلاقية، وعلى رأس هذه المنظومة يأتي «الظلم» باعتباره الفعل المضاد لقيمة العدالة. ولو تساءلنا الآن عن وضع «النفاق» من هذه المنظومة اللاأخلاقية، لقلنا إنها تلي الظلم مباشرة؛ فهي تقع في أسفل سلم السلوك المضاد للأخلاق؛ ولهذا نجد أن القرآن الحكيم -في سورة البقرة- يضع مصير المنافقين في الدرك الأسفل من النار:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (البقرة، آية 10).
ويقول المولى في سورة المنافقين: «إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون» (آية 1). كما يذكر المولى خصال المنافقين في كثير من سور القرآن الأخرى مثل: سورتي التوبة وآل عمران. وبوجه عام يمكن القول: إن القرآن حريص على تأكيد سوءات المنافقين باعتبارهم الأشد كفرًا؛ لأنهم أضافوا إلى الكفر الكذب والخديعة، وهم بوجه عام يظهرون غير ما يبطنون. ولعل بني إسرائيل -ومن يناصرهم- هم أشد الناس ظلمًا ونفاقًا، ومن ثم أشدهم قدرة على الكذب والخداع، وآية ذلك هو ما يجري منهم الآن وعلى ألسنتهم فيما يتعلق بمجازرهم في غزة؛ وإن كان هذا لا يصدق على كل اليهود المتدينين حقًّا الذين رأينا رفضهم واستنكارهم لظلم وعدوان بني جلدتهم من الصهاينة.
غير أن النفاق له أشكال عديدة، يستحق كل منها أن نتوقف عنده قليلًا. ولعل النفاق الاجتماعي هو أهم أشكال النفاق وأكثرها انتشارًا بين البشر، فهو أمر سائد بين أكثر البشر، فكثيرًا ما نجد الناس ينافقون بعضهم بعضًا. ومن ذلك ما نراه شائعًا حينما نجد الموظف ينافق رئيسه في العمل مهما كان من وضاعة هذا الرئيس، فهو يزجي إليه أعظم آيات الشكر والتقدير المبالغ فيه، ونحن نرى هذا الموظف يسلك هذا المسلك نفسه مع رئيسه التالي أيًّا كان. ومن ذلك أيضًا ما نراه من سلوك المنافقين إزاء الناس في تعاملاتهم اليومية، إذ نجد الكذب والغش والخداع للآخرين بحلو الكلام الذي يتجاوز المجاملة، ويُظهِر غير ما يَبطُن في نفس المنافق الذي قد يكون ألد الخصام والكراهية من باب الحسد والغيرة ممن ينافقه، وكل هذا من أجل تحقيق مصلحة أو غرض ما.
ومن أشكال النفاق الشائعة في حياتنا ما يُسمى بالنفاق السياسي، وهو يتمثل بوجه خاص في النُّظم السياسية المتخلفة لدى أكثر الأحزاب السياسية والمشتغلين بالسياسة، فضلًا عن المشتغلين بالإعلام من المذيعين والصحفيين وغيرهم ممن يمارسون النفاق السياسي على مواقع شبكة المعلومات. هؤلاء هم نتاج للحكومات القمعية التي تقوم باستغلال ضعف وهشاشة بعض النفوس البشرية وتوظيفها من أجل الترويج لها والتسبيح بحمدها من أجل حفنة دولارات يمكن أن تصل إلى أرقام هائلة بحسب قدرة الشخص على صنع النفاق. عرفنا هذا في كل مكان، ورأينا نماذج من هؤلاء الذين يمارسون النفاق السياسي في كل العصور، ولسان حالهم يقول: «مات الملك، عاش الملك»! ومن المدهش أن الحكام لا يدركون أن هؤلاء المنافقين ينتقدونهم في جلساتهم الخاصة؛ ولذلك فإنهم ليس ظهيرًا حقيقيًّا مخلصًا وناصحًا لهم.
غير أن أخطر أشكال النفاق هي النفاق الديني أو النفاق باسم الدين، وهذه حالة شائعة في عالمنا العربي؛ بسبب حالة تغييب الوعي الديني: فالدين يُستخدم باعتباره ممارسة للشعائر الدينية كالصلاة وصيام رمضان وحج البيت، فتجد كثيرًا من الناس يحرصون على أداء الشعائر الدينية، لا عن إيمان حقيقي، وإنما بهدف استغلال الصورة الزائفة التي يصطنعوها لتدينهم في خداع الناس وممارسة كل الموبقات الأخلاقية بما في ذلك النصب والاحتيال. عرفت من خلال الخبرة نماذجَ من هؤلاء بشكل مباشر، ولكنهم لا يَعبأون بأن تعرفهم أو تتعرف على سوءاتهم؛ لأنهم سوف يمارسون النصب والاحتيال على غيرك، بل إن بعضهم يكون على قناعة بأنهم المؤمنون المصلحون، ولسان حالهم يقول: من الحج إلى الحج، ومن العُمرة إلى العُمرة، ومن رمضان إلى رمضان، ومن الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما! ومعنى ذلك أنهم يظنون أن مجرد أداء الشعائر يجعلهم مؤمنين، وعلينا أن نتعامل معهم على هذا الأساس.
لكننا لا ينبغي أن نتناسى في النهاية أن هذه الأشكال من النفاق مترابطة بحيث إن من يمتلك إحداها يمتلك أيضًا غيرها.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
مخالفة صريحة لكتاب الله !؟!
بقلم: كمال فتاح حيدر ..
من تمسك بالقرآن فقد عرف الله، ومن عرف الله صار قلبه مسكناً لجميع المخلوقات. فالقرآن كالشمس ينير الطريق للجميع دون تمييز. وكالمطر يسقي كل أرض بلا استثناء. .
بداية نقدم اعتذارنا المسبق للفرق الإسلامية كافة (اكثر من 73 فرقة)، ونبحث معهم عن اسباب ومسببات ظاهرة مشوشة انتشرت منذ سنوات على شكل تلميحات خطيرة مخالفة للقرآن الكريم وتتعارض معه. .
فما ان تقرأ آية من الذكر الحكيم، أو تقول لهم: قال جل شأنه، حتى يأتيك الرد بقوة: كلا بل قال فلان عن فلان، فيلغون منطوق الآية، وينسفون تفسيرها، ويعطلون تأويلها، ويضعون الأحاديث المروية في مرتبة اعلى من مرتبة القرآن. بمعنى انهم يرفضون الاقتناع بكلام الله ويستبدلونه بحديث منقول أو مشكوك في صحته. .
ما لهم كيف يحكمون ؟، أم لهم كتاب فيه يدرسون ؟. الجواب: نعم. لديهم الآن البخاري والترمذي ومسلم والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي. حتى اصبح لدى معظمهم عشرات الكتب التي تتضمن مفاهيم غير المفاهيم الواردة في كتاب الله. .
انظروا كيف يستخف الله بعقولهم، فيقول لهم: ((مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ)). .
ويقول في موضع آخر: ((تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون)). حيث يطلب منا الله أن لا نرفع أي نص تاريخي موروث إلى مستوى النص القرآني المحفوظ، وبالتالي فكل ما جاء على لسان الشراح والفقهاء ينبغي ان يتوافق تماما مع النص القرآني. وينبغي ان لا نجعل الموروث التاريخي حجة على القرآن. .
الطامة الكبرى اننا اصبحنا نجد صعوبة في مواجهة المشككين إذا كان بعض المشايخ يرجحون قول فلان وفلان على القرآن. .
احيانا يأتونك بحجج الناسخ والمنسوخ، أو يحتجون بقول تعالى: ((يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكتاب))، ويتجاهلون قوله تعالى في سورة النساء: ((أَفَلَا يَتَدبرون القرآن وَلَوْ كان مِنْ عِند غَيْر اللَّهِ لَوَجَدوا فِيه اختلَافا كثيرا)). .
اللافت للنظر ان المفسرين وبعض رجال الحديث وضعوا مجموعة من المقدمات، ثم اختلفوا في توصيف تلك المقدمات، فاختلفوا في تعريف الصحابي، واختلفوا في تقييم الرواة، فظهر ان فلان صادق عند هذا الفريق، وكاذب عند ذلك الفريق. اختلفوا في كل شيء تقريبا. .
قلنا في البداية: نحن لا نتكلم عن تراث فرقة واحدة، بل نتكلم عن تراث 73 فرقة. وبالتالي فان المطروح أمامنا هو أقرب إلى العصبية المذهبية والطائفية منها إلى الدين، ومعظمهم يدافعون عن عصبياتهم المتعمقة في نفوسهم. .
ليست المشكلة في صراع الحق والباطل. ولكن المشكلة أن يبقى الإنسان متفرجاً على صراع الحق والباطل، ولا يستطيع التمييز بينهما. .
هنالك اسئلة كثيرة ينبغي ان نوجّهها إلى انفسنا ونبحث عنها بصدق وأمانة. هل هجر المسلمون كتاب الله وراء ظهورهم منذ قرون ؟. هل انحرفوا عن الدين الحق ؟. وهل التعاليم الشائعة مجالسهم مطابقة للقرآن ؟. ام ان التعاليم المستمدة منه لا تزيد على 15 % على رأي معظم مشايخ الفرق السبعينية ؟. ألا يعلم هؤلاء المشايخ ان أول كلمة وآخر كلمة كانت (الناس) في سورة الناس ؟. وبعد ذلك يأتي من يقول لك ان الإسلام للمسلمين وحدهم، وانه مخصص لفرقة من تلك الفرق السبعينية. ترى ما الذي يمنعهم ان يدعوا بهذه الدعاء: اللهم ارزق الناس. اللهم ارحم الناس. بدلا من: اللهم ارزق المسلمين. اللهم ارحم المسلمين ؟. ألا يفترض ان نرتقي بالدعاء إلى الخطاب القرآني الأممي ؟. خطاب رب الناس، ملك الناس، إله الناس. خطاب الناس اجمعين ؟. ألا يفترض ان لا ننزلق في متاهات الخطاب الطائفي ؟. ولا نقول اللهم ارحم الطائفة الفلانية وحدها. .
كلمة أخيرة: هؤلاء لم يكتشفوا العمق الإنساني في القرآن الكريم. . .