تُشكّلُ الصورة في العصر الحديث خطابا قابلا للقراءة، قابلا للتأثير، هي خطابٌ قوامه زاويةُ النظر المُختارة، وموضوع التركيز أو محور التبئير، وعينُ المُصوّر وما يُمكن أن يبثّه في صورته من إحساس، ومن مواقف يدعو إليها. الصُورة في عالمنا الحديث خطابٌ جذّابٌ منفّرٌ، صادقٌ كذّابٌ، يتراجع أثر الصورة بفعل اليد، عملا تشكيليّا أو كاريكاتوريّا، ليترك المكان إلى الصورة بفعل الكاميرا، ثابتة أو متحرّكة.
وقد أبدت حرب غزّة هذا الأثر بشكل جيّد، فعيون المُصوّرين فاقت فنّ التشكيليين، وسخريّة الواقع ولا معنى ما نراه كلّ لحظة، فاقت سُخريّة الرسّامين بالقلم واليد. لقد كان للصورة أثرٌ بائن، فاعلٌ في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وشكّل عدد من الرسّامين الكاريكاتوريين، أو المُصوّرين الفوتوغرافيين شوكة في حلق الادّعاءات الإسرائيليّة وكشفا للحقائق عبر الفنّ أو عبر النقل، ولا يُمكن في هذه الظروف اليوم ألاّ نتذكّر ناجي العليّ الذي بسبب رُسومه اغتالته قوى الظلام، وهو الذي تنبّأ أنّ الموت نهاية كلّ من يقف ضدّ بني صهيون، إذ قال: «اللي بَدُّو يكتب لفلسطين، واللي بدُّو يرسم لفلسطين، بدُّو يعرّف حاله: ميت»، ولقد مات بفعل التزامه بالقضيّة الفلسطينيّة، أزعجهم حنظلة، الكاريكاتور الذي رحل إلى كلّ بقاع العالم، الكاريكاتور الذي صار رمزا للقضيّة الفلسطينيّة، ولنضال الشعب الفلسطينيّ، الكاريكاتور الذي تحمّل رموزا وتحوّل من السخريّة المؤلمة بالخطوط والألوان إلى الموسيقى، إلى السينما، إلى الأدب، إلى خطب الساسة، حنظلة لم يكن محض طفل هازئا بكتفيه المرفوعتين، مُعرضا عن العالم، مُدبرا، بل كان كمّا من المعنى، تلقّاه العالم وفكّك رسائله، وكان له الأثر الذي فاق كيد السياسيين وخطط الاستراتيجيين. لقد كان لحنظلة وُجودٌ وبقاءٌ لا يُهرِمُ ويمتنع عنه فعلُ الزمن، كان طفلا في العاشرة، وبقي كذلك، وسيبقى دليلا صارخا على عقم آلات الاستبداد، وعلى عمق فعل الفنّ في حمل قضايا البشريّة، لقد قال ناجي العليّ واسما صُورته، خياله، الذي تحوّل إلى واقع: «وُلد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظلّ دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السنّ غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعدُ في العاشرة ثمّ يبدأ في الكِبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء».
حرب فلسطين مع الكيان الإسرائيلي لا تُدار بوقعِ زلازل القنابل فحسب، وإنّما تُدار بالقلم، أدبا ورسما ومسرحا وسينما، تُدارُ اليوم أيضا بالفاعلين الاجتماعيين، وبالمشاهير ومختلف مواقفهم، تُدار بمن يُتابعه الملايين من المشاهدين، الذين يتأثّرون بصورة أو بجملة أو بأغنية، وتتعدّل مواقفهم حسب مواقف من يُتابعون، تغيّر الزمن، وصارت مواقف الشعوب مرتبطة بملايين المتابعة والمشاهدة، وقد أدرك العدوّ ذلك من قديم الزمان فامتلك أجهزة الإعلام العالميّة وسيطر عليها، ولذلك نرى اليوم نتاج ذلك في وُجود صُنّاع رأي يُميلون الكفّة تُجاه الغاصب المغتصب.
الصُورة عنصرٌ فعّال، كان لها الأثر الهامّ وما زال، ولكن مع الأسف في غالب الأحيان تُستَهلك صور العرب في نطاق قوميّ محدود، وتُروَّجُ صُور أنصار الكيان الغاصب في كلّ بقاع العالم، ومن حسن الحظّ بتوفّر شباب من خيرة شبابنا يُتابع مواقع التواصل ويعمل على التأثير، وبوجود أمثلة من الناجحين في مختلف المجالات ألقوا جانبا حسابات الشُهرة وإمكان «قطْع أرزاقهم» وصرّحوا وكشفوا تضامنهم مع أهل غزّة، ويُمكن أن نضرب مثالين على ذلك، مواقف لاعبة التنس العالمية أنس جابر، ومقاومة باسم يُوسف للميل الإعلامي الأعمى لنُصرة الكيان الإسرائيليّ.
تراءى لي في هذه الفوضى الإنسانيّة العارمة، وهذا التقتيل الوحشي الذي ينعمُ به أغلب ساسة الكون، أن أتساءل، إذا كان العالم القويّ الممثّل في أمريكا وأوروبا لم يعد يهتمّ بموت البشر، ولم يعد يهتم ولا يغتمّ لموت الأطفال والنساء والعُجّز والمدنيين، وإذا كان هذا العالم القويّ الفاعل الصانع للآراء يقول بشكل شبه صريح إنّ كلّ الفلسطينيين هم إرهابيّون بالقوّة نساء وأطفالا وشيوخا، وإنّ إسرائيل بإفنائهم تخدم العالم وتخدم دول الجوار، في انتظار أن يعمّ التقتيل وأن يصير كلّ عربيّ هو مشروع إرهابي، وهو الأمر الذي صار غالبا على تعامل الآخر معنا بشكل علني، خاصّة عندما نزور بلدانهم، فهل يهتمّ هذا العالم الغربيّ الرقيق، الرؤوف، بدفن الحيوانات تحت الأنقاض، بقصف الحيوانات بالقنابل ورميها بحمم النيران؟ آلة الحرب العمياء التي يقودها أمراء «العنهجيّة» والصعلكة و«الفتونة»، يسوسها مجرمون دون خلق ولا قيم، تأكل البشر وتجوع، تشرب دماءهم وتظمأ، تأخذ أنفاسهم وتختنق، وفي الآن نفسه تأخذ معها لطائف الحيوانات، خاصّة تلك التي تؤنسُ الأطفال، وتسعدهم، وتُرافقهم، وتصحبهم، القطط، قططُ غزّة التي كانت ضحيّة التدمير الأعمى، لحقتها القنابل والصواريخ، ودُكّت الأسقف والجدران فوق رؤوسها، فهل أنّ الجمعيّات التي تتشدّق كلّ حين بالدفاع عن الحيوان، لم يعد يعنيها الحيوان؟ أو هل أنّ حيوانات غزّة كما بشرها «دمها ماء»، ودمها مباح؟ أو هل أنّ كلّ من اختار غزّة حيوانا أو بشرا أو حجرا هو مقصوف ومهدور ترابه ودمه بمباركة من العالم؟ وإن بُحّت أصواتنا، وعجزنا عن إيقاف إسالة الدم البشريّ في غزّة، وقلوبنا تتقطّع كلّ لحظة لما نراه ونشاهده، فإنّنا ندعو إلى هُدنة من أجل حقن دماء الحيوانات، وإعطاء وقت للقطط كي تتنفّس، وتأخذ شربة ماء، ألم تُنادي بريجيت باردو وعددٌ هامّ من مناصري الرفق بالحيوان بإيقاف عيد الأضحى بسبب من إراقة دماء الشياه؟ ألم ترسل بريجيت باردو الرسائل للمسؤولين لحثّهم على تحجير النحر والذبح على الطريقة الإسلاميّة، قائلة في رسالة من رسائلها: «أرفض ذبح الحيوانات في المسالخ وفق الشريعة الإسلامية من أجل الحصول على اللحوم الحلال؛ لأن تلك العملية تعتبر تعذيبا للماشية»؟ ها هي الماشية، والحيوانات الأليفة تُقطَّعُ وتُحرَّق وتُمزّق أجزاؤها، وتُعذّب العذاب الأليم، فارفعوا أصواتكم دفاعا عنها إن عجزتم عن الدفاع عن الأطفال! لقد نشر فاعلون اجتماعيون من غزة عددا من مقاطع الفيديو التي تُظهر أثر الحرب على القطط، وكانت المقاطع مؤثّرة جدّا، ولكنّها حتما لا تُعادل أثر طفلة خارجة من ركام القنابل والصواريخ، تبحث عن أمّها وأبيها وإخوتها الذي مزّقتهم ضغطة زرٍّ من طيّارٍ يعود بعد أداء وظيفته هانئا لمعانقة ابنتها الصغيرة. قطط غزّة معرّة العالم ووصمة جُبن على جبين هذا القرن الذي يُقَاد بعقل ديناصور، أمّا أطفال غزّة فلهم ربّ كريم، هو قادرٌ على تصريف أمورهم وضبط مصيرهم، وسيبقى حنظلة مديرا ظهره لكلّ من خانوه، الطفل الخارج من فلسطين قهرا، المرفرف فوق سمائها طوعا، وتبقى الصُورة هي الحربُ الحقيقيّة، وهي الأثر الباقي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی العاشرة
إقرأ أيضاً:
كابوس يناير الذي لا ينتهي
رغم مرور 14 عاما على ثورة 25 يناير (كانون الثاني) المصرية إلا أن كابوسها بالنسبة لخصومها لا يزال قائما، يقض مضاجعهم، وينكد معيشتهم، ما يدفعهم لمحاولة محوها من الذاكرة الوطنية، وفي الطريق إلى هذا المحو يتم تشويهها، وإلصاق كل أزمات الشعب المصري بها على غير الحقيقة، وعلى خلاف الدستور الذي لا يزال يتحدث عنها بتقدير وإجلال، واعتبار ذكراها يوم عطلة رسمية.
وحتى هذه العطلة السنوية بمناسبة ذكرى ثورة يناير عادت أذرع النظام الإعلامية لاعتبارها عطلة بمناسبة عيد الشرطة، وليس ثورة يناير (بالمخالفة مجددا للدستور والقانون). وللتذكير هنا فقد كان يوم 25 يناير 1952 معركة بطولية للشرطة المصرية في الإسماعيلية في مواجهة الاحتلال الانجليزي الذي طالبها بتسليم سلاحها، لكنها رفضت وقدمت 50 شهيدا، وصار هذا اليوم هو العيد السنوي للشرطة، وقد انطلقت فيه أولى مظاهرات الثورة المصرية عام 2011 كاحتجاج على تجاوزات الشرطة، ثم صار هذا اليوم بعد ثورة يناير ذكرى لانطلاق الثورة.
تشويه يناير التي يكرمها الدستور يجري من أعلى رأس في السلطة، وهو السيسي الذي كرر اتهاماته للثورة بالتسبب في الأزمات التي يعاني منها المصريون، كما تعهد أكثر من مرة بعدم سماحه بتكرار تلك الثورة مجددا، رغم أنه لولا هذه الثورة لبقي في الخفاء لا يعرفه أحد وفي أقصى تقدير كان يمكن أن يكون محافظا لمحافظة حدودية.
تشويه يناير التي يكرمها الدستور يجري من أعلى رأس في السلطة، وهو السيسي الذي كرر اتهاماته للثورة بالتسبب في الأزمات التي يعاني منها المصريون، كما تعهد أكثر من مرة بعدم سماحه بتكرار تلك الثورة مجددا، رغم أنه لولا هذه الثورة لبقي في الخفاء لا يعرفه أحد وفي أقصى تقدير كان يمكن أن يكون محافظا لمحافظة حدودية
تتزامن ذكرى يناير هذا العام مع عدة أحداث مهمة داخليا وخارجيا، تزيد من درجة مخاوف النظام، فهي تأتي عقب انتصار الثورة السورية بعد مخاض عسير، استمر 13 عاما، لكنها نجحت في نهاية المطاف في الإطاحة بنظام الأسد، وبجيشه وشرطته، وحزبه، ومليشياته، وداعميه الإقليميين، وفتحت أبواب الأمل أمام شقيقاتها المتعثرات من ثورات الربيع العربي التي تعرضت لضربات الثورة المضادة، وعلى رأسها الثورة المصرية. فسقوط نظام بشار وهو أعتى من نظام السيسي يعطي رسالة بأن سقوط النظام المصري أيضا ليس مستحيلا.
أما المتغير الثاني فهو انتهاء حرب غزة، مع فشل جيش الاحتلال الإسرائيلي وكل داعميه في القضاء على المقاومة، وخاصة حركة حماس التي تمثل امتدادا لجماعة الإخوان الخصم الأبرز لنظام السيسي، والتي مثل صمودها في المعركة رغم تكالب الجميع عليها إقليميا ودوليا إلهاما لكل المناضلين من أجل الحرية.
أما الأمر الثالث المهم فهو تصاعد الغضب الشعبي داخل مصر بسبب تزايد الأزمات المعيشية، مع ارتفاع الأسعار، وتراجع قيمة الجنيه، وتصاعد أزمة الديون المحلية والدولية إلخ.
وقبل أيام من حلول ذكرى يناير تصاعدت دعوات التغيير، وهي تتراوح بين 3 أشكال، منها دعوات إصلاح جزئي من أحزاب داخل مصر، ودعوات للتغيير السياسي السلمي تصدر أيضا من قوى داخل وخارج مصر، وأخيرا دعوة للتغيير المسلح أعلنها أحد المصريين من دمشق، الذي كان يضع سلاحه أمامه على الطاولة، وبجواره بعض الملثمين، ورغم أنني شخصيا ضد التغيير المسلح، والذي لا يصلح أساسا مع الوضع في مصر، ورغم أن السلطات السورية اعتقلت صاحب الدعوة (أحمد المنصور) ورفاقه، إلا أن حالة الهلع لا تزال قائمة لدى النظام المصري وأذرعه، وهو يستغل هذه الدعوة في الوقت نفسه لبث الرعب في نفوس المصريين، ولثنيهم عن مطلب التغيير أو حتى الإصلاح الجزئي.
لكن أصواتا أخرى أكثر تشددا وأكثر نفاذا ترى أن أي تنفيس مهما قلت درجته كفيل بفتح الباب للانفجار الشعبي، ويتبنى هذا الرأي تحديدا جهاز الأمن الوطني، الذي يحتفظ بثأر بايت مع ثورة يناير نظرا لما تعرض له بعدها. وهذا الرأي هو الأكثر قبولا لدى السيسي، لأنه يخاطب دوما مخاوفه، لكن هذا الرأي والذي يقود سياسات القمع والتشدد حاليا سيكون هو السبب في الانفجار الشعبي
في مواجهة مطالب التغيير أو حتى الإصلاح الجزئي، حرص النظام على تشديد قبضته القمعية كرسالة أنه لا يخشى هذه الدعوات، وأنه سيواجهها بكل حزم، وشنت الشرطة المصرية حملة اعتقالات جديدة في العديد من الأماكن، شملت أيضا الكثيرين ممن سبق اعتقالهم، كما ألقت الشرطة مؤخرا القبض على زوجة أحد الصحفيين المعتقلين، وعلى إعلامي أجرى معها حوارا صحفيا في موقع الكتروني، ورغم أنها أخلت بكفالة مالية كبيرة سبيل السيدة (ندى مغيث زوجة الصحفي أشرف عمر) إلا أنها أبقت الإعلامي أحمد سراج قيد الحبس الاحتياطي بسبب إجراء ذلك الحوار الصحفي، كما أحالت السلطات الناشر هشام قاسم مجددا للتحقيق في تهم سبق محاكمته وحبسه بسببها.
رغم محاولات القمع إلا أن دعوات التغيير لا تزال متصاعدة من داخل مصر، حيث طالبت عدة أحزاب وقوى سياسية بالتغيير السلمي تجنبا لفوضى متوقعة يدفع ثمنها الوطن كله، وتضمنت مطالب التغيير حتى الآن الدعوة إلى إجراء انتخابات تنافسية حقيقية رئاسية وبرلمانية نزيهة، تحت إشراف قضائي كامل وتحت رقابة حقوقية دولية، وتحرير الإعلام من قبضة الأجهزة الأمنية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين.
داخل المنظومة الأمنية للنظام أصوات تدعو لقدر من التنفيس بهدف إطالة عمر النظام، وهي تستند إلى تجربة مبارك الذي سمح بقدر قليل من الإصلاحات مكنته من الحكم لمدة ثلاثين عاما، لكن أصواتا أخرى أكثر تشددا وأكثر نفاذا ترى أن أي تنفيس مهما قلت درجته كفيل بفتح الباب للانفجار الشعبي، ويتبنى هذا الرأي تحديدا جهاز الأمن الوطني، الذي يحتفظ بثأر بايت مع ثورة يناير نظرا لما تعرض له بعدها. وهذا الرأي هو الأكثر قبولا لدى السيسي، لأنه يخاطب دوما مخاوفه، لكن هذا الرأي والذي يقود سياسات القمع والتشدد حاليا سيكون هو السبب في الانفجار الشعبي، وهو ما سبق ثورة يناير أيضا، رغم أن القمع قبل يناير كان أقل كثيرا مما يجري حاليا، وبالتالي فإن الانفجار قادم طال الزمن أو قصر إذا استمرت هذه السياسات.
x.com/kotbelaraby