لجريدة عمان:
2025-10-26@19:42:30 GMT

قططُ غزّة

تاريخ النشر: 7th, November 2023 GMT

تُشكّلُ الصورة في العصر الحديث خطابا قابلا للقراءة، قابلا للتأثير، هي خطابٌ قوامه زاويةُ النظر المُختارة، وموضوع التركيز أو محور التبئير، وعينُ المُصوّر وما يُمكن أن يبثّه في صورته من إحساس، ومن مواقف يدعو إليها. الصُورة في عالمنا الحديث خطابٌ جذّابٌ منفّرٌ، صادقٌ كذّابٌ، يتراجع أثر الصورة بفعل اليد، عملا تشكيليّا أو كاريكاتوريّا، ليترك المكان إلى الصورة بفعل الكاميرا، ثابتة أو متحرّكة.

وقد أبدت حرب غزّة هذا الأثر بشكل جيّد، فعيون المُصوّرين فاقت فنّ التشكيليين، وسخريّة الواقع ولا معنى ما نراه كلّ لحظة، فاقت سُخريّة الرسّامين بالقلم واليد. لقد كان للصورة أثرٌ بائن، فاعلٌ في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وشكّل عدد من الرسّامين الكاريكاتوريين، أو المُصوّرين الفوتوغرافيين شوكة في حلق الادّعاءات الإسرائيليّة وكشفا للحقائق عبر الفنّ أو عبر النقل، ولا يُمكن في هذه الظروف اليوم ألاّ نتذكّر ناجي العليّ الذي بسبب رُسومه اغتالته قوى الظلام، وهو الذي تنبّأ أنّ الموت نهاية كلّ من يقف ضدّ بني صهيون، إذ قال: «اللي بَدُّو يكتب لفلسطين، واللي بدُّو يرسم لفلسطين، بدُّو يعرّف حاله: ميت»، ولقد مات بفعل التزامه بالقضيّة الفلسطينيّة، أزعجهم حنظلة، الكاريكاتور الذي رحل إلى كلّ بقاع العالم، الكاريكاتور الذي صار رمزا للقضيّة الفلسطينيّة، ولنضال الشعب الفلسطينيّ، الكاريكاتور الذي تحمّل رموزا وتحوّل من السخريّة المؤلمة بالخطوط والألوان إلى الموسيقى، إلى السينما، إلى الأدب، إلى خطب الساسة، حنظلة لم يكن محض طفل هازئا بكتفيه المرفوعتين، مُعرضا عن العالم، مُدبرا، بل كان كمّا من المعنى، تلقّاه العالم وفكّك رسائله، وكان له الأثر الذي فاق كيد السياسيين وخطط الاستراتيجيين. لقد كان لحنظلة وُجودٌ وبقاءٌ لا يُهرِمُ ويمتنع عنه فعلُ الزمن، كان طفلا في العاشرة، وبقي كذلك، وسيبقى دليلا صارخا على عقم آلات الاستبداد، وعلى عمق فعل الفنّ في حمل قضايا البشريّة، لقد قال ناجي العليّ واسما صُورته، خياله، الذي تحوّل إلى واقع: «وُلد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظلّ دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السنّ غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعدُ في العاشرة ثمّ يبدأ في الكِبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء».

حرب فلسطين مع الكيان الإسرائيلي لا تُدار بوقعِ زلازل القنابل فحسب، وإنّما تُدار بالقلم، أدبا ورسما ومسرحا وسينما، تُدارُ اليوم أيضا بالفاعلين الاجتماعيين، وبالمشاهير ومختلف مواقفهم، تُدار بمن يُتابعه الملايين من المشاهدين، الذين يتأثّرون بصورة أو بجملة أو بأغنية، وتتعدّل مواقفهم حسب مواقف من يُتابعون، تغيّر الزمن، وصارت مواقف الشعوب مرتبطة بملايين المتابعة والمشاهدة، وقد أدرك العدوّ ذلك من قديم الزمان فامتلك أجهزة الإعلام العالميّة وسيطر عليها، ولذلك نرى اليوم نتاج ذلك في وُجود صُنّاع رأي يُميلون الكفّة تُجاه الغاصب المغتصب.

الصُورة عنصرٌ فعّال، كان لها الأثر الهامّ وما زال، ولكن مع الأسف في غالب الأحيان تُستَهلك صور العرب في نطاق قوميّ محدود، وتُروَّجُ صُور أنصار الكيان الغاصب في كلّ بقاع العالم، ومن حسن الحظّ بتوفّر شباب من خيرة شبابنا يُتابع مواقع التواصل ويعمل على التأثير، وبوجود أمثلة من الناجحين في مختلف المجالات ألقوا جانبا حسابات الشُهرة وإمكان «قطْع أرزاقهم» وصرّحوا وكشفوا تضامنهم مع أهل غزّة، ويُمكن أن نضرب مثالين على ذلك، مواقف لاعبة التنس العالمية أنس جابر، ومقاومة باسم يُوسف للميل الإعلامي الأعمى لنُصرة الكيان الإسرائيليّ.

تراءى لي في هذه الفوضى الإنسانيّة العارمة، وهذا التقتيل الوحشي الذي ينعمُ به أغلب ساسة الكون، أن أتساءل، إذا كان العالم القويّ الممثّل في أمريكا وأوروبا لم يعد يهتمّ بموت البشر، ولم يعد يهتم ولا يغتمّ لموت الأطفال والنساء والعُجّز والمدنيين، وإذا كان هذا العالم القويّ الفاعل الصانع للآراء يقول بشكل شبه صريح إنّ كلّ الفلسطينيين هم إرهابيّون بالقوّة نساء وأطفالا وشيوخا، وإنّ إسرائيل بإفنائهم تخدم العالم وتخدم دول الجوار، في انتظار أن يعمّ التقتيل وأن يصير كلّ عربيّ هو مشروع إرهابي، وهو الأمر الذي صار غالبا على تعامل الآخر معنا بشكل علني، خاصّة عندما نزور بلدانهم، فهل يهتمّ هذا العالم الغربيّ الرقيق، الرؤوف، بدفن الحيوانات تحت الأنقاض، بقصف الحيوانات بالقنابل ورميها بحمم النيران؟ آلة الحرب العمياء التي يقودها أمراء «العنهجيّة» والصعلكة و«الفتونة»، يسوسها مجرمون دون خلق ولا قيم، تأكل البشر وتجوع، تشرب دماءهم وتظمأ، تأخذ أنفاسهم وتختنق، وفي الآن نفسه تأخذ معها لطائف الحيوانات، خاصّة تلك التي تؤنسُ الأطفال، وتسعدهم، وتُرافقهم، وتصحبهم، القطط، قططُ غزّة التي كانت ضحيّة التدمير الأعمى، لحقتها القنابل والصواريخ، ودُكّت الأسقف والجدران فوق رؤوسها، فهل أنّ الجمعيّات التي تتشدّق كلّ حين بالدفاع عن الحيوان، لم يعد يعنيها الحيوان؟ أو هل أنّ حيوانات غزّة كما بشرها «دمها ماء»، ودمها مباح؟ أو هل أنّ كلّ من اختار غزّة حيوانا أو بشرا أو حجرا هو مقصوف ومهدور ترابه ودمه بمباركة من العالم؟ وإن بُحّت أصواتنا، وعجزنا عن إيقاف إسالة الدم البشريّ في غزّة، وقلوبنا تتقطّع كلّ لحظة لما نراه ونشاهده، فإنّنا ندعو إلى هُدنة من أجل حقن دماء الحيوانات، وإعطاء وقت للقطط كي تتنفّس، وتأخذ شربة ماء، ألم تُنادي بريجيت باردو وعددٌ هامّ من مناصري الرفق بالحيوان بإيقاف عيد الأضحى بسبب من إراقة دماء الشياه؟ ألم ترسل بريجيت باردو الرسائل للمسؤولين لحثّهم على تحجير النحر والذبح على الطريقة الإسلاميّة، قائلة في رسالة من رسائلها: «أرفض ذبح الحيوانات في المسالخ وفق الشريعة الإسلامية من أجل الحصول على اللحوم الحلال؛ لأن تلك العملية تعتبر تعذيبا للماشية»؟ ها هي الماشية، والحيوانات الأليفة تُقطَّعُ وتُحرَّق وتُمزّق أجزاؤها، وتُعذّب العذاب الأليم، فارفعوا أصواتكم دفاعا عنها إن عجزتم عن الدفاع عن الأطفال! لقد نشر فاعلون اجتماعيون من غزة عددا من مقاطع الفيديو التي تُظهر أثر الحرب على القطط، وكانت المقاطع مؤثّرة جدّا، ولكنّها حتما لا تُعادل أثر طفلة خارجة من ركام القنابل والصواريخ، تبحث عن أمّها وأبيها وإخوتها الذي مزّقتهم ضغطة زرٍّ من طيّارٍ يعود بعد أداء وظيفته هانئا لمعانقة ابنتها الصغيرة. قطط غزّة معرّة العالم ووصمة جُبن على جبين هذا القرن الذي يُقَاد بعقل ديناصور، أمّا أطفال غزّة فلهم ربّ كريم، هو قادرٌ على تصريف أمورهم وضبط مصيرهم، وسيبقى حنظلة مديرا ظهره لكلّ من خانوه، الطفل الخارج من فلسطين قهرا، المرفرف فوق سمائها طوعا، وتبقى الصُورة هي الحربُ الحقيقيّة، وهي الأثر الباقي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی العاشرة

إقرأ أيضاً:

بين طموحات ترامب القطبية وصفقات الطبيعة| واشنطن تدرس إنفاق 75 مليون دولار لحماية نوعين من الحيوانات.. هل القرار بيئي أم سياسي؟

في خطوة مثيرة للدهشة أثارت تساؤلات بين الأوساط الدبلوماسية والعلمية، كشفت تقارير أمريكية أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تدرس تخصيص نحو 75 مليون دولار كمساعدات خارجية، تهدف إلى حماية الدببة القطبية في جرينلاند ونمور الثلج في نيبال. ورغم أن الهدف يبدو بيئيًا وإنسانيًا في ظاهره، إلا أن المراقبين يرون أن وراء القرار المحتمل أبعادًا سياسية واستراتيجية تتجاوز حماية الحياة البرية.

خطة تمويل غير مسبوقة

وفقًا لصحيفة واشنطن بوست، تبحث إدارة ترامب تخصيص 50 مليون دولار لدعم برامج حماية الدب القطبي في جرينلاند، و25 مليون دولار لمشروعات الحفاظ على نمور الثلج في نيبال. لكن المفارقة أن هذه المبادرة تأتي في وقتٍ خفّضت فيه الإدارة الأمريكية مساعداتها الخارجية في مجالات عدة، ما أثار دهشة المسؤولين والباحثين الذين تساءلوا عن أسباب هذا التحول المفاجئ في أولويات واشنطن البيئية.

جرينلاند... طموح سياسي في ثوب بيئي

تكتسب مبادرة جرينلاند بعدًا خاصًا، إذ تعيد للأذهان تصريحات ترامب السابقة بشأن رغبته في شراء الإقليم القطبي الشمالي لما يملكه من موقع استراتيجي وموارد طبيعية هائلة. ومع أن الجزيرة لا تزال جزءًا من المملكة الدنماركية ولم تُبدِ رغبة في أي شكل من أشكال الانضمام، فإن الحديث عن تمويل ضخم لحماية الحياة البرية هناك أثار شكوكًا حول وجود نوايا سياسية مضمرة خلف هذا الاهتمام البيئي المفاجئ.

حيرة العلماء وتساؤلات الكونجرس

العلماء العاملون في مجال حماية الدببة القطبية أعربوا عن دهشتهم من حجم التمويل المقترح، مؤكدين أن المبلغ المقترح يفوق بكثير ما اعتادوا عليه، حيث لا تتجاوز ميزانية معهد جرينلاند للموارد الطبيعية نصف مليون دولار سنويًا تأتي معظمها من الحكومة الدنماركية.
في المقابل، كشف مساعدون في الكونجرس أن الإدارة الأمريكية لم تقدم بعد تبريرًا واضحًا لهذا الإنفاق، خاصة في ظل تعهد ترامب بضم جرينلاند، ما جعل البعض يرى أن التمويل قد يحمل بعدًا استراتيجيًا يتجاوز حدود الحفاظ على التنوع البيولوجي.

موقف الخارجية الأمريكية

وزارة الخارجية الأمريكية بدورها حاولت تهدئة الجدل، موضحة أن تمويل التنوع البيولوجي ما زال قيد الدراسة، وأن الفكرة مستندة إلى صلاحيات تمويل أقرها الكونجرس قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض. لكنها اعترفت في بيانها بأن تبرير الإنفاق على أساس المصلحة الوطنية ليس بالأمر السهل، خاصة في ظل أولويات مالية أكثر إلحاحًا داخل الولايات المتحدة.

الدببة القطبية ونمور الثلج... أنواع مهددة

تُصنف مؤسسة الحياة البرية العالمية كلًا من الدببة القطبية ونمور الثلج ضمن الأنواع المهددة بالانقراض، إذ يُقدر عدد الدببة القطبية عالميًا بنحو 26 ألف دب، منها 3 آلاف في جرينلاند، بينما يعيش على وجه الأرض نحو 4 آلاف نمر ثلجي، بينهم 400 فقط في نيبال. ويؤكد الخبراء أن حماية هذه الأنواع تتطلب تعاونًا دوليًا واستثمارات مستدامة طويلة المدى، لا قرارات مؤقتة ذات طابع سياسي.

الطبيعة في مواجهة السياسة

بين طموحات ترامب القطبية وأجندته السياسية التي كثيرًا ما خالفت التوجهات البيئية العالمية، يبدو أن قصة “مساعدات جرينلاند ونمور نيبال” تتجاوز حدود الحفاظ على الكائنات المهددة بالانقراض. فهي تعكس تداخل السياسة بالطبيعة، حيث يمكن أن يتحول التمويل البيئي إلى ورقة نفوذ جيوسياسي جديدة في عالم تتشابك فيه المصالح والمناخات والأطماع القطبية.

طباعة شارك ترامب الثلج دونالد ترامب واشنطن دولار

مقالات مشابهة

  • جامعة كفر الشيخ تنظم ندوة علمية حول فيروسات الجدري في الحيوانات والطيور
  • أناتولي كاربوف.. أسطورة الشطرنج الروسي الذي تطارده العقوبات الدولية
  • المغنيسيوم.. المعدن الذي يحتل صدارة المكملات الغذائية بين الفوائد والدعاية
  • القاهرة الإخبارية: بعض السودانيين أكلوا علف الحيوانات وجلودها بسبب تدهور الأوضاع
  • الأوضاع في السودان تزداد سوءا.. والبعض يلجأ لأكل علف الحيوانات
  • أسرار “سحر الربط” المروع.. جرائم وحشية بحق الحيوانات في تركيا تثير الرعب (صور)
  • بين طموحات ترامب القطبية وصفقات الطبيعة| واشنطن تدرس إنفاق 75 مليون دولار لحماية نوعين من الحيوانات.. هل القرار بيئي أم سياسي؟
  • في بلدة لبنانية.. حالات مرضية تُصيب الحيوانات!
  • من هي نور أبو ركبة التي حملت مهمة أنس الشريف في غزة؟
  • المنتدى الاستراتيجي للفكر: مصر تبذل جهودًا حثيثة لترتيب البيت الفلسطيني وتوحيد الصف الوطني