«تكتبين في السياسة بعد الثقافة والأدب» ملاحظة تكرر توجيهها بود لي مؤخرا. لأشرح.. لا.. لا أفعل، أنا أكتب في الإعلام. هو السياق سياسي فقط لكن النقاش يدور حول الإعلام، فالسياسة ليست اختصاصي أبدا ولا خبرة لدي بها. وأضيف هنا: وأنا حتمًا لا أجرؤ أن أكتب في السياسة لا أملك الشجاعة الكافية، ولا أظن أن كل من يكتبون في عالمنا العربي يكتبون حقا في السياسة التي تهمنا، إذن لقالوا كلاما غير الذي يقولون، ولم يتحدثوا ويحللوا مواقف إسرائيل وأوروبا والولايات المتحدة وهي واضحة ولا تحتاج لكثير من الشرح.
لأعود للإعلام وربما يجدر بنا أن نتحدث عن الرأي العام قليلا. تقول النظريات إن للرأي العام عدة أنماط. يختلف بين كونه ثابتا ومتغيرا. يختلف بحدوده الجغرافية (ونحن تجاه الحرب الحالية نشهد رأيا عاما عالميا يتنامى) أو الفئوية ويختلف وفق درجة اتساعه، كامنا أو ظاهرا. واعيا إيجابيا أو سلبيا.
يمكن القول إن إسرائيل تسببت لنفسها بأزمة رأي عالمية (ناهيك عن أزمة الرأي داخليا التي تواجهها حكومة اليمين المتطرف) وأن افتضاح أفعالها وحدة الغرور الذي تمارس به وحشيتها قوّض سنوات طوال من بناء (ماركة إسرائيل) وأيا كانت محصلة الحرب الحالية فإن خسارات سياسية قد ألحقت بها ليس من السهل استرجاعها.
ما يهمنا هو استراتيجيات الاتصال العربية في الحرب الدائرة. فالأزمة ليست مع ما تقوم به إسرائيل فقط وإنما ما نقوم به نحن حيالها أيضا. في المواقف الصعبة والمؤلمة وفي حالات الأزمات يكون لزامًا على القيادات أن توجّه خطابًا ملائمًا للجماهير. فالسياسة كما يقال هي كيفية استخدام اللغة. أن تجس نبض الشارع وتحتوي ردود أفعاله وتوجه الأزمة قبل أن يتصاعد تأثيرها بما يتناسب وتوجهات الحلول التي تطرحها. أن توجه لها خطابا خاصا يتتابع بتتابع الأحداث لكن ذلك ليس من العادات في الدول العربية. في متابعة لتعليقات وتصريحات القيادات العربية حول هذا الصراع تتبين تلك الفجوة بين عمق الجرح وتأزّم المشاعر لدى الجماهير العربية وبين ما يوجه لهم في خطاب تكرره وسائل الإعلام. ولا يبدو أنها تعطي بالا بالمعنى الفعلي والتحوطي لما يمكن أن يتراكم من ردود أفعال وما يمكن أن يتشكل معها من توجهات للرأي العام والمواقف التي قد يتبناها. هذا التقدير المنخفض للمتوقع من ردة فعل الجماهير يستند على تاريخ من الهزائم والصمت والشعور بالعجز وفشل المحاولات العديدة لهذا الرأي أن يكون فاعلا أو مؤثرا في الأحداث الكبرى أو حتى أن يتوجه فعليا لمساءلة الحكومات مساءلة تحملها المسؤولية. إن كانت الجماهير الصاخبة في دول الغرب الديمقراطية! بين قوسين بالخط الأحمر مقيدة ولم تتمكن إلى الآن من وقف هذه المجزرة رغم أنها تتمتع بوهم القدرة فالأحرى ألا تتورط الجماهير العربية قي محاولات أثبت التاريخ عدم جدواها. لكن بعضا من الدراسات تشير إلى أنه في الحروب السابقة التي خاضتها الولايات المتحدة على سبيل المثال تبين أن الرأي العام لا يتم التلاعب به طوال الوقت ولا حيلة له ودون قدرة على الرد وأنه يتمتع بقدرة الاختيار بين الرسائل الموجهة إليه. وأنه يتمتع بالقدرة المضادة لفرض إرادته بناء على ما يتبناه من مواقف ومفاهيم اعتمادا على الرسائل الموجهة إليه عبر خطابات الساسة وتغطيات الإعلام وهو يختار وفق أيدلوجياته وقناعاته الخاصة، هذا في عصر الخطاب الإعلامي ذي الاتجاه الواحد، والرسائل المخصصة التي لا ينافسها العديد من الآراء المخالفة، فما بالك ونحن نشهد يوميا انكشافا غير مسبوق لما يجري على ساحة الحرب.
عند وجود كارثة مثل حالة الحرب الحالية فإن الفعل والقول السياسي لهما اتجاهان. سياق عالمي يوجه لتحقيق رسائل معينة على مستوى الحكومات والشعوب، وسياق محلي يوجه للشعوب في الداخل؛ لأنها معنية بهذا الصراع.
في السياقين كليهما لا يبدو أن الخطاب العربي مجملا كان على قدر الخوف والرعب وعمق المأساة التي تحدث، وإن تباين إيقاع التصريحات من دولة لأخرى تبعا لظروفها السياسية وتباينت مع حدة الأحداث، لكنها بقيت دون المأمول ولا تتفهم بقدر كافٍ سخط الشارع العربي وألمه. خطابات العناد والثبات والتهديد والوعيد من قبل إسرائيل والإدارة الأمريكية وكثير من دول أوروبا واضحة وعالية النبرة منذ اليوم الأول توجه إلينا. بينما في المقابل لا نجد حزما مكافئا ولا مطالبة بذات القوة تستخدم ألفاظا يستند إليها المتلقي العربي باطمئنان ويستشعر فيها الثبات والقوة، فمثلا لم تخرج قمة القاهرة بأية نتائج ملموسة ورأي موحد لكنها خرجت بذات الديباجات القديمة في صياغة الاعتراض مستخدمة ألفاظا مكررة من مثل الشجب والتنديد أو الاستنكار وهذه الألفاظ تحديدا تستحضر في ذهنية المتلقي العربي معنى الهزيمة والخنوع. الألفاظ المستخدمة ليست دون مستوى الحدث فقط وفظاعة القتل والجبروت هي تقع في فخ المستهلك المذموم الذي سيأتي بأثر سلبي جدا وينفخ هواء في الجمر المتقد في النفوس.
ما ينضح على السطح من ردود الأفعال التي تسردها مواقع التواصل الاجتماعي سواء كمحتوى للنشر أو في التعليقات أو كمية المشاركة تعطي مؤشرا أن الشارع العربي غاضب أكثر مما هو حزين. كيف ترى قضت الجماهير العربية ليلتها يوم ضرب مستشفى المعمداني. كيف نامت في الليلة التي قطعت فيها الاتصالات والكهرباء تماما عن غزة وأضواء القصف لا تتوقف عن سمائها وصوت الصراخ يختلط بالدعاء المبحوح بيقين في المآذن. كيف أكملت هذه الشعوب المكلومة جيلا بعد جيل -ورثناها عن آبائنا وها نحن نمررها كأنها تحدث كما حدثت البارحة لأولادنا- ليلتها عند بداية الهجوم البري على غزة والجرائم التي ارتكبت في جباليا، كيف تكمل يومها وتمارس حياتها وهي ترى إلى اليوم الأشلاء تلملم من تحت الركام في أكياس بلاستيك. كيف تطعم الأمهات أولادها صباحا ويوصلهم آباؤهم للمدارس دون أن تتراءى لهم فرح وحبيبة وكمال ودون أن يسمعوا صراخ الأطفال. آلاف الأطفال يغطيهم الغبار والحروق والجروح وبكاء الثكالى وحرقة القلوب. يقضي الأعظم وقته أمام شاشات الهاتف بعيون مفتوحة لا ترى، فقط: نسخ. حفظ. إعجاب وكأن السلاح في أيديهم طريقتهم للدفاع أمام هذا الواقع القاسي. بماذا تشعر الجماهير العربية وهي عاجزة عن إيصال الماء والدواء للمستغيثين تحت نيران القصف. هناك رأي عام كامن، رأي يتشظى في ما نراه ونسمعه بين الشعور بالحنق والحذر من المستقبل. وهذا الحنق يتراكم شيئا فشيئا ويلقي باللوم في جميع الاتجاهات للخارج والداخل. وشعور بالرعب من السيناريوهات المطروحة وبالحذر ماذا إن كنا في يوم لا سمح الله في الموقف ذاته، من سيغيث؟. ولم هو من المستبعد أن يحدث ذلك. أي جيوش عربية عظيمة ستحمي الأمة العربية وهي إلى الآن لم تفعل، وهي تفتت تباعا متى ما اقتضت المصالح الغربية ذلك. لم تستطع حتى أن توصل جرعة ماء للعطشى قبل استشهادهم. وتمني الشعوب العربية نفسها بالنصر معجزة تأتي على يد أهل النضال في غزة وكفى. وإن لم تتحقق فالسؤال، ليس ماذا سيحدث لغزة، السؤال من التالي.
أيا كان تاريخ الرأي العام العربي وقدرته على التحرك والتغيير سابقا فليس من المنطقي ولا من الآمن أن يتم تجاهله بالكامل بهذا الشكل المجحف. ليس من قبيل المسؤولية الأخلاقية للقيادات العربية أمام شعوبها فقط ولكن لأن ما يحدث الآن سيكون له آثار عميقة وبعيدة المدى. ربما تكون للسياسة افتراضاتها وإمكاناتها التي تجيز التحرك وفق أطر محددة من الصعب تجاوزها لكنها غير مفهومة ولا واضحة ولا مقبولة لدى الشارع العربي وهو في حالة الذعر والألم الشديدة هذه، وهنا لا بد من الاعتراف بها والالتفات لهذه الجموع. لأنه لا يبدو أن ما تمر به سيكون حالة عابرة تنسحب بمجرد أن تهدأ الأحداث هذا إن هدأت. قدر هائل من الارتباك ومراجعة القناعات وبالتوازي، قدر هائل من الوعي المبني على ما يقوله واقع الحرب لا غيره، وعي سيشكل مواقف واتجاهات قد لا يتبين أثرها في المدى القريب لكنها حتما ستشكل المستقبل.
ربما لا يكون للمحتشدين في المظاهرات في المدن الغربية ثقل في تغيير الميزان إلى الآن. لكنهم حين غضبوا احتجوا على ضياع أموال الضرائب في قضايا ضد قناعاتهم واستشعروا شيئا من القوة أنهم سيضعونها في الاعتبار عند التصويت.
حين غضبوا استولوا على محطة القطار في لندن في مظاهرة حاشدة وأغلقوا محطة القطار في نيويورك غضبا ورغبة في دفع حكوماتهم للإنصات إليهم.
حين غضبوا قاطعوا بالهتافات الصريحة التي تدين حكومتهم، جلسة مناقشة وزير الخارجية بلينكن في مجلس الشيوخ للمساعدات التي تنوي الولايات المتحدة تقديمها لإسرائيل وأوكرانيا وأعلنوا عن غضبهم وسخطهم على حكوماتهم وسط الجلسات السياسية وأمام الكاميرات. والقضية ليست قضيتهم هم متعاطفون مدفوعون بالحس الإنساني وما زالوا يبكون غضبا ألا يملكون أن يوقفوا ما يرتكب من جرائم في هذه الحرب. ليعلمنا الساسة ما هي افتراضاتهم أن تفعل الشعوب العربية إزاء الشعور بالعجز والأطفال الذين يقتلون أطفالهم. إن حزنا سنبكي، لكن ماذا سنفعل بالغضب؟.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الجماهیر العربیة الرأی العام فی السیاسة لیس من
إقرأ أيضاً:
البحرين تستضيف «الألعاب العربية 2031»
عمان (أ ف ب)
أخبار ذات صلة منتخب السلة يواجه لبنان في تصفيات كأس آسيا رئيس الدولة وملك الأردن: تكثيف الجهود لوقف إطلاق النار وحماية المدنيين في غزة ولبنانتستضيف البحرين دورة الألعاب العربية 2031 بنسختها السابعة عشرة، للمرة الأولى في تاريخها، فيما تحتضن الأردن، للمرة الثانية في تاريخها، بعد عام 1999، النسخة التي تليها عام 2035، وفقاً لقرار الجمعية العمومية لاتحاد اللجان الأولمبية العربية الذي عقد في العاصمة الأردنية عمّان برئاسة الأمير السعودي عبد العزيز بن تركي الفيصل رئيس الاتحاد.
واعتمدت الجمعية العمومية التقرير الختامي للنسخة الأخيرة من الدورة التي أقيمت في الجزائر صيف العام الماضي.
قال الفيصل في خلال الجمعية العمومية إن «اتحاد اللجان الأولمبية العربية تقدم خطوات كبيرة نحو صناعة المستقبل الرياضي العربي، حيث كانت آخر هذه الإنجازات التي تحققت فوز الدول العربية بـ17 ميدالية متنوعة في دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024».
وكانت قطر استضافت آخر نسخة من الدورة العربية أواخر العام 2011، قبل أن يغيب التجمع الرياضي العربي الذي انطلق من مدينة الإسكندرية في مصر عام 1953.
واعتذر لبنان عن استضافة النسخة الثالثة عشرة عام 2015 بناء على طلبه لأسباب أمنية قبل أن تنقل إلى المملكة المغربية التي اعتذرت بدورها.
كما كان مقرراً أن تقام نسخة العام 2019، التي احتضنتها الجزائر، في العراق، لكنها تأجلت عدة مرات قبل أن يستقر الاتحاد على إقامتها في الجزائر صيف 2023.
وتتفوق مصر بعدد الاستضافات للتجمع الرياضي العربي بثلاث مرات كان آخرها عام 2007، كما دانت السيطرة للرياضيين المصريين في تبوء صدارة ترتيب الميداليات في معظم الدورات.